La Imaginación de Khandaris: ¿Quién teme a Usman Bashri?
مخيلة الخندريس: ومن الذي يخاف عثمان بشري؟
Géneros
إهداء
إقرار مهم
سلوى السردية
الموت نشوة
العاشقان
روح الخشب
الفقيه المتشرد
انحراف البنت
منطق الجسد
ذاكرة العرق
Página desconocida
العرس الوحشي
إخوان في الرضاعة
ذاكرة المؤلف
عودة البازنجر
إهداء
إقرار مهم
سلوى السردية
الموت نشوة
العاشقان
روح الخشب
Página desconocida
الفقيه المتشرد
انحراف البنت
منطق الجسد
ذاكرة العرق
العرس الوحشي
إخوان في الرضاعة
ذاكرة المؤلف
عودة البازنجر
مخيلة الخندريس
مخيلة الخندريس
Página desconocida
ومن الذي يخاف عثمان بشرى؟
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
ما زالت تلك المرأة الجميلة توقع اسمها على كتبي، وتحكي لي في الأمسيات عن جدنا برمرجيل. إلى مريم بت أبو جبرين: أمي.
عبده بركة
ألذ من المدام الخندريس
وأحلى من معاطاة الكئوس
معاطاة الصفائح والعوالي
وإقحامي خميسا في خميس
Página desconocida
فموتي في الوغى عيشي لأني
رأيت العيش في أرب النفوس
ولو سقيتها بيدي نديم
أسر به لكان أبا ضبيس
أبو الطيب المتنبي
إقرار مهم
جرت أحداث هذه الرواية في دولة شديدة الشبه بجمهورية السودان، قد تتطابق أسماء المدن، القرى، الأشخاص، الوزارات والصحف. قد تتطابق الأحداث، السياسات، الأزمنة والأزمات أيضا، لكن تظل أحداث الرواية تجري في دولة خيالية لا وجود لها في الواقع؛ لأن ما يحدث في هذه الرواية يستحيل حدوثه في واقع السودان. هي من شطحات الخيال المريض لكاتبها بركة ساكن، بالتالي الأفكار التي تطرحها هذه الرواية لا تعبر بأي حال من الأحوال عن رأي المؤلف، بل تعبر عن أفكار القارئ، وهو من يتحمل مسئوليتها والدفاع عنها.
وقبل أن أحدثكم لماذا أتبنى هذا الرأي الصريح المتطرف، هو أن الآراء في قاموسي أربعة: آراء خيرة، آراء شريرة، آراء خيرة وشريرة، آراء لا خيرة ولا شريرة. طبعا كما هو معروف ومؤكد، لا توجد آراء بين بين. فالرأيان الأولان هما رأيان قد يصدران من الكاتب الأول للنص - في هذه الحالة هو شخصي الضعيف. أما الرأيان الأخيران فهما رأيا القارئ، الذي لسوء حظه يتطلع إلى الرأيين الأولين، لكنه للأسف يفهمهما كما يشاء، ويؤول النص وفقا لما يريده هو. فما أراه أنا خيرا مطلقا وجمالا متكاملا مفرطا في إنسانيته، قد يراه هذا القارئ الشرير شيطانيا قبيحا وحيوانا مفترسا. العكس أيضا صحيح؛ قد يقرأ ما أعني به أنا شرا جميلا خيرا مطلقا، بالتالي من يتحمل سوء أو حسن ظن القارئ غير القارئ نفسه؟ وهذا يقود إلى الرجال والنساء الذين يستخدمهم البعض لتقييم أعمال أدبية صرفة أو سياسية أو حتى علمية؛ بغرض تجريمها وتحريمها أو صرف صك مرور خجول من أجلها.
في ظني أن السلطات الرشيدة، يجب عليها أن تقاضي أو تحاكم القارئ الذي عين حكما؛ لأنه لا يقوم سوى بعرض قراءة خاصة به للعمل الفني، بالتالي يفضح سريرة نفسه وقبحها أو يستعرض جمالها. وسأحكي لكم قصة هنا - أفكر فيها الآن - ستكون جميلة في رأينا وعفيفة، إذا سمحتم لي باستخدام هذا المصطلح الخلقي في وصف عمل أدبي، ولو أنني أتفق مع الكثيرين بأن العمل الأدبي حمال قيم، طالما اعتمد على اللغة التي قال عنها كارل ماركس ذلك.
ذات يوم مطير، وأنت تخاف من المطر والبرق، يخيفك أكثر الرعد الذي يصحب البرق الفجائي، ليس ذلك خوفا من الموت، لكنها فوبيا صاحبتك منذ أن كنت طفلا صغيرا ترضع من ثدي أمك، يوم أن خطفت الصاعقة روح والدك أمام عينيك. عندما احتشدت السحب السوداء الخيرة الحبلى بالمياه في السماء، في الشرق، فأسرعت الخطا نحو بيتك. أنت تعرف أن السحب القبلية مطرها مؤكد، وهي معرفة شائعة. وأنت تهتم بكل ما ينذرك بالمطر، فليست في بلدك هيئة أرصاد تهتم بصحتك وسلامتك. تحركت من السوق الكبيرة حيث تعمل قبل ميعاد خروجك الطبيعي بساعتين، على بعد خمسة كيلومترات من بيتك في حي الموظفين. حتى لا نفضحك فإننا سوف لا نذكر في أي مدينة أنت، أو اسمك كاملا، أو رقم بيتك أو تليفونك، سوف لا نصف هيئتك كيف تبدو، فبعض الناس بإمكانهم حذر من تكون، وسيرسلون لك رسائل نصية يقولون لك فيها: بركة ساكن كان يقصدك، وبذلك يزيفون الواقع، وهم الذين يقصدونك في حقيقة الأمر.
Página desconocida
عندما هبطت النقطة الأولى على رأسك الكبير الأصلع أصبت بهلع فوبوي عنيف . سالت نقاط الماء من أعلى رأسك متدلية في دلال مرعب ناحية فمك من أنفك الأفطس الذي بدأ يرتجف الآن. مرت النقاط خلال شفتك العليا عابرة شاربك الكبير إلى شفتك السفلى. احتفظ شارباك ببعض الماء على الشعيرات الخشنة السوداء، مررت عليهما كفك اليسرى بطريقة غير إرادية. في ذلك الحين لم يبيض شعرك كما هو الآن، لم تصبح ذقنك ولحيتك مثل مزرعة قطن منسية بعد. لم تستطع أن تفتح فمك لبلع النقاط الطيبات التي جاءتك من السماء مباشرة، تركتها تسقط على الأرض لتنضم إلى أخواتها السماويات تحت قدميك، ما كنت تحتاج للبرق المرعب وهزيم رعد طائش؛ لكي تقفز على أقرب جدار بيت من بيوت جيرانك لتنجو بنفسك. جدار من الطوب الأحمر مطلي بالجير والأسمنت، بيت جارك العزيز. الماء يتبعه البرق، البرق تتبعه الصاعقة، الصاعقة قد أخذت روح أبيك وقد تأخذ روحك بذات العنف والقسوة. لقد حرقت أباك حريقا تاما ونهائيا، إلى أن أصبح أسود مثل جوال الفحم. لم تتركه لكي يصرخ أو يطلب النجدة، لم تنذره، لم تمهله لكي يودعك بنظرة قصيرة، عندما هبطت في بيت جارك، الذي كنت تعرف أنه يقيم وحده، فلقد ذهبت بنتاه وزوجه إلى بيت أبيها؛ احتجاجا على الشجار الدائم الذي يدور بينهما. أقصد هنا أنه ضربها ضربا مبرحا؛ مما جعل أخاها وأباها يأتيان إليه من مدينة الخرطوم، يضربانه، يفصدانه بسكين المطبخ مرتين في بطنه وذراعه. ولم ينجده سوى تدخلك وبعض الجيران في الوقت المناسب؛ أي بعد أن أخذ عقابه جيدا وبوفرة، وقبل أن يقتله الرجلان الغاضبان، مع العلم أن أخا الزوجة كان أعز أصدقائه، كما ستعرفون لاحقا.
دخلت حوش جارك الواسع، بغريزة الحياة الفاعلة فيك، وجنون الفوبيا، الذي ظل يطاردك منذ سنوات طوال. توجهت مباشرة إلى غرفة المعيشة، وبكل ما لديك من قوة دفعت الباب لتدخل، ففوجئت بشيء غريب، وجدت زوجتك الحبيبة، تقفز على مسبار جسد جارك الطيب، مثل فرس في سباق فاشل، كانا في تمام عريهما. على الرغم من صدمة الحدث إلا أنك لاحظت أن ظهر زوجتك كان جميلا كما لم يكن من قبل، وأنها كانت تستمتع بالفعل، شاهدك جارك أولا، حيث إن زوجتك كانت تعطي ظهرها للباب، ظهرها العرق الجميل الذي لم تتعرف عليه من الوهلة الأولى؛ لأنك عندما فوجئت بهما يرقصان رقصة الحب، صرخت قائلا: آسف، آسف.
بالطبع كنت تظنها امرأة أخرى صادها جارك، يشاع عنه أنه صائد ماهر للنساء، ويهمس بأنه يعجبهن.
في اللحظة التي أردت أن تنسحب فيها، وتعود لأمطارك المرعبة في الخارج، التفتت زوجتك الجميلة إليك، كان وجهها عرقا، ومغطى بشعرها الغزير الأسود، شفتاها كبيرتان مكتنزتان، بدا الجانب الذي يواجهك من صدرها ناهدا، جموحا وبارزا كأنه كوخ صغير من الشيكولاتة. أنت تعرف أن المرأة تصبح في قمة جمالها، ومنتهى أنوثتها، أثناء ممارستها الجنس. عندها قفزت زوجتك الجميلة الحبيبة من أعلى شيء جارك، عارية كالبرق، مرعوبة، كل ما تتذكره أنت، أنها دارت دورتين حول نفسها، صرخت بأعلى صوتها الذي كنت تشبهه بنغمات الكمان، وأنت تسمعها أول مرة. في الحق، هو السحر الذي أوقعك في حبها. - سجمى؟ إدريس؟
قبل أن نحكي لك، لماذا كان ذلك آخر ما رأيته، اسمح لي أن أحدثك عن بعض التاريخ بشأنك وشأن زوجتك - لا تنسيا أنني أؤلف كل ذلك الآن ولا أعرف شيئا عن تاريخ علاقتكما الزوجية أو غيرها، فأنا لا أعرفكما من الأساس، إنما توحي إلي بها الموحيات الآن - تزوجتما عن حب - لسلوى رأى آخر سنعرفه لاحقا - هي مغرمة بك وأنت أيضا مغرم بها، عندما تزوجتها كانت عذراء. بشهادتك وشهادة الطبيبة مريم - بنت خالتك - التي قامت بمساعدتك في فض عذريتها بطريق علمية حتى لا تؤذيها، فكانت المسكينة حبيبتك مختونة ختانا فرعونيا قاسيا، لدرجة أنك تحيرت كيف بإمكانها أن تتبول وأن ينزل منها دم الحيض؛ لأنك لم تر شيئا في ذلك المكان يوم «دخلتك» سوى ثقب لا يدخل إبرة الخياطة! قالت لك: إنهم وضعوا قشة كبريت لضبط المقاس.
لكن، إذا كانت لك تجربة جيدة مع النساء، وكنت حاذقا ذكيا في شأنهن - الرجل غالبا ما لا يكون ذكيا حاذقا في مثل هذه الأشياء - لاكتشفت أشياء مهمة، هي:
أن ملمس خيط الختان كان بارزا خشنا، أي أنه لم يكن قد أصبح مثل بقية الجلد حوله، إذا مررت أصابعك عليه لوجدته خشنا مثل نشارة الخشب الملصقة على سطح أملس، وهذا يعني الكثير لرجل تقليدي مثلك إذا انتبه.
الشيء الآخر والمهم، أنك لم تسأل الطبيبة - طبعا إذا كان يهمك ذلك، على فكرة، أنا لا يهمني - ما إذا كانت زوجتك عذراء أم أنها صارت عذراء قبل شهرين من الزواج!
الشيء الأهم، وأنت تحتفي بعذرية زوجتك، لقد حكيت ذلك لكثير من أصدقائك الحميمين بفخر، لم تسأل نفسك عن عذريتك أنت، وكم من النساء فضضت بكاراتهن بمتعة رهيبة، ولم تسأل نفسك كيف سيصير بهن الحال إذا شاءت أقدارهن الرهيبة أن يتزوجن من رجل يرى أن شرف البنت في عضوها؟
أقول لك هنا ما لم تشأ أن يذكر في رواية سيقرؤها كثير من الناس: هل كنت غاضبا تماما وأنت تفاجأ أن زوجتك كانت تستمتع بالجنس مع جارك الطيب العزيز؟
Página desconocida
حسنا، دارت زوجتك حول نفسها دورتين - كما قلنا لك ذلك سابقا - هذا كل ما تتذكره، ثم وجدت نفسك في المستشفى فاقد الذاكرة بصورة كلية. أنت الآن تقيم في بيتك الهادئ تحت رعاية زوجتك الجميلة، وهي الوحيدة التي ترعاك، بعد أن انصرف عنك الجميع. كانت ترعاك بحب حقيقي وبصدق، لم تدخر جهدا من أجلك وأجل أطفالك الثلاثة، إذا كانت لك ذاكرة إنسانية جيدة لسمعتها تقول لك كل يوم: أنا آسفة، لقد حدث كل شيء دون إرادتي، ما كنت لأصارحك وأحكي لك كل شيء، وتعني بينها وبين نفسها أنك لم تكن بالذكاء الكافي.
بالتأكيد ليس بإمكانك أن تستمع لحكايتها؛ لأنك إذا لم تكن بذاكرة خربة الآن، لسمعت ما يبكيك، وسامحتها ببساطة؛ لأن كل ما حصل بين زوجتك وجارك، حدث قبل سنوات كثيرة قبل أن تتزوجا، لكن عقلك المرتبك خلط الحابل بالنابل.
هذه هي القصة، ودعوني أرى أي خيرين أنتم وأي أشرار بينكم. ما رأيكم الآن؟ ويعني هذا السؤال فيما يعني الآتي: إنكم قرأتم ما تريدونه أن يحدث في القصة، وليست هي مسئوليتي إذا لم يحدث، أو أنه حدث بالفعل على المستوى الذهني أو مستوى النص، لكني لا أظن أن أحدكم قد بلغ من الفظاعة أشدها ونصب نفسه قاضيا حكيما، أو حتى شاهدا صالحا؛ ليجيب على أسئلة الجلاد بكلمة واحدة مسالمة بائسة مثل كلمة: نعم، أقصد لا.
