1927: Selecciones narrativas de Ryunosuke Akutagawa
١٩٢٧: مختارات قصصية لريونوسكيه أكوتاغاوا
Géneros
بيت غنكاكو الجبلي
السراب
كابا1
اكتئاب تانيكو
كوتشيا
شتاء
رسالة
ثلاث نوافذ
تروس
حوار في الظلام
Página desconocida
حلم
حياة أحد الحمقى
بيت غنكاكو الجبلي
السراب
كابا1
اكتئاب تانيكو
كوتشيا
شتاء
رسالة
ثلاث نوافذ
Página desconocida
تروس
حوار في الظلام
حلم
حياة أحد الحمقى
1927
1927
مختارات قصصية لريونوسكيه أكوتاغاوا
جمع وترجمة
ميسرة عفيفي
بيت غنكاكو الجبلي
Página desconocida
1
كان ذلك البيت صغير الحجم وله بوابة مهيبة، ومع ذلك، لم يكن بيتا نادرا في تلك المنطقة، وثمة اهتمام شديد بالأشجار التي تظهر من واجهته ومن أسواره أكثر من البيت ذاته.
مالك هذا البيت، يدعى غنكاكو هوريكوشي، وهو رسام معروف إلى حد ما، ولكنه كون ثروته من خلال حصوله على براءة اختراع لأختام مطاطية، أو بسبب أنه تاجر في الأراضي بعد أن حصل على براءة الاختراع تلك، وعلى أرض الواقع، الأراضي التي يملكها في الضواحي الآن، لا تنتج حتى الزنجبيل، ولكنها تحولت إلى منطقة سكنية من تلك التي يطلق عليها «قرى حديثة» تصطف فيها البيوت ذات الأسطح المغطاة بالقرميد الأحمر والأزرق.
ولكن في كل حال كان «بيت غنكاكو الجبلي» صغير الحجم وله بوابة مهيبة، وبدا البيت أكثر شاعرية بصفة خاصة مؤخرا، حينما علقت أحبال الحماية من الثلوج على أشجار الصنوبر التي تظهر من فوق السياج، واحمرت ثمار الزعرور بين أوراق الصنوبر الذابلة المفروشة أمام المدخل، ليس هذا فقط، بل إن الحارة التي يقع بها هذا البيت غالبا خالية لا يمر بها أحد، حتى بائع التوفو يترك عربته على ناصية الشارع الكبير ويمر بهذه الحارة وهو ينفخ في البوق فقط.
وعندما مر صدفة طالب يدرس الرسم في كلية الفنون الجميلة ذو شعر طويل وهو يحمل صندوقا طويلا رفيعا لأدوات الرسم تحت إبطه، سأل زميله الذي يرتدي زيا موحدا بأزرار ذهبية اللون مثله قائلا: «بيت غنكاكو الجبلي! ... ترى ما معنى كلمة غنكاكو؟» «لا أدري! أرجو ألا يكون محاولة تأنق لكلمة غنكاكو بمعنى الصرامة!»
ضحك الاثنان معا وهما يمران بمشاعر مرحة من أمام ذلك البيت، وبقي خيط من دخان أزرق خفيف يرتفع من سيجارة «جولدن بات» ألقى بها أحدهما على قارعة الطريق الذي تجمد من البرودة ...
2
كان جوكيتشي يعمل في بنك من قبل أن يتزوج من ابنة غنكاكو، وبالتالي يعود للبيت دائما وقت إضاءة مصابيحه، في الأيام الأخيرة كلما دخل من بوابة البيت يشعر على الفور برائحة كريهة، كانت رائحة أنفاس غنكاكو الذي يرقد على فراش المرض مصابا بداء السل الرئوي النادر بين المسنين. ولكن، بالتأكيد ليس هناك افتراض أن تتسرب تلك الرائحة إلى خارج البيت، ولذا لم يكن أمام جوكيتشي الذي يسير فوق الأحجار التي تغطي مدخل البوابة حاملا حقيبته المطوية تحت إبط معطف الشتاء الثقيل، إلا أن يشك في حواسه هو.
اتخذ غنكاكو الغرفة المنفصلة عن مبنى البيت الأصلي مكانا لفراش المرض، وعندما لا يكون نائما، فهو يستند بظهره على جبل الأغطية، ومن عادة جوكيتشي أن يطل بوجهه على الغرفة المنفصلة، بعد أن يخلع المعطف والقبعة، ثم يلقي بتحية من نوع «لقد عدت» أو «كيف حالك اليوم؟» ولكن من النادر أن يطأ بقدمه داخل الغرفة. بالتأكيد كان خائفا من أن يعديه صهره بمرض السل، ولكن هناك سببا آخر وهو إحساسه بالنفور الشديد من تلك الرائحة الكريهة، وكان غنكاكو كلما رأى وجهه يجيب دائما بكلمة «أهلا» أو «عودة حميدة» فقط. كان ذلك الصوت ضعيفا، فكان أقرب للأنفاس منه للصوت، وعندما يقول الصهر ذلك، لا يعدم الأمر أن يشعر جوكيتشي أحيانا بالندم على لا إنسانيته، ولكنه ينفر بشدة من الدخول إلى غرفة المريض.
ثم يمر جوكيتشي بعد ذلك على حماته أوتوري المريضة التي ترقد في الغرفة المجاورة لغرفة المعيشة. أصيبت أوتوري بالشلل من قبل أن يمرض غنكاكو، منذ سبع أو ثماني سنوات، ولا تستطيع حتى الذهاب إلى المرحاض، وسبب زواج غنكاكو منها بالإضافة إلى أنها ابنة وزير في إقطاعية كبيرة، أنها جميلة الوجه، حتى مع كبرها في السن هذا، فما زالت جميلة، خاصة عينيها، ولكن عندما تجلس على فراش المرض، لتصلح الجوارب البيضاء بعناية بالغة، لا تختلف كثيرا عن المومياء. يقول جوكيتشي لها: «كيف حالك اليوم يا أماه؟» وبعد أن يلقي عليها تلك التحية الموجزة، يدخل غرفة المعيشة ذات الست حصيرات.
Página desconocida
إن لم تكن أوسوزو زوجة جوكيتشي في غرفة المعيشة، فهي في المطبخ الضيق تعمل مع الخادمة أوماتسو القادمة من إقليم شينشو، بالطبع كان جوكيتشي معتادا على غرفة المعيشة المرتبة لتبدو جميلة ونظيفة، بل إنه أكثر اعتيادا على المطبخ ذي الفرن الحديث من غرفة صهره أو غرفة حماته، إنه الابن الثاني لسياسي شهير وصل في فترة من حياته إلى منصب محافظ إقليم، ولكنه كان ذا موهبة قريبة من موهبة والدته التي كانت تكتب الشعر في ماضيها، أكثر من قربه إلى والده ذي الشخصية العظيمة والعبقرية الفائقة، ويتضح ذلك أيضا من عينيه الناعستين الودودتين وفكيه الناحلين. عندما يدخل جوكيتشي غرفة المعيشة تلك، بعد أن يستبدل ملابس يابانية تقليدية بملابسه الغربية، يجلس باسترخاء وراحة أمام مدفأة الفحم الطويلة، يدخن سيجارا رخيص الثمن، أو يسخر ويلعب مع ابنه الوحيد تاكيو الذي دخل هذا العام المدرسة الابتدائية. كان جوكيتشي دائما يتناول الطعام مع زوجته وتاكيو وهم يحيطون بالطبلية. تفيض وجباتهم بالحيوية، ولكن مؤخرا حتى مع قولنا «حيوية» إلا أنها بلا شك مملة كذلك إلى حد ما، وكان سبب ذلك فقط هو وجود الممرضة كونو المرافقة لغنكاكو، وبالطبع لم يتغير مزاح تاكيو بأدنى قدر حتى بعد مجيء «السيدة كونو». كلا بل ربما زاد مزاحه أكثر بسبب وجودها. كانت أوسوزو تقطب حاجبيها أحيانا وترمق تاكيو هذا بنظرات حادة، ولكن كان تاكيو في هذه الحالة لا يفعل إلا أن يقلب الأرز داخل الصحن بمبالغة متعمدة، وبسبب قراءة جوكيتشي للروايات كان يشعر «بذكورية» في مرح تاكيو، فيجعله ذلك يشعر بالاستياء، ولكنه كان في أغلب الأحيان يبتسم فقط ويتناول الطعام صامتا.
كان بيت غنكاكو الجبلي هادئا في الليل، ينام جوكيتشي وزوجته في العاشرة مساء، بالطبع كذلك يفعل تاكيو الذي يذهب إلى المدرسة في الصباح الباكر، وبعد ذلك، تظل الممرضة التي ترتدي ملابس النوم في حدود الساعة التاسعة هي فقط المستيقظة. تحمل كونو مجمرة الفحم ذات الاشتعال الأحمر إلى جوار فراش غنكاكو، وتجلس هناك دون أن يغمض لها جفن. ماذا عن غنكاكو؟ كان غنكاكو يستيقظ من حين لآخر، ولكنه كان لا ينبس ببنت شفة إلا أن يقول مثلا إن حاوية الماء الساخن التي تدفئه قد بردت، أو الكمادات قد يبست، وما يسمع في تلك الغرفة المنفصلة هو فقط صوت اهتزاز الخيزران في الحديقة. كانت كونو تفكر في أمور عديدة وهي تراقب بثبات غنكاكو وسط الهدوء البارد قليلا، تفكر في مشاعر أهل هذا البيت، وفي مصيرها هي نفسها ...
3
في ظهيرة أحد الأيام وقد ظهرت الشمس بعد سقوط الثلوج، ظهر وجه في مطبخ عائلة هوريكوشي هذا الذي ترى منه السماء الزرقاء عبر النافذة، امرأة في الرابعة أو الخامسة والعشرين من عمرها، تسحب طفلا نحيفا من يده، بالطبع لم يكن جوكيتشي في البيت. شعرت أوسوزو التي كانت في ذلك الوقت بالضبط تعمل على ماكينة الخياطة، بما يشبه الارتباك والحيرة قليلا، مع أنها توقعت ذلك، ولكنها على أي حال وقفت أمام مجمرة الفحم الطويلة واستقبلت المرأة. صعدت المرأة إلى المطبخ، ثم عدلت حذاءها وحذاء الطفل الصغير. (كان الطفل يلبس سترة بيضاء) ويتضح شعور المرأة بالدونية من خلال تلك اللفتة البسيطة، ولكن لا عجب من ذلك، فتلك المرأة هي أويوشي الخادمة التي اتخذها غنكاكو محظية علانية في بيت بطوكيو منذ خمس أو ست سنوات. عندما رأت أوسوزو وجه أويوشي، شعرت على عكس المتوقع أنها كبرت في السن، بل ولم يكن ذلك عبر الوجه فقط، لقد كانت يدا أويوشي سمينة قبل أربع أو خمس سنوات. ولكن، جعلها العمر نحيفة لدرجة أن عروق يديها نفرت. أحست أوسوزو ببؤس عائلي عندما رأت خاتمها الرخيص وما ترتديه من ملابس وزينة. «تفضلي! طلب مني أخي أن أعطيه إلى سيدي.»
