مقدمة
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية
الفكر العربي ولغز النهضة
مصر .. الغياب الطويل ومحاولة البحث في الجذور
المراجع
مقدمة
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية
الفكر العربي ولغز النهضة
مصر .. الغياب الطويل ومحاولة البحث في الجذور
المراجع
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح
رؤية نقدية للفكر العربي
تأليف
شوقي جلال
المجتمع الذي لا يعرف صورة وطريقا لمستقبله يصبح مصيره مجهولا، وأمره ليس بيده.
التخلف في جوهره تعطل قوى الفعل الإنتاجي الإبداعي للوجود - ومن ثم جمود الفكر بل تراجعه - والتقدم إبداع متجدد لفعل الوجود والفكر.
مقدمة
مواطنون لا رعايا
على الرغم من أن العالم انتقل منذ بضعة قرون إلى عصر الصناعة، ثم المعلوماتية أو مجتمع المعرفة، فنحن لا نزال ومنذ قرون نعيش في إطار واقع وثقافة مجتمع الرعي والزراعة، وإن تغير ظاهر الزي وزخرف البناء، الحاكم راع والمحكومون رعية، والانتماء ولاء لشيخ القبيلة أو سيد الأرض، ورعايته وصاية، و«الطاعة لحاكم ظالم خير من فتنة» أي خير من الخروج على الجماعة التي يجسدها الحاكم الملك أو الرئيس؛ إذ له الحمد والتسبيح على المنابر وعبر مختلف وسائل الإعلام، والولاء والطاعة كبرى الفضائل، وهما خصوصية الفرد الصالح ولا أقول المواطن، والتحاور مع الراعي جرأة وتطاول وعيب في ذات معصومة مصونة، إنه الأب، وهو الكلمة - القانون -، نظرة منه كافية لأن ترفع الرعية عاليا أو تلقي بها إلى الهاوية، ولا عاصم للمرء من قانون أو وثيقة حقوق، وهكذا المجتمع أو العصر الأبوي البطريركي؛ الأب هو الرأس، هو الواحد الكل، ودونه سلم تراتبي هرمي، وكل هذا على نقيض واقع حال المجتمع المدني والإنسان المدني صاحب الفعالية النشطة في بناء حضارة العصر والتقدم.
ولا يسع المتأمل للساحة العربية إلا أن يتساءل في دهشة عن مضمون الحديث المتواتر في إلحاح فجأة داخل البلدان العربية على لسان القمة والعامة باسم الإصلاح وضروراته، ودور ما يوصف باسم «المجتمع المدني العربي»، ونجد الكلام كله منصبا على السلطة السياسية، وربما على شخص السلطان ذاته ملكا أو رئيسا، ولكن لا حديث عن التطور الحضاري، أو عن تغيير البنية الاجتماعية، أو عن بناء الإنسان، أو إعادة تنظيم البنية الذهنية للإنسان العربي «قوام النهضة»، أو عن الثقافة العربية بوصفها منظومة قيم ومدى ملاءمتها للتقدم أو دورها في التخلف، أو عن رؤية نقدية إلى الذات في موضوعية عقلانية تكشف عن الخطأ فينا الذي جعلنا فريسة سهلة، تضاف إلى رؤية نقدية عن الآخر المهيمن عالميا أو عن إسهامنا الحضاري المعرفي، أو عن دورنا في التعاون على الصعيد العالمي مع قوى النهضة والتغيير، وقد حرصت رءوس الحكم على التواري بعيدا عنهم.
ويدور الحديث بين نثار من التنظيمات حاكمة أو محكومة، ولكن لا حديث أبدا عن جبهة وطنية تلتقي حول برنامج للتطوير متضمنا نقدا للذات، وتحليلا علميا للسياق المحلي والعالمي الذي نتحرك فيه، ورؤية مستقبلية للهدف المنشود: المجتمع والإنسان والعلاقات بين عناصر البنية الاجتماعية، نعم إنجاز الهدف عملية تستمر زمنا طويلا، ولكن النجاح رهن الوعي الصحيح والتشخيص العلمي الدقيق، وتعبئة موارد الأمة عبر مؤسسات مدنية ليصب الجهد في بناء إنسان جديد يتحلى بدينامية الفكر والفعل وروح التعاون الجمعي في مناخ من الحرية والاستقلال الذاتي والقدرة على النقد العقلاني المنهجي لواقعه، والإفادة من تجاربه، والتحرر من الانحيازات ضيقة الأفق، وأن يكون مشاركا بحرية وعن حرية في بناء مجتمعه المدني بمؤسساته؛ لأنه هو مصدر السلطات وليس الحاكم، إنه مواطن وليس رعية، والشعوب مواطنون لا رعايا، شركاء لا أتباع، وهذه هي خصائص المجتمع المدني العام الذي لا وجود له في أي أرض عربية، وإنما المجتمع المدني العام هو الهدف المنشود في إطار من التطوير الحضاري؛ ذلك لأن المجتمع المدني تنظيم لآلية المجتمع وفاء لهدف استراتيجي أكبر، هو التطوير الحضاري وضمان دينامية مطردة للتغيير على أساس من المراجعة والتغذية المتبادلة بين المؤسسات بوصفها مؤسسات مدنية: أي مستقلة عن السلطة السياسية، وكذا الأفراد بوصفهم مواطنين، السلطة السياسية اختيار حر من هؤلاء، وليس العكس، لقد جاء ظهور المجتمع المدني ثمرة للإصلاح الديني والتقدم العلمي والحاجة إلى مجتمع جديد برؤية وثقافة جديدتين وفعالية حضارية جديدة للإنسان المواطن الحر المستقل ذي العقل الناقد وليس الرعية.