أنا سأنسحب عند هذا الحد، قد أتدخل أحيانا في مجريات السرد، قد لا أتدخل؛ لأنني أريدكم أن تستمتعوا بهذه الرواية وأنتم تطرحون من خلالها وجهات نظركم المختلفة، تتحملون مسئوليات ما تصلون إليه من نتائج وتأويل قد يضر بالنص ضررا بالغا، فأنا لست سوى ميسر، بينكم وبينكم أيضا، سلوى عبد الله، أمها، عبد الباقي الخضر، إدريس، الفقيه المتشرد ... وغيرهم سيحكون لكم ما يربككم ويتطلب منكم وجهة نظر واضحة وفعلا مباشرا. مع السلامة.
سلوى السردية
قبل أن أبدأ مشوار السرد حيث أرادني المؤلف الأول أن أكون الراوية أو صوت الراوية، أريد أن أعرفكم بنفسي، وأفشي لكم سرا. أولا: أنا سلوى عبد الله، أسكن بالأزهري في الخرطوم، عمري سبعة وعشرون عاما، تخرجت في كلية البيطرة جامعة بحر الغزال، قسم الإنتاج الحيواني، أعمل الآن طبيبة بيطرية في وزارة الثروة الحيوانية. إذا شيء لي أن أصف كيف أبدو، فإنني مثل كل البنيات جميلة، عاطفية. ونسبة للهجين الوراثي الذي شكل ملامحي؛ حيث إنني من أم ترجع أصولها إلى شرق دارفور وأب من قبيلة الأزاندي، ورثت من والدي لون البشرة الحمراء والوجه الدائري ومن أسرة أمي قصر القامة والأثداء الكبيرة، لكن لا يعني ذلك أنني قصيرة جدا، فطولي هو 160سم، بالنسبة لبنت نحيفة ذات وجه وسيم - يقولون أيضا: إنه ساحر - أظنه طولا مقبولا. يهمني أيضا أن تعرفوا عني أنني فتاة ملول، أحب دائما أن أؤكد لنفسي أنني محبوبة وأنني مرغوب في، هذا قد يوقعني في شباك لرجال كثر. لكن لا تخافوا علي، إنني دائما ما أتعامل مع الرجل في حدود، فمثلا لا تتجاوز علاقتي الجسدية مع الرجل الوسيم قبلات عميقات ، وقد أمارس معه الجنس أونلاين
online sex
لا أكثر، أما الرجل غير الوسيم فحسبه مواعيد لا أفي بها إطلاقا. وأظن أن هذا يكفي.
أما الشيء السر، فإن الشخصية التي يلبسها عنوة الكاتب على اسمي، هي شخصية غير محببة لدي وأنه أقحمني فيها إقحاما، الأجدر به أن يختار اسما آخر غير اسمي. لكنه لا يستطيع، فهو يريد ألا ينساني وللأبد بأن يحولني من حبيبة معشوقة إلى شخصية روائية لا علاقة لها بواقع حالي، لكنها أكثر ديمومة مني ومنه، فهي ستبقى بعد موتنا البيولوجي بسنوات كثيرة، قد يكون العكس؛ أي أنه ينوي التخلص مني أيضا بأن يسردني، يفرغ الشحنة العاطفية التي تخصني على لوحة مفاتيح حاسبه الآلي، كما يفعل الأجداد في العصر الحجري بأن يتخلصوا من خوفهم من الوحش برسمه على الجدران. الشيء الأهم أن الكاتب يريد أن يكفر عن خيانته الشخصية لي، فلقد خانني مرارا وتكرارا وأجحف بكل المشاعر الطيبة والحب الذي أكنه له. ليس هذا المكان بالموضع المناسب للتشكي، كما أنني لا أشكو، لكنني للأسف سأنتقم. هذه الكلمة لا أحبها، لكن استخدامها يجعلني أحس بالرضا؛ لأن الكاتب هنا يريدني أن أمثل شخصية أخرى باسمي، ليست شخصيتي، بالتالي سوف أترك ما يخصني ويخصه وأتحول إلى مسخ سردي، أسكن في سلوى التي يريد. ربما تعلمت من هذه التجربة أن أصبح روائية في يوم ما وأكتب قصتي الفعلية معه ومع غيره، صدقوني سأحكي كل شيء دون مواربة، سأفضح شخصيته الحقيقية، أقصد الشخصية الداعرة الشهوانية التي تختفي وراء ذلك المثقف الذي يدعي الحشمة، وسيعرف الناس كم هو تافه وحقير. كان هذا الروائي المغمور هو الشخص الوحيد الذي تجاوزت معه القبلة والجنس الإلكتروني إلى ما لا أغفره لنفسي من أفعال. حسنا، إلى أن يحين ذلك الوقت الذي أمتلك فيه أدوات الكتابة، دعوني أصطحبكم في هذه الرواية كراوية أو شخصية أساسية، كما يكتبها ويتخيلها الروائي بركة ساكن، أي سأكون مثل المسرنمة التي يطوف بها حمار النوم أينما يشاء، سأكون طيعة وسهلة وأن أسلمه قياد روحي وجسدي بصورة مطلقة ونهائية ؛ لأمكنه من كتابة رواية جيدة، قد تكون أجمل رواية يكتبها في حياته. أعتقد أن هذا التفسير والشرح لا بد منهما؛ حتى لا يخلط الناس ما بين سلوى في الواقع وسلوى السردية؛ لأنه سيجعلني أحكي بضمير المتكلم، وهي طريقة توحي بأن الراوي هو المؤلف وهو الذي يحكي عن تجاربه الحياتية الشخصية.
أشكركم لما أبديتموه من صبر لقراءة شروحي، وأشكر المؤلف الذي أتاح لي هذه الفرصة وهذه المساحة؛ لكي أعبر فيها عما أشاء للقراء، إنه وفاء منه للاتفاق المبدئي بيننا، عندما طلب مني أن يستخدم اسمي في روايته «مخيلة الخندريس». وآسفة للإطالة.
Página desconocida
سلوى عبد الله زاندي
الموت نشوة
لم تعد علاقتي به ذات جدوى، أنا لا أفكر بطريقة مادية أو براجماتية. لقد أحببت بإخلاص، أظن أنه كان وما زال مخلصا في حبه لي، لكني الآن على مشارف الثلاثين من عمري، أريد أن أتزوج. في الحقيقة - بصورة أدق - أريد أن يكون لي طفل، أظن أن ذلك هدف نبيل وإنساني في مجتمع يدعي المحافظة والتمسح بقيم فوق ما نستطيع. مجتمع يقدس المظهر ولا يهمه جوهر الأشياء في شيء. في هذا السياق الذي هو واقع الحال لا يمكنني أن أنجب طفلا بغير أب؛ لأن تلك جريمة في حق الطفل وحتى الأب وحقي. فالتربية الجيدة للطفل تبدأ من قبل ميلاده، ويجب أن يلاحظ أيضا أنني لا أريد أي أب كما اتفق، أريد أن أنجب طفلا من رجل أحبه، عندما أقول: رجل أحبه، لا أعني غيره هو بالذات.
الأمر ليس بهذه البساطة. فكرت كثيرا فيما إذا كنت أحبه من أجل الطفل؛ أقصد من أجل تصوري الخاص للطفل الذي هو إنسان الغد. يعجبني أسلوبه في الحياة، على الرغم من أن هذه الجملة عامة، قد لا تعني شيئا بالذات إلا أنها تعني الكثير بالنسبة لي، أو أنني أتوهم أنها كذلك. علمني حب الأطفال، كان يقول لي دائما: إن الرجل مثل ذكر النحل لا فائدة منه ترجى إذا لم يستطع أن يضع أطفالا أقوياء في رحم سيدة، وإذا فعل ذلك فلا فائدة منه بعدها! عليه الرحيل. والمرأة الذكية هي التي لا تحتفظ بالرجل؛ لأنه سوف يسعى لنيل مكانة في الأسرة لا يستحقها في الغالب. يريد أن يصبح سيدا، ملكا وربا. كان الأحق بهذه المكانة الأطفال. هذه الفكرة رغم بدائيتها في عمقها تحمل كثيرا من الدجل والاحتيال العاطفي، يهدف من ورائها بوضوح - هذا الوضوح أحبه فيه أكثر - أن يهبني طفلا دون أي روابط شرعية؛ أي بغير ذلك الطقس الاجتماعي البغيض لدينا - نحن الاثنين - الذي لا مستقبل لأطفال في هذا المكان دونه. علمني حب الأطفال. علمني كيف أحب الأطفال، كل الأطفال في ذات اللحظة التي حرمني منهم فيها. كنا نراهم يوميا، يعومون في دفء سائلنا الأبيض الحميم، لهم طعم لاذع. كنا نراهم في المنازل، في الطرقات، المدارس، الأندية. ومن ثم ارتبط عملي بهم؛ فأنا أعمل في دار رعاية للمتشردين من الأطفال، أو باسم ألطف «الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية». هي دار لمنظمة مجتمع مدني تطوعية. نقوم بتوفير الحد الأدنى لهم من متطلبات الحياة: إفطار بالفول المصري أو العدس، ماء للاستحمام، النظافة الشخصية وغسيل الملابس المتهرئة القديمة الممزقة، التي لا تتحمل الغسيل في الغالب، فتتمزق أكثر. نقدم لهم أيضا خدمات طبية عند الطلب. لكننا في الحقيقة لا نقدم لهم شيئا مهما، فقط نبقي على الوضع كما هو. العمل الفردي أو في جزر بدون تخطيط اجتماعي حكومي للمدى الطويل والقصير لا فائدة ترجى منه، ويظل كل ما نقدمه مجرد إبقاء على الوضع كما هو، بل تعقيده أكثر؛ وذلك لشح الإمكانات وقلة المحسنين الذين يقتنعون بأن رعاية المتشردين بها أجر أو ثواب في الحياة الأخرى، أو تشبع حاجاتهم الآنية من المساهمة في دعم الخير الإنساني والمشاركة في استمرارية الحياة بألم أقل. مقابل الفكرة الأخرى، التي ترى في المتشردين الشر في اكتماله وكامل شيطانيته. بل يحس البعض بأن المتشرد مخلوق أدنى بكثير، ليس اجتماعيا فحسب بل إنسانيا أيضا. كنا نحبهم ونحب بعضنا، كنت أحبه بغير شروط. نعم، أخذت الشروط تنمو قليلا قليلا مثل الطحلب فوق سطح حجر على ضفة النهر. عندما تحب المرأة فإنها تفكر بطريقة لا تشبه التي ورطتها في الحب، فإنها تفكر في الأطفال، البيت والزوج. وهذا طبيعي، لكنه قد يعيق فكرة الحب التي تنهض على سلطة الجسد: رغائبه واختياره داخل دوامة الانتخاب الطبيعي.
كنت أقتنع بكثير من آرائه. القليل منها يستهويني، الآخر أتحمله بفريضة المحبة. وهو يفعل كذلك تجاه أفكاري الشاذة أيضا، وترددي المتكرر. لكل منا ما يخصه من جنون وخير، لكن يبقى الحب القاسم المشترك، وهو ما يبقينا على صلة. وهذا التحليل مضلل أيضا؛ لأننا لسنا دائما على ما يرام ولسنا دائما في حالات حب، قد يقع خصام بيننا يدوم لأيام طويلة، قد أكرهه، وتمر بي أيام قد أقع في حب شخص آخر، وحدث ذلك مرتين خلال فترة علاقتي به، وهي الآن في عامها الرابع. إذن، ليس الحب هو الذي يبقينا معا، إنهم الأطفال! هذا ما توصلت إليه أخيرا. الأطفال الذين تستحيل عملية إنجابهم وتتعقد كلما مضى يوم من حياتي بدون أن يكون ذلك الشيء قد تخلق في رحمي.
كنا نمر سريعا أمام مستشفى أم درمان التعليمي. في اتجاه قبة الإمام المهدي. الجو كما هو في مايو حار جدا. كنا مرحين وقريبين من بعضنا البعض على الرغم من الحزن الذي يغمر قلبينا، لولا خوفنا من الشرطيين، وخشيتنا من أن يرانا أحد أفراد النظام العام المتنكرين في هيئة مدنيين، لتلامسنا بأيدينا بل لأمسكنا بكفينا معا ونحن نسير في هذا الطريق الفسيح. كانت دائما ما تغمرنا تلك النشوة الإنسانية الجميلة كلما اختلينا ببعضنا في مكان آمن، نستطيع فيه أن نتعرى، نقبل بعضنا ونصلي صلاة الجسد. لقد فعلنا ذلك قبل ساعتين في بيت الخليفة عبد الله التعايشي تحت رعاية وحماية بعض الرسميين. هو أكثر الأمكنة أمانا لدينا نرتاده عندما نشتاق لبعضنا البعض، حتى ولو كنا متشاجرين؛ لأن الجسد لا علاقة له بالخصومة، إذا وقعت فإنه يصلحها. اكتشفنا ذلك المكان بالصدفة البحتة، أقصد الغرفة السرية التي تقع تحت غرفة الخليفة مباشرة. بوابتها تفتح في الحمام المهجور ، لا ندري في ماذا كان يستخدمها الخليفة، هل كان يخاف أن يتآمر عليه البعض وهو نائم؛ لذا كان ينتقل لهذه الغرفة الآمنة ليلا لينام بدون كوابيس؟ أم أنها كانت سجنا سريا أو بيت أشباح يستضيف فيه الخليفة وأخوه يعقوب جراب الرأي بعض المارقين الكفرة من جدودنا المشاكسين؟ لقد زعمنا حين اكتشافها أن إدارة السياحة نفسها قد لا تعلم عنها شيئا. قمنا بمرور الأيام بفرشها بمفارش من الخيش وملاءات كنا نهربها إلى هنالك كلما سنحت لنا فرصة لحملها في حقيبة اليد. قد شردنا القطط المسكينة، التي كانت تظن نفسها سيدة المكان الوحيدة، آخذة ذلك الحق من كونها أول من اكتشفه؛ أي بوضع اليد. كنا نسمي الغرفة: بيت جدنا التعايشي، وهو مؤسس الدولة السودانية الحديثة، بالتالي الأب الشرعي لعلاقتنا المربكة والراعي التاريخي لها. حيينا الحرس. كانوا يعرفوننا لكثرة ترددنا إلى البيت مدعين بأننا نقوم بدراسة أكاديمية عن بيت الخليفة، لكننا لم ندخل مرة أخرى، بل عبرناه إلى الحديقة الصغيرة التي تقع في مثلث تحيط بها طرقات الأسفلت. كانت الحديقة مزدهرة في يوم ما، لكنها أصبحت الآن بفعل الإهمال ما يشبه المزبلة، ولو أن الغرف التي استخدمت في الماضي كبوفيه ما زالت قائمة.