أخيرا أخرجت أويوشي شيئا ملفوفا في ورق جرائد قديمة، وكأنها تتخوف من الأمر ووضعته في ركن المطبخ قبل أن تخطو بقدميها إلى غرفة المعيشة. أوماتسو التي كانت تغسل أواني الطعام منذ فترة وتنظر شزرا إلى أويوشي ذات الشعر الناضر الذي سرح على هيئة الفراشة وهي تحرك يديها بسرعة وعجلة. ولكن، عندما رأت لفافة ورق الجرائد تلك، زادت تعابير وجهها تلك بغضا وضغينة. لا ريب أن تلك اللفافة تفوح منها رائحة كريهة لا تتناسب مع الفرن الحديث ولا مع الأطباق الرقيقة الصغيرة. لم تر أويوشي وجه أوماتسو ولكنها شعرت على الأقل بتغير وجه أوسوزو بطريقة مريبة، ففسرت الأمر قائلة: «إنه ... هذا ثوم.» ثم بعد ذلك تحدثت إلى الطفل الذي كان يعض أصابعه قائلة: «هيا أيها السيد الصغير انحن بتحية اللقاء.» وبالطبع كان ذلك الطفل هو بونتارو الذي أنجبته أويوشي من غنكاكو. كانت أوسوزو تشعر بالأسى الشديد تجاه أويوشي لمناداتها لذلك الطفل بكلمة السيد الصغير، ولكن إحساس أوسوزو العقلي جعلها تعيد التفكير أن ذلك أمر لا حيلة فيه بالنسبة لامرأة مثل أويوشي. قدمت بملامح وجه تلقائية، الشاي والحلوى المتاحة للأم وابنها الجالسين في ركن من غرفة المعيشة، وهي تشرح لها حالة غنكاكو وتلاعب بونتارو في محاولة لتسليته.
بعد أن جعل غنكاكو من أويوشي محظية، كان يتردد بالضرورة على بيتها مرة أو مرتين في الأسبوع، بدون أن يبالي بأن يركب أكثر من خط لقطار الضواحي. في البداية شعرت أوسوزو بكراهية ورفض لسلوك والدها، وكانت تفكر مرات كثيرة قائلة: «أليس من الأفضل أن يفكر أبي في مشاعر أمي قبل ذلك؟» ولكن يبدو أن أوتوري من الأصل قد يئست من كل شيء تماما، إلا أن ذلك كان سببا في أن تشعر أوسوزو أكثر بالأسى على أمها، وحتى بعد أن يرحل والدها متجها إلى بيت محظيته، تكذب على أمها كذبا مفضوحا بقولها: «يبدو أن اليوم لديه اجتماع الشعراء.» حتى هي نفسها كانت تعرف أن مثل هذا الكذب لن يفيد، ولكن، من حين لآخر عندما ترى على وجه أمها ملامح قريبة من الابتسام البارد، تندم على كذبتها تلك ... بل كانت على العكس تميل إلى الإحساس بالشفقة نوعا ما تجاه أمها المشلولة التي لا تستطيع أن تشاطرها مشاعرها القلبية تلك.
بعد أن تودع أوسوزو والدها عند الباب، كانت يدها تتوقف عدة مرات عن العمل في ماكينة الخياطة لتفكر في أمر أسرتها. لم يكن غنكاكو بالنسبة لها «والدا عظيما» حتى قبل أن يبدأ علاقته مع أويوشي، ولكنها كانت لا تبالي بذلك بالطبع لأنها امرأة طيبة حنونة، ولكن ما أقلقها هو حمل والدها التحف واللوحات الثمينة واحدة بعد أخرى إلى بيت محظيته. لم تكن أوسوزو تعتقد أن أويوشي فتاة شريرة منذ كانت خادمة في البيت. كلا، بل على العكس كانت تراها أكثر حياء من الأخريات، ولكنها لم تكن تعلم ما الذي يخطط له شقيق أويوشي الذي يدير محلا لبيع الأسماك على أطراف مدينة طوكيو، وفي الواقع كان يبدو لها رجلا ذكيا ذكاء مريبا، وكانت أحيانا تمسك بجوكيتشي وتبثه مخاوفها تلك، ولكنه لم يعرها بالا. «من المستحيل أن أتحدث أنا لوالدي بهذا الأمر.» وعندما تسمع أويوشي منه ذلك، لا تجد بديلا عن الصمت.
وأحيانا كان جوكيتشي يتحدث مع أوتوري بلا هدف قائلا: «لا أعتقد أنه يظن أن أويوشي يمكنها أن تفهم لوحات لو ليان فينغ.»
1
نظرت أوتوري عاليا تجاه جوكيتشي، وقالت له بنفس ابتسامتها المريرة الدائمة: «هذه هي عقليته، إنه الذي يسألني أنا: «ما رأيك في تلك المحبرة التحفة؟»»
Página desconocida
ولكن عند النظر إلى ذلك الأمر الآن، يجده الجميع قلقا غبيا لا داعي له، فمنذ شتاء هذا العام، لم يعد غنكاكو قادرا على التردد على بيت محظيته بسبب ازدياد ثقل المرض عليه، فعلى غير المتوقع وافقت أويوشي بسلاسة على طريقة الانفصال التي قدمها لها جوكيتشي (في الواقع كانت شروط ذلك الانفصال من صنع أوتوري وأوسوزو أكثر من كونها من تفكيره هو)، ووافق كذلك شقيق أويوشي الذي كانت أوسوزو تخافه. تسلمت أويوشي مبلغ ألف ين للانفصال عن غنكاكو وعادت إلى بيت والديها في قرية ساحلية بإقليم كازوسا، على أن يرسل لها نفقة شهرية لتربية بونتارو، ولم يعترض الشقيق على ذلك. ليس هذا فقط، بل لقد أعاد تحف غنكاكو الثمينة من أدوات صناعة الشاي وغيرها قبل أن يطلب منه ذلك، شعرت أوسوزو تجاهه بشعور طيب فقط لأنها ارتابت فيه سابقا. «أعربت أختي عن استعدادها للمجيء لتمريضه، في حالة احتياجكم لذلك.»
قبل أن تجيب أوسوزو على ذلك الطلب، استشارت أمها القعيدة، ولا ضير من القول إن ذلك كان بالتأكيد سوء تقدير عظيم منها، فما إن سمعت أوتوري استشارتها، حتى نصحتها على الفور أن تطلب من أويوشي أن تأتي من اليوم التالي بمرافقة بونتارو، وبخلاف مشاعر أمها خافت أوسوزو من أن تضطرب بيئة البيت، ولذا حاولت عدة مرات أن تجعل أمها تعيد التفكير في الأمر. (ومع ذلك، من جهة أخرى كانت تشعر بالضيق لأنها لا تستطيع رفض الطلب باقتضاب بسبب أنها الوسيط بين شقيق أويوشي وبين والدها غنكاكو)، ولكن، لم تقبل أوتوري أن تسمع كلامها بأي حال. «إن تم الرفض قبل أن أسمع بالموضوع فالأمر مختلف، ولكنني أخجل أمام أويوشي.»
وبالتالي لم تجد أوسوزو مفرا من أن توافق لشقيق أويوشي على حضورها للبيت، وربما كان هذا أيضا إحدى حماقاتها بسبب جهلها بالحياة، وفي الواقع، عندما عاد جوكيتشي من عمله بالبنك وسمع تلك الحكاية منها، أظهر ملامح الاستياء القليلة بين حاجبيه مثل امرأة رقيقة القلب، وقال لها: «لا شك أن زيادة عدد من يقوم برعايته أمر محمود، ولكن كان من الأفضل التحدث أيضا مع الوالد في الأمر، وإن رفض فلن يكون عليك مسئولية تجاه الرفض.» فأجابته أوسوزو بالقول: «حقا، كان يجب علي ذلك.» ولكن حتى عند النظر إلى الأمر الآن، لا شك أنها لم تكن تستطيع استشارة غنكاكو، والدها الذي يحتضر وفي قلبه رغبة مؤكدة في أويوشي.
كانت أوسوزو تتذكر تلك التفاصيل المعقدة وهي تتعامل مع أويوشي وابنها، كانت أويوشي تتحدث إليها أحاديث متقطعة عن شقيقها أو عن بونتارو دون أن تدفئ يديها بمدفأة الفحم. ولم تكن قد عدلت نطقها لكلمة «هذا» التي تنطقها «هيذي» بلهجة قروية كما كانت منذ أربع أو خمس سنوات. شعرت أوسوزو عبر تلك اللهجة الريفية أن أويوشي بدأت تكون غير متكلفة في مشاعرها، وفي نفس الوقت، أيضا شعرت بقلق مبهم تجاه أمها أوتوري التي ترقد على الجهة الأخرى من باب واحد فقط بدون أن تتنحنح نحنحة واحدة. «ستستطيعين إذن البقاء معنا لمدة أسبوع كامل؟» «أجل، إن لم يكن لديكم مانع من ذلك.» «ولكن ماذا عن الملابس؟» «لقد قال أخي إنه يمكنه أن يحضرها لي حتى ولو ليلا.»
وهي تجيب بذلك، أخرجت من صدرها حلوى الكراميل وأعطتها لبونتارو الذي بدا عليه الملل. «دعينا نخبر الوالد بذلك، لقد ضعفت حالته الصحية جدا، لدرجة أن أذنه التي ناحية النافذة، أصابها سفع الصقيع.»
وقبل أن تبتعد أوسوزو عن مدفئة الفحم أعادت وضع الغلاية الحديدية بلا سبب محدد. «يا أمي!»
أجابت أوتوري بشيء ما، وكان في صوتها لزوجة يوضح أنها استيقظت لتوها على ذلك الصوت. «لقد جاءت أويوشي، يا أمي!»
اطمأنت أوسوزو ونهضت سريعا من أمام مدفئة الفحم وهي تحرص على عدم النظر إلى وجه أويوشي، ثم عند مرورها أمام الغرفة التالية وجهت الحديث إلى أمها مرة ثانية بالقول «أويوشي جاءت.» كانت أوتوري راقدة على جنبها كما هي تدفن فمها داخل كم ملابس النوم، ولكن عندما نظرت عاليا ورأت وجهها ظهر على عينيها فقط بوادر ابتسامة، وأجابت: «حقا! يا لها من سرعة في المجيء!» ومع تأكدها أن أويوشي آتية خلف ظهرها مباشرة، إلا أن أوسوزو اجتازت الممر في عجلة وتوجهت إلى الحديقة التي ملأتها الثلوج وذهبت إلى «الغرفة المنفصلة».