وحري بنا أن نتأمل بعقل ناقد حقيقة الفكر العربي، ليس من واقع التهويم النظري، بل في ضوء إجابة عملية على سؤال: كيف نفكر؟ كيف يفكر الإنسان العام؟ وكيف يفكر القادة إزاء تحديات العصر؟ ما هي مرجعياتنا الفكرية في شئوننا الحياتية؟ كيف وبماذا نعبر عن تميزنا عن الآخرين؟ هل نفكر كما فكر السلف في ظواهر لم تكن في حياتهم أم نكون فقهاء عصرنا؟ لا نزال نقول «إجماع العلماء»، والعلماء بشر، ونحن بشر وعالمنا أولى بنا، هل نرى الحضارة إرثا، أم فعلا إبداعيات متجددة؟ استجابة إبداعية متطورة لتحديات متجددة، وإلى أي حد يمثل رصيدنا الثقافي عونا لنا على التفكير السديد؟ وإن لم يكن فكيف يكون التغيير؟ إذ من المسلم به أن الإنسان - المجتمع - يرى أو يدرك العالم من حوله من خلال عدسات ثقافته كإطار حاكم، والتي تحدد معالم الإدراك وشروطه، وصوغ صورة العالم واستجابته.
إذ هناك فارق كبير بين مجتمعات راكدة، حصادها المعرفي الجديد يكاد يكون معدوما، ورصيدها الثقافي جامد متحجر، وفعلها الإنتاجي عاطل، وبين مجتمعات الفعالية الإنتاجية النشطة وحصادها المعرفي المتراكم غني وفير، ورصيدها الثقافي يتصف بالمرونة والدينامية، الأولى عاجزة، بل عازفة عن التغيير؛ أسيرة التعصب للقديم وعدم التسامح مع الإبداع والتجديد ناهيك عن التطوير، والثانية تتصف بالقدرة على الإبداع والتجديد وسرعة التكيف مع المتغيرات، ومن ثم أقدر على قبول التحدي واطراد التقدم، لهذا نرى أن التخلف في جوهره هو تعطل قوى الفعل الإنتاجي للوجود، ومن ثم جمود الفكر بل تراجعه، بينما التقدم هو تقدم الفعل وتقدم في إنتاج الوجود والفكر.
وإذا كنا نتحدث عن التغيير من الداخل دون ضغط خارجي، أي استجابة لتحديات داخلية واستجابة لسياق تحديات عالمية، فإن هذا يوجب نظرة علمية نقدية لواقعنا المحلي وللسياق العالمي ولطبيعة التحديات وأسباب التقاعس والتخلف، ثم بعد هذا - أو معه - صوغ رؤية استراتيجية للنهضة تأسيسا على حوار حر واختلاف في الآراء وتعدد الرؤى وتعبئة الموارد والقوى المادية والبشرية، هكذا نقول إن التغيير - شأن حال كل الأمم الناهضة - وليد الفعل الذاتي الإبداعي الاجتماعي، إن محو وصمة الأمية كمثال لم تكن بحاجة إلى تنبيه من الخارج، وحري ألا ننسى أن مخاض التغيير أليم ومضمار صراع؛ إذ ثمة علاقة توتر بين التغيير ومقتضياته وبين الثقافة ونزوعها إلى الثبات.
ونرى أن الوعي الزائف بالتاريخ عقبة أخرى على طريق التقدم، وسبب لما نسميه ظاهرة اختلال الأنا الوطنية، وإذ ننشد إعادة بناء الإنسان، فإن البناء لا يستقيم بوعي زائف بالتاريخ، إن في تاريخنا فترات صامتة، وفي تاريخنا ما نسميه المنفى الفعال، وتاريخنا تجل للسيد المنتصر، وتاريخنا فارغ تماما من أية دراسات سوسيولوجية تفسر الظاهر نشأة وتكوينا وتطورا وزوالا، وتاريخنا أحداثه تجري أحيانا على غير أرضنا في تناقض ظاهر مخل؛ إذ الجغرافيا هي مسرح التاريخ، وكم من المفاهيم الخاطئة الموروثة تاريخيا سارت مسرى البدهيات، بينما سرعان ما تسقط أمام التحليل العلمي.
وتفاقمت أزمتنا التي يجسدها تعطل الفكر والفعل العربيين بسبب حالة الفراغ الفكري العالمي، إذ حتى عهد قريب كانت سوق الفكر العالمي تغص بالآراء والنظريات التي يتنافس تحت عناوينها الناشطون، ظنا منهم أن في إحداها الخلاص، ولكن سوق الفكر العالمي باتت خاوية الآن من النظريات، بل تعاني من حالة تشعب وتشوش فكري، وطرحت عن كاهلها كل ما يدخل في إطار التقليد؛ إذ تجاوزه الواقع وأصبحنا إزاء واقع جديد بحاجة إلى إطار فكر إرشادي جديد، ومن ثم يلح السؤال: وماذا نحن فاعلون؟ الإجابة تستلزم ابتكارا جمعيا ذاتيا.
والأزمة أشد لأننا نرسف في أغلال التخلف والاستبداد وثقافتهما، ونفكر بعقلية التخلف في عالم آخر جديد مغاير، سقطت الحدود، وبدأت الرياح تهب عاصفة علينا: فكرا وثقافة وسلعا استهلاكية، وقنعنا بسؤال السلطان على الأرض، بينما العصمة بأيدينا بوصفنا مجتمعا مدنيا بالمعنى المحدد لهذا المجتمع، وبفضل فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطار من تغيير البنية والعلاقات الاجتماعية، وفي إطار ثقافة الفعل الإنتاجي والتغيير، لا ثقافة الكلمة والسكون، ثقافة الانتماء، لا الاغتراب في الزمان أو في المكان، ثقافة مواطنين لا رعايا.
لهذا ضم الكتاب ثلاث رؤى، الأولى: عن «المجتمع المدني وثقافة الإصلاح» رافضا كلمة الإصلاح وإبدالها بالتطوير وشروطه.
والثانية: «الفكر العربي ولغز النهضة» وترى الحاجة إلى دراسة نقدية لثوابت الفكر العربي، وأن القول بالثوابت اتساق مع الثقافة السكونية ورفض للقطيعة المعرفية مع السابق، والثالثة: عن «مصر والغياب الطويل» وهي شهادة من التاريخ عما اعترى الوطن والإنسان، ولا يذهب بي النزق حد الاعتقاد بصوابها جزئيا أو كليا، وإنما هي اجتهاد يحتمل الخطأ والصواب، ولكنه اجتهاد صادق المنطلق، وإسهام مخلص؛ ودعوة للتفكير المشترك.