كانت دكتورة مريم في انتظارنا ترتجف قلقا، تسيل الدموع من عينيها الطيبتين الواسعتين. أعطاها عبد الباقي القارورة البلاستيكية، فتحتها بيد مرتعشة. مضينا خلفها إلى الحجرة الخلفية حيث تخفى الأطفال. كانوا يموتون ببطء شديد، يتلوون من آلام مبرحة في بطونهم، قد تقيئوا كل شيء، يشتكون من صداع يجعلهم يصرخون في ألم آلمنا نحن أيضا. سقتهم بترتيب بدا لنا عشوائيا، لكنها بكلمات متقطعة قالت: إنها تفعل ذلك وفقا للمرحلة المرضية التي فيها كل طفل. والغريب في الأمر كان الأطفال يتحسنون بصورة سريعة! أو هكذا بدا لنا. وبعد نصف ساعة تكلم اثنان وبقي اثنان في حالة احتضار. بعد ساعة مات واحد وتحدث الآخر. كنا قد قمنا بتهريبهم من أحد الشوارع الطرفية حيث كانوا يقيمون بصورة دائمة في مصرف للمياه. وهو مكان مكشوف بالنسبة للفرقة ؛ حيث إنهم يستطيعون الوصول إليهم بسهولة ويسر، وما يعده الأطفال مخبأ يراه الجماعة قلب المصيدة. أصيب الثلاثة بالعشى. وتوقعت دكتورة مريم أنهم سوف لا ينجون من العمى إذا نجوا من الموت؛ لأن مادة الميثانول التي أسرفوا في شربها خلال الساعات العشر الماضية، تقوم بتدمير شبكية العين. طبعا هذا بالإضافة إلى تدمير كثير من الأنسجة الحساسة بالأحشاء، مثل: الكبد والبنكرياس وغيرهما. سقيناهم كل العرق الذي استطعنا أن نحصل عليه بما لدينا من نقود قليلة. بعض بائعات العرق الكريمات عندما عرفن أننا نحتاجه لإنقاذ أطفال مهددين بالموت أعطيننا من لدنهن وسعهن، ودعين من قلوبهن الجميلة النقية السوداء لهم بالشفاء ولنا التوفيق.
أنا - عبد الباقي ودكتورة مريم - نمثل فريقا واحدا من عدة فرق أخرى تقوم بالمهمة ذاتها في الخرطوم بحري وأم درمان. الهدف الرئيسي هو الوصول للأطفال المصابين قبل أن تصلهم الفرقة، وليس الوصول إليهم فحسب بل إخفاؤهم؛ لأنهم في حالة خطر دائمة وسيصبح مصيرنا مثل مصير أصدقائنا في فريق آخر تم القبض عليهم وجلدوا بحد حامل الخمر، وغرموا ولعنوا ثم أبقوا تحت الإقامة الجبرية بمنازلهم. وأصبح العمل أكثر تعقيدا، خاصة بعد أن أفتى مسلم طيب حريص على الدين أن العلاج بالعرق والأثينول حرام قطعا، وأن الأفضل لهؤلاء الصبية الموت؛ لأنهم إذا ماتوا سيموتون شهداء ويدخلون الجنة مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا. خير لهم من أن يحيوا ويعيشوا مجرمين ثم يموتوا بسوء الخاتمة: اللهم احفظنا واحفظ المسلمين، آمين يا رب العالمين. كنا نشعر أن واجبنا الإنساني يحتم علينا إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأي أسلوب كان. ونشك بعمق في أن الفقيه المفتي طيب الذكر قادر على ضمانة دخوله هو نفسه وبعض عشيرته الأقربين إلى الجنة، دعك من ترشيح الآخرين لها. أو كما أفتى لنا أحد الأصدقاء، وهو يرمي في وجهنا أرقاما مجنونة عن أن السودان هو من أكبر المصادر للميثانول والأثينول، وهما من فصيلة الكحول، واللذين يستخدمهما الغرب بعد تنقيتهما لصنع ألذ أنواع الخمور المحرمة هنا في السودان. ولا تفوقه في ذلك غير دولة البرازيل؛ حيث إنها تمتلك أكبر مخازن الميثانول في العالم. وإذا كان هذا المفتي تقيا بما يكفي ولا يخشى لعنة رأس المال الإسلامي بالسودان، التي سوف تصيبه في مقتل؛ لتطرق ولو بحرف واحد لتقطير الكحول في مصنع السكر العملاق. وكأنما سمعه مفت أكثر ذكاء، وأكثر منه مالا؛ حيث إنه قال بالحرف الواحد: لا حرمة في إنتاج وبيع الميثانول والأثينول، فالبلح والعنب حلالان طيبان، وهما مصدران للنبيذ الخبيث وهو محرم. فالعبرة في الاستخدام وليس في إنتاج المادة ذاتها، وإلا حرمنا البطاطس والسكر والذرة بجميع أنواعها، بل كثيرا ما أحل الله لنا من نعم الدنيا والعياذ بالله من غضب الله! أتحرمون ما أحل الله؟!
إلى اليوم 20 / 7 / 2011 تم التأكد من موت ستة وسبعين متشردا وفقا للصحافة، وذلك في غضون أربعة وعشرين ساعة منذ أن اكتشف أول حالة، واتضح من خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامته جريدة السودان في اليوم نفسه أن وزير الرعاية الإنسانية قد فوجئ هو نفسه بالأمر وبدا عليه الحزن العميق، ووصف الأمر بالمأساة. ربما كان مشغولا بالإعداد لزيارته الأخيرة للبرازيل. أما مسئول الشرطة فقد نفى نفيا قاطعا أن هنالك جهة حكومية وراء اغتيال المتشردين. إنه يحتفظ الآن بعشرة من المدنيين المشتبه في تورطهم في القضية، لكنه يؤكد أيضا أن الأمر غير منظم وغير مقصود. اندهشنا جميعا لآرائه القاطعة قبل انتهاء التحقيق. همست دكتورة مريم في أذني قائلة: إذا أردنا معرفة الرقم السليم للمقتولين فعلينا دائما أن نضرب رقم الصحافة في ثلاثة على الأقل.
قلت لها وبقلبي حسرة: هذا متفق عليه، للأسف.
Página desconocida
كان الصحفيون حذرين كعادتهم تحت قانون الصحافة والمطبوعات الحازم، الذي روعيت في صياغته مصلحة البلاد العليا! إلا أن أحدهم سأل سؤالا لم يجبه عليه أحد، وتجاهلته حتى جريدته ذاتها. قيل: إنه لم تقم له قائمة بعد ذلك؛ أقصد استغنت الصحيفة عن خدماته الجليلة بخطاب شكر ضاف مهذب، مرتب ثلاثة شهور، وأمنية حارة له بالتوفيق في جريدة أخرى! المشكلة كلها أن سؤاله الضال، غير المسئول، الذي لم يراع فيه حرمة المصالح الوطنية والدور الرسالي للأمم السودانية، حرمها من إعلانات بمبلغ يعادل مليون مرة مرتب الصحفي وأبيه وأمه - إذا كانت حية وتعمل - وأبناء عمومته إلى يوم الدين؛ لأن الشركة المعلنة الخيرة تقصد من وراء الإعلان دعم خط الصحيفة الملتزم الوطني، ورفع المقدرات المالية لمالكها الهمام! قد بدا لنا واضحا الآن أن جريدتكم تستخدم براغيث وجرذان، وليس صحفيين محترمين!
أكد الأطباء أن أسرع علاج للتسمم الميثانولي الحاد هو شرب جرعات خيرات من أخيه الأثينول، وهو كما يعرفه العرب بالعرق، الذين هم أول الشعوب التي قامت بتقطيره في العالم. كلاهما سم قاتل، لكنهما يتعادلان. تشرح لنا دكتورة مريم ذلك علميا كما يلي: التركيبة الكيميائية للميثانول ...
كان الأطفال يرجوننا ألا نتركهم يموتون، هم أيضا يريدون استعادة نظرهم، يرغبون في أن يروا العالم مثلما كانوا يرونه من قبل: ملونا جميلا ويجري أمامهم مثل القطط الضالة، نحن لا نملك الشيئين ... كان يقول لهم بقا: عليهم بالصبر والإصرار على الحياة. في الحقيقة كانوا أكثر إصرارا على الحياة من أي مخلوق رأيته في حياتي. أبي كان رجلا ميسور الحال، فهو ليس ثريا، لكنه لم يكن ينقصه شيء. بالتأكيد لا مجال لمقارنة حياته مع حياة هؤلاء البائسين. على الرغم من ذلك لم يكن شديد التمسك بالحياة، كان سعيدا جدا لم يصب بأي أمراض مؤلمة، لم يخنه أحد، لم يدخل السجن، لم يقض ليلة واحدة باكيا شاكيا. وكان يمتلك زوجة رائعة وفية؛ التي هي أمي الجميلة. يحب الحياة، يعيشها بمتعة خاصة، وله الحق في ذلك؛ فلقد أعطته الحياة كل شيء. مات وهو في ريعان شبابه، وما ذلك في رأيي إلا لأنه لم يكن متمسكا بالحياة تمسك هؤلاء المحرومين. الذين لم يعيشوا يوما واحدا طيبا بأي مقاييس كونية، لكن الحياة في تقديرهم ثروة لا يمكن التفريط فيها. قالت لي أمي ذات يوم، وكنت قد حدثتها عن طفلين مشردين مصابين بالسل ماتا ذات صباح: الموت خير لهم هؤلاء المساكين!
ولو أن الوقت غير ملائم للتحقيق، إلا أننا كنا نريد أن نعرف من أين لهم بهذا المشروب القاتل؟ كيف تحصلوا عليه وهو غير مشاع، غير رخيص ولا يباع في البقالات أو عند الطبليات أو الباعة المتجولين؟! كانت لهم إجابات مختلفة، لكن أغربها هي إجابة آدم سانتو - توفي فيما بعد - الذي قال: إنه تحصل عليه من المصري، كأن هذا المصري علم على رأسه نار! لكن البقية تحصلوا عليه من زملائهم الذين تحصلوا عليه من زملاء آخرين، هكذا بلا نهاية ولا بداية. يفضل الأطفال المشرودن مادة السلسيون، وهو مادة تستخدم للصق يدخل الميثانول في تصنيعها. رخيصة ويستنشق عبقها المثير. أنبوب واحد صغير يكفي لسكر عشرة متشردين وينيمهم مجنبا إياهم مشقة البحث عن طعام. يهبهم في الحلم الحياة، الراحة والجمال الذي ينشدونه. قد يستخدمون ما يقع في أيديهم من مسكرات أو مخدرات، خاصة الأشهر: البنقو. المشكلة الوحيدة التي تمنعهم من تعاطي كل شيء هي المال. إنهم فقراء، عاطلون عن العمل، حتى التسول فإنهم لا يتسولون، لا يسرقون، لا يرقصون ويغنون ويضحكون ويبكون في الطرقات مثل مشردي البرازيل؛ لكي يحصلوا على ثمن وجبة تافهة وجرعة كراك. لكنهم يرقدون هناك تحت ظل حائط أو نيمة أو وكر أو في بناية مهجورة. يأكلون البقايا باستمتاع قذر! المزبلة هي أعظم سوبر ماركت طبيعي وهبه الله للمتشردين. يتسلون بممارسة الجنس فيما بينهم. قد تكفي سيدة مجنونة واحدة نزوة شلة من المتشردين. أما المتشردة الجميلة - وهي كذلك دائما - فلا يمكن مسها بغير مقابل. ويصعب اغتصابها لشراستها. الأكثر عرضة للاغتصاب هم المتشردون الجدد؛ نساء كانوا أم رجالا، طفلات أم أطفالا، وذلك قبل انتمائهم لشلة تقوم بحمايتهم وقائد يرعاهم. في الغالب يصبح المغتصب الأقوى هو من يقوم بالحماية لاحقا؛ حيث يصبح المغتصب واحدا من ممتلكاته الخاصة وفردا من شلته: وفيا ذليلا طائعا ولقوية ممتعة.
إذا توفر لدى المتشرد بعض ما يسكر، قليل مما يطعم، وشيء من الجنس من نوعه أو النوع الآخر لا يهم؛ فهو الأكثر سعادة والأكثر غنى من رئيس دولة في العالم الثالث.
يتسلل الشيء إلى المعدة ... يسمونه فيما بينهم الإسبرت، وهو من مشتقات كلمة إنجليزية تعني الروح
sprit
وربما كانت اختصارا ذكيا لجملة المشروب الروحي. في اللحظات الأولى من احتسائه، يهب الشخص لذة مجنونة لا تقاوم. وعندما تبدأ عملية الأيض أو التمثيل الغذائي، تحمل الأعصاب وشاية سريعة إلى الكبد مخبرة إياه بأن سما زعافا يتغلغل في أحشاء ذلك المتشرد الذي نعنى بحمايته، وعلينا مسئولية حياته. فيفرز الكبد الوفي إنزيم نازع الكحول، وهو متوافر ومحفوظ بصورة جيدة لمثل هذه اللحظات الصعبة والحروبات غير المتوقعة؛ لأن الكبد يعرف نزق وشيطنة سيده الإنسان، متشردا فقيرا كان أم سياسيا غنيا. فيتحول الميثانول الذكي إلى مادة الفورمالدهيد شديدة السمية، ثم خلال ثلاث دقائق أخرى يتحول إلى حمض النمليك. بهذه المراوغة الشيطانية يفقد الكبد إمكان السيطرة عليه، لكنه يظل يفرز الإنزيم نازع الكحول، وتتراكم النواتج الاستقلابية السامة للميثانول بصورة متواصلة دون أدنى مقاومة من الجسد، بعد أن حيدت سلطة الكبد، من ثم تظهر أعراض التسمم. ولأن المتشرد هو مخلوق جائع، يحتسي هذا المشروب من أجل أن ينسى ألم الجوع، العوز، خيانة الأصحاب، مرارة الاغتصاب، ظلم الشرطي، إهانات المارة، قلق الحنين إلى الأسرة، الوساخة الشخصية، القمل، برغوث الثياب، والأمراض الكثيرة التي تنهش جسده، فإن الميثانول يجد بيئة جيدة ليمتص سريعا عبر المعدة الخاوية الشرهة، التي تنتظر ما يشغلها، ويخفف عنها ألم إفرازاتها المرة النشطة. لا يحس الشخص بأعراض التسمم إلا بعد مضي ست ساعات إلى ثلاثة أيام، هذا إذا شرب الشخص النحيل ذو الوزن الهزيل جرعة زائدة من الميثانول، هي في الغالب لا تتوافر لديه، فما يتوافر لديه بعض مليجرامات من الأثينول، يضيف إليها خمسة أضعافها من الماء القراح؛ لذا لا تظهر علامات التسمم فيه إلا بعد شهور أو سنوات، أي بعد أن يقوم الأثينول بتدمير خلايا الكبد والبنكرياس. ذلك تماما كما يفعل العرق «الميثانول + الأثينول» للمدمنين عبر سنوات طويلة من اللذة ... النشوة وأحلام اليقظة على أنغام موت بطيء وبارد. تفسير هذا الموت السريع للضحايا هو أنهم قد تناولوا كميات كبيرة من الميثانول، ليس ذلك القدر الضئيل الذي اعتادوا على تناوله من صنوه الأثينول. فالتشخيص الطبي الباتع لحالاتهم يطلق عليه الأطباء: «التسمم الكحولي الحاد»
Acute alcoholic intoxication .
