222

ويستوي عبده إلى «التخت»، ويتدلى في الميدان يحمي ظهره الشيخ يوسف وأحمد حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المغنين الآن الأستاذ محمد أفندي السبع، نعمه الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده (أو الجمركشي لا أذكر)، وأمين أفندي بزري وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا، حتى أتوا على ما يدعى «بالوصلة» الأولى، ولست أذكر ما تغنوا فيه من الأصوات (الأدوار)، ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم، وما برح عبده رحمة الله عليه، يضطرب بين «الليل والعين»، ثم ينقلب إلى المواليا فيرجع فواصله ترجيعا، حتى إذا فعل في هذا كله الأفاعيل، وصنع ما لا ترتقي إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه، «الدور» المشهور وهو من نغمة العراق:

3

لسان الدمع أفصح من بياني

وأنت في الفؤاد لا بد تعلم

هويتك والهوى لجلك هواني

ولكن كل ده ما كانش يلزم

إلى آخر ما يدعى في عرف أصحاب الغناء «بالمذهب»، ثم أمسك القوم لحظة خرج بعدها عبده منفردا، وقفى العقاد على أثره بقانونه، وقال الجبار: «أديني صابر على ناري!»

لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع؟ لأنني أنا نفسي لا أدري، ولا أحسب أحدا من الخلق درى، كيف قال الرجل ولا كيف صنع؟! ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفا عنيفا جدا من الكهربا سرى في هذا الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعا، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصارا شاخصة، وأفواها مفغورة، لو اطلعت عليهم لخلتك في متحف يجمع دمى منحوتة لا أناسي يترقرق فيها ماء الحياة! حتى القائمون بالخدمة، لقد مسهم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا! وحتى رداف

4

عبده، لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس!

Página desconocida