بدت «الغرفة المنفصلة» أكثر عتمة من الحقيقة في عيني أوسوزو لأنها أتت من الممر المضيء بوضوح، كان غنكاكو مقيما جذعه فقط جاعلا كونو تقرأ له الجريدة، ولكنه عندما رأى وجه أوسوزو قال لها فجأة: «هل جاءت أويوشي؟» وكان صوته مبحوحا متوترا قريبا من أن يكون استجوابا، أجابت أوسوزو وهي واقفة ناحية الحديقة بقولها «أجل» فقط. وبعد ذلك لم ينبس أحد بكلمة. «سوف أجعلها تأتي لك على الفور.» «أجل ... هل هي بمفردها؟» «كلا ...»
أومأ غنكاكو صامتا. «تعالي معي يا سيدة كونو.»
Página desconocida
ذهبت أوسوزو بخطى سريعة في الممر أمام كونو، وفي ذلك الوقت كان طائر الذعرة
2
يهز ذيله على سعف النخيل الذي تبقى عليه الثلج، ولكنها بدلا من هذا لم تشعر إلا أن شيئا مخيفا يلاحقها من داخل تلك الغرفة التي تفوح منها رائحة المريض المنفرة.
4
بعد أن باتت أويوشي تقيم في البيت، تحول جو البيت إلى ما يشبه العاصفة المرئية للعين، وبدأ ذلك أولا من تنمر تاكيو على بونتارو، كان بونتارو أكثر شبها بأمه أويوشي من أبيه غنكاكو، بل كان طفلا يشبه أمه حتى في صفات الجبن وضعف شخصيتها، وبالتأكيد لم تستطع أوسوزو كتم تعاطفها مع طفل مثله، مع ذلك كانت تشعر أحيانا أن بونتارو طفل لم تحسن تربيته.
كانت الممرضة كونو تتأمل تلك الأوضاع العائلية المأسوية ببرود وسخرية، وهي تقوم بعملها في تمريض غنكاكو. كلا، بل يجب القول إنها كانت على العكس تجد متعة في ذلك. لا تحصي عدد المرات التي حاولت فيها الانتحار بتناول كمية من سيانيد الصوديوم من جراء علاقتها مع المرضى في البيوت أو مع الأطباء في المستشفيات، وزرع هذا الماضي داخلها هواية مرضية هي الاستمتاع بآلام الآخرين، وعندما دخلت بيت عائلة هوريكوشي، اكتشفت أن أوتوري القعيدة لا تغسل يديها عندما تنتهي من المرحاض. «إن زوجة ابن العائلة ذكية ولبقة جدا؛ لأنها تحمل لها المياه بدون أن يشعر أحد بذلك.» وظلت وهي المتشككة دائما زمنا متأثرة بذلك الأمر، ثم بعد مرور أربعة أو خمسة أيام، اكتشفت أن ذلك غفلة من أوسوزو التي تربت تربية مرفهة، وشعرت في ذلك الاكتشاف بما يشبه الرضا، فكانت تحمل المياه للمرحاض في كل مرة تذهب أوتوري إليه.
وشكرتها أوتوري وهي تضم كفيها وتذرف دموعها قائلة: «بفضلك يا سيدة كونو استطعت غسل يدي مثل باقي البشر.»
ولكن لم يتأثر قلب كونو لفرحة أوتوري ولو بقدر بسيط، ولكنها كانت تستمتع برؤية أوسوزو التي اضطرت بعد ذلك أن تحمل بنفسها المياه مرة كل ثلاث مرات، وبالتالي لم يكن عراك الأطفال منفرا بالنسبة لامرأة مثلها، وأظهرت أمام غنكاكو تعاطفا مع أويوشي وابنها، وأعطى ذلك تأثيرا مؤكدا حتى وإن ظهر ذلك التأثير ببطء.
بعد مرور أسبوع تقريبا على إقامة أويوشي في البيت، تعارك تاكيو مع بونتارو، بدأ العراك من مجرد التشاحن حول أيها أغلظ وأيها أنحف، ذيل الخنزير أم ذيل البقرة؟ تاكيو زنق بونتارو النحيف في أحد أركان غرفة الاستذكار الصغيرة المجاورة لمدخل البيت وأخذ يكيل له اللكمات والركلات. أويوشي التي جاءت للمكان في نفس اللحظة حضنت بونتارو الذي لم يقدر حتى على البكاء، وبدأت في تحذير تاكيو لأفعاله. «لا يجب الاستقواء على الضعفاء، يا سيدي الصغير.»
كانت كلمات حادة نادرا ما تخرج على لسانها وهي الخجولة. اندهش تاكيو من سلوك أويوشي التهديدي، وهذه المرة بكى هو، وهرب إلى حيث تجلس أوسوزو في غرفة المعيشة. وعندها بدا أن أوسوزو اشتاطت غضبا، فتركت عملها على ماكينة الخياطة، وهرعت إلى مكان أويوشي وابنها وهي تجر ابنها تاكيو جرا إلى هناك غصبا عنه. «أنت طفل أناني جدا، هيا اعتذر إلى السيدة أويوشي وابنها، ضع يديك على الأرض واعتذر كما يجب.»
Página desconocida
وأمام غضب أوسوزو هذا، بكت أويوشي وبكى ابنها وذرفا الدموع معا، ولم يكن أمامهما إلا الاعتذار بجد واجتهاد، وكانت الممرضة كونو هي دائما من يقوم بدور الوسيط بينهم، كانت كونو تجتهد في رد وإبعاد أوسوزو التي احتقن وجهها للخلف وهي تتخيل مشاعر إنسان آخر، مشاعر غنكاكو وهو يسمع ذلك العراك، فتبتسم في سرها ابتسامة ازدراء، وبالطبع لم تظهر ذلك السلوك على وجهها أبدا.
ولكن لم يكن عراك الأطفال هو الوحيد الذي يعكر صفو وهدوء تلك العائلة، فمع الوقت أثار وجود أويوشي مشاعر الغيرة في قلب أوتوري التي ظن الجميع أنها قد يئست تماما من كل شيء، وفي الواقع لم تنبس أوتوري بكلمة كراهية أو غضب تجاه أويوشي نفسها مطلقا (ولم تفعل هذا أيضا عندما كانت أويوشي تقيم في غرفة الخدم منذ خمس أو ست سنوات)، ولكنها كانت تصب غضبها على جوكيتشي الذي ليس له أي ذنب، وبالتأكيد لم يأبه جوكيتشي بذلك بتاتا، وكانت أوسوزو تشعر بالأسى له، فتعتذر له من حين لآخر بدلا من أمها، ولكنه كان في العادة يبتسم ابتسامة مصطنعة ويغير مجرى الحديث بقوله: «ستكون ورطة لو أصبحت أنت أيضا في حالة هيستيرية.»
اهتمت كونو أيضا بغيرة أوتوري، بالطبع لم تتفهم مشاعر الغيرة التي أصابت أوتوري فقط، بل وتفهمت أيضا أن تصب جام غضبها على جوكيتشي، ليس هذا فقط، بل لقد بدأت تشعر بالغيرة تجاه جوكيتشي وزوجته دون أن تنتبه هي نفسها. كانت أوسوزو بالنسبة لها «الأميرة الجميلة»، ولكن لا شك أن جوكيتشي رجل صنع ليكون إنسانا عاديا، ولكنه بالتأكيد كان ذكرا يستحق احتقارها. بدت سعادة الزوجين لها غير عادلة، ومن أجل تقويم عدم العدالة (!)
3
تلك، أظهرت حميمية وهي تتعامل مع جوكيتشي، وربما كان ذلك لا يعني أي شيء لجوكيتشي، ولكنها كانت أعظم الفرص لإغضاب أوتوري أكثر. كانت أوتوري تسأل جوكيتشي بنبرة مسمومة وهي تظهر رضفة ركبتها: «هل أنت يا جوكيتشي غير راض بابنتي لأنها ابنة امرأة قعيدة؟»
ولكن لم تبد أوسوزو شكوكا تجاه جوكيتشي بسبب ذلك. كلا، بل في الواقع بدا أنها بالشفقة تجاه كونو نفسها، لم تشعر كونو بالسخط فقط تجاه أوسوزو، بل شعرت باحتقار أوسوزو الطيبة احتقارا أشد، ولكنها كانت تستمتع بتجنب جوكيتشي لها. ليس هذا فقط، بل على العكس بدأت تشعر بالجاذبية نحو جوكيتشي كرجل كلما تجنبها. في البداية كان لا يبالي بالتعري تماما في الجانب المطل على المطبخ عند دخوله للاستحمام حتى في وجود كونو هناك، ولكنه أصبح مؤخرا يحرص على ألا تراه في تلك الحالة بتاتا، ولا شك أن سبب ذلك هو خجله من جسمه النحيف الذي يشبه ديكا نتف ريشه كله، عندما تراه في تلك الحالة (حتى وجهه، كان ممتلئا بالبثور) تسخر منه في سرها قائلة ترى هل يظن بشكله هذا أن تقع في غرامه امرأة أخرى غير أوسوزو؟!
في صباح غائم وبارد، وضعت كونو مرآة في غرفة مدخل البيت الضيقة التي أصبحت غرفتها الخاصة، وأعادت تسريح شعر رأسها الذي كانت تشده كله للخلف فترة طويلة، وتصادف أنه كان اليوم السابق لليوم الذي قررت فيه أويوشي العودة أخيرا إلى قريتها، وبدا أن رحيل أويوشي عن هذا البيت أسعد الزوجين جوكيتشي وأوسوزو. ولكن، على العكس بدا أنه زاد من غضب وحقد أوتوري. عندما سمعت وهي تسرح شعر رأسها صياح أوتوري ذات النبرة العالية، تذكرت ما حكته لها صديقة في إحدى المرات، أنها أثناء إقامتها في باريس وقعت في براثن مرض الحنين الشديد للوطن، وانتهزت فرصة عودة أحد أصدقاء زوجها إلى اليابان، فقررت ركوب الباخرة معه، وعلى غير المتوقع لم يسبب لها السفر الطويل عبر البحر معاناة، ولكن عندما وصلت الباخرة إلى خليج كيشو في اليابان، حتى أصيبت المرأة بالهياج المفاجئ وألقت بنفسها في البحر، فعلى العكس كلما اقتربت من اليابان، زادت حدة مرض الحنين للوطن سوءا. مسحت كونو يديها من الزيت في هدوء، وفكرت أن غيرة أوتوري القعيدة بالطبع، وغيرتها هي لهما نفس تلك القوة السحرية العجيبة.