شوقي جلال
القاهرة 29 / 5 / 2005
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية
(1) العالم والفراغ الفكري
مع انتصاف القرن العشرين دخل العالم مرحلة تحول أو انتقال جذري شامل لكل مناحي الحياة: الفكر والاقتصاد والسياسة والثقافة والعلاقات والبنى الدولية في الشرق وفي الغرب، مرحلة يصدق معها وعليها قول ابن خلدون: «إن الأحوال إذا تبدلت جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد.»
والعالم حقا منذ انتصاف القرن العشرين - ولا يزال - يعيش هذه الصورة، أو يعيش أزمة وآلام مخاض تحول لم تتحدد معالمه وإن تجسدت أمراضه، وتفاقمت تناقضاته، وهذه المرحلة، شأن كل مراحل الانتقال الاجتماعي، تغيم فيها الرؤية حينا، وتسقط الغشاوة عن نظريات وأفكار، أو ينتهي صدقها المرحلي، ويعيش المجتمع أو العالم مرحلة فراغ فكري، وتفكك في العلاقات والهياكل، وعدم استقرار، وظهور تيارات فكرية متناقضة ومتدافعة في محاولة يائسة أو ناجحة جزئيا للإمساك بطبيعة أمور وأحداث الواقع المتجدد الذي تجاوز أسس الفكر والنظر السابقين أو التقليديين، ويتراوح الوضع ما بين رجوع، أو ردة إلى ماض أو سلف التماسا ليقين ولى زمانه، وما بين مراجعة عقلانية نقدية تاريخية للواقع الراهن في ضوء مستجدات العصر واحتمالات المستقبل.
وحري أن نشير بداية إلى أن بعض مظاهر الإنجاز والتقدم هي أيضا - ومن خلال تداعياتها - سبب أو مظهر للأزمة وتفاقمها، أذكر مثالا: التقدم العلمي وما حققه من إنجازات إيجابية في عالم الاتصالات، والتحولات في الاقتصاد العالمي؛ إذ ضاعف من قدرات وإمكانات البشرية، وفاقم في الوقت نفسه من مشكلات بيئية واجتماعية وغيرها ، وأدى كذلك إلى تغيير جذري في هيكلية العلاقات في الأنشطة البشرية المختلفة، كذلك استقلال المستعمرات السابقة، وهو واقع أو إنجاز إيجابي، ثم ظاهرة فشل العديد من حركات التحرر الوطني؛ إذ أخفقت في بناء نظم جديدة قادرة على مواكبة التقدم والاندماج في حضارة العصر بوصفها قوة قادرة على الإنتاج والفعل والتأثير على الصعيد العالمي السياسي والاقتصادي، ناهيك عن عجزها عن بناء مجتمع ديمقراطي وعن بناء أسس للعدالة الاجتماعية وتحولت إلى قوى طرد سكاني هو موضوع جدل واسع عن أزمة الهجرة والمهاجرين من الجنوب إلى الشمال.
ويمثل كل هذا في آن واحد زوال الوهم بشأن حقيقة البرامج الإصلاحية وصوابها التي دعا إليها كل منهم، أو يمثل انتهاء مرحلة الصلاحية النظرية لفكر كل منهم بعد أن تجاوزته وقائع تطور الحياة، ويعني هذا أيضا سقوط الركائز التي تنبني عليها مشروعية نظم الحكم التي أقامت مشروعيتها على أساس تلك البرامج والنظريات، وانتفت مع هذا أسباب الاستقطاب العالمي، ما بين اشتراكي ويساري أو ديمقراطي، وما بين ليبرالي ومحافظ أو تقليدي.
ويعني هذا أيضا سقوط فلسفات حركة التنوير الغربي التي نادت بما زعمته نزعة كلية للثقافة الغربية عن العقل والمعرفة، وأكدت أن هناك ما يسمى مبدأ العقل الكلي النظري المجرد الذي يتطابق بين الجميع في تجلياته واستنتاجاته، ويتجسد أساسا ونهاية في عقل الباحث والمفكر الغربي.
وزعمت فلسفات التنوير الغربي أن الغرب هو الحداثة، وأن التحديث تغريب، وثقافة الحداثة هي ثقافة الغرب، وأن الحضارة في ذروتها وكمال صورتها هي حضارة الغرب أو عقله، أو هي التي تتجسد سياسيا واجتماعيا ومؤسساتيا وتنظيميا وثقافيا فيما سمته «المجتمع المدني» الذي يضم المواطن المثالي، أي الغربي المعبر عن كل هذه التجليات، والتي هي معيار المواطنة المدنية.
ويمكن أن نجمل فيما يلي عناصر الأزمة ومظاهرها في الشرق والغرب، وإن تباينت الخصوصيات التاريخية والواقعية زمانا ومكانا، والجهد المبذول في كل موقع لتجاوز الأزمة، ويمثل كل هذا جدول أعمال أهل الفكر للالتزام به في بحثهم لقضاياهم: (1)
سقوط الليبرالية كعامل محدد للمناخ الثقافي الكوكبي
Geoculture
وسقوط مبادئها «الحرية - الإخاء - المساواة» في الممارسة على الصعيد العالمي. (2)
سقوط نبوءات الليبرالية بأن النظام العالمي الاقتصادي والسياسي سيؤدي إلى تحسن تدريجي لرفع المظالم في داخل المجتمعات وفيما بين المجتمعات. (3)
ثبوت زيف الزعم أن الحضارة غربية المنشأ، أو أنها بلغت ذروة كمالها وازدهارها على أيدي الغرب والجنس الأبيض، وأن الحضارات تطورت وتقدمت على مدى مسار خطي أحادي إلى حيث تجلي الروح الكلي «العقل الغربي»؛ إذ زعم فكر المركزية الأوروبية في تصوره لمعنى الحضارة وسيرتها بأن «القيم الحضارية» ترجع تاريخيا إلى الرومان والإغريق من الإنسان الأبيض، ولكن أصبح هذا الرأي هدفا لهجوم علمي ومراجعة نقدية جذرية في ضوء البحث العلمي لتطور المجتمعات والدراسات الأنثروبولوجية والاكتشافات التاريخية، إننا نخطئ خطأ بليغا إذا قلنا إن ثقافة اليابان البوذية ثقافة هندية باعتبار الهند مهد البوذية التي أضحت محورا أساسيا في التاريخ الثقافي لليابان، ونخطئ خطأ بليغا إذا قلنا إن الثقافة الاجتماعية المصرية هي فقط حصاد وجماع ثقافة شبه الجزيرة العربية مهد الإسلام، ذلك لأن الجغرافيا هي مسرح أحداث التاريخ وتجلي التفاعل الإيكولوجي بين الإنسان/المجتمع والبيئة، ومن ثم صوغ الثقافة في صورة جديلة جامعة لأحداث التاريخ والإنسان في تعاقبها وتفاعلها. (4)
