11 - ونزل في حارتنا غلام أمرد تأخذه العين، وكنت أسلم عليه إذا اجتزت به، كما أفعل هذا بغيره من جيرتي. فانصرفت يوما إلى منزلي فوجدته قائما على بابه، فدفع إلي رقعة يذكر فيها أنه عباسي من ولد المأمون، ويسألني فيها بره. ودخل من كان معي بدخولي، فقضيت شغلي بالجماعة حتى انصرفوا، ووضعت المائدة بيني وبين العباسي فأكلنا، وهو يتأملني فلا يجد في شيئا قدره. فلما غسل يده، دفعت إليه ثلاثة دنانير، واعتذرت إليه من تقصيري في حقه، وانصرف وقد رأيت تبجيلي في حماليق عينيه.
فلما كان بعد ذلك بسنيات -وأنا في ضياع تقبلت بها ولي فيها غلة بمال جسيم، فخفت أن أدخل الفسطاط فتخرب الضياع وتتعطل عمارتها، فكنت أكمن نهارا في بعض منازل الفلاحين، وأظهر ليلا فأعقد منها ما تهيأ لي عقده. فإني لكامن في يوم من الأيام حتى سمعت رجة شديدة، فدخل إلي بعض غلماني. فقال: ((دخل أصحاب دميانة الضيعة، وعملوا على نقل الغلات!))، وأيقنت بتلف أكثر ما أملكه، ثم سكنت أصواتهم.
ودخل إلي غلام لي فقال لي: ((يا مولاي! كانت هذه الضياع قد أشفت على نقل ما فيها، حتى نظر إلي العباسي الذي كان في جوارنا، فقال لي: ((ألست غلام أحمد بن يوسف؟)) قلت: ((نعم!)) قال: ((فهذه ضياعه؟))، قلت: ((نعم!)) فصاح بالجماعة التي دخلت من أصحاب دميانة: ((اخرجوا بأسركم عنها))، فخرجوا. ثم قال لي: ((قل لمولاك: يا سيدي! محلي عند الأمير دميانة محل الأخ، فاظهر واركب إليه، فقد آمنك الله على نفسك ومالك)). فسألت الغلام: ((ما كان زيه؟)) قال: ((كان عليه كساء صوف مما ينام فيه؛ وتحته خفتان)).
فأحضرت بعض مشايخ الضيعة، وحملت معه إليه دراعة خز كحلية، ومطرف خز، وخمسين دينارا، وسألته أن يقبل ما يحتاج إليه من ناحيتي. #23# فقبل الدراعة الخز، ورد المطرف والدنانير، وقال لرسولي: ((والله للثلاثة الدنانير -التي وهبها لي لشرفي لا لشيء مما ظننته به- أحسن موقعا عندي مما رددته إليه، فكثر الله في الناس مثله!)).
فلم يزل عضدا لي وسترا علي، حتى انصرف دميانة عن الناحية.
Página 21