تردد صوت أوسوزو من حافة حديقة البيت المطلة على الغرفة المنفصلة وهي تقول: «ماذا حدث لك يا أمي؟ لماذا زحفت للقدوم حتى هنا، ما أفعل معك؟! يا سيدة كونو من فضلك تعالي هنا قليلا.»
عندما سمعت كونو ذلك الصوت، تسربت منها لأول مرة ابتسامة نشوة تجاه نفسها داخل المرآة المصقولة بعناية تامة، ثم بعد ذلك أجابت بنبرة وكأنها فوجئت: «حاضر، سآتي على الفور.»
5
Página desconocida
زاد هزال غنكاكو بخطى متسارعة، وازداد عنف معاناته من المرض المزمن على مدى سنوات طويلة، وازداد كذلك ألم قرحة الفراش من ظهره إلى خصره، كان يتأوه بصوت عال من حين لآخر، ليخفف من آلامه ولو قليلا، ولكن لم تكن الآلام الجسدية هي بالضرورة ما يعانيه فقط، ولكن مقابل السلوى القليلة التي حصل عليها أثناء إقامة أويوشي في البيت، كان يشعر بمعاناة لا تتوقف من غيرة زوجته أوتوري ومن شجار الأطفال، ولكن حتى ذلك كان أفضل، فبعد أن رحلت أويوشي وقع غنكاكو في وحدة مرعبة، ولم يجد مفرا من مواجهة حياته الطويلة.
كانت حياته ضحلة بدرجة كبيرة بالنسبة إلى رجل مثله، مفهوم أنه لا ريب أنه عاش عصره الذهبي المشرق عندما حصل على براءة اختراع الخاتم المطاطي، ولكن حتى في ذلك الوقت كان يعاني بلا انقطاع من غيرة وحسد أقرانه، بالإضافة إلى شعوره شخصيا بالقلق من فقدان ثروته، فضلا عن أنه عندما اتخذ أويوشي محظية، استمر يحمل أعباء ثقيلة على عاتقه دائما، لتدبير أموال بعيدا عن تدخل أسرته ولا يعرفون عنها شيئا، بل وعلاوة على ذلك سحرت أويوشي الشابة لبه بسبب ضحالته، إلا أنه لا يحصي عدد المرات التي تمنى فيها موت أويوشي وابنها في سره في السنتين الماضيتين. «ضحالة؟! ولكن لو فكرنا في ذلك فهو أمر لا يقتصر علي وحدي.»
هكذا كان يفكر ليلا، ثم يتذكر بالتفصيل حالات أقاربه وأصدقائه واحدا بعد آخر، فلقد قتل صهره عددا من أعدائه السياسيين قتلا اجتماعيا لمجرد أنهم أقل منه حنكة وبراعة بدعوى «الحفاظ على الحياة الدستورية»، وكذلك أقرب أصدقائه، تاجر التحف المسن، كان على علاقة غير شرعية مع ابنة زوجته السابقة، وثمة محام من معارفه بدد ودائع مالية ضخمة، وبعد ذلك أحد فناني حفر الأختام ... ولكن العجيب أن تذكر الجرائم التي ارتكبها هؤلاء لم يقلل من معاناته، ليس هذا فقط بل على العكس زاد فقط من مساحة الظلال السوداء في حياته نفسها. «ماذا؟! تلك المعاناة لن تطول، إذا وصل الحال إلى حال مفرح ...»
4
كان ذلك فقط هو المواساة الوحيدة الباقية لغنكاكو، حاول أن يتذكر ذكرياته الممتعة لتلهيه عن آلامه المختلفة التي تغلغلت في جسده وروحه، ولكن كما ذكرت من قبل كانت حياته كلها ضحلة، ولو كانت فيها شيء مشرق واحد، لكانت مرحلة الطفولة التي لم يكن يعرف فيها شيئا، يتذكر مرات بين الحلم واليقظة، القرية التي تقع في واد جبلي ضيق في إقليم شينشو التي كان يسكنها والداه، وخاصة أغصان شجرة التوت العبقة برائحة دود القز المجمعة لاستخدامها حطبا وسطح البيت المغطى بألواح التسقيف المفردة التي وضع فوقها أحجار، ولكن لم تستمر تلك الذاكرة طويلا، كان وسط تأوهاته وصراخه من الألم، يحاول أحيانا أن يتلو من كتاب كانون المقدس لإله الرحمة، أو يغني الأغاني التي انتشرت في زمن ماض، بل كان يشعر بأنه لا يستحق المشهد الفكاهي الذي يحدثه غناء أغنية «كابوري، كابوري»
5
بعد تلاوة «ميو أون كان زيون، بون أون كاي تشو أون، شوهي سيكن أون ...»
6 «النوم جنة. النوم راحة ...»
كان غنكاكو يرغب في النوم نوما عميقا من أجل أن ينسى كل شيء، وفي الواقع كانت كونو تحقنه بالهيروين بالإضافة إلى المنوم، ولكن لم يقتصر النوم بالنسبة له على الراحة فقط. فأحيانا ما كان يلتقي مع أويوشي وبونتارو في أحلامه.
فيشعر في أحلامه بمشاعر مرحة (في أحد الأحلام الليلية كان يتحدث عن «العشرين نقطة لزهرة كرز» في لعبة «الهانافودا»
Página desconocida
7
الجديدة، بل كانت تلك بطاقة الكرز تلك عليها وجه أويوشي منذ أربع أو خمس سنوات)، ولكن لهذا السبب بالذات شعر بتعاسة كبيرة عند استيقاظه، وفي غفلة من الزمن بات غنكاكو يشعر بقلق يشبه الرعب من النوم.
في ظهيرة أحد الأيام، حيث اقترب آخر أيام العام، بمجرد أن رقد غنكاكو نائما على ظهره، تحدث إلى كونو التي تجلس بالقرب من فراشه. «يا سيدة كونو، أطلب منك شراء بضعة أمتار من قماش قطني لأنني لم ألف فوندوشي
8
منذ زمن طويل.» ولم يكن الحصول على قماش قطني يستدعي إرسال الخادمة أوماتسو لشرائه خصوصا إلى محل الملابس القريب من البيت. «أنا الذي سألفه بنفسي، اطويه وضعيه هنا فقط.»
قضى غنكاكو نصف اليوم القصير هذا اعتمادا على ذلك الفوندوشي، اعتمادا على الموت شنقا بذلك الفوندوشي، ولكن لم يكن من الهين الحصول على فرصة مناسبة لذلك وهو الذي لا يستطيع النهوض من الفراش إلا بمساعدة الآخرين، ليس هذا فقط، بل وكما هو المتوقع عندما اقترب منه الموت صار غنكاكو يخافه، وسخر من نفسه وهو يحاول التهام الحياة حتى هذه اللحظة وهو يتأمل الجملة التي كتبت على لوحة فنية، المضاءة تحت أشعة المصباح الكهربائي المعتمة. «يا سيدة كونو أرجوك ساعديني لكي أقوم.»
كان الوقت ليلا بالفعل وتخطت الساعة العاشرة تقريبا. «سأنام قليلا، وأنت أيضا أرجو منك أن تنامي بلا حرج.»
حملقت كونو في وجه غنكاكو بغرابة، وأجابت باقتضاب قائلة: «كلا، سأبقى أنا صاحية؛ فهذا عملي.»
أحس غنكاكو أن كونو كشفت خطته، ولكنه أومأ صامتا، وبدأ يتظاهر بالنوم، فتحت كونو عدد العام الجديد من المجلة النسائية، وبدا أنها منهمكة في قراءة شيء ما بجوار فراشه. كان غنكاكو يراقب كونو بعينين ضيقتين وهو يفكر في الفوندوشي الذي بجوار الفراش. وعندها شعر بكوميدية الموقف. «يا سيدة كونو.»
حتى كونو نفسها فزعت عندما رأت وجه غنكاكو، كان في غفلة من الزمن لا يتوقف عن الضحك وهو يتكئ على اللحاف. «ماذا حدث؟» «لم يحدث شيء. ما من شيء مضحك.»
Página desconocida
هز غنكاكو يده اليمنى النحيلة وهو يضحك. «لقد هاجمتني نوبة ضحك هكذا بلا سبب، هذه المرة أرجو منك أن تجعليني على جنبي.»
بعد مرور ساعة فقط كان غارقا في النوم، كانت أحلامه في تلك الليلة مرعبة، كان يقف في مكان أشجار كثيفة، يتلصص على ما يبدو أنها غرفة معيشة عبر فتحة في نافذة علوية، وكان في الغرفة طفل عار تماما، ينام ووجهه في اتجاهه، كان طفلا ومع ذلك يمتلئ جسمه بتجاعيد وكأنه عجوز. حاول أن يتحدث إليه، ولكنه استيقظ من نومه وهو غارق في عرقه.
لا أحد في «الغرفة المنفصلة»، ليس هذا فقط بل كان الوقت ما زال ليلا، ما زال؟! ولكن نظر غنكاكو إلى ساعة المكتب، فعرف أنه وقت الظهر تقريبا، انشرح قلبه للحظة بسبب اطمئنانه، ولكنه عاد لكآبته المعتادة سريعا، بدأ يحصي أنفاسه هو شخصيا وهو نائم على ظهره، كانت مشاعره تستحثه بالقول: «يجب التنفيذ الآن» وجذب الفوندوشي خفية، ولفه حول عنقه، ثم جذب الطرفين بيديه بقوة.
في تلك اللحظة كان من جاء هو تاكيو الذي تضخم جسمه بسبب ملابسه الثقيلة. «أوه، جدي يشنق نفسه!»
هكذا صرخ تاكيو وجرى مسرعا إلى غرفة المعيشة.
6
مر أسبوع فقط، ثم لفظ غنكاكو أنفاسه الأخيرة بسبب مرض السل محاطا بأفراد أسرته، كانت جنازته عظيمة (!). (ولكن لم تستطع أوتوري القعيدة حضور تلك الجنازة)، أبلغ الحاضرون لبيت غنكاكو كلمات العزاء إلى جوكيتشي وزوجته، ثم أحرقوا البخور أمام جثمانه المسجى في تابوت مغطى بحرير أبيض لامع، ولكن بعد خروجهم من باب البيت نسي أغلبهم أمره تماما، ولكن من المؤكد أن أصدقاءه القدامى كانوا استثناء من ذلك. «لا شك أن ذلك العجوز قد عاش حياة مريحة، فلقد امتلك محظية شابة، وكان لديه مدخرات لا بأس بها.»
كان الجميع يتحدثون فيما بينهم بمثل هذا القول.