ثبوت زيف المبادئ المعيارية المحورية لفكر التنوير الغربي المتمثلة في النزعة الكلية والنزعة الماهوية للإنسانية جمعاء، مع رفض الخصوصية الزمانية والمكانية في ديناميتها المتطورة، أي ثبوت زيف مقولة العقل الكلي والمعرفة الكلية واليقين الكلي، أي عقل ومعرفة الغرب، والحاجة إلى ابتكار إطار فكري جديد، يؤكد خصوصية ونسبية الغرب؛ ذلك أن الفلسفة السياسية الليبرالية الحداثية قدمت نفسها في صورة خطاب أيديولوجي نظري أو ميتافيزيقي خالص يعبر عما ظنته جوهر الاجتماع السياسي البشري أو ماهيته؛ إذ زعمت أن معيارية المواطنة المدنية لها أولوية وسبق تاريخي وأنثروبولوجي على ظاهرة الاجتماع البشري، قبل فرض ظروف وأوضاع ثقافية قسرية، لذلك فإن الهوية المدنية هي في زعمها الهوية الفطرية الأصلية وماهية الإنسان، وترى أن هذا الفهم مذهب كلي شامل عن الإنسان والتاريخ وعن طبيعة العقل وماهيته والأشياء في ذاتها، الحداثة الغربية مفهوم كلي كوني، وكذا التحديث حسب النهج الغربي وثقافته، الكلية بمعنى أن الرؤية الغربية رؤية تصلح لجميع البشر، وأن مفاهيم التنوير تتعالى بحكم كليتها على كل الخصوصيات الثقافية، إنها مطلقة، وطبيعي أن مثل هذه النزعة تنفي إمكانية تعدد مسارات التطور التحديثي، وكأن المسار خطي أحادي مطلق، كما تنفي النسبوية بين الثقافات، وتنفي الخصوصيات الجزئية مما يعني نفي حق المجتمعات الأخرى.
والماهوية
essentialism
أو القول بجوهر الطبيعة البشرية، وأنه في البدء حرية ومساواة، ويتنافى هذا مع ما أثبته العلم بشأن تطور الإنسان والمجتمعات.
وامتد هذا إلى القول بأن جوهر طبيعة شعوب المستعمرات غير جوهر طبيعة الإنسان الأبيض، وغير مقوماته ورسالته الحضارية، وتأكد الآن أن هذا كله أحكام أو مفترضات ذهنية منحازة عرقيا من منطلق المركزية الغربية وغير واقعية.
كذلك القول بأحادية المسار الخطي للتطور أدى إلى مفهوم حتمية التقدم أسوة بالغرب «المثل الأعلى» للإنسانية حسب منظور المركزية الغربية، وأصبح لهذا المفهوم السيادة على العلم الاجتماعي والسياسي بوصفه أساسا لتفسير تاريخ العالم وتبرير نظريات المراحل في تطور المجتمعات، ومن ثم التباين بين مجتمعات متقدمة أو تنشد التقدم والتغيير بطبيعتها وأخرى متخلفة، وأضحت هذه النظرة تبريرا وذريعة للتدخلات السياسية في البلدان «المتخلفة» ومبررا للسياسيين في الغرب لفرض رؤيتهم فرضا على الآخر باسم طبيعة الأشياء، وهذا هو ميراث التنوير الفكري، الذي ورثته الولايات المتحدة عن أوروبا وتحاول تطبيقه صراحة وقسرا على بلدان أخرى بحجة تطويرها وإصلاحها، أي إنفاذ الرسالة الحضارية المتوهمة للجنس الأبيض إلى بقية العالم. (5)
سقوط الاعتقاد بأن التقدم حتمي، وفقدت الشعوب - وأولها شعوب الغرب - مصداقية وعد التنوير بتحسن الأوضاع. (6)
سقوط اليقين، إذ لا يقين كما رأت الحداثة على لسان فلاسفتها ومفكريها، وسقوط الزعم بوجود قوانين كلية حاكمة لجميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية وأنها مطلقة الصدق، وهذا ما تذهب إليه نظرية التعقد أو الشواش الآن
complexity or chaos theory
في نقدها للعلوم الطبيعية والإنسانية ودعوتها إلى إسقاط مقولة الثقافتين، أي الفصل بين علوم طبيعية وأخرى إنسانية، وإنما دمج الإنسان مع الطبيعة في نظرة علمية متكاملة، ويلاحظ أن سقوط اليقين اقترن بمظاهر ردة أصولية قرين حالة من عدم الاستقرار، والتوجه ضد الدولة أو بداية حقبة شك وتهاون في سلطة الدولة في عديد من البلدان. (7)
سقوط عديد من حركات التحرر الوطني، وهو ما يتمثل في عجز أكثرها عن بناء نظم حكم ديمقراطية ملتزمة بما دعت إليه قبل الاستقلال من تحقيق لعدالة اجتماعية وبناء دولة مؤسسات، وهذا ما تؤكده ثورات الجماهير وانفصالها عن حكامها، حتى ليمكن القول بأن نظم الحكم فيها لا تستند إلى شرعية ديمقراطية. (8)
انهيار اليسار التقليدي وغالبية النظم المنتمية إلى الفكر الماركسي، فيما عدا بضع دول، مثل الصين، تعمل جاهدة على التكيف مع الجديد من حيث الفكر والممارسة التطبيقية. (9)
انهيار الثقة في النموذج الكينزي في الغرب، وانهيار مجتمع أو دولة الرفاه، وتعدد التوجهات والجهود وتباينهما بحثا عن نظرية لنظام جديد على نحو ما نرى في دعوة أو دعوات باسم الطريق الثالث. (10)