ما يقلقنا الآن أكثر، كيفية التعامل مع الجثة التي ترقد أمامنا مغطاة بأسمال باليات تفوح من فمها رائحة الموت مختلطة بقيء الأطفال على أنغام شخير بعض من نام منهم. كنا نعي جيدا خطورة أن تضبط الجثة في حوزتنا. يحزننا أيضا تركها في هذه الغرفة المهجورة مع الأطفال المرضى الذين لم يحدد مصيرهم بعد، الذين سيصبح مستقبلهم «على كف عفريت» إذا وجدتهم الفرقة. فسيحقنون في الحال - حسب ظننا، وبعض الظن إثم - بمادة الفورمالين الرخيصة القاتلة، ويودعون الحياة التي يحبونها جدا - رغم قسوتها - إلى الجنة البغيضة التي أعدها لهم ذلك المفتي الفصيح، نحن لا نستطيع أن نفعل شيئا أكثر مما فعلنا، أن سقيناهم العرق وأطعمناهم اللبن الطازج ووهبنا لهم جرعات كبيرة من زيت الخردل لتقوية معداتهم الملتهبة. كان الأمر كابوسا حقيقيا. لكننا أجبرنا على المغادرة السريعة وتركهم كما هم عندما اتصلت بنا حكمة رابح صديقتي وأخبرتنا أن الفرقة في طريقها إلينا. شاهدهم البعض قريبا جدا من مسرح البقعة يتعثرون في زحمة المرور، يطلقون صفير إنذار ونجدة، يردد العسكر المتحمسون صرخات الحرب وهم محشورون في عربة لنقل البضائع «دفار جامبو» عملاقة. أضافت: لقد قاموا باعتقالات واسعة لناشطين في أم درمان والخرطوم، ولا ندري من هم وكم عددهم حتى الآن.
Página desconocida
تقع الحديقة قريبا جدا من مسرح البقعة، جنوب بيت الخليفة التعايشي، شرق سجن الخليفة، في الطريق إلى مستشفى الدايات، تحتل الحديقة المهجورة هذا المثلث الصغير. كان علينا أن نهرب في اتجاه بيت الخليفة، هذا هو الحل الوحيد. اقترحت دكتورة مريم أن نقوم بزيارة البيت، سوف لا يشك فينا أحد. تبادلت النظرات مع عبد الباقي، ابتسمنا لبعضنا ونحن نسرع الخطا نحو البوابة القديمة الأثرية، التي تحرسها جماعة من الرسميين. قمنا بزيارتنا الثانية للبيت في اليوم نفسه. اندهشت دكتورة مريم عندما شاهدت الحفاوة التي استقبلنا بها الرسميون. في الحقيقة كانت هذه الحفاوة الدافئة نتاج علاقة قديمة مستمرة سوف لا تخطر ببال صديقتنا الدكتورة. خاطبونا بالأساتذة ولم يأخذوا منا رسوم الزيارة المعتادة. كانوا يحسون من أعماقهم بأنهم يجب أن يقدموا لنا المساعدة المرجوة؛ لربما تكرمنا بذكر أسمائهم في البحث الذي نقوم بإعداده أنا وعبد الباقي عن بيت الخليفة، ذلك المشروع الوهمي الذي سوف لن ينجز أبدا!
جلسنا عند الفسحة أمام العربات التاريخية المهلهلة المهملة المغطاة بطبقة من الغبار سميكة. كان الظل باردا، تيار الهواء يمر شمالا جنوبا بحرية. كنا نحتاج لقدر كبير جدا من الهواء البارد؛ لإنعاشنا وإعادة الحياة إلينا. قلوبنا وآذاننا تقفز خلف الجدران لتعانق موجودات الحديقة في الخارج، تحوم حول الأطفال المشردين. كان هتافهم قاسيا وعنيفا، مختلطا بصفارات الإنذار المرعبة، عندما أخذ الزوار يخرجون من بيت الخليفة مهرولين يتقصون ما يحدث في الخارج، خرجنا معهم. دارت العربة العملاقة دورتين قبيحتين حول الحديقة الصامتة، كانت مليئة بالجنود الشباب المتحمسين لفعل كل ما يؤمرون به. ليس بإمكانهم أن يلاحظوا شيئا بهذه الطريقة الاستعراضية الفجة في البحث؛ لأن الأطفال كانوا يرقدون داخل الغرفة، ليس في حوش الحديقة. توقعنا أن يتوقفوا ويهبطوا ويدخلوا، لكنهم عندما أكملوا دورتهم الرابعة، اتخذت العربة الشارع الجانبي الشرقي الذي يقود إلى الإذاعة. تلاشى صراخهم الرهيب خلفهم تدريجيا، إلى أن اختفى نهائيا عندما انعطفت الشاحنة بهم يمين الإذاعة القومية متخذة طريق الطابية إلى مستشفى القوات المسلحة بأم درمان، أو إلى أي جحيم آخر لا ندريه.
لم نعد إلى الأطفال والمتشردين بالحديقة، على الأقل الآن، كان هذا رأي الجميع، كما أننا لم نرجع إلى بيت الخليفة عبد الله التعايشي مرة أخرى.
تشير الساعة إلى الثانية بعد الظهر. دكتورة مريم ستعود للعمل بمستشفى الحوادث بالخرطوم عند الثالثة والنصف، قد تحتاج إلى ساعة كاملة تقضيها في المواصلات العامة بين أم درمان والسوق العربي؛ لأن الوقت هو زمن ذروة التزاحم المروري، فالطرقات ضيقة وهي مصممة في عصر الاستعمار لبضع عشرات من السيارات الصغيرة يستغلها السادة السياسيون والإنجليز. الآن على ذات الطرق أن تتحمل ما لا يقل عن مليوني سيارة في اليوم. فكان الخيار الأرجح أن نذهب معها أنا وبقا إلى الخرطوم، من هنالك يذهب هو للسلمة وأنا لبحري، وسوف ننسق الخطوة القادمة عن طريق التلفونات أو الرسائل النصية القصيرة. تعرفت على دكتورة مريم منذ سنوات كثيرة مضت؛ أي منذ أن تخرجت في جامعة الأحفاد قبل خمس سنوات. كنت أقوم بقضاء فترة تدريبية بمنظمة رعاية الطفولة السويدية، التقيت بها هنالك، تعمل حينها منسقا لمشروع حماية الطفل بالمنظمة. احتضنتني وشملتني برعايتها منذ اليوم الأول الذي تقابلنا فيه. هي التي جعلتني ألم بالجوانب النظرية والعلمية في مجال حقوق الأطفال. ولم يكن فارق العمر بيننا كبيرا، كنت أصغر منها بثلاث سنوات، وهي تكبرني بخبرات عملية وإنسانية تفوق الخمسين عاما. ومثل كل سودانيين يتقابلان في أي زمان أو أي مكان يجدان شخصا مشتركا بينهما، هذا إذا لم يكتشفا أنهما أقارب، فبيني وبينها شخص عابر في حياتي، لكنه خلف في أثرا كبيرا ونهائيا، وهو أحد أقربائها بل ابن خالتها حسن إدريس. المرأة لا يمكنها أن تنسى الشخص الأول في حياتها، حتى إذا كان وقحا وناكرا للجميل مثل هذا الإدريس. أنا لا أحب أن أخوض في هذه الحكاية التي يؤلمني ذكرها الآن، هو لم يخدعني لكنني كنت أتوقع منه موقفا أكثر مروءة وإنسانية؛ أي ما تتوقعه كل فتاة من رجل تورطت معه في علاقة حميمة أدت إلى أن تجعلها حبلى بطفل. أتمنى ألا أعود لهذه الحكاية مرة أخرى.
العاشقان
والدتي لم تكن كبيرة السن أو هكذا تعتقد هي، أنجبتني عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. ما زالت امرأة نحيفة قصيرة بعض الشيء، ظلت دائما محتفظة بنضارة الشباب، في هيأتها ذاتها عندما تخرجت في كلية الآداب قبل عشرين سنة. لا يحق لأحد أن يقدر عمرها بأكثر من أربعين عاما. أمي تعد نفسها أجمل مني. قد تبدو أصغر مني عمرا، إلا أنها تصر على أنها أجمل مني، أرى أنها تخلط فيما بين ما هي عليه قبل عقد من الزمان والآن. عندما كانت أجمل بنت في الحي، وأحلى وأصغر أم في الجامعة. فالواقع أمي تؤكد على أنه إذا كانت هنالك مسابقة جمال في تلك الأزمنة لنالت جائزة أجمل بنت في السودان دون منازع. لا مصلحة لي في ألا أصدق ذلك، لكن المشكلة تكمن فيما بعد النقاش اليومي عن العمر والجمال؛ لأنه ينتهي بشجار، لأن أمي تريدني أن أتزوج بأي طريقة كانت، بل بأول من تقدم إلي. قد تقدم إلي كثيرون، بل لماذا أنتظر إلى أن يتقدم إلي أحدهم؛ فالبنت الذكية هي التي تختار زوجها وتدفعه بحنكة إلى أن يطلب يدها، قد ترفضه إذا لم يعدها بثروته كلها. وأنت الآن تدخلين في «سن اليأس»، تضيعين وقتك في حب شخص لا يمكن أن يتزوجك، لا أعرف مثقفا تزوج من قبل، إنهم لا يتزوجون قبل أن يشعروا بأن الموت يطرق أبوابهم أو أنهم على قارعة الإفلاس! - قولي لي: كم من النساء تزوجن شعراء؟ أريد عشرا منهن. - لكن يا أمي ما شاعر ...
كعادتها تهمل إجاباتي عندما تسيطر فكرة ما على رأسها، خاصة بعد أن أخذت تنتابها حالات الإحباط النفسي بين وقت لآخر. - أنا أعرف عشرات النسوان الما تزوجوا شعراء وكانوا بحبوهم مثل عيونهم، ياما كتبوا فيهم شعر وأغاني ...
أقول لها: يا أمي هذا جدل بيزنطي لا يوصل لنتيجة؛ إنه ليس بشاعر. وكأنها لم تسمعني، تعدد لي أصحابي الشعراء الذين لم يتزوجوا حتى الآن:
عثمان بشرى.
عاصم الحزين.
Página desconocida
إلياس فتح الرحمن.
كمال الجزولي.
عاصم الرمادي.
عبد الله شابو.
عالم عباس. - يا أمي، يا أمي ديل فيهم ناس متزوجين وعندهم أولاد وبنات متزوجات.
لكنها تواصل في إصرار مجنون، وكأنها تقرأ كتابا منشورا أمامها:
بشرى الفاضل.
أحمد النشادر.
مأمون التلب.
علي نصر الله.
Página desconocida
محمد الصادق الحاج.
نصار الحاج.
عصام عيسى رجب ... - يا أمي يا أمي!
أضافت وهي تنحرف قليلا عن الموضوع الأساسي، محملقة بعينيها في الأفق البعيد: كويس، أو اتزوجوا نسوان تانيات ...
هل تذكرين ذلك الشاعر الذي كتب قصيدة جميلة عن حبيبته إيما، أظنه قال فيها: إنها تشبه غيمة وتشبه نجمة، وحاجات تانية ما بتذكرها، لقد تزوج من فتاة أجمل منها اسمها انتصار! وذلك الذي كتب عن فتاة ذوبته عشقا - وهي ماريا - تلك القصيدة الطويلة التي درسناها في الجامعة بعنوان ماريا وامبوي، سقطت فيها مرتين، قد تزوج امرأة اسمها ليلى علم الدين. وقالت: إن أراجون الذي ظل حياته كلها يكتب لعيون حبيبته إلزا أجمل الأشعار، العيون التي ظن أنها الأجمل منذ أن خلق الله حواء أم البشر، اقترن في أواخر عمره بفنانة غجرية متشردة لا تكاد عيناها تريانه جيدا.
لم يبق لها سوى أن تضيف للقائمة: رامبو، مالارميه، بودلير وأمل دنقل. ذات مرة اعترفت لي بأن صديقة لها - أظنها تقصد نفسها - كانت تعشق شاعرا، لكنه يخونها مع صديقتها المقربة جدا بل الوحيدة، عندما اكتشفت أمرهما برر لها ذلك بقوله: إن للجسد سلطانا، ونحن لسنا سوى شغيلة عنده. قالت: إنها لم تفهم شيئا، لكنها لم تعد تحبه منذ تلك اللحظة. بل كرهت المثقفين جميعا، على رأسهم الشعراء؛ لأن الشعراء يتفلسفون في الخيانة، ويقولون كلاما غير مفهوم، كيف يكتب شخص سوي نصا بعنوان «في مديح الخائنات»، وهو يعني بالخائنات، الخائنات، نعم الخائنات ذاتهن، ليس مجازا أو رمزا؟!
أحبت أمي وكرهت بعد وفاة أبي بسنوات، لكني أعرف أنها الآن تحب روائيا في عمرها، لا خير منه يرجى - سوء الظن في الروائيين من حسن الفطن - وأظن أنه يستغلها جسديا وماديا، فأنا لا أعرف شيئا عنه وعن علاقتهما، وخطأ تخميناتي على أمي أن تتحمله؛ لأنها لم تفصح لي عن شيء ... لم تتكرم علي بمعلومة مفيدة، غالبا ما تدعي: هو صديقي ما أكثر.
