اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدرا من بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها، وما أرسل المجلون من كتابها، على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرج شعره عربيا لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال.
وهناك شباب لم يبلغوا حظا مذكورا من العربية، ولعل من بلغ منهم حظا منها لم يعن بها ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم تتراء لأحلامهم، ويسوون صورا لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في صدورهم، وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد، برغم تنافرها وتناكرها، بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتضح به طبع، ولا رهف له حس، ولا تحركت به عاطفة ولا انبعث إليه من نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال!
بل إن هناك شبابا لم يحذقوا شيئا من لغات الغرب، ولم يظهروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها، ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة المجددين، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فإنه مما لا يصلح لنا على أي حال!
وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو، فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلا من جهد ولا مشقة، لأن قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، ليس مما يعيي جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق، ومن هنا يشيع أرخص الآداب، أو أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء، وحينئذ يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان!
الأدب القومي
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال!
ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!
على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه، إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من نبو ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات.
وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه، فلقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، يصيبونه في لغى أجنبية ، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه، وإن تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام، وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه «كليلة ودمنة» عن إحدى اللغات الهندية، أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لمما يرفع من قدره ويغلي من تصرفه، وكيف لا وهذا القرآن الحكيم، لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيرا من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الإعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!
وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسرا، ويستكره لها استكراها، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم «التجديد» في هذه السنين!
Página desconocida