هذا فيما يتعلق بتصدع الإطار الفكري الغربي، وهناك عامل جديد متعدد الأبعاد عميق التأثير؛ ذلك أن بلدان المستعمرات السابقة - خاصة شرق آسيا وجنوبها - فرضت حضورا قويا بعد استقلالها، استلزم مراجعة أسس الفكر العالمي الذي ساد على مدى قرون بشأن معنى الثقافة والحداثة وقوانين الفكر الإنساني، والحراك والتطور الاجتماعي والديمقراطية وحقوق المجتمعات وحقوق الإنسان وأزمة البيئة ومصداقية التاريخ الذي كتبه الغرب، ومعنى الهوية، إذ كان الغرب يرى نفسه «الأنا»، الذات، ويرى المجتمعات غير الغربية هي «الآخر»، والبقية
the west and the rest ، واقترن هذا بمحاولة قطب واحد أصولي النزعة أن يتحدى عناصر الأزمة وعقلانية التحليل ليفرض رؤى أصولية موروثة، تحقق له أطماع السيادة السياسية والاقتصادية والعسكرية مع فرض هيمنة ثقافية ضد مقولات التعددية والنسبية. (11)
وقد يبدو غريبا أن نضيف إلى ما سبق عاملا آخر يغيب عن الأذهان في عالمنا العربي، وأعني بذلك أنه مع انتصاف القرن العشرين بدأ يستبد بالولايات المتحدة - في تزايد مطرد - هاجس ما اصطلح على تسميته «نهاية القرن الأمريكي»، وسبق أن أشرنا في دراسة لنا إلى أن هذا القرن الأمريكي بدأ مع انتصار حرب الاستقلال الأمريكية وبداية التطلع إلى خارج الحدود تحت شعار الرئيس مونرو «أمريكا للأمريكيين»، أي الاستئثار بنصف الكرة الغربي باعتباره مرحلة أو قضمة أولى، وشهدت الولايات المتحدة حوارات وسجالات فكرية حمي وطيسها، خاصة خلال العقدين الأخيرين محورها السؤال: «هل من قرن أمريكي جديد؟» وتسعى السلطات الرسمية في الولايات المتحدة، خاصة في ظل الأصولية الإنجيلية الصهيونية إلى أن تؤكد بالترغيب والترهيب الغشوم زيف الهاجس وضرورة إنقاذ رسالة الرب ضد محور الشر، وانعكس هذا في صورة سياسات يحكمها البطش العسكري، مما أدى إلى المزيد من التفكك كوكبيا وغلبة مشاعر الإحباط. (2) البداية مع حركة التنوير
التنوير حركة ثقافية عريضة انبثقت عن الحروب الدينية والعرقية والطبقية التي امتدت على مدى القرنين 16، 17 وعرفت باسم حروب المائة عام. واجه المفكرون ما رأوه نزعات عرقية وطبقية ودينية لا نهاية لها، وجمعت هذه الحقبة بين نقيضين: الصراعات التي تنذر بالتفكك وتخلق حالة من الفوضى، علاوة على تفشي نزعة الشك الذي طال كل شيء وانتفى اليقين، وبين إرهاصات التقدم العلمي الذي يستلزم اليقين والمعرفة الموثقة قرين بدايات التحول في طبيعة الإنتاج إلى إنتاج صناعة يستلزم توثيقا للروابط وخلق وحدات قومية أو وطنية تتجاوز الساحات العرقية والدينية والأطماع الطبقية وضمان الأسواق.
التمس المفكرون سبيلا للخروج من هذه الورطة، وتأسيس قاعدة ثقافية محايدة تلتقي عندها وجهات النظر الدينية والعرقية المتصارعة بهدف الوصول إلى اتفاق يحقن الدماء، ويدعم حركة التوحد والتقدم، لذا عمدوا إلى ابتكار مفاهيم جديدة عن العقل والمعرفة، والتي عرفت فيما بعد باسم «المنهج العلمي» ضمانا للحيادية الثقافية والموضوعية، وظلت الأفكار التي صاغتها الفلسفات السياسية لكل من جون لوك وديكارت وروسو وبنتام وكانط وميل هي الأفكار المحورية على مدى القرون الثلاثة حتى منتصف القرن العشرين؛ إذ قدمت هذه الأفكار تفسيرا ظلت له السيادة عن المثل العليا الديمقراطية والليبرالية بشأن الحرية الفردية والمساواة وحقوق الإنسان والعقل والمعرفة والعقد الاجتماعي والفردية الأصيلة.
وقدمت الفلسفات السياسية تفسيرات أنثروبولوجية نظرية عن طبيعة الاجتماع البشري، وعن نشوء المجتمعات وعن الطبيعة البشرية لبيان زيف الواقع الاجتماعي القائم على التناحر، وقدمت هذه الفلسفات أيضا مفاهيم عن جوهر العقل والمعرفة عند الإنسان، وزعمت أنها تعبر عن موقف يتعالى على جميع المعتقدات الجزئية المشروطة تاريخيا، وذهبت إلى أن العقل مستقل ذاتيا في تقويم كل ما يتصل بالحق ولا يخضع لأي سلطان غير ذاته، ونعني هنا سلطان رجال الدين، أو عصبية عرقية، أو الأمراء الإقطاعيين، وترى النظرية السياسية الليبرالية الحداثية أن مهمة العقل المستقل ذاتيا - وهو العقل المدني - أن يكون المرجع والمسئول عن الترتيبات السياسية في التطبيق العملي، ويمثل هذا، فيما ذهبت إليه، تجسيدا للمواطنة الديمقراطية الليبرالية.
ومبدأ العقل الإنساني المستقل ذاتيا هو محور المشروع الثقافي التنويري الغربي، عبر هذا المبدأ عن الاعتقاد بأن العقل الإنساني بذاته وفي ذاته يمكنه - إذا ما استخدم مناهج مستمدة من تحليل قدراته الذاتية - أن يتعالى على الحدود والقيود التي فرضتها الظروف التاريخية، وأن ينجز معرفة صحيحة وكلية، وهذه هي دعوة للانعتاق من القيود الاجتماعية القسرية، رغبة في تأسيس مجتمع جديد هو المجتمع المدني الذي يهيئ إمكانية للفرد الغربي من أن يبني حياة جديدة، والخلاص من عصر الفوضى والانقسامات والاقتتال.