أمي ليست صريحة معي، لكنها دائما تريدني أن أكون صريحة معها: حتى لا يخدعك الرجال ... فكل الرجال مسيلمة يا بنتي، كذاب! بدون فرز وبدرجات متفاوتة، بعضهم إبليس بعينه، «أوعك تدي واحد قلبك كله!»
اعشقيهم بلسانك لا أكثر؛ أقصد بطرف لسانك، لا تفرطي في قلبك أو جسدك. الرجل مثل الطفل؛ إذا شبع نسي أن له بطنا، وإذا جاع تشهى كل الأشياء، حتى إذا كانت حجارة.
أمي أجمل مني! أنا لا أعترف بذلك. كنت أطول منها قامة لكني بدينة بعض الشيء، بل قل الشيء كله. ورثت بنيتي الجسمانية من أبي، لكنني جميلة أيضا. فكثير من الرجال يحبون الأرداف المدورة، وهو الشيء الذي عليه أردافي الآن. أسمع كثيرا من تعليقات المارة بالشوارع والمواصلات العامة، تضايقني في أحيان كثيرة، أغض عنها الطرف في بعض الأحيان، أطرب لها، وخاصة إذا كان مزاجي عكرا وكنت في حاجة إلى دعابة ما، مهما كانت سخيفة. طولي 175 سنتيمترا، فكرة الجمال عندي تتمثل في تصور الآخر لك من جانب، وتصورك لنفسك من الجانب الآخر. أنا أيضا لا كرش لي، مثل أمي، أمارس الرياضة بصورة متواصلة وخاصة تمارين البطن. لا آكل الشحوم أو السمن، أمشي كثيرا برجلي ولا أتركه يرق في. لي بشرة سوداء ناصعة ورثتها عن جدود شتى، فور ونوبة برابرة وعرب. لا أستخدم كريمات تبييض البشرة، وهذا مبدأ إنساني، جمالي وخلقي لا أحيد عنه، ولو أنني بذلك أفقد فرص العمل في كثير من القنوات التلفزيونية، البنوك، الشركات التي تهتم بالمظهر العام المنمق والمعلن عنه رسميا وإعلاميا. ورغم ذلك يحبني الكثيرون من أجل أنني أرغب أن أكون كما خلقني الله، يقولون: إن لي ملامح ملكة نوبية. باختصار، أعرف أنني جميلة وهذا يكفي.
Página desconocida
أنا وأمي وحيدتان، أقاربنا يسكنون بعيدا متفرقين في مدائن السودان الكثيرة. ترك لنا أبي بيتا كبيرا في الخرطوم بحري. قمنا بتأجير نصفه الذي يفتح على شارع السيد علي الميرغني. نسكن نحن في النصف الآخر المطل على شارع فرعي صغير لا اسم له، يحتوي على غرفتي وغرفتها، صالون وثلاثة حمامات بكل من الغرفتين والصالون. الجزء الآخر من البيت تستأجره منظمة مجتمع مدني تعمل في حماية الأطفال المتشردين. وهي المنظمة ذاتها التي أعمل فيها أنا أيضا باحثة اجتماعية. تسمى المبادرة الصديقة للأطفال
CFI .
ليس كل ما تقوله أمي لا فائدة منه؛ لأن فكرتها عن حبيبي عبد الباقي كانت في محلها. إن علاقتنا قد استنفدت فرصها كلها. هو يريدها أن تبقى طالما كنا نذهب كثيرا إلى غرفة جدنا الخليفة عبد الله التعايشي السرية ونقضي فيها أجمل أوقات حياتنا. عندما نكون معا كنا نمتلك الحياة كلها، لا يهمنا شيء آخر في العالم، حتى الأطفال المتشردين، المسلولين وغيرهم. كان همنا أن نمتع جسدينا ... أن نشبع رغبة الوحش الساكن في حشو كل منا. أظن الجنس يستطيع أن يفعل ذلك؛ أن يقوم بواجب التواصل الإنساني، الجنس الآمن. لم أقل إن همه كان الجنس أو همنا، بل كل شيء، لكن الأشياء الأخرى إما يصعب الإيفاء بها أو لنا فلسفة في جدواها. إذن، حان الوقت أن نفترق. أنا أريد أطفالا، بل تريدهم أمي أكثر. أمي تصاب بين وقت وآخر بالإحباط النفسي، وتظل لشهر أو شهور ترى وتسمع أشخاصا وتتحدث معهم. مرات عديدة كانت تفكر في الانتحار. لا تستمر الحالة طويلا، لكن عندما تصاب بتلك الحالة نكون في أسوأ أيامنا. في الآونة الأخيرة أخذت تساعد في رعاية المتشردين حسب مزاجها وبما تستطيع. فهي ليست ذات بال طويل وصبر على نزق وشيطنة هؤلاء المنفلتين الذين لا يترددون في عض اليد التي تقدم إليهم كسرة الخبز. فالحياة علمتهم عدم الثقة في الآخرين، ولا في أنفسهم كذلك. أمي تريد أطفالا يملئون حياتها، يوفرون لها الرفقة، أطفالا تثق بهم، على الأقل يمكنها أن تتنبأ بما ينوون القيام به. كنت أتحدث إلى نفسي بصوت عال؛ مما أخاف أمي وظنت أن مرضها قد انتقل إلي. لكن عندما حكيت لها القصة هدأت وكادت أن تبكي! أمي لا تبكي بسهولة. ثم سمعنا طرقا عنيفا على الباب، على الرغم من أن لدينا جرسا إلا أن الطارق لم يستخدمه. هتفت أمي: منو؟ إن شاء الله خير؟
كان يتنفس بصعوبة. ملابسه ممزقة ... وتوجد فيما تبقى منها بعض بقع الدم الجاف. لم يكن هنالك زمن للأسئلة. استحم ... لبس أحد جلابيب أبي، أمي تحتفظ بالكثير منها للذكرى. أمي تهمس في أذني من وقت لآخر مستفسرة عما لحق به. أهمس لها بأنني لا أدري، لكني كنت قد خمنت كل شيء. باختصار شديد وفي كلمتين أخبرني بكل شيء. احتسينا القهوة. عرفت أمي فخافت علينا. كان عبد الباقي رجلا مربوع القامة. طوله 174 سنتيمترا أو يقل بقليل. تدل ملامحه على أنه قد يكون من سكان وسط السودان، أو لحد ما الشمالية. كان غاضبا وهو يحكي كيف قبضوا عليه وضربوه في الشارع العام، ثم أطلقوا سراحه ثم لحقوا به مرة أخرى في بيته. ودارت معركة معهم في البيت. تدخل جيرانه، أصحابه وزوجته. ضربوا الجماعة ضربا مبرحا حتى فروا بجلدهم هاربين.
قاطعتني أمي: سجمى! عنده أولاد؟ بتحبيه ليه؟ - يا أمي شنو علاقة الأولاد بالحب؟
انتفضت أمي تقول، وهي تحملق في عيني كأنها تراني لأول مرة في حياتها، ولأول مرة ألاحظ أن بعينيها حزنا عميقا لا يستطيع الكحل اصطياده: عندو مرا ولا لأ؟
أجبتها بهدوء: عندو مرا.
حاولت أن تكون هادئة مثلي. - يعني عايزة تقلعي راجل المرا وتشردي عياله؟ - يا أمي ممكن نعيش مع بعض المشكلة شنو؟ أنا أصلا ما عايزة راجل متفرغ عشاني. يكفي نصف راجل أو ربع راجل ما أكثر.
صمتت لبعض الوقت، كأنما كانت تريد أن تقول شيئا ما، ثم غيرت رأيها، قالت وهي تمضي بعيدا عني، وتبعثر كلماتها في المكان: كلام ما مقنع. الراجل راجل والمرا مرا ما في نص ولا ربع. وأحسن تسيبي الزول لحاله، خلينا من الكلام الفارغ، شوفي أي مخلوق ما عنده زوجة وعرسيه.
تعكر مزاج والدتي فجأة، ولم تقبل أن تستمع إلى فكرتي الجديدة بشأنه. بل لم تعرف أنه لا يريد أن يتزوجني، وأنني صرفت النظر عنه. بالطبع لم أقل لها إن ما تبقى بيني وبينه هو فقط التعود على تلك المتعة الجسدية، لم يفكر كلانا إلى الآن في التخلي عنها على المدى القريب. هنالك أشياء يجد المرء نفسه ملتزما بالقيام بها، قد لا يفكر كثيرا في مسألة جدواها من عدمه، خاصة الأشياء التي لها علاقة بالجسد، فهذا الأخير له منطقه الخاص وأفاعيله التي لا يستشير فيها العقل، فهو لا يفكر بالأعضاء التناسلية وحدها، لكنه يشرك كل الأجزاء الأخرى فيه، ويشرك العقل، الجزء الأكثر بشرية منه، فهو دكتاتور رحيم، ولا يلام الجسد عندما يعمل عمل الجسد. بعد أن قرأت كتاب السر أخذت حياتي تتغير بسرعة، رميت بكلماتي في ظهرها: أنا ح أتزوج في هذا العام، ح أتزوج رجلا كاملا.
Página desconocida
فاجأتني بثورة من الضحك، عادت واحتضنتني وأكدت لي للمرة الألف أنها سوف لا ترفض أن أتزوج أيا كان، إذا كنت أحبه ويحبني، متزوجا أم غير متزوج مجنونا أم عاقل، المهم يستطيع أن ينجب أطفالا يعيشون معي في البيت هنا، ولتذهبا أنت وهو للجحيم. قلت لها: هل غيرت رأيك؟
قالت وفي وجهها ابتسامة رائقة: لا، لم أغير رأيي، أنا عن نفسي لا أتزوج رجلا متزوجا.
وضعنا الخطة، اتفقنا على أن نشرك فيها بعض الصحفيين المهتمين بالموضوع؛ لأنهم يمتلكون الخبرة في التحري، أيضا الشرعية والحيلة في تقديم الأسئلة والدخول إلى كل المؤسسات الحكومية والمدنية. طبعا ليس كذلك تماما، لكن لحد ما ... الأهم أن لهم أفضلية علينا في ذلك. البحث عن الصحفي المناسب كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كنا نريده ذكيا، شجاعا ويؤمن بالقضية بصورة قريبة من وجهة نظرنا. حتى يكون هنالك توافق وتناسق في فريق العمل. أهم ما في الأمر ألا يكون مواليا للسلطة؛ لأن الموالاة تحتم عليه التوافق مع وجهة النظر السائدة، حتى ولو أنها جانبت الصواب. وفوق هذا وذاك نحن لا نستطيع أن نقدم له أجرا، مهما كان ضئيلا، فالعمل تطوعي وإنساني في المقام الأول. لم أقترح عليه أحمد الباشا، سيرفضه ظانا منه - وأنا أعرف ظنونه - أنني كنت في يوم ما مغرمة به أو أنه مغرم بي. كما أنه صدق إحدى كذباتي التي كان الهدف منها إثارة غيرته. بأن أحمد الباشا أكثر وسامة منه وأن كثيرا من البنيات يستلطفنه، قلتها بالطريقة التي تجعله يسمع كلمة كثيرا «كل» أو أنا واحدة منهن. أكدت له بأنني لا أهتم بذلك على الرغم من أنه كان يتودد إلي بين حين وآخر. كما أن الباشا بعد أن طرد من جريدته أصبح مخيفا ومتجنبا من قبل كثير من المؤسسات وكل الجرائد الوطنية وغير الوطنية بالطبع. فلعنة حرمان الصحيفة من الإعلانات لعنة تظل تطارد صاحبها في الحياة الدنيا حتى الممات، قد تلحق بنسله الميامين، إذا استطاع أن ينسل في ظل لعنته تلك. قال لي عبد الباقي بعد قليل من التفكير: أقترح صديقنا الصحفي أحمد الباشا، هو أكثر شخص مناسب لهذه المهمة.
المشكلة الوحيدة في أنه مراقب، تليفونه لا يعمل، ولا نعرف إليه سبيلا.
كان ينظر في عمق عيني، أو كنت أظن أنه كان يحملق في وجهي؛ ليعرف ردود أفعالي وتأثير اقتراحه المثير. اقترحت عليه حكمة رابح؛ هي ذات خلفية قانونية مثقفة وشديدة الجمال، وأعرف أنه يحب طريقتها في كتابة الشعر. تعمل بالمحاماة والصحافة في الوقت نفسه. اقترح هو صديقتنا دكتورة مريم الطبيبة البشرية ذات النشاط، والهمة والقلب الحنون. قد عملنا معا كثيرا، خضنا مغامرات شتى في سبيل المتشردين والأطفال، هي شخصية لا يختلف عليها اثنان. عليه أن يتصل بالباشا، علي أن أتصل بحكمة ومريم.
أمي تحرص بشدة على أن تكون علاقتها الخاصة في غاية السرية والكتمان، لا تريدني أن أشك لحظة في أن لها علاقة، قد أفسرها بأنها مشبوهة قد تقلل - حسب ظنها - من حسن صورتها عندي؛ حيث إنها تعمل طوال الوقت على أن تجعل من نفسها قديسة في نظري. من حقها ذلك، ولو أنني أرى ذلك تزييفا روحيا كبيرا، وأن عليها أن تنتبه لنداء جسدها بصورة أو بأخرى. فلقد كانت جميلة وفتية، أهدرت وقتها وروحها من أجل تربيتي بصورة لائقة، فكنت وما زلت مشروعها في الحياة، المشروع الذي كاد أن يثبت فشله، أو أنه فشل بالفعل، حسب رأيها عندما لا تكون في مزاج رائق. توفي والدي ذات صباح باكر. كنت حينها نائمة في غرفتي، أحتضن كما كنت أفعل طوال طفولتي دميتي الصغيرة التي أحضرها لي أبي من دولة أجنبية زارها، على ما أعتقد كانت فرنسا أو ألمانيا. استيقظت على صراخ النساء، جدتي، خالاتي، أمي ونساء الجيران. انتزعت نفسي من السرير، هرولت ناحية باب الحجرة، لكنها كانت مغلقة من الخارج. أخذت أصرخ وأضرب الباب بكفي الصغيرتين، أصرخ بكل ما لدي من صوت وأركل بكل قواي، إلى أن تعبت تماما، خمدت في شبه إغماء، لم يأت إلي أحد، اختفت الأصوات تدريجا، حلت محلها همهمة رجال، ليس صوت أبي من بينهم، كنت أميز صوته من بين كل الأصوات، وأستطيع أن أسمعه من مسافات طويلة. ثم جاءتني خالتي، حملتني من على الأرض، حيث تبولت دون إرادتي ... أخذتني على كتفها. كان وجهها مبللا بالدموع، وبصوتها حشرجة غير مستحبة. بدأت أصرخ من جديد مطالبة بأمي، إلى أن جاءت بعينين بنيتين غارقتين في الدموع؛ احتضنتني بقوة، قبلتني وطلبت مني أن أذهب مع «خالتو». أحسست بشيء غير عادي يحدث في بيتنا، لكن خالتي العجول هرولت بي إلى بيتها عابرة الشوارع الواسعة الساخنة وأنا على كتفها أصرخ وأرفس بقدمي. على بعد ميلين من بيتنا تركتني؛ لألعب مع بنتيها الشيطانتين صديقتي، أحبهما كثيرا، كنت أصغر منهما قليلا في العمر. حالما أنسيتاني كل شيء وأقامتا لي عرسا، زوجتاني من طفل من القصب صنعته الأخت الكبرى علياء، رقصت كعروس حقيقية، على إيقاع صينية الشاي، فأنا أحب الرقص، غنتا رقصتا، انضمت إلينا فتيات الجيران الأخريات؛ فقد كان عرسا بهيا وجميلا.