وضع التابوت الذي يحمل جثمانه فوق عربة جنائز مخصوصة يجرها أحصنة إلى محرقة الجثث وسط المدينة في آخر أشهر العام حيث لا تسقط أشعة الشمس عليها. وفي عربة الأحصنة البالية التالية ركب جوكيتشي وابن عم له، كان ابن عمه ذلك طالبا جامعيا، يقرأ في كتاب وهو يحترس من اهتزازات عربة الأحصنة دون أن يتحدث معه تقريبا، كان كتاب «المذكرات» لفلهلم ليبكنخت، ولكن كان جوكيتشي إن لم يكن في غفوة نعاس بسبب إرهاقه من إجراءات العزاء والجنازة، كان يتأمل المدينة التي نشأت جديدا من نافذة العربة وهو يحدث نفسه بلا مبالاة قائلا: «لقد تغيرت هذه المنطقة تماما.»
وصلت عربة الأحصنة ذات العجلتين إلى محرقة الجثث أخيرا بعد سيرها في طريق الثلج الذائب، ولكن مع أنه كان قد اتصل هاتفيا مسبقا ورتب الأمر مع المحرقة، إلا أن أفران الدرجة الأولى كانت ممتلئة كلها، ولم يتبق إلا أفران الدرجة الثانية، ولم تكن العائلة تمانع في استخدام أي نوع، ولكن جوكيتشي كان مهتما بمشاعر زوجته أوسوزو أكثر من اهتمامه بصهره الراحل، فاستمر يتفاوض بحماس مع الموظف المعني عبر النافذة التي على شكل نصف دائرة، وحاول أن يكذب عليه بالقول: «في الواقع لقد اكتشفنا فجأة أنه مريض في حالة متأخرة، فعلى الأقل نريد أن يحرق في فرن من الدرجة الأولى.»
Página desconocida
ويبدو أن تلك الكذبة قد أتت بنتيجة فعالة أكثر مما توقع. «إذن لنفعل ما يلي، إن أفران الدرجة الأولى ممتلئة، ولكن لنأخذ أجرا متميزا ونحرق الجثة بطريقة متميزة، ما رأيك؟»
شعر جوكيتشي ببعض الحرج، فأخذ ينحني عدة مرات للموظف معبرا عن شكره، كان الموظف عجوزا يبدو طيب القلب ويضع على عينيه نظارة بإطار نحاسي أصفر. «كلا، كلا، لا يحتاج الأمر إلى الانحناء شكرا.»
بعد إحكام غلق فرن الحرق، وكانوا على وشك الخروج من بوابة المحرقة بعربة الأحصنة البالية، احتار جوكيتشي قليلا وحاول أن ينزع قبعته من على رأسه. وعندها، وعلى غير المتوقع كانت أويوشي تقف دون حركة أمام السور المبني بالطوب الأحمر، وألقت بتحية بعينيها إلى عربة الأحصنة التي يركبونها.
ارتبك جوكيتشي قليلا، ثم حاول أن يرفع قبعته، ولكن العربة التي يستقلونها قد انعطفت لتسير في الطريق التي ذبلت أوراق شجر الحور فيها. «إنها هي، أليس كذلك؟» «بلى ... ترى هل كانت في نفس المكان عندما أتينا؟» «لا أتذكر إلا وجود الشحاذين فقط ... ترى ما ستفعل هذه المرأة بعد الآن؟»
أشعل جوكيتشي النار في سيجارة شيكيشيما، وحاول أن يجيب ببرود على قدر ما يستطيع. «لا أدري، ترى ماذا سيحدث لها؟ ...»
فالتزم ابن عمه الصمت، ولكن كان خياله يرسم له قرية صيادين على ساحل البحر في إقليم كازوسا، ويرسم له كذلك الأم وطفلها اللذين يجب عليهما العيش في تلك القرية فيما يلي من سنين ... تجهم وجهه فجأة داخل أشعة الشمس التي كانت قد بدأت تشع في المكان، وبدأ يقرأ في كتاب ليبكنخت مرة أخرى. ••• (الشهر الأول من العام الثاني لعصر شوا [يناير 1927].)
السراب
1
في ظهيرة يوم من أيام الخريف، ذهبت مع الطالب الجامعي «ك» الذي أتى من طوكيو، لمشاهدة السراب، يعرف الجميع أن السراب يمكن رؤيته على شاطئ البحر في بلدة كوغنوما، وفي الواقع عندما رأت خادمتي منظر سفينة منعكسا في السراب انبهرت من المنظر، وقالت: «إنه يشبه تماما تلك الصورة التي نشرت في الجرائد منذ فترة.»
انعطفنا بجانب العريشة، وقررنا أن ندعو «أ» معنا أيضا. ويبدو أن «أ» الذي يلبس قميصا أحمر كالمعتاد كان يطبخ طعام الغداء، فكان منظره يبدو من خلف سور الأشجار يتحرك بسرعة ورشاقة بجوار البئر، رفعت عصاتي المصنوعة من خشب المران وأعطيت إشارة إلى «أ ». «تفضلوا بالدخول من عندكم ... أهلا، هل أنت حضرت أيضا؟»
Página desconocida
ظن «أ» أنني أتيت لزيارته مع «ك». «لقد جئنا لرؤية السراب، ألا تذهب معنا أنت أيضا؟» «السراب؟ ...»
ضحك «أ» فجأة. «يبدو أن السراب أصبح له شعبية مؤخرا.»
بعد مرور خمس دقائق فقط، كنا نسير ومعنا «أ» على طريق رملي عميق، كان الجانب الأيسر من الطريق أرضا رملية، وعلى ذلك الطريق آثار خطين أسودين مائلين لمرور عجلات عربة تجرها الأبقار، شعرت بما يقرب من الضغط النفسي نوعا ما في آثار تلك العجلتين العميقين. آثار عمل عبقري شجاع ... لا ينفي اقتراب مثل تلك المشاعر مني. «إنني ما زلت في حالة صحية غير جيدة؛ لأنني أنهزم حتى من مجرد النظر إلى آثار عربة مثل هذه.»
ظل «أ» رافعا حاجبيه ولم يجب على كلماتي بأي رد. ولكن، يبدو أن مشاعري وصلت بوضوح إلى قلب «أ».
وأثناء ذلك مررنا خلال أشجار صنوبر، أشجار صنوبر متفرقة وقصيرة، ومشينا على ضفة نهر هيكيجي، كان البحر مشرقا يمتد خلف شاطئ الرمال الواسع بلون أزرق، ولكن كانت بيوت جزيرة إنوشيما وأشجارها بها غيوم كئيبة نوعا ما. «إنه عصر جديد.»
كانت كلمة «ك» تلك على حين غرة، ليس هذا فقط، بل كان مبتسما. عصر جديد؟ بل إنني اكتشفت في لحظة واحدة «العصر الجديد» الذي يعنيه «ك»، كان ذلك رجلا وامرأة يتأملان البحر خلف سور من البامبو بني لصد الرمال، ولكن لم يكن الرجل الذي ارتدى معطفا خفيفا جدا وقبعة لينة مطوية عند منتصفها، يليق عليه إطلاق اسم العصر الجديد، ولكن بالتأكيد كانت المرأة، بشعرها القصير ومظلة الشاطئ وحذائها قصير الكعب تعبر عن العصر الجديد. «تبدو السعادة عليهما.» «أنت أيضا مثلهما ممن يحسد عليه.»
هكذا سخر «أ» من «ك».
يبتعد المكان الذي يمكن منه رؤية السراب عن الرجل والمرأة بمسافة مائة متر تقريبا، انبطحنا جميعا على بطننا نتأمل شاطئ الرمال الذي يتصاعد فيه سديم الحرارة على الجانب الآخر من النهر، يهتز فوق شاطئ الرمال خط واحد أزرق، بعرض شريط رفيع ، على ما يبدو أن ذلك انعكاس لون البحر على سديم الحرارة، ولكن غير ذلك لم نر انعكاس صورة السفن فوق شاطئ الرمال.
قال «ك» الذي أصبح فكه مليئا بالرمال بخيبة أمل: «هل هذا حقا ما يطلق عليه السراب؟»
وهنا، ظهر غراب من مكان مجهول، فوق شاطئ الرمال على بعد مائتي أو ثلاثمائة متر، فوق اللون الأزرق المهتز، ثم طار أكثر للجهة المقابلة، وبالتزامن مع ذلك، انعكس ظل ذلك الغراب مقلوبا في المنطقة التي فوق سديم الحرارة. «مع ذلك فاليوم أفضل كثيرا.»
Página desconocida
مع كلمة «أ» تلك نهضنا جميعا من فوق الرمال، وعندها في غفلة من الزمن كان أمامنا زوجا (العصر الجديد) اللذان تركناهما، يمشيان في اتجاهنا.
اندهشت جدا، فنظرت للخلف، ولكن كان الاثنان بدون تغيير يتحدثان معا في أمر ما خلف سور البامبو على بعد مائة متر تقريبا منا. نحن، خاصة «أ»، ضحكنا ضحكا شديدا. «أليس هذا على العكس هو السراب؟»
بالطبع كان «العصر الجديد» الذين أمامنا الآن يختلف عن هؤلاء، ولكن لم يختلف مظهرهما تقريبا من الشعر القصير للمرأة، والقبعة اللينة للرجل. «أنا أشعر بالاستياء لسبب مجهول!» «لقد فكرت أنني جئت على حين غفلة.»
كنا ونحن نتحاور هكذا، قد اخترقنا الجبل الرملي المنخفض دون أن نسير بمحاذاة ضفة نهر هيكيجي، كانت أوراق الصنوبر المنخفض التي على طرف سور صد رمال الجبل الرملي كما هو متوقع قد اصفرت، وعندما مر «أ» من هناك انحنى بخصره وكأنه يقول: «هيلا هوب.» ثم التقط شيئا من فوق الرمال، كانت لافتة خشبية رصت فيها حروف بالعرض داخل إطار أسود يبدو وكأنه بيتومين. «ما هذا؟
Sr. H. Tsuji ... Unua ... Aprilo ... Jaro ... 1906 ... »
1 «ترى ما هذا؟ هل هو
dua ... Majesta ...؟ مكتوب 1926.»
توقع «أ» بالقول: «أليس هذا ما يلصق بما يسمى الجثث التي تدفن في البحر؟» «ولكن، عند الدفن في البحر تلف الجثة بقماش الشراع أو شيء من هذا القبيل فقط.» «أجل ولذلك تلصق به هذه اللافتة، انظر! لقد دق هنا مسمار، في الأصل تأخذ شكل الصليب.»
كنا وقتها قد مشينا بين غابات الصنوبر والسور الشجري المصنوع من الخيزران القصير لمنتجعات جبلية. إن لوحة الاسم الخشبية تقريبا كما توقع السيد «أ»، شعرت باستياء لا يفترض أن أشعر به في أشعة الشمس. «لقد عثرت على شيء لا يجلب الفأل الحسن.» «ماذا؟ سأجعلها تميمة حظ لي ... ولكن من 1906 حتى 1926 يعنى أنه مات في العشرين من عمره تقريبا، والعشرون تقريبا تعني ...» «ترى أكان رجلا، أم امرأة؟» «من يدري ... ولكن في أي حال ربما كان طفلا هجينا.»