وهكذا تأسست الديمقراطيات الليبرالية في الغرب باسم حقوق الإنسان الكلية والطبيعية، وقيل نظريا إنها حقوق جميع البشر، وهو ما كذبته وقائع التطبيق العملي لسياسات الغرب مع المستعمرات، وعمدت النظريات السياسية الليبرالية الحداثية إلى إثبات أن المثل العليا الأخلاقية والسياسية يمكن استقراؤها من مفاهيم ميتافيزيقية تتسم بالصواب الكلي عن الطبيعة والعقل.
وظهرت نظريات أو سرديات العقد الاجتماعي، وهو مكون أساسي في الثقافة المدنية التي تنقل الإنسان والمجتمع من حالة الفوضى البدائية والتفكك والبربرية إلى مجتمع مدني، وصاغ الفلاسفة السياسيون رؤاهم النظرية عن حالة البشرية في البدء؛ حيث كان الناس أحرارا متساوين؛ إذ إن الحرية والمساواة هما من طبيعة الأمور، ولكن النظم الطائفية والعرقية هي نظم نشأت بفعل القسر والإكراه.
وتزعم النظرية السياسية الليبرالية الحداثية أن النظرة المعيارية للمواطنة لها أولوية وسبق تاريخي وأنثروبولوجي، وترى أن الفردية الحرة المتساوية خاصية سابقة أيضا على الوجود الاجتماعي القسري، معنى هذا أن العوائق الأولى التي حالت دون تطوير القيم المدنية وتكاثرها هي عوائق وليدة ظروف ثقافية وسياسية واجتماعية عارضة، ويعني هذا أيضا أن الهوية المدنية
Civic Identity
هي الهوية الأصلية الطبيعية للأشخاص، وتتجلى الهوية المدنية تلقائيا حال زوال العوائق وعوامل القهر والقسر.
وهكذا كانت دعوة فلاسفة التنوير ومفكريه هي الانتقال إلى مجتمع مدني يكفل الوحدة والتضامن الاجتماعيين، وإعمال العقل الفردي المستقل، وبذا يكون المجتمع المدني هو المجتمع المستنير، وكذا المواطن المدني هو المواطن المستنير.
ويقول إيمانويل كانط في كتابه «ما هو التنوير؟»: «المواطن المدني المستنير في المجتمع المدني هو من يتحلى بالجرأة على استخدام العقل المستقل ذاتيا، المبرأ من انحيازات عرقية أو طائفية أو دينية أو طبقية ... إلخ، فهذه هويات خاصة طائفية جزئية، وإنما المواطن المدني عقل مستقل وهوية مدنية، يفكر لذاته مستقلا عن القواعد التي تفرضها سلطة خارج الذات: البابا أو الأمير أو الطبقة أو المهنة ...» ويقول كانط أيضا: «المثقف المستنير في المجتمع المدني هو الأنا المفارقة أو المتعالية
Transcendental Ego
المنفصل تماما عن الالتزامات والمعتقدات الجزئية الطائفية وصولا إلى معرفة الحق الكلي
Universal Truth ».
وهنا يوحد كانط بين المواطن المدني والذات العارفة المبرأة من كل انحيازات جزئية والتي يصفها بالذات المحضة أو الذات المدنية
Identity ، والإنسان المستنير إنسان صاحب عقل نقدي، يفكر ويتعلم من موقف مغاير تماما، أو لنقل يعبر عن هوية مختلفة تماما عن الموقف الجزئي الخاص المنحاز، وهذا هو موقف الباحث، ويوجد بين المواطن المدني والذات العارفة النقدية المحضة؛ لما يحققه أو يجسده من انفصال أو تعال عن الالتزام بالمعتقدات والقيم الجزئية الطائفية الشمولية، أي الحاكمة لكل شئون حياته من زاوية الطائفة دون المجتمع الأكبر.
وهذا هو أساس الثقافة المدنية والمواطنة المدنية، الباحث أو المواطن المدني لا يتكلم بلسان طائفة أو طبقة أو عقيدة محدودة، بل بلسان العقل الكلي العام المتحرر من الالتزامات والانحيازات الجزئية الطبقية، وبذا يكون حديثه عن الجميع وللجميع باعتباره مجتمعا أكبر عالميا، أي يتكلم من منطلق الهوية المدنية، هوية المرء بوصفه عضوا في مجتمع مدني، مجتمع الإنسانية جميعها.
وحسب هذا التصور يكون المثقف بمعناه الجديد، والذي نفتقده نحن الآن في عالمنا العربي، هو الأنا المتعالية الذي يحرص إراديا وعقليا على الاحتفاظ بمسافة نقدية فاصلة بينه وبين الانحيازات الجزئية العرقية أو الدينية أو السياسية ... إلخ، وأن يكون بينه وبين المجتمع السياسي، أي السلطة السياسية المسافة ذاتها، إن المثقف - المواطن المدني - موقف، هويته أو ذاتيته مستقلة تماما، وعقل نقدي محض بغية الوصول إلى معرفة الحق الكلي، وهذا هو التطابق أو التوحد بين المواطن المعياري المثقف، وبين الذات العارفة المحضة، وتمثل هذه المسافة الفاصلة أساسا للثقافة المدنية، إنها تهيئ معيارا واضحا لتطوير القدرات الصحيحة للمواطنة الحداثية، وإذا كانت فكرة الذات العارفة المحضة المستقلة ذاتيا عن السياق باتت أسطورة الآن، إلا أن هذا لا ينفي دور وواجب وهدف المثقف المدني - المواطن - في الالتزام بالمسافة الفاصلة عن المجتمع السياسي ضمانا لصدق وبراءة التعبير عن المجتمع المدني في شموله داخل مساحة التوتر المتصل بين المجتمعين: السياسي (السلطة) والمدني (الجمهور).
وجدير بالملاحظة هنا أن كلمة مدني في قاموس التنوير، وهي
Civil
و
Civic
و
Civilus ، تعني في اللغة اللاتينية الحر (الروماني) ومن ينتمي إلى المدينة، أو ما يخص المدينة ومن يسلك سلوك أهل المدينة، وينطوي المفهوم هنا على قدر من الانحياز والعصبية إلى ما هو روماني، وقد يكون من الأمور ذات الدلالة أن كلمة
Civila
تعني الإكليل الذي يزين رأس من ينتصر لروماني ويقتل عدوه، ولكن عادت الكلمة إلى الظهور ثانية على لسان المحلفين الفرنسيين في ستينيات القرن السادس عشر لوصف أهل المكانة والتهذيب
Civilité
و
Civilisé
ممن هم على شاكلة المحلفين خلقا وسلوكا.