عندما عدت في اليوم الثالث لم أجد أبي في البيت إلى هذا الحين. كانت أمي تقول لي: إنه مسافر إلى مكان بعيد، ثم أخبرتني فجأة بأنه مات؛ أي ذهب إلى الجنة، كلنا سنلحق به آجلا أم عاجلا. سوف لا يأتي مرة أخرى للحياة الدنيا، هذا مصير البشر. ثم زرنا قبره مرارا وتكرارا لسنوات طويلة، صيفا وشتاء، في الأعياد وفي المناسبات العامة، كلما مرضت أو مرضت أمي، كلما بلغنا الصحة، كلما مات أحد أقاربنا، بل كلما تذكرته أمي. ثم فجأة توقفنا عن زيارة قبره، وأستطيع أن أؤرخ لذلك، منذ اليوم الذي التقينا فيه بما أسمته أمي صديقها الروائي وليد الجندي في المقابر. كان هو الآخر في زيارة لما أسماها المرحومة صديقتنا سيدة. لا أدري كيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك بعيدا عن بصري وسمعي، بينما كنت أنا أكبر قليلا قليلا، تمر السنوات علي ... عليهما ... وعلى علاقتهما مع بعض. من جانبي كنت أحس بفقدان أبي، دائما ما أرغب في أن أتحدث إليه، كان يسافر كثيرا، إلا أنه عندما يكون بالمنزل فإنه يلعب معي، يحكي لي ويستمع إلى ثرثرتي. رغم صغري في ذلك الحين كنت أتعلم منه وأسأله عن أمور كثيرة لا أذكرها الآن، لكنها تجعله يضحك من صميم قلبه، ويحملني على كتفه، يجري بي في حوش البيت. أريد من يفعل بي ذلك الآن، قد يكون هذا مستحيلا لوزني الثقيل، لكن غير المستحيل أن أجد من يحكي لي، يستمع لحكاياتي ويضحك من قلبه لأجلي.
يقول عني أصحابي أنني مترددة وغالبا ما أغير رأيي، ليس لعدم ثقة في النفس، ولو أنه يبدو كذلك، لكني كنت في صميمي أحتاج لآخر يتخذ معي القرار. أقصد أنني أحتاج فعلا لأبي في هذا الشأن، قد يرى الناس ذلك غريبا بالنسبة لإنسانة في نهاية العقد الثالث من العمر ... تخرجت في الجامعة منذ أكثر من خمس سنوات وأحبت ما لا يقل عن خمسة رجال، وتعمل في مجال حماية الأطفال والمشردين بصورة يشهد عليها مديروها بأنها متميزة وجادة. كان عبد الباقي قد عرف في وقت مبكر هذه المعضلة، وأخذ يعلمني كيف أملأ فراغ الأب، لكن المشكلة الأساسية تقع في أنه ملأ هذا الفراغ بنفسه. كان يكبرني بعشرة أعوام؛ يعني أنه أصغر من أمي بثماني سنوات. كما قلت من قبل، أمي ليست طاعنة في السن، تكبرني بثمانية عشر عاما لا غير. أمي أيضا كانت تفتقد أبي، تفتقده بشدة وبصبر. إذا كانت صريحة معي كنت أمنت لها خصوصية عظيمة، بل لساعدتها في أن تتزوج أيضا. بإمكان أمي أن تتزوج، ماذا يمنع؟!
كان وليد الجندي شخصا غامضا، هو أيضا من نوعية الكتاب الذين يصبح كل نصيبهم من الإبداع كتابا واحدا لم يكتمل، أو بضع مقالات لم تنشر بعد، ثم يقضون بقية العمر في التضجر، لوم الدهر، صب اللعنة على الحكومات، ضيق ذات اليد وفشل المشروع الوطني السوداني. في الحقيقة لم ألتق به سوى مرات معدودات طوال سنوات علاقته مع أمي؛ لأن أمي تحرص ألا تكون لي معه أية علاقة قد تقود إلى فضح تفاصيلها هي الشخصية. أمي أيضا كانت واحدة من الفريق. اقترحت أنا للفريق أن ينضم إلينا وليد الجندي ... كانوا يعرفون أنه مقرب إلى أسرتنا الصغيرة، لكنهم لا يعرفون تفاصيل علاقتنا به. رفضت أمي الفكرة في بادئ الأمر بحجة أن الفريق يجب أن يكون مختصرا بقدر الإمكان حتى لا يفتضح أمره - كما أعلنت - وهو سبب غير وجيه. كانت تضمر سببين آخرين مقنعين لم تصرح بهما. لكن عينيها برقتا سعادة عندما أقنعتها حكمة رابح بضرورة أن ينضم إلينا الأستاذ وليد الجندي، حتما سيستفيد الفريق من حسه الروائي والنقدي، حيث يشاع أنه ضليع في النقد الأدبي أيضا.
الاجتماع الأول كان في بيتنا. أنا وحكمة رابح علينا أن نجمع المعلومات عن مادة الميثانول ... كل ما يخصها من تفاصيل، معلومات مكتبية من الإنترنت عن طريق الأخ «قوقل»، معلومات ميدانية عن أين وكيف يوجد هذا الميثانول في الخرطوم، ومدى سهولة أو صعوبة الحصول عليه. هذا قد يقود إلى مصدره، بالتالي يضعنا وجها لوجه أمام المتهم الأول أو الخيط الذي يقود إلى المتهم الأول. هذا إذا كان هنالك متهم في الأساس؛ لأن من نسميهم نحن بالجماعة أو الفرقة ونتهمهم بالتسبب في قتل المتشردين كانوا هم أيضا يتهمون جهات شريرة أخرى - نحن بعض هذه الجهات - ويعملون ليل نهار من أجل القبض عليها ووضعها في ميزان العدالة، وهذا يضع كل اتهاماتنا لهم ليست سوى أوهام ويدرجها تحت نظرية التآمر، ما لم تكن هنالك معلومات جيدة، دقيقة ومؤكدة، لا توجد حقيقة. الرأي الأرجح، أقصد الوسطي في الصحافة أن أحدهم سرق مادة الميثانول معتقدا أنها أثينول وباعها للمتشردين بحسن نية، وغرضه من وراء ذلك الربح الحلال ... لا أكثر.
Página desconocida
أمي ووليد مسئولان عن التحقيق مع وزارة الرعاية الإنسانية، وأن يتبعا في ذلك ما يستطيعان من الحيل والمكر البشري، عليهما أن يعرفا ما هو الرأي الحقيقي لوزارة الرعاية الإنسانية في هذا الشأن، وما هي الإجراءات التي اتخذتها . ويا حبذا لو تطرقا إلى سياساتها تجاه المتشردين. الدكتورة مريم وباقي عليهما متابعة التشريح الجنائي الذي حدث للجثث، وأن يحاولا من ذلك تحديد وقت تناول الميثانول. أما الباشا الذي لم يحضر الاجتماع لصعوبة الوصول إليه، فكان عليه القيام بتحقيق صحفي شامل مع إدارة شرطة أم درمان محلية البقعة، أمين عام الرعاية الإنسانية، المدير الطبي لمستشفى أم درمان التعليمي، الأحياء من الأطفال والمتشردين الذين نجوا من الموت، وبعض منظمات المجتمع المدني. قلت لأمي، على خلفية نقاش طويل عن الحب والحياة، مصائر البشر، عن الموت والجمال، أيضا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد مررت إليها عدة تلميحات عن علاقتها بالجندي، وبدا لي أنها تعاملت مع تلميحاتي بتسامح لم أعتده منها، مما شجعني على خطوة أكبر: أنا أدعوك الليلة للعشاء في سوق نمرة اتنين ومعانا الأستاذ!
سألت مندهشة: منو الأستاذ؟!
قلت لها وأنا أنظر بزاويتي عيني في أم وجهها: الأستاذ الروائي.
لم أعرف أن أمي بهذا القدر من الخجل، إلا عندما عضتني في كفي، وقرصتني بشدة في خدي مثل طفلة شقية تلعب لدميتها لعبة خشنة، وكنت أحس بها تريد أن تحتضنني وتبكي، لكن أمي لا تبكي، على الأقل لم أعتد أن أرى دموعها، لكنها حولت طاقة البكاء إلى ضحكات مجلجلات. أنا التي بكيت، بكيت بقدر ما ضحكت هي.
أمي ارتدت بنطالها الجميل الأزرق، ارتديت بنطالي الجميل الأزرق. أمي تحب قمصان القطن البيضاء الخفيفة غالية الثمن. لبست بلوزة قصيرة بيضاء. لأن أمي قصيرة بعض الشيء؛ فإنها تختار حذاءها ذا الكعب العالي الذي لديها منه الكثير المثير. الحذاء الرياضي
sport
هو الأنسب لي، يظهرني عملية، أكثر شبابا، أخف وزنا، ويريحني في سير المشاوير الطويلة. أمي تحب المشي أيضا. بقيت كثيرا أمام المرآة ... أخفت بعضا من توقيعات محن الأيام بوجهها. تستطيع أمي أن تجعل عينيها أكثر اتساعا بل ضعف حجمهما الحقيقي عندما تحيطهما بقدر زائد من الكحل في زوايا تحددها بدقة. أنا تعلمت منها فن وضع الكحل ولو أن مقلتي خلقتا جميلتين، تماما مثل عينيها. ساعدتني في تصفيف شعري، كما تفعل منذ أن نبت لي شعر في رأسي، فهي لا تثق في إمكاناتي في تصفيف شعري، دائما ما تتهمني بالعجلة والإهمال، وأنني أتعامل مع شعري كما أتعامل مع حذائي، ودائما ما تلومني على التدهور الذي أصابه نتيجة لذلك. لكن الأغرب في الموضوع أنها لا تؤمن بغير طريقة واحدة لتصفيفه، طريقة جعلتني أبدو في هيئة واحدة
LOOK
منذ ميلادي إلى اليوم: خصلتان كبيرتان طويلتان تنحدران إلى نهاية العنق. تقول أمي: إنهما في الماضي كانتا تصلان إلى منتصف ظهري، لولا أنني تمردت عليها مرتين وذهبت للكوافير مع صديقاتي: يوم تخرجي من الجامعة، ويوم ميلادي العشرين.
عطرتني ... أبدت ملحوظة غامضة حول شفتي، قالت: إنني يجب أن أتزوج بأسرع ما يمكن، إنها تريد أن ترى أحفادها قبل أن تموت. ذكر الموت هنا وهي في كامل زينتها، سابحة في عطر برادا
Página desconocida
BRADA
المحبب لديها، المقصود منه إثارة الشفقة والتخويف، قد يعني أيضا أنها تريد أن تتزوج، وعزوفي عن الزواج هو عقبتها الكأداء، من يدري؟
روح الخشب
أخذت حكمة رابح تستعرض علينا بصورة دراماتيكية، المعلومات التي تحصلت عليها - في الحقيقة شاركنا جميعا في الحصول عليها - عن الميثانول. ابتدرت العرض بمقدمة طويلة مرحة، لا أظننا نحتاج لكتابتها هنا؛ لسبب واحد هو أن مقدمتها تطرقت لما اعتبرناه هدفا إستراتيجيا لا يمكن الإفصاح عنه. لذا، سنبدأ من هذه الجملة، وعذرا لبترها: ... ثم استطاع العالم روبرت بويل بعد تجارب كثيرة فاشلة عزل الميثانول النقي عن طريق التقطير الإتلافي للخشب؛ أي حرق الخشب، وتقطيره بمعزل عن الهواء، وذلك في عام 1661، أطلق عليه روح الخشب. في الحقيقة لم يكن هو المقطر الأول للكحول، فقد سبقه العلماء العرب بسنوات كثيرة، ذكر الرازي تلك المسألة في كتاب «الأسرار». الميثانول مثل رصيفه الأثينول «العرق» ينتميان إلى فصيلة «الكحول» - وهي كلمة عربية الأصل نقلها عالم سويسري للغات الأخرى بذات أصلها - في عام 1834 تم تكوينه كعنصر كيميائي وأخذ يعرف باسم الميثلين، ثم عرف باسم الميثيل، ذلك في سنة 1840 ولم يعرف باسم الميثانول إلا في 1892، أقيم أول مصنع لإنتاج الميثانول في 1923 في ألمانيا. «سنتجنب أيضا فقرتين طويلتين عن أسماء المصانع التي شيدت بعد ذلك والترتيب الزمني لها، وأيضا سنغض الطرف عن عشرين اسما لعلماء طوروا صناعات خاصة بالميثانول والأثينول؛ لأسباب غير فنية ولكنها خاصة بموضوع الرواية.»
نتيجة لقدراته الكبيرة في التفاعل مع العناصر الكيميائية، يعد الميثانول أحد العناصر المكونة للكثير من المركبات الكيميائية والمنتجات ذات الاستخدام اليومي، ويمكن استخدامه لأغراض كثيرة، بما في ذلك الصناعية، مثل:
صناعة اللدائن.
صناعة الأسبرين.
صناعة الألياف.
صناعة السليكون.
صناعة مطاط اليوتيل.
Página desconocida
المبيدات الحشرية.
دباغة الجلود.
الصناعات البتروكميائية.
إنتاج ألياف البولي استر.
صناعة علب الأغذية والمشروبات وغيرها.