كنت وأنا أجيب على «ك» تخيلت شابا هجينا يموت داخل سفينة، وطبقا لتخيلاتي يفترض أن والدته يابانية.
Página desconocida
فجأة همس «أ» متحدثا لنفسه وهو ينظر للأمام كما هو. «السراب!»
وربما كانت تلك كلمة قالها بلا تعمد، لكنها كانت تلمس شيئا خافتا داخل مشاعر. «ألا نستريح قليلا ونشرب الشاي قبل العودة؟»
وفي وقت قصير كنا نجلس في ثبات في ركن من الطريق الرئيس الذي تكثر فيه البيوت، تكثر فيه البيوت! ... ولكن كان طريق الرمل الجاف خاليا من المارة تقريبا. «ماذا ستفعل يا «ك»؟» «أنا! أي شيء ...»
في تلك اللحظة جاء من الجهة المقابلة كلب شارد بلون ناصح البياض يهز ذيله.
2
بعد أن عاد «ك» إلى طوكيو، عبرنا أنا و«أ» وزوجتي جسر نهر هيكيجي، كانت هذه المرة الساعة السابعة مساء، وقد انتهينا لتونا من تناول وجبة العشاء.
وكانت النجوم لا ترى في تلك الليلة أيضا، كنا نمشي على شاطئ الرمل الخالي من الناس والصمت يسيطر علينا. تحركت ظلال فوق الشاطئ الرملي عند مصب نهر هيكيجي في البحر، ويبدو أنها إشارة للسفن التي تذهب للصيد في البحر.
بالطبع لم ينقطع صوت الأمواج، ولكن مع اقترابنا من الشط الذي تضربه الأمواج، بدأت رائحة البحر القوية تزداد، ويبدو أن تلك الرائحة لم تكن رائحة البحر نفسه أكثر من كونها رائحة الأخشاب والطحالب البحرية التي تلقي بها الأمواج على الشاطئ، لسبب مجهول شعرت بتلك الرائحة فوق بشرتي بالإضافة إلى أنفي.
ظللنا لبعض الوقت نتأمل ذروة الأمواج الضبابية ونحن نقف على الشط الذي تضربه الأمواج، كان البحر شديد الظلام مهما نظرنا إليه من أي اتجاه، وتذكرت عندما كنت أسكن على ساحل البحر في كازوسا منذ ثلاثة أعوام تقريبا، وفي نفس الوقت تذكرت الصديق الذي كان معي وقتها. كان ذلك الصديق بالإضافة إلى دراسته يقرأ مسودة قصتي القصيرة «عصيدة اليام» المصححة.
وأثناء ذلك أشعل «أ» عود ثقاب وهو يجلس القرفصاء على الشاطئ الرملي. «ماذا تفعل؟»
Página desconocida
رفع «أ» عينيه من خلف كتفه ونظر إلينا وتحدث إلى زوجتي تقريبا: «لا أفعل شيئا، لقد أشعلت نارا فقط، فهكذا يمكن رؤية العديد من الأشياء، أليس كذلك؟»
مفهوم، لقد سبب عود واحد من الثقاب، إنارة العديد من القواقع والطحالب والأعشاب البحرية المنتشرة داخل البحر، وبعد أن انطفأ ذلك العود، حك «أ» عود ثقاب جديدا، وأخذ يسير على الشاطئ ببطء. «ما هذا! أمر يبعث على الاستياء، لقد ظننت أنها قدم غريق!»
كانت فردة حذاء سابحة نصفها مدفون في الرمال، وكذلك في منتصف الأعشاب البحرية ثمة قطعة إسفنج عملاقة، ولكن عندما انطفأت تلك النار أيضا أصبح المكان أكثر ظلاما عن ذي قبل. «أي إنه ما من غنيمة مثل غنيمة النهار، أليس كذلك؟» «غنيمة؟ آه، هل تقصد تلك اللوحة؟ إن مثل العثور على تلك اللوحة أمر نادر.»
قررنا العودة إلى الشاطئ الرملي الواسع تاركين خلفنا أصوات الأمواج التي لا تنقطع، وغير الرمال اشتبكت بأقدامنا طحالب بحرية أحيانا. «في هذا المكان ثمة أشياء متنوعة، أليس كذلك؟» «هل أشعل عود ثقاب مرة أخرى؟» «لا داعي ... أسمعت؟ إنه صوت جرس.»
أصيخت أذني؛ لأنني ظننت أن ذلك أحد الأوهام التي زادت عندي مؤخرا، ولكن لم يكن ثمة شك أن جرسا يدق في مكان قريب، عندما كنت على وشك أن أسأل «أ» مرة ثانية هل يسمع الجرس، وعندها تحدثت إلي زوجتي التي كانت خلفنا بخطوتين أو ثلاث بصوت ضاحك، قائلة: «إنه جرس قبقابي الذي يدق، أليس كذلك؟ ...»
ولكن حتى بدون النظر للخلف كانت زوجتي بلا شك تنتعل خفا من القش وليس قبقابا. «إنني الليلة أصبحت طفلة صغيرة وأسير وأنا أنتعل قبقابا». «إنه يدق داخل أكمام السيدة زوجتك ، آه إنه دمية ياسوشي، الدمية الملصق بها جرس من السلولويد.»
قال «أ» ذلك ثم ضحك، وأثناء ذلك لحقت بنا زوجتي وسرنا نحن الثلاثة في صف واحد، وكان مزاح زوجتي فرصة لنعود نحن الثلاثة للتحدث معا مرة أخرى في مرح وحيوية أكثر مما قبل.
تحدثت إلى «أ» عن الحلم الذي رأيته ليلة أمس، لقد حلمت أنني أتحدث مع سائق سيارة نقل أمام أحد البيوت ذات الطراز الغربي، وعلى ما أتذكر أنني كنت داخل ذلك الحلم أظن أنني سبق لي أن قابلت هذا السائق من قبل، ولكنني حتى بعد أن استيقظت من النوم لم أعرف أين قابلته. «وعندما تذكرت ذلك فجأة، كان ذلك صحافية جاءت منذ ثلاثة أو أربعة أعوام لعمل لقاء صحفي معي لمرة واحدة فقط.» «كانت إذن سائقة نقل سيدة؟» «كلا، بالتأكيد كان رجلا، الوجه فقط كان وجه تلك الصحافية، إن الوجه الذي نراه مرة واحدة فقط يظل في مكان ما من الذاكرة على الدوام.» «حقا إنه كذلك، وخاصة الشخص صاحب الوجه المميز الذي يترك انطباعا قويا ...» «ولكنني لم أكن أحمل أي اهتمام بوجه تلك المرأة مطلقا، وعلى العكس من ذلك جعلني أشعر باستياء؛ لأنني أحسست أنه ثمة العديد من الأمور خارج نطاق الوعي إلى حد ما ...» «بمعنى أنه عندما تشعل عود ثقاب وتنظر يبدو لك العديد من الأشياء، أليس كذلك؟»
وأنا أقول ذلك اكتشفت بالصدفة أن وجوهنا فقط هي المرئية بوضوح، مع عدم اختلاف الوضع عما كان عليه من قبل، وأن إضاءة النجوم لا يمكن رؤيتها. أمسيت مكتئبا ثانية لسبب ما ونظرت عاليا تجاه السماء عدة مرات، ويبدو أن زوجتي لاحظت ذلك وقبل أن أنطق بشيء ردت هي علي بالسؤال: «إن ذلك بسبب الرمال، أليس كذلك؟»
ضمت زوجتي كمي ثوبها ثم نظرت للخلف تجاه شاطئ الرمال الرحب. «بلى، يبدو كذلك.» «إن الرمال على الأغلب مشاكسة؛ لأنها هي أيضا التي تصنع السراب ... ألم تري السراب يا سيدتي بعد؟» «بلى، لقد رأيته مرة واحدة فقط مؤخرا ... ولكنني رأيت فقط شيئا أزرق اللون ...» «أجل، إنه ذلك فقط يا سيدتي، هذا فقط ما رأيناه نحن أيضا اليوم.»
Página desconocida
عبرنا نهر هيكيجي، ومشينا خارج عريشة على الضفة المقابلة، كانت أغصان الصنوبر جميعها تصدر أصواتا خشنة وكأنها بدأت في القيام، وبدا أن رجلا قصير القامة يأتي تجاهنا بخطوات سريعة، وعندها تذكرت فجأة أحد الأوهام التي رأيتها في الصيف، وقتها رأيت في ليلة مثل هذه ورقة عالقة في غصن شجرة الحور وكأنها خوذة على رأس رجل، ولكن ذلك الرجل لم يكن وهما، ليس هذا فقط، بل وعندما كنا نقترب من بعضنا البعض، ظهر صدر قميصه. «ما مشبك رابطة العنق الغريب هذا؟»
بعد أن قلت ذلك بصوت خفيض، اكتشفت أن ما ظننته مشبك هو شعلة سيجارته، وعندها عضت زوجتي على طرف كمها وضحكت قبل الجميع ضحكة مكتومة، مر ذلك الوجل بجوارنا مسرعا دون حتى أن يلتفت إلينا. «حسنا، طابت ليلتكما.» «طابت ليلتك.»
افترقنا مع السيد «أ» بتلك التحية البسيطة، ومشينا وسط صوت الرياح التي تتخلل الصنوبر، وتختلط داخل صوت رياح الصنوبر تلك كذلك أصوات الحشرات الخافتة. «ترى متى عيد الزواج الذهبي للجد؟»
وتعني بكلمة «الجد» تلك أبي. «ترى متى؟ ... هل وصلت الزبدة من طوكيو؟» «الزبدة لم تصل بعد، ولكن الذي وصل هو المقانق.»
وأثناء كلامنا هذا كنا قد وصلنا أمام مدخل البيت ... أمام مدخل البيت نصف المفتوح بابه. ••• (الرابع من الشهر الثاني للعام الثاني لشوا [4 فبراير 1927].)
كابا1
أرجو منكم نطقها
Kappa
تمهيد
إنها قصة يحكيها المريض رقم 23 في مستشفى للأمراض النفسية لكل الناس، إنه مجنون تخطى عمره الثلاثين عاما بالفعل، ولكن مظهره الخارجي يبدو في ذروة الشباب، إن أغلب حياته ... كلا، هذا أمر ليس ذا أهمية، إنه يظل ثابتا يحضن ركبتيه، وينظر أحيانا من النافذة (النافذة التي وضع فيها أسياخ من الحديد، يرى منها شجرة سنديان ليس بها حتى أوراق ذابلة، تفرد أغصانها في السماء الغائمة بغيوم ثلجية)، استمر يتحدث لي وللدكتور «س» مدير المستشفى لوقت طويل بلا انقطاع، وبالطبع لا يعني قولي «يظل ثابتا» أنه لم يكن يحرك جسمه من حين لآخر، وعندما يقول مثلا: «اندهشت» كان يشيح بوجه للخلف ...