معنى هذا أن كلمة مدني في قاموس التنوير تحمل معنيين نقيضين: تعني المواطن الحر (الغربي) المهذب والكيس والمتحضر نقيض البربري والهمجي، وتعني أيضا في الأصل الروماني تميزا له، ثم أصبحت تعني الأوروبي الذي يجسد الحضارة دون سواه.
واستخدمها مفكرو التنوير للتمييز بين مجتمعهم المدني، وبين مجتمعات التعصب والحروب والاقتتال، أي مجتمعات الأمراء ورجال الدين ودعاة العصبيات العرقية، ولكنهم استخدموها أيضا للتمييز بين مجتمعاتهم الأوروبية والمجتمعات غير الأوروبية، ولعل من الأمور ذات الدلالة على الانحياز الغربي هنا أن العلوم أو الدراسات الاجتماعية التي نشأت في ظل فكر التنوير اختصت بدراسة المجتمعات المدنية أو الغربية، بينما ابتدع الغرب مبحثين آخرين اختصا بدراسة المجتمعات غير الأوروبية، أو لنقل غير المدنية، وهذان المبحثان هما الاستشراق والأنثروبولوجيا.
وصاغ الفلاسفة مذاهبهم السياسية وفي خلفيات رءوسهم هذا المعنى: الحضارة أوروبية، أو سارت مسارها التاريخي الخطي والأحادي، ابتداء بالبرابرة والهمج لتبلغ ذروتها، وليبلغ العقل كماله مع الإنسان الأبيض، ومن هنا ذهبوا في تفسيرهم لحركة التاريخ أن الإغريق هم أهل الحكمة ومبدأ الفلسفة وعبقرية الإبداع، وأن الإنسان الأبيض هو المتحضر أو المدني بطبيعته وفطرته، وبلغ المجد من أطرافه عقلا وحكمة وعلما، وأن من دونه برابرة، ومن ثم كان القول بأن التحديث تغريب، محاكاة للمثل الأعلى (الغرب) ولذلك أيضا لم يكن غريبا على فلاسفة التنوير أن يكون بعضهم شريكا وصاحب أسهم في شركات تجارة العبيد إلى العالم الجديد.
إذن كلمة مدني، حسب هذا الاستعمال، تدل على مفهوم نخبوي تفضيلي تأسيسا على وضع تراتبي هرمي للمجتمعات على عكس ما يدعو إليه ظاهر فكر حركة التنوير من أخوة ومساواة وحرية، وأن البشر جميعا أحرار سواسية. وأصبح هذا الفكر تبريرا نظريا للسياسات الغربية التوسعية الإمبريالية. كما أصبح التوسع الاستعماري رسالة الرجل الأبيض لنشر الحضارة، وإقامة مجتمعات مدنية على نحو دعوة الإصلاح التي تدعونا إليها الولايات المتحدة الأمريكية أسوة بدعوتها ونصيحتها قبل ذلك لبلدان أمريكا الجنوبية. ولكن منطق الفكر التنويري يقرر أن الشعوب الأخرى بطبيعتها وجبلتها ليست أهلا للتحضر والإبداع العبقري شأن الرجل الأبيض.
وامتد هذا الفكر من أوروبا إلى الولايات المتحدة مع هجرة الرجل الأبيض وسيطرته على الأراضي بعد قتل ودحر أهلها الأصليين بأساليب عسكرية وحشية بربرية وغير أخلاقية. وفرض الإنسان الأبيض «المدني»، باسم طبيعة الأمور والأشياء، هيمنة الولايات المتحدة، أو نيو إنجلاند تحديدا، على بلدان جنوب الولايات المتحدة ثم بلدان أمريكا الجنوبية تحت شعار أمريكا للأمريكيين. ثم سيطر على اليابان عقب الحرب العالمية الثانية وعلى غيرها. وبرر الإنسان الأبيض «المدني» سلوكه بأنه صاحب رسالة حضارية لإصلاح وبناء مجتمعات المؤسسات الديمقراطية الليبرالية الحداثية، زاعما أن هذا هو الأسلوب الوحيد للتحديث الاجتماعي. ولكن سقطت جميع هذه المزاعم في التطبيق العملي.
المجتمع المدني
وجدير بالذكر أن توماس بين (1737-1809) المفكر البريطاني المولد، وأحد زعماء الثورة الأمريكية وصاحب كتاب «حقوق الإنسان» هو أول من مايز بين الدولة والمجتمع المدني. رأى أن الدولة كيان مختلق ومفروض قسرا لأنها اغتصبت دور الفرد، كما اغتصبت الجهد الطوعي لأنها بطبيعتها سلطة وتسلط.
وذهب إلى أن المجتمع وليد حاجاتنا ومتطلباتنا، بينما الحكومة نتاج المكر والدهاء الإنساني. الأول، أي المجتمع، يغرس ويوحد أفضل دوافعنا، بينما الثاني، أي المجتمع السياسي أو الحكومة، يكبح رذائلنا ... المجتمع المدني راع وضامن، بينما الحكومة جهاز معاقبة وأداة قسر. وتقع المؤسسات المدنية في المساحة الفاصلة بين الفرد وقوى السوق لتهيئ للإنسان، المواطن، الفرد، أفضل سبل الحياة.
والمجتمع المدني في رأيه يزدهر بازدهار الفضائل المدنية: التعاون، حب الإنسان، الروح الجماعية، النشاط الطوعي، المساواة، العدالة، التعالي على الانحيازات. وتمثل الفضائل المدنية خير دعامة ضد الحكم الشمولي وضد الإفراط والمغالاة. ويجسد المجتمع المدني الساحة الأخلاقية بين الحاكم والمحكوم، ومفهوم المجتمع المدني هو الساحة التي تضم مؤسسات طوعية حرة تتوسط بين الفرد والدولة؛ حيث المواطنون الأفراد يعملون في آن واحد على نحو فردي وجماعي مشترك، ومن ثم فإن فعالية الإنسان هي أكبر الفضائل. وصاغ توماس بين رؤاه عن المجتمع المدني في صورة جمهورية فاضلة، هي موطن الحرية المتحررة من الحكم القسري التعسفي، والتي تزدهر فقط حال توفر روابط حرة دينامية بعيدة عن السيطرة المنفردة للمجتمع السياسي (الحكومة).