ويستخدم الميثانول في كثير من دول العالم الأكثر فقرا في غش الخمور؛ حيث إنه أرخص بكثير من الأثينول. له تاريخ طويل من القتل والتسبب في حالات العمى، تليف الكبد، إتلاف خلايا الجسم، التهاب البنكرياس، وغير ذلك من كوارث بشرية مؤلمة.
أما صنوه الأثينول فيدخل في صناعة الخمور المتنوعة. ويستخدم كوقود حيوي، قد يحل محل البترول على خلفية ارتفاع أسعار النفط، على الرغم من أن له آثارا سالبة على البيئة لا تقل عن الوقود الأحفوري، بل قد تكون أكثر ضررا؛ نسبة لسهولة امتصاصه في التربة ومزجه بالهواء، وسهولة تفاعله مع عناصر كيميائية وعضوية أخرى.
لكن المعلومة الأكثر إثارة هي التي تحصلنا عليها من العم «قوقل». فقد كتب صحفي ساخر نفضل عدم ذكر اسمه: في 11 يونيو 2009 افتتح مصنع لكحول الأثينول «العرقي البكر» وهو أول مصنع لإنتاج الأثينول بأفريقيا، بالتالي الأكبر حجما. أنشئ بخبرات برازيلية لها باع طويل في تقطير الخمور. وتشجيعا لهذه الصناعة المباركة تم إعفاؤها من الرسوم الجمركية، كل أنواع الضرائب، الزكاة والعشور. ينتج مصنع كنانة 65 مليون لتر سنويا وطاقته القصوى تعادل 200 مليون لتر في العام، بذلك يعد السودان أكبر الدول المنتجة للأثينول الذي يتم تصنيعه من مخلفات قصب السكر والمنتجات المصاحبة لإنتاج السكر مثل المولاص، في مصنع كنانة العملاق ... ينافس بذلك دولة البرازيل صاحبة أكبر مخزون منه في العالم. يغزو الأثينول السوداني اليوم السوق الأوروبية المشتركة ، يفضل الأوروبيون إنتاجه في دول أفريقية بائسة فقيرة؛ نسبة للمشاكل البيئية والاقتصادية المصاحبة لإنتاجه، فيستهلك إنتاجه 7٪ من الحبوب الخشنة في العالم، و9٪ من الزيوت النباتية عالميا، 2٪ من الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل، وتعده منظمات عالمية من المنتجات التي تهدد بصنع ندرة غذائية في العالم، بالتالي يطلقون عليه المنتج الإجرامي. السوق الأوروبية المشتركة أكبر المستوردين للأثينول السوداني.
لا بأس أن نسهم كسودانيين في «تظبيط» الأمزجة الخواجاتية الراقية، ونعمل بصورة فاعلة في تنشيط الأخيلة وهياج حالات العشق الأوروبي الرزين الأكثر فسقا وجمالا أيضا. ولا أظننا سنخسر شيئا إذا زدنا من حوادث السير والجرائم الخفيفة التي يفتعلها السكارى العاديون بنسبة ضئيلة لا تكاد تحسب. قد يلهم خندريسنا الطيب شعراء مغمورين في تأليف قصائد عظيمة، لا تقل جمالا عن «الأرض اليباب» أو «أوراق العشب» أو كتابة روايات في عظمة «أطفال منتصف الليل». كما أن هذا الخندريس الطيب سيزيد الصادر السوداني بنسبة 10٪ بذلك يتحسن الميزان التجاري الوطني ... خاصة أن الموازنة السودانية العامة قد فقدت 90٪ من مواردها بانفصال الجنوب ببتروله وموارده الغابية، وهما البقرتان الحلوبتان اللتان أرضعتا البلاد التي تعاني من سوء تغذية منذ الاستقلال إلى أعوام كثيرة قادمة بإذن الله. (هنا سنضطر إلى حذف بعض الأرقام وجداول الكميات التي توضح كمية الصادر السوداني من الأثينول للسوق الأوروبية المشتركة، كما أننا سوف لا نتطرق للمسائل الاقتصادية البحتة، مثل: الميزان التجاري، التحويلات الائتمانية والنمو الاقتصادي الخاص بمسألة التبادل التجاري المحدد مع السوق الأوروبية المشتركة، يمكن الحصول على ذلك عن طريق معامل البحث «قوقل».)
أمي ذكرتني بأمر مهم. وهو أن صناعة الأثينول في السودان تجذرت عميقا في المجتمع السوداني، لكنها بدأت بقدماء النوبة الذين يستخدمونه في شكله الخام في التحنيط، العلاج والنظافة، وذلك قبل آلاف السنين. ثم دخل مرة أخرى كخمور أكثر نقاء عند اتفاقية البغض - البغط - التجارية، التي وقعت ما بين جدودنا النوبة والعرب المسلمين، الذين جاءوا بقيادة عبد الله بن أبي السرح، في محاولتين فاشلتين لاحتلال بلاد النوبة الغنية بالذهب والعاج؛ حيث إنه من بنود الاتفاقية أن يقدم العرب المسلمون إلى النوبة الوثنيين قدرا كبيرا من الخندريس «الأثينول» وقناطير مقنطرة من العدس والتوابل سنويا، مقابل بعض ما تنتجه بلاد النوبة من خيرات. ولم ينقطع تصنيع الأثينول بعد ذلك محليا، فالنساء العربيات المهاجرات لأرض السودان بحثا عن المراعي وهربا من الجفاف، كن الفداديات الأوائل؛ حيث إن آلاف اللترات تصنع يوميا عن طريق حفيداتهن الوريثات الحديثات للتقطير، وهن صانعات: عرق البلح، العيش، الجنزبيل، الجوافة والمولاص. والعرق كما يعرفه الجميع عبارة عن الأثينول مضافا إليه الميثانول. الفداديات الخبيرات يستطعن أن يفصلن بين الاثنين، وذلك في مراحل التقطير المختلفة؛ حيث يطلقن على الأثينول النقي الأكثر قيمة اسم: العرق البكر، السكوسكو، أو السيكو، تيمنا بتلك الساعة السويسرية الجميلة الأنيقة الدقيقة، وهو ينتج أولا عندما تصل درجة حرارة المادة موضوع التقطير 73، ثم بعد ذلك ينتج العرق التني؛ وهو الميثانول والأثينول مختلطان معا، مع كثير من الشوائب والغازات بعضها سام جدا.
Página desconocida
حكت لي والدتي قصة غريبة وقعت بين قاض وشرطيين ومقطرة أثينول بلدي؛ حيث قبض على امرأة ذات حملة شرطية ضد المشروب الأكثر جماهيرية لدى الندماء في السودان، وجد عندها الشرطيون النبهاء الأتقياء الناهون عن مثل هذه المنكرات والآمرون بالمعروف، زجاجتين من العرق السيكو؛ أي الأثينول النقي. قدمت للمحكمة، معها المعروض من الخندريس. كانت الفدادية من الذكاء بحيث إنها تبينت أن لون العرق المعروض أمام القاضي مختلف عما هو في الواقع، وظنت أن ما يعرض الآن أمامها ليس هو العرق السيكو الذي أنتجته بيدها الماهرتين وبخبرة عشرين عاما، وقبل أن ينطق القاضي المتعجل بالحكم قالت له: ممكن كلمة يا مولانا؟
قال لها من خلف نظارته السميكة، وقد ترك العبث بالقلم في الأوراق الداكنة اللون: تفضلي يا ميمونة، إذا كان عندك كلام، قوليه. قالت له وهي تشير إلى قارورتي العرق اللتين تقبعان في ركن قصي من المحكمة: العرقي ده ما حقي.
فانتهرها الشرطي الشاهد ومحرر البلاغ بأن هنالك خمسة شهود آخرين سوف يحلفون قسما على المصحف: ورقة ورقة وآية آية، على أن هذا العرق قد تم ضبطه في بيتها وبحضورهم شخصيا وحضورها هي ... شهاداتهم مسجلة، قرأها القاضي. قالت له بعدما انتهى من تلاواته: أنا اسمي ميمونة سكوسكو يا مولانا! وخوفا على سمعتي يا مولانا واسمي؛ ما بعمل عرقي زي ده بدون مؤاخذة يا مولانا.
مشيرة إلى القارورتين الحزينتين القابعتين في ركن قصي من المحكمة تنتظران تنفيذ الحكم الرادع عليهما وعلى سيدتهما.
قال لها مولانا بحكمة، وهو يعطيها انتباه عدالته كله: ما فاهم، ممكن تشرحي أكتر؟
قالت له، وهي ترمي ساعديها المثقلين بالذهب الفالصو في الهواء. فيصدران شخشخة خشنة مثل كشيش جرس صدئ: العرقي الأنا بعمله يا مولانا. إذا كشحته ما بيصل الواطا بيتبخر في الهواء قبل ما يصل الأرض، وإذا أشعلت فيه قشة كبريت يولع زي السبيرتو والعالم كله عارف الكلام ده، وجربه يا مولانا. أنا العرقي بتاعي يا مولانا يولع الرتينة.
وأمر القاضي الشرطي باختبار العرق، لم يتبخر لم يشتعل، لم تكن به رائحة العرق المتميزة، بل كان ماء نقيا طهورا حلالا، صالحا للشرب الإنساني، لا مذاق، لا لون، لا رائحة، لدرجة أن القاضي بلع منه بقة كبيرة استقرت في معدة جلالته بكل سلام وبركة، فقام حضرته بشطب البلاغ ضدها على الفور، وطالب بتحرير آخر في حق الشرطيين اللذين قبضا عليها، بتهمة تزييف الأدلة، وهو يقصد بينه وبين نفسه: تهمة شرب العرق، وهي تهمة يصعب على الادعاء إثباتها ويستحيل على المتهمين الشرطيين نفيها!
الفقيه المتشرد
أمي تحبني أو هذا هو خيارها الوحيد، فليس لدي إخوة أصغر أو أكبر يقاسمونني حبها، كنا أنا وهي فقط في هذه الحياة. أنا أيضا أحبها، هذا لا يمنع الشجار اليومي الذي يجري بيننا واختلاف وجهات النظر في أشياء جوهرية ومهمة. مشكلة أمي لا تتحمل السرعة التي أغير بها رأيي في القرارات التي قد أكون اتخذتها بكامل وعيي وإرادتي. والشيء الآخر هو أن أمي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة تخصني بل الأشياء التي تخصني وحدي، كتصفيف شعري أو فرده، تعاملني كطفلة غير راشدة، هذا هو السبب المباشر الذي يوتر العلاقة بيننا . قد كنت أصر على أن يبقى بقا الليلة في البيت، أن يبيت بالديوان، وجهة نظرها ألا يبقى رجل مع سيدتين لا تربطه بهما وشائج شرعية: يقولوا الناس علينا شنو؟ - أنا يا أمي لا أهتم بما يقول الناس.
ترد مستخدمة طريقتي نفسها، مع التأكيد على كلمتي أهتم والناس، ربما نطقتهما مستخدمة أسنانها: لكني يا سلوى، أنا أهتم بما يقول الناس.
Página desconocida
قلت لها همسا: نحن ماشين نشوف المتشردين في الحديقة، وحنجي وننوم هنا في البيت، والبيت ده بيتك زي ما هو بيتي وبيت أبوي.
قالت بكل برود، بذات درجة الصوت الهامس في أذني، وهي تقبض على رأسي بشدة كأنما لو أنها أطلقتني سأهرب قبل أن تكمل جملتها: أبوك لو كان عارف بنته بتطلع زيك قليلة أدب كان «قتلك»، قتلك قبل ما يموت.
قلت لها، قد ملئت غيظا: كويس، أنت ليه ما قتلتيني؟!
قالت وهي تحملق في عيني: أنا لا أقتل الذباب والحشرات.
لحسن الحظ عبد الباقي لم يكن قريبا ليسمع شتائمنا، كان بالديوان وكنت وأمي بالمطبخ، عندما تصل أمي لهذه المرحلة من إطلاق الشتائم أفضل الانسحاب؛ لأنني لا أستطيع أن أحمي نفسي من أسلحتها الشريرة التي تبدأ بالقذف بآنية المنزل، لا يعلم غير الله ما يكون آخرها!
خرجنا - أنا وبقا - استقللنا المواصلات العامة من بحري المحطة الوسطى إلى ميدان الشهداء، إلى الحديقة. عبرنا أمام بيت جدنا الخليفة عبد الله التعايشي، لم تكن لدينا - الاثنين - رغبة في ممارسة الجنس، ولو أن كلينا نظر إلى البيت الأثري الجميل في تشه، كان يشغل جسدينا وروحينا الأطفال والمتشردون المعرضون للتصفية. حيانا الرسميون الذين يحرسون بوابة بيت الخليفة. قد تكون القطط سعيدة الآن في حجرتنا، قد تتوسد مخداتنا ولحافنا اللذيذ. كانت الحديقة المهجورة صامتة كعادتها، دخلناها بحيث لا يرانا أحد، خاصة رجال الشرطة. لم نجد الأطفال الآخرين. شممنا رائحة الجثة المتعفنة منذ ولوجنا حوش الحديقة، عندها أصررنا على الدخول سريعا. كانت الرائحة تجذبنا للداخل على الرغم من أنها لا تطاق. وجدنا جثتين لطفلين آخرين متعفنتين ، في الحجرة شبه المظلمة، تحرسهما جيوش من الذباب والجرذان، كان طنين الذباب مرعبا. ونحن نتعمق في الحجرة المهجورة وجدنا آخر يحتضر يطلب الماء، بين حين وآخر يردد في صوت حزين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
صلى الله عليه وسلم . يرتل سورة من القرآن لم نتبينها، لكننا كنا متأكدين أنه يقرأ سورة ما. يطلب جرعة ماء، ثم يردد الشهادة مرة أخرى. كان شبه مشلول ... شبه ميت ... شبه نبي ... شبه إنسان!
بغير أي تحفظ، في لحظة واحدة حملناه خارج المكان، أنا من جهة الرأس، باقي من جهة الساقين. كان ثقيلا، طويلا كث الشعر، باردا وثرثارا مثل ببغاء. أحضرنا له ماء، رفع رأسه، نظر إلينا، قال بصوت متحشرج: عايز آكل، أنا جيعان حاموت من الجوع.
