فتروح تهتف بجمالها، وإنك لتسمع الصوت فيلذ لك جوهره، ويطربك إيقاعه، وتحلو لنفسك نبرته ولطف تنغيمه، فتروح تهتف بجماله، وإنك لترى البيت يروقك منظره، ويعجبك حسن نظامه، فتروح تهتف بجماله، وكذلك القول في كل ما يخلبك ويروعك مما يقع لحسك، ولا شك في أن ما يعتريك عند هذا كله من الانفعال إنما هو من أثر الجمال في نفسك، ولو قد أقبلت على نفسك تيك تسائلها: ما الجمال؟ ما استرحت منها إلى جواب!
أما الجمال فموجود حقا، وإن محاولة التدليل على وجوده لضرب من العبث، وهو مدرك حقا، لأننا نحسه ونشعر به كلما تجلى علينا في معنى من معانيه.
نعم، نحن نحس الجمال في الإنسان، ونحسه في الحيوان، وفي النجوم الآلقة، وفي الآجام الباسقة، وفي اللج القامس،
4
وفي الجبل الشامس،
5
وفي الغدير الناعس، وفي الزهرة تطلعت من كمها، وعاذت بغصنها عياذ الطفلة بثدي أمها، كما نحس الجمال من حلق المغني، ويد العازف، وريشة المصور، وشعر الشاعر، ورسم المهندس، وغير أولئك من كل حاذق صناع.
نحس الجمال ونشعر به، وكثرة الناس على الأقل ترتبه في كل مظهر من مظاهره على درجات، فيقولون: هذه الخريدة أجمل من تلك الخريدة، وهذه الطاقة أبهى من تلك الطاقة، وهذا الإناء أظرف من ذلك الإناء، وهذا الصوت أحلى من ذلك الصوت، وهذا المصور أبرع من ذلك المصور، وهذا الشاعر أروع من ذلك الشاعر إلخ.
ولو قد سألتهم القاعدة التي رسمت لهم حدود الجمال، وعرفتهم جميع منازله، حتى فضلوا بعض مظاهره على بعض لأعياهم الجواب، ذلك بأنهم لا يرجعون في حكمهم ولا في تقديرهم إلى قواعد محدودة معينة، كما يرجعون بجزئيات النحو والمنطق مثلا إلى قواعد محدودة معينة، فيقولون هذا التعبير يصح على لغة التميميين دون الحجازيين، أو أنه إنما يجري على لغية، أو أنه شاذ، أو أنه لحن صريح، وأن هذه القضية منقوضة، أو أن هذا القياس مختل لأن صغرى مقدماته لا تندرج في كبراها، بل إنهم إنما يرجعون في قضية الجمال وترتيبه في كل سبب من أسبابه، وإيثار بعض مظاهره على بعض، إلى ما يروقهم ويخلبهم ويتمشى في نفوسهم من الطرب والإعجاب.
وهنا لا نجد بدا من أن نعود فنقول ما الجمال؟ لا أحسب أحدا من الناس وفق إلى إدراك كنه الجمال فحده بذاتياته حدا، على تعبير المناطقة وإن كانوا عرفوه بآثاره، ولعل أدنى تعريفات الجمال إلى الصواب: أنه كل ما يستريح إليه الذوق ويثير الإعجاب في النفس.
Página desconocida