مفهوم المجتمع المدني إذن هو صياغة لتنظيم صورة الواقع والموقع في سلم تراتبي تفضيلي قياسا إلى السابق في أوروبا، وقياسا إلى حاضر المجتمعات غير الأوروبية، وظهرت فلسفات التنوير، وسرديات العقد الاجتماعي لتفسر مسار تطور المجتمعات تاريخيا من الوضع الطبيعي، وضع الفطرة، حيث البشر أفراد أحرار سواسية تعاقدوا - حسب زعمها - طوعيا للاجتماع، ثم بفعل القهر والقسر تحولت إلى مجتمعات عرقية وعصبية دينية وأرستقراطية طبقية.
وترسم فلسفات التنوير السياسية الطريق للخلاص وبناء المجتمع المدني المتحرر من هذه الانحيازات، والمتلاحم في وحدة وطنية حضارية، والعودة إلى ما سمته «الطبيعة البشرية في جوهرها»، في ظل سلطة ديمقراطية ليبرالية وليدة اقتراع حر، ويعني هذا أن المجتمع المدني حسب التعريف هو المجتمع الديمقراطي الليبرالي الحداثي، والحضاري الغربي، إنه النموذج الكلي الذي يتعين بلوغ مستواه لمن شاء أن يوصف بأنه مدني (حضاري) ولكن ليس الأمر ميسورا للجميع.
وشرعية السلطة أو الدولة في المجتمع المدني الديمقراطي الليبرالي رهن مواطنين أحرار متساوين، يختارون بملء إرادتهم الحرة ومسئوليتهم الواعية، النظام الحاكم متعالين - بحكم تثقيفهم وتعليمهم مدنيا - على الانحيازات والحزازات الطبقية أو الدينية أو العرقية ... إلخ، إذ المجتمع غير المدني يحكم باسم الدين أو العرق أو الطبقة أو العائلة، إنه مجتمع غير ليبرالي ولا ديمقراطي ينظم المؤسسات التعليمية والسياسية والإعلامية وغيرها من مؤسسات اجتماعية لدعم صاحب السلطة؛ إذ له المشيئة، ولكن المجتمع المدني ديمقراطي ليبرالي في التعليم والثقافة والسياسة، وفي شرعية الحكم وفي مساحة حقوق الإنسان ومشروعيته باعتبار أن الناس أحرار متساوون، والمجتمع المدني ليس ضد الدين، ولكن ضد تسلط رجال الدين باسم الدين، تحقيقا لمآرب جزئية، فهم بشر تربطهم مصالحهم، وتحكمهم الانحيازات، فضلا عن أن قضايا المجتمع بحكم التطور والتعقد تتجاوز كثيرا حدود قدراتهم المعرفية المتخصصة أو المحدودة بعد أن تشعبت تخصصات الحياة، والثقافة المدنية هي أساس التعليم المدني الذي يضفي نظرة نسبية لا مطلقة على المنظومات التراتبية الناجمة عن ثقافات مجتمعات محلية طائفية.
وتسود المجتمع المدني ثقافة خالقة للمواطن المدني وللمواطنة المدنية، هي ثقافة ليبرالية ديمقراطية تلزم الدولة بمعاملة جميع المواطنين باعتبارهم أفرادا أحرارا متساوين؛ حيث إن أبناء المجتمع مواطنون، لا رعايا لمؤسسة دينية أو لأمير أو لرئيس، وحيث السلطة إدارة بالوكالة عمن اختاروهم بإرادتهم الحرة في اقتراع سري من بين مواطنين أحرار متساوين لهم حق الترشح لتولي السلطة، وحيث شرعية السلطة رهن هذه الإرادة الحرة، إذ المواطنون الأحرار هم مصدر شرعية السلطات.
ومواطن المجتمع المدني تصوغه - من خلال التربية والتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية - ثقافة سياسية تدعم الفضائل المدنية من مثل التسامح إزاء اختلاف الرأي أو العقيدة أو العرق، ومن مثل الاستعداد لحسم المنازعات عقلانيا، أي تحكيم العقل المستقل ذاتيا ومصالح المجتمع الأكبر، والإيمان بمسئولية الآخرين الأحرار عن أفعالهم وحقهم، ورفض كامل لأي تراتبية أو امتيازات أو انحيازات لمنصب أو عقيدة ... إلخ.
وتجسد ثقافة المجتمع المدني وآليات التثقيف معتقد التنوير بشأن العقل والمعرفة الذي يقرر - ويؤكد - حرية تكوين المؤسسات الدينية المستقلة ذاتيا، علمية وسياسية وطوعية ... إلخ، لتكون روافد تستجمع زخم الجهد الاجتماعي، ولتكون تجسيدا للمثل العليا المدنية، ووعيا جمعيا ديمقراطيا موازيا للمجتمع السياسي (السلطة) وحائلا دون انفراده بالأمر، وهنا تكون الديمقراطية ممارسة وتجليا للحريات والاستقلال.
وتبني الثقافة المدنية منظومة ذهنية جديدة عن المواطنة والمثل العليا للمواطنة، ويتجلى هذا كله في السلوك الفردي والعام والسياسي للدولة، وفي احترام معايير المواطنة والأصالة والحرية، وإن إحدى مهام الدولة في المجتمع المدني توفير موارد لحفز المواطنين على استحداث وتطوير قدرات مناسبة لمواطنة ثقافية كاملة، أي الانتماء الأصيل؛ ذلك لأن المواطنين لا يتطلعون إلى مواطنة لا يفهمونها، أو لا تتوفر معايير مصداقيتها وفرصها، أو مستمدة من مثل عليا وأطر معرفية تقليدية فقدت موضوعيتها واغتربت عن الواقع الحياتي، وثمة تغذية متبادلة داعمة بين معايير الثقافة المدنية من جهة، وبين التعليم والإعلام والتنشئة والممارسات الحياتية على صعيد الأفراد وسياسة الدولة من ناحية أخرى، وإذا حدث وفقدت الأفكار المحورية للثقافة المدنية مصداقيتها فإنها سرعان ما تفقد قدرتