هذه أمثلة من طرف هذا الجناح، ولكن أبت العبقرية إلا أن نختم سلسلتها بقصة جعل الأستاذ عنوانها لفظة «حياء» وماذا أذهب به وأغرب في سرد ما سرد من وقائعها، وفي صدق تصويره لصاحبها بحسه ومعناه، وفي مختلف أطواره وفي إحكام السياق إلى أن أطفى من الرسوب، في أبعد قرارة من النفس، معنى من أدق معاني الحياء، ولقد قال في استهلال تلك القصة:
وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه الرواية، فإنني لا أشيع فيها خيالا، ولا أخترع لها أبطالا، ولا أخلق مفاجآت، ولا أبتكر مواقف، ولا أمد لها مغزى يصيب غرضا، ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أحذقه، بل إنني لم أحاوله قط طول حياتي الكتابية، وإنما أقص حادثة وقعت بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضا أو اتصل بها مغزى، فذلك من صنعها نفسها، لا فضل لي من ذلك في كثير ولا قليل.
وها هنا لي استدراك على الأستاذ أبديه لزائر المتحف أو مطالع هذا الكتاب! لو أن شيخنا - بالفضل لا بالسن - الأستاذ البشري ابتدع هذه القصة استخلاصا من الوقائع التي تجري كل يوم بأسماعنا وأبصارنا كما يفعل منشئو الروايات، ولم تكن مما شهده على حد ما ذكر، لكان من أبرع القصاصين الذين عرفناهم، الله الله في دقة الوصف، واستشفاف ألطف ما يتحرك به الحس في أطواء النفس، الله الله في روعة الأسلوب وصفاء العبارة، وبلاغة تمهيد الفواتيح للخواتيم.
على أنه لا يزيدك بيانا على مقدرة الأستاذ في قصصه مثل وقوفك على تراجمه وهي ضرب آخر منه، وقد جلا بعض مأثوراتها في كلامه على المرحوم شوقي، وفي تراجمه التي أفرد لها الباب الثالث.
الباب الثالث: في التراجم
هذا القسم لا يعرض لك فيه المؤلف إلا ثلاث صور: رشدي باشا، الشيخ علي يوسف، محمد المويلحي، ولكنها ثلاث لا تقوم بها محتويات متحف مهما كثرت وغلت، على أنك تستشعر من البدء إلى النهاية في هذه التراجم أن محرك العبقرية فيها إنما كان الوفاء، وفي مثل هذا يتجلى بأبهج الصور جلال التآزر بين القلب والعقل.
في هذه التراجم الثلاث حدث الأستاذ واستفاض في الحديث، عن ثلاثة من أكابر رجالات مصر، عرفهم حق المعرفة، وتروى حوادثهم شاهدا أو آخذا عن ثقات، وعلق من نوادرهم أعلاقا، فيها من النفائس ما يضمن الخلود.
خذ من بعض ذلك إحدى الصور التي صور بها رشدي باشا، قال: «ولقد حدثت أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921، ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر كله عن الحكومة المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة يومئذ على البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب وعارض المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صفر من كل شيء، لأن التحقيق كما قلت لك، استقلت به السلطة العسكرية، فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن يكب ليلته كلها على هذا التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ماذا هراق من ذكائه حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق عصفا، ويشهده على نفسه بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لورد كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت حوادث الإسكندرية وجه الطريق.»
ثم خذ صورة للمرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، تجده بها حيا ناطقا، وتستطلع طلع الحقيقة فيه محللة تحليلا يعرف مكانه من الدقة من عرف ذلك الكاتب القدير الذي تصرف في اليسير من مادة اللغة بأحسن مما يتصرف غيره في الكثير، فأحدث من بالغ الأثر في نفوس قارئيه ما تنطق به هذه الشهادة له من أديب لا يشق له غبار في معرفة اللغة كالأستاذ صاحب هذا الكتاب، قال:
وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكره، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ولقد يعجب القارئ أشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي «باشا»، وكان رجلا قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، قد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!
Página desconocida