أصابتنا الحيرة البالغة في أسلوب التعامل مع حالته، كان الخوف هو السيد الأساسي والوحيد للموقف. العفنة تطل علينا بعنقها القذر من داخل الحجرات، شبح الجثث يطاردني ... يرتسم في كل شيء أنظر إليه. كانت عيونهم البارزة للخارج تحملق في طوال الوقت ... أصبت بحالة من الغثيان. المتشرد الطويل يثرثر في همس غير منقطع، يقرأ ما يمكن أن نطلق عليه كلاما مقدسا ... وهو يحتضر في صورة دراماتيكية. يرجونا بإصرار إنساني ومحبة في البقاء عنيفة، أن ننقذه! نخاف أيضا على أنفسنا من السجن والمساءلة؛ حيث بالإمكان أن تلفق في حقنا أي من التهم ذات المعيار الثقيل. كنا كما هو واضح ومعروف أننا نخشى من فرقة الموت. لم نرهم ... لم نحتك بهم، لكنهم كانوا دائما ما يفيخون في وعينا ويشعلون عشب المخالفات في ذواتنا ... نتخيلهم يطوفون حولنا مثل فريق من الشياطين. إنهم دائما موجودون في مكان ما في الوعي أو خارجه. إذا كان لدينا المال لكان تصرفنا مختلفا، فالمال - كما يقولون - نوع من التفكير. كنا في قارعة الطريق ويسهل القبض علينا؛ لأن الجثة التي لا تكف عن الثرثرة ترقد ممددة على الأرض في وضع شاذ ومفضوح. قمنا بتغطيتها بجوال فارغ من الخيش عثر عليه عبد الباقي في المكان . قبل يومين أقام بعض السياسيين الرحماء مأتما للعزاء في بيت كبير وثري، تحدثوا فيه عن المتشردين بحب وعاطفة جياشة. قد بكى البعض على الظلم الذي حاق بهم وحقهم المسلوب في الحياة الكريمة. كنا هناك، تعرفنا برجل ذي مال وعاطفة، رجل شحيم بدين نظيف، تفوح من جوانبه فابريقات كرستيان ديور، قال لي إنه سيقدم لنا كل ما يستطيع من مساعدة طالما كنا نخدم المتشردين طواعية: أنا مهتم شديد بموضوعهم، لا بد من تصحيح وضع المتشردين في السودان.
قمت بالاتصال به عبر جواله، جاء صوته هادئا منسابا رقيقا من الجانب الآخر، بلغني شوقه في كلمات عشر ثقيلة، وأنه سأل عني كثيرا، وفي باله محاولة مبيتة للاتصال بي ودعوتي لوجبة في مكان سوف أختاره بنفسي. لم يسألني لم اتصلت به، ولم يعطني فرصة لقول ما أريد قوله، إلى أن نفد رصيدي القليل جدا من الدفع المقدم وانتهت المكالمة إجباريا. لكنه اتصل بي مرة أخرى سريعا قائلا: إنه سيدخل في اجتماع بعد قليل مع مسئول كبير، سينتهز الفرصة ويناقش معه موضوع المتشردين، سيتصل بي لاحقا، ربما بعد الاجتماع مباشرة: تسلمي يا ستي، باي باي!
Página desconocida
أخذ منا سائق التاكسي كل ما لدينا من نقود، وهي ليست كثيرة. أمي كانت أكثرنا حركة وقلقا على صحة المتشرد المريض، واتبعت معه طريقة للإطعام تقول: إنها الوحيدة التي تنفع مع شخص لم يتذوق الطعام منذ أيام. كل ما يعاني منه كان ألما في المعدة حادا ... أعطيناه جرعة كبيرة لا نعلم مقدارها العلمي من الفلاجيل، وهو الدواء الذي نتناوله في البيت لكل الأمراض التي تصيبنا في الأحشاء؛ حيث إننا لا نستطيع أن نفرق ما بين ألم المعدة، ألم المصران، والمغص الكلوي. صنعت له أمي كوبا كبيرا أيضا من الحلبة. سألناه ما إذا كان يشعر بصداع؟ قال: إنه يريد أن يأكل لا أكثر. التهم كل ما يستطيع بلعه مثل تمساح بشري. أعطته أمي إحدى جلابيب أبي، بعد أن استحم جيدا. رمينا بلباسه، بنطاله وفانلته الداخلية الممزقة التي تفوح منها رائحة نتنة بعيدا ... تم استبدال كل شيء. كان شابا وسيما نحيفا تبدو على وجهه بعض التقرحات بفعل المرض أو الشجار اليومي ... عيناه ضيقتان محمرتان ... كان يبتسم بصورة متواصلة حتى ظننا أنه أبله. قال إنه لم يتناول الأسبرت أو أيا من المخدرات في حياته، ليس حتى التمباك والسجائر. وقال إن والده أودعه خلوة في ضواحي كردفان، وأنه هرب منها وعمل مساعدا في شاحنة لوري إلى أن وصل أخيرا إلى مدينة أم درمان، التي كان يعلم أن بها أحد أقاربه. بحث عنه ولم يجده؛ لأنه كان يظن أن ذلك سهل، فأم درمان في مخيلته لم تكن سوى قرية كبيرة. وهكذا بات يومها في الطرقات ثم يومين ... إلى أن أصبح بلا نقود. ثم تعرف على أطفال ورجال وبنات الشوارع، ثم صار واحدا منهم. هو الآن زعيم لكل المجموعة التي تقيم حول موقف الشهداء وعمارة المتشردين، قد حصل على شهرة عظيمة في المعركة التي دارت بين مشردي سوق أم درمان ومشردي الشهداء؛ حيث كان أول من استخدم النبلة في مثل تلك المعارك. يسمونه: «الفكي»؛ لأنه كان الوحيد بين كل المتشردين الذي يحفظ بعض سور القرآن ويعرف كيف يتوضأ، ولو أنه لم يتوضأ أو يصلي في حياته كلها. كان يصنع التمائم والأحجبة لأصحابه، ويعرف كيف يلقن الشهادة للمحتضرين منهم؛ حتى يموتوا على ذمة الإسلام ويدخلوا الجنة. كانت بساقه اليسرى علامة لجرح كبير ... بل قطع بسكين أو آلة حادة، تجنب الخوض فيما هو وراء ذلك الأثر.
في الحقيقة أنا لست خالية ذهن تماما عن ماهية هذا الفقيه المتشرد، فعملي في مجال المتشردين جعلني أعرف الكثيرين منهم شخصيا وأسمع عمن لم ألتق بهم، وخاصة إذا كانوا ذوي سمعة متميزة وخطرة مثل هذا الفقيه المزيف، الذي يرقد في ديواننا الآن بعد أن نجا بحياته وألف قصة روت كيفية وصوله إلى أم درمان طازجة قبل قليل. ربما تكون هي قصة متشرد حقيقية رواها له في يوم ما. هذا الذي يعرف بالفكي أخطر متشرد مر بمدينة أم درمان، مغتصب، سارق، كاذب، قاتل ، وعلى ذلك كله يمارس الدجل والشعوذة. كان بقا أيضا قد تبين أننا قد أنقذنا حياة متشرد كبير، زعيم لا يشق له غبار، رجل صال وجال في شوارع المدن الثلاث. الشيء المحير فعلا هو أن متشردا بكل تلك السمعة لم لم يحاول أن يغير من واقعه شيئا، وكيف حاصره الموت في ذلك المكان المهجور العفن؟! إذن، هل صحيح ما قاله إنهم كانوا يقصدونه هو بالذات: ليشنو (لماذا)؟
لأي مدى يمكن الاستفادة منه في مشروع التحري؟ عندما مشي على قدميه، بعد أسبوع بأكمله حيث لاحظنا أنه يمشي بعرج طفيف نتيجة لقصر في رجله اليسرى. لاحظنا أيضا أنه أطول بقليل مما رأيناه في بادئ الأمر وأكثر نحافة، بجسده ندب صغير، جروح متعددة مبعثرة في وجهه وكتفيه. لكنه تحدث بفصاحة قبل أن يتمكن من المشي بأيام كثيرات، أقصد منذ اليوم الأول؛ حيث إنه استطاع أن يثرثر ببراعة مع أمي، وباءت محاولاته بالفشل في إقناعها بأنها مريضة نتيجة عمل شرير فعل بها، وأنه «فكي» عالج ويعالج المرضى عن طريق القرآن، ورتل عليها سورة يس من ذاكرته. أمي، أنا وبقا كنا نعرف أنه إنما يريد أن يقدم شيئا لنا ولأمي بالذات مقابل رعايتها المتفردة له ... لم ينج أيضا من تهمة التكسب. أمي تفعل كل شيء بحب، تقول: إنها لا تقوم بعمل أي شيء ما لم تشعر بالحب.
تمشى قليلا، احتسى قهوة طيبة صنعتها له أمي. قال وهو يضغط بكف يده اليسرى، على عنقه النحيف الذي تغطيه شعيرات الذقن الكثة، إنه يريد أن يقول لنا الحقيقة وراء حياته. لقد كذب علينا في بادئ الأمر، وحكى لنا حكايات سمعها من بعضهم، وهي الحكايات الرسمية وراء كل متشرد، يحكونها للشرطيين وللقضاة إذا مثلوا أمامهم في محكمة، للباحثين الاجتماعيين وموظفي المنظمات العاملة في المجال. - أنا بخاف من الناس، لكن أنتو ناس طيبين أنقذتوا حياتي.
أنجبته أمه على مسطبة خلف مباني السينما الوطنية بالخرطوم بحري قبل ما لا يقل عن ثمانية وعشرين عاما - وهذا بالتخمين - بعد انتهاء العرض السينمائي بقليل، قبل أن يغادر رواد السينما شارع السيد علي الميرغني. لقد شهد ميلاده مئات الأفراد ... كان ميلادا طليقا وحرا، على الهواء مباشرة، تماما مثل ميلاد الحملان! تبرع ممرض رحيم - كان قد صحب حبيبته الجميلة للسينما عرض في هذا اليوم - بقطع حبل السرة والتخلص من الملحقات المصاحبة للولادة. أرضعتني أمي في الفور، هكذا كانت تقول له دائما: أنت مولود جيعان! حتى آخر مرة رآها فيها، كانت تكرر له الجملة نفسها، وسيظل جائعا طوال عمره؛ لأن كلبا ضالا قد أكل المشيمة خاصته ... خطفها من قرب أمه الدائخة التي كانت تنوي أن تقوم بدفنها عند باب السينما متى ما أفاقت من خدر الولادة. على الرغم من أنه كان أول المواليد، إلا أن أمه في ذلك الوقت عمرها اثنا عشر أو ثلاثة عشر عاما، لكنه يصر على أن عمرها كان ثماني سنوات أو أقل. دكتورة مريم أكدت لنا أن ذلك مستحيل لأسباب علمية؛ حيث إن الرحم لا يكون قد اكتمل عند الثامنة. الشيء الآخر والأهم هو: من عرفه أن أمه كانت في الثامنة؟ كيف عرفت أنها في الثامنة؟ لقد شاهد بأم عينيه طفلات صغيرات في أقل من الثامنة من عمرهن يمارسن الجنس في الأوكار ومجاري مياه الخريف باستمتاع، بل يمتهن الدعارة ويكسبن منها الكثير، وإنهن يحبلن ويلدن ويرضعن أطفالهن! هو نفسه قد مارس الجنس مع بعضهن، ليلا ونهارا، في الأجحار والأوكار وقارعة الأزقة الخالية من المارة في منتصف الليالي المظلمة، أينما اتفق وصادف أن اختلى بواحدة منهن. لقد حكى لنا فيما بعد أن أمه ذاتها ولدت في أحد شوارع أم درمان من أم طفلة، أنجبتها ثم ماتت مباشرة بعد ميلادها ... وهذا قضاء وقدر لا أكثر. إذن، من عرفها بتاريخ ميلادها؟ ولو أن هذا المنطق أيضا يمكن الرد عليه وتفنيده بكل بسهولة. تربى في كل الشوارع بدون فرز. يعرف كل الأمكنة بالعاصمة ذات المدن الثلاث بأسمائها، يحفظ تاريخ كل مبنى، حديقة، حفرة، وكوشة، بل يستطيع أن يقول: إن أول مالك عربة في الشارع الفلاني كان اسمه فلان الفلاني! هذا الرجل النحيل الطويل ذاكرة للمكان لا يستهان بها. ثم حدثنا قائلا: أنا أول زول باع الأسبرت في الخرطوم للشباب. وحياتي ما شربته ... قلبي أباه كلو كلو (نهائيا) ريحتو بتعمل لي طمام. أنا لا أدخن ولا بشم ولا بسكر بس لو ربنا هداني من الشغل داك! تاني ما عندي مشكلة.
سألته مستفسرة: الشغل داك شنو؟
قال دون إحراج وهو يبتسم وينظر إلي في وقاحة: اللقو!
واللقوية هي كل ما يمكن أن يمارس معه الجنس وتطلق على المذكر والمؤنث ... على امرأة، رجل، أو حيوان. وهي مفردة شائعة في لغة المتشردين المسماة بالرندوك. ويستخدمها أيضا أنصاف المتشردين وبعض العاملين في الأسواق والمهن الهامشية، ونحن الناشطين مع المتشردين.
قال إنه حفظ كل الذي حفظه من القرآن من صلاة الجمعة وبعض القراء العرضيين الذين يوجدون هنا وهنالك، يقرءون القرآن وينتظرون الناس أن يضعوا في مواعين فارغة أمامهم بعض المال، مال يتراكم يوما بيوم إلى أن يصبح في يد البعض ثروة طائلة: في واحد بنى بيتا وعنده عشرين ركشة!
كان بإمكانه أن يصير شحاذا من تلك الفئة القرآنية التي تثري بسرعة، إلا أنه لا يمكنه أن يكون طاهرا طوال الوقت، والقرآن يحتاج لطهارة. اعترف فيما بعد أنه عمل في مهنة شحاذ قارئ للقرآن لما يقارب الشهرين على أسوار الجامع الكبير بالخرطوم، لكنه أصيب باللعنة وبدأ جسده يصدر رائحة أشبه ببول الكلب، كبر القمل برأسه حتى أصبح في حجم الصراصير، قد بصق في مرات كثيرة ديدان كبيرة في حجم الأصبع من فمه، وأقسم أن ثعبانا حيا خرج من دبره. عرف أن ذلك حدث له؛ لأنه كان يتلو القرآن في نجاسة، وهو لا يستطيع أن يتحكم في أمر نجاسته؛ لأنه لا يستطيع التحكم في ممارساته الجنسية الضالة. في اعترافه المشين للسمعة الإنسانية، قال: إنه يمارس الجنس مع كل الأنواع، نساء ورجالا، أطفالا وطفلات وبعض الحيوانات الأليفة مثل الكلاب والمواشي، قد لخص عبد الباقي ذلك قائلا: مع كل ذي دبر!
Página desconocida