Página desconocida
ولقد حرصت على أن أنقل حديثه هذا بدقة متناهية، وإن وجد أحد لا يكتفي مما دونته هنا، فالأفضل الذهاب لزيارة مستشفى «س» للأمراض النفسية في قرية سوغامو خارج مدينة طوكيو. إن المريض رقم 23 الذي يبدو أصغر سنا من عمره الحقيقي، على الأرجح سيحني رأسه في أدب بالغ ويشير بيده إلى كرسي بلا وسادة للجلوس عليه، ثم بعد ذلك تبرز على فمه ابتسامة كئيبة، ويبدأ في تكرار هذه القصة بهدوء. وفي النهاية، أتذكر وجهه عندما انتهى من هذه القصة. في النهاية، وبمجرد أن ينهض بجسمه أخذ يلف قبضة يده ويصرخ بما يلي: «اخرج أيها الشرير! إنك حيوان أناني وأحمق وغيور وداعر وخبيث وغارق في الغرور وقاس، اخرج من هنا! أيها الشرير!»
1
في فصل الصيف منذ ثلاث سنوات، كنت على وشك الصعود إلى جبل هوتاكا من نزل في منطقة ينابيع كاميكوتشي وأنا أحمل خلف ظهري حقيبة ظهر عادية، وكما هو معلوم فما من طريق آخر لصعود جبل هوتاكا، إلا الصعود بمحاذاة نهر أزوسا إلى منابعه، ولأنني كنت قد صعدت من قبل جبل هوتاكا بالطبع وجبل ياريغاتاكه، ذهبت صاعدا إلى منابع نهر أزوسا دون دليل يرشدني وسط وادي أزوسا الذي يسقط عليه الضباب في الصباح الباكر، يتساقط الضباب على الوادي في الصباح، ولكن مهما مر من وقت لا يبدو منظر هذا الضباب أنه سيزول، ليس هذا فقط، بل على العكس كان يزداد عمقا وشدة. مشيت ساعة ثم فكرت في العودة إلى النزل في ينابيع كاميكوتشي، ولكن حتى أستطيع العودة إلى كاميكوتشي كان يجب انتظار زوال الضباب، ومع قول ذلك كان الضباب يزداد عمقا مع كل لحظة ولا يبدو أنه سيزول، فكرت «من الأفضل مواصلة الصعود» لذا مشيت وأنا أبعد أغصان الخيزران حريصا على ألا أبتعد عن وادي نهر أزوسا.
ولكن كان الضباب الكثيف يحجب الرؤية عن عيني، ولكن لم يعدم الأمر أحيانا من رؤية أغصان لأشجار الزان والشوح بأوراقها الخضراء تتدلى أمام عيني وسط الضباب، ثم بعد ذلك، ظهر أمام عيني فجأة وجوه أبقار وأحصنة تركت لترعى بحريتها، ولكنها بمجرد أن ظهرت داخل الضباب الكثيف اختفت فورا، وأثناء ذلك بدأت قدماي تتعبان، ومعدتي تشعر بالجوع، وعلاوة على ذلك لم تكن ملابس تسلق الجبل والبطانية التي اخترقها الضباب فتبللت بالثقل الطبيعي المعتاد. ولأنني قررت أخيرا التوقف عن العناد، لذا بدأت الهبوط إلى وادي نهر أزوسا معتمدا على خرير المياه التي تحثها الصخور على سرعة الجريان.
ثم جلست على صخرة على ضفاف النهر، وبدأت أتناول وجبة الطعام مؤقتا، فتحت علبة بلوبيف، وجمعت الأغصان الجافة، وأشعلت فيها النار، أثناء ما كنت أفعل ذلك مر عشر دقائق على الأرجح، وخلال تلك المدة انقشع الضباب الذي كان مشاكسا حتى النهاية، وأصبح الطقس صحوا في غفلة من الزمن. نظرت سريعا إلى ساعة يدي وأنا أقضم الخبز، كانت الساعة قد تخطت الواحدة وعشرين دقيقة، ولكن الذي أدهشني أكثر من ذلك، كان وجه مريب، يسقط ظله فوق زجاج ساعة اليد الدائري، اندهشت والتفت إلى الخلف، وعندها ... كان ذلك في الواقع أول مرة أرى فيها ما يطلق عليه حيوان الكابا، حيوان كابا كما يرسم في اللوحات يقف فوق الصخور خلفي، يمسك بإحدى يديه جذع شجرة قضبان بيضاء، ويضع اليد الأخرى فوق عينيه ليحميها من أشعة الضوء، وينظر إلي من عل كأنه ينظر إلى شيء نادر.
أصابني الذهول، وبقيت لبعض الوقت مبهوتا لا أتحرك، وبدا أن الكابا أيضا أصابته الدهشة، فلم تتحرك حتى يده التي فوق عينيه، وأثناء ذلك أسرعت بالنهوض واقفا، وقفزت مسرعا تجاه الكابا الذي فوق الصخور، وفي نفس اللحظة هرب الكابا. كلا، على الأرجح أنه بدأ الهروب. ففي الواقع أنه تفاداني بخفة ورشاقة، ثم اختفى فورا في مكان مجهول، وأخيرا أخذت أدور بعيني داخل الخيزران القصير، وأنا ما زلت مذهولا. فكان الكابا ينظر خلفه تجاهي على بعد مترين أو ثلاثة أمتار وقد جفل من الدهشة، وليس هذا أمرا عجيبا مطلقا، ولكن ما كنت أراه غير طبيعي ، هو لون جسم الكابا، كان لون جسم الكابا الذي رأيته فوق الصخرة كله بلون رمادي، ولكن تغير ذلك اللون تماما إلى الأخضر. رفعت صوتي بالصياح: «اللعنة!»، ثم قفزت مجددا تجاهه، بالطبع هرب. بعد ذلك ولمدة ثلاثين دقيقة، اخترقت الخيزران القصير وتخطيت الصخور، وظللت أطارده باندفاع.
سرعة أقدام الكابا لا تقل أبدا عن القرود. وأثناء مطاردته بانهماك كنت على وشك أن أفقد أثره عدة مرات، ليس هذا فقط، بل لقد انزلقت أقدامي وتدحرجت مرات عدة، وعندما أتيت حتى أسفل الأغصان الغليظة الممتدة لشجرة كستناء الفرس اليابانية، لحسن حظي أن بقرة أعاقت الكابا عن التقدم للأمام. كلا، بل كان ثورا ذا قرنين غليظين وينطلق الشرار من عينيه. عندما شاهد الكابا ذلك الثور، صرخ صرخة ما وهو يقفز داخل أجمة خيزران أطول من السابق وكأنه يتشقلب في الهواء، ثم لأنني أيضا اندهشت وفكرت أنني فشلت، طاردته بالقفز أنا أيضا داخل نفس الأجمة، وعلى الأرجح أن ذلك المكان كان به ثقب لم أكن أدري بوجوده، وعندما لمست أناملي ظهر الكابا الملس، سقطت على الفور متدحرجا بالمقلوب في وسط ظلام حالك وعميق، ولكننا نحن البشر في حالة وقوعنا في ورطة وأزمة شديدة، تفكر عقولنا في أمور لا تخطر على البال ولا على الخاطر، وفي اللحظة التي صرخت فيها قائلا: «آه!» تذكرت أن هناك جسرا بجوار نزل الينابيع في بلدة كاميكوتشي يدعى «جسر الكابا»، ثم بعد ذلك ... لا أتذكر شيئا مما حدث بعد ذلك، بل إنني بعد أن شعرت بحدوث ما يشبه الصاعقة أمام عيني، فقدت الوعي في غفلة من الزمن.
2
وعندما عاد إلي وعيي أخيرا، كنت راقدا على ظهري، محاطا بعدد كبير من حيوانات الكابا. ليس هذا فقط، بل كان منهم كابا يضع نظارة أنف فوق منقاره الغليظ، يكشف على صدري بسماعة طبية وهو يجثو على ركبتيه بجواري، وعندما رأى ذلك الكابا أنني فتحت عيني أشار لي بيده بما معناه «لا تتكلم»، ثم بعد ذلك تحدث إلى كابا خلفه بقوله
xQuax, qua . وعندها جاء من مكان ما حيوانا كابا يمشيان وهما يحملان نقالة مرضى، وضعت على تلك النقالة، وساروا بي في هدوء عدة مئات من الأمتار وسط حشد كبير من الكابا. كانت المدينة التي تتراص على جانبي يمينا ويسارا لا تختلف كثيرا عن شارع غينزا، كما هو متوقع فردت محلات متعددة مظلاتها تحت ظلال أشجار الزان المتراصة على جانبي الطريق، وفي الطريق الذي أحاطت به تلك الأشجار يسير عدد من السيارات.
Página desconocida
أخيرا، عندما انعطفت النقالة التي تحملني في حارة جانبية ضيقة، حملت إلى داخل أحد البيوت، وطبقا لما عرفته فيما بعد، فهو بيت الكابا، ذلك الذي يضع نظارة على منقاره، أي بيت الطبيب الذي يسمى تشاك، أنامني تشاك فوق سرير أنيق، ثم بعد ذلك أسقاني جرعة من دواء شرب بلون شفاف. لقد كانت كل مفاصل جسمي تؤلمني ألما شنيعا لدرجة أنني لم أكن أستطيع تحريك أي عضو من أعضاء جسمي.
كان تشاك يكشف علي حتما كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، وأيضا كان الكابا الذي رأيته في البداية - الصياد باغ - يأتي مرة كل ثلاثة أيام لزيارتي. إن حيوانات الكابا تعرف عن البشر أكثر بكثير جدا مما يعرفه البشر عن الكابا، وعلى الأرجح أن سبب ذلك هو أن الكابا تصطاد البشر بعدد أكبر كثيرا جدا من اصطياد البشر لها، وحتى لو كان ذلك لا يصلح أن يطلق عليه اصطياد، ولكن عددا كبيرا من البشر جاء إلى بلاد الكابا قبلي. ليس هذا فقط، بل ثمة عدد كبير منهم عاش عمره كله في بلاد الكابا. جرب أن تقول لماذا؟ لمجرد أننا لسنا كابا فقط، وأننا بشر، فلدينا ميزة أننا نعيش ونأكل دون عمل، وعلى أرض الواقع طبقا لحديث باغ، فلقد جاء شاب كان يعمل في إنشاء الطرق عن طريق الصدفة إلى هذه البلاد ثم تزوج من أنثى كابا وعاش هنا حتى وفاته، وعلاوة على أن أنثى الكابا تلك كانت أجمل إناث البلاد؛ فقد كانت على قدر كبير من الذكاء لكي تخدع زوجها عامل الطريق ذلك.
بعد مرور أسبوع واحد فقط ، ومن خلال ما ينص عليه القانون في هذه الدولة، تقرر أن أسكن بجوار تشاك بصفة «مقيم بحماية خاصة». كان بيتي راقيا مقارنة بصغر حجمه، بالطبع كانت حضارة هذه الدولة لا تختلف كثيرا عن حضارة الدول في عالم البشر، أو على الأقل لا تختلف كثيرا عن حضارة في اليابان، ثمة بيانو صغير في أحد أركان غرفة الضيوف المطلة على الطريق العام، وأيضا معلق في إطار على الحائط لوحة مطبوعة بالحفر، ولكن كان الجزء الأهم في البيت أن مقاسات كل شيء مثل المناضد والكراسي صنع ليناسب طول قامة الكابا، فكان شعوري كأنني وضعت في غرفة أطفال لا أرتاح معها.
كنت دائما عندما يأتي المغيب، أستقبل في هذا البيت تشاك وباغ، وأتعلم منهما لغة الكابا. كلا، ليس هذان الاثنان فقط، فلأن الجميع كان يحمل فضولا تجاهي أنا الذي أحمل صفة «مقيم بحماية خاصة»، فقد كان مدير شركة زجاج يدعى غيل، وكان يستدعي تشاك خصوصا كل يوم لكي يقيس له ضغط الدم، كان أيضا يطل بوجهه في هذا البيت، ولكن في مدة نصف الشهر الأول، كان الصياد الذي يدعى باغ هو أكثر من أقمت معه علاقتي الحميمية.
في غروب يوم دافئ رطب، كنت أجلس في بيتي هذا مع الصياد باغ وبيننا المنضدة، ثم لا أدري ماذا فكر باغ، ولكنه صمت فجأة ثم أخذ يحملق في بعينيه الواسعتين، بالتأكيد شعرت أنا بغرابة وريبة، فقلت له:
Quax, Bag, quo quel, quan?
وإن ترجمت ذلك للغة اليابانية فهو يعني «يا باغ! ماذا حدث لك؟» ولكن باغ لم يرد على سؤالي، ليس هذا فقط، بل وقف فجأة وأخرج لسانه، ثم أخذ وضع القفز وكأنه ضفدعة على وشك القفز، وفي النهاية شعرت بالاستياء فوقفت برفق من فوق مقعدي، وكنت على وشك الإسراع بالخروج من باب البيت في قفزة واحدة، ولحسن الحظ جاء في تلك اللحظة الطبيب تشاك. «توقف يا باغ! ماذا تفعل؟»
ظل تشاك يحدق في باغ هذا وهو يضع النظارة فوق أنفه كما هي، وبدا أن باغ شعر بالحرج، فوضع يده على رأسه عدة مرات وهو يعتذر إلى تشاك كما يلي: «أعتذر لك بشدة، في الواقع لقد كان منظر هذا السيد وهو خائف مني مشوقا جدا، فأخذت أشاكسه دون وعي مني، أرجو منك يا سيدي أن تسامحني أنت أيضا.»
3
قبل أن أواصل الحديث عن حكايتي فيما بعد ذلك يجب علي أن أشرح بعض المعلومات الموجزة عن حيوانات الكابا، إن الكابا هي حيوانات يشك في وجودها حاليا، ولكنني أنا شخصيا بما أنني عشت بينهم، فما من أدنى شك لدي. حسنا، إن سألنا أي الحيوانات هي، بالتأكيد على رءوسهم شعر قصير، والأيدي والأقدام بها غشاء رقيق بين الأصابع لا خلاف ظاهر عما جاء في كتاب لوجود «دراسات عن نمور الماء»،
Página desconocida
2
والطول في حدود متر واحد فقط يزيد قليلا أو ينقص قليلا، والوزن طبقا للطبيب تشاك، من عشرين إلى ثلاثين رطلا، ويقول إنه من النادر العثور على كابا عملاق يصل وزنه إلى خمسين رطلا. ثم في منتصف الرأس هناك صحن بيضاوي، وتزداد صلابة هذا الصحن تدريجيا مع زيادة العمر، وفي الواقع فإن ملمس صحن باغ العجوز يختلف تمام الاختلاف عن صحن تشاك الشاب، ولكن الأمر الأعجب هو بالتأكيد لون بشرة الكابا. إن حيوانات الكابا ليس لها لون محدد مثلنا نحن البشر، ولكن لون بشرتها يتغير ليصبح نفس اللون المحيط بها، مثلا لو كانت موجودة وسط الأعشاب يتغير لونها إلى لون الأعشاب الأخضر، وعندما تكون موجودة فوق الصخور يتغير لونها للون الصخور الرمادي، ولكن هذا بالطبع لا يقتصر على الكابا، ولكن الحرباء أيضا لها نفس الصفة، وربما كان الكابا يمتلك فوق خلايا الجلد شيئا قريبا من الحرباء، وعندما اكتشفت تلك الحقيقة، تذكرت وثائق علم الفولكلور التي تذكر أن الكابا في غربي البلاد خضراء اللون والكابا في شمالي شرقي البلاد حمراء اللون، ليس هذا فقط، ولكنني تذكرت كذلك أنني عندما كنت أطارد باغ كان أحيانا يختفي فجأة عن الأنظار ولا أعلم أين ذهب، بل ويبدو أن الكابا يمتلك دهونا سميكة تحت الجلد، ومع أن درجة حرارة هذه البلاد تحت الأرض منخفضة نسبيا (متوسط درجة الحرارة في العام في حدود 15 درجة مئوية)، إلا أنهم لا يعرفون شيئا عن ارتداء الملابس. وبالتأكيد، يضع الكابا نظارات طبية ويحملون علب سجائر، ويحلمون حافظات نقود، ولكن لأن الكابا له جراب بطني مثل حيوان الكانغر فهم لا يعانون من مشاكل من حمل تلك الأشياء، ولكن الأمر الذي أدهشني أنا، أنهم لا يغطون ما حول الخصر بأي شيء، وفي أحد الأوقات سألت باغ عن سبب هذه العادة، وعندها ظل باغ يضحك بلا توقف وهو يحني ظهره للخلف، علاوة على ذلك قال لي: «إنني أرى أن إخفاءك أنت هو الغريب.»
4
حفظت تدريجيا كلمات الحوار اليومي التي يستخدمها الكابا. وبالتالي بت أفهم عاداتهم وتقاليدهم، وأعجب تلك الطباع الغريبة هي أن الكابا تسخر من الأمور التي نعتقد نحن البشر في جديتها، وفي نفس الوقت تعتقد الكابا بجدية الأمور التي نسخر منها نحن البشر، مثلا العدالة والأخلاق الإنسانية نراها نحن البشر أمور جدية، ولكن عندما يسمع الكابا ذلك يضحك حتى يستلقي على الأرض من شدة الضحك. بمعنى أن معايير الفكاهة لديهم تختلف اختلافا كاملا عن مفهوم الفكاهة لدينا. في مرة من المرات تحدثت مع الطبيب تشاك عن تحديد النسل. وعندها ضحك تشاك بشدة فاغرا فاه حتى سقطت النظارة من على أنفه، ولأنني بالطبع غضبت بشدة فقد سألته عما يضحكه، وأتذكر أن إجابة تشاك كانت على الأغلب كما يلي، ربما اختلفت بعض التفاصيل البسيطة، فعلى أي حال وقتها لم أكن أستطيع فهم لغة الكابا فهما تاما: «من المضحك التفكير في الأمر من موقف الأبوين فقط؛ لأن ذلك في منتهى الأنانية.»
ومقابل ذلك ما من شيء في الواقع أعجب من ولادة الكابا بالنسبة لنا نحن البشر، وعلى أرض الوقع بعد مرور فترة بسيطة ذهبت إلى كوخ باغ لمشاهدة ولادة زوجته. إن أنثى الكابا عندما تلد طفلا مثل البشر تماما، أي إنها تستعين بطبيب توليد وقابلة، ولكن عند وقت الولادة يضع الأب فمه على العضو التناسلي للأم وكأنه يتحدث في الهاتف، ويسأل بصوت عال: «فكر جيدا في الأمر ثم أجب: هل تريد حقا أن تولد في هذا العالم؟» وكما هو متوقع جثا باغ أيضا على ركبتيه وكرر ذلك القول عدة مرات، ثم بعد ذلك تمضمض بالمطهر السائل الموضوع فوق المنضدة، ثم أجاب الطفل الذي داخل بطن الأم الذي بدا متحيرا قليلا بما يلي بصوت منخفض: «إنني لا أريد أن أولد، فأولا جينات مرض الجنون التي يحملها أبي ستكون معاناة شديدة، وعلاوة على ذلك أنا أؤمن أن وجود الكابا ذاته وجود شرير.»
عندما سمع باغ ذلك الرد، حك رأسه خجلا، ولكن القابلة التي كانت حاضرة الموقف، أدخلت على الفور أنبوبا زجاجيا غليظا في مهبل الزوجة وحقنتها بسائل ما، وعندها أطلقت الزوجة زفرة غليظة وكأن قلبها اطمئن، وفي نفس الوقت تقلص بطنها الذي كان منتفخا انتفاخا كبيرا حتى ذلك الوقت مثل بالون نزع منه غاز الهيدروجين.
ولأنه قادر على مثل هذا الرد، فالكابا بمجرد ولادته يستطيع الكلام والمشي فورا، بل لدرجة أنه طبقا لما قاله تشاك فقد ألقى طفل محاضرة عن وجود الإله من عدمه في اليوم السادس والعشرين من ميلاده، ولكن هذا الطفل مات في الشهر الثاني فقط من ولادته.
وبمناسبة أنني تحدثت عن الولادة، دعني أتحدث لك عن ملصق دعائي كبير الحجم رأيته صدفة على قارعة الطريق في الشهر الثالث من مجيئي لهذه البلاد. في أسفل ذلك الملصق الدعائي الكبير رسم كابا عددها بضعة عشر حيوانا، منها من ينفخ في بوق، ومنها من يمسك بسيف، وفوق الرسم صفت حروف ملأت الصفحة من تلك التي يستخدمها الكابا وتشبه بالضبط زنبرك الساعة الحلزوني، وعند ترجمة تلك الحروف الحلزونية، نجد معناها على الأغلب كما يلي، وتلك الترجمة أيضا ربما بها بعض الأخطاء في التفاصيل الدقيقة، ولكنني على أي حال كتبت في مذكرتي كل ما قرأه لي الطالب الذي يدعى لاب الذي كان يمشي معي وقتها:
نجمع ونحشد لقوات الشجاعة الجينية!
أيها الكابا الأصحاء ذكورا وإناثا!
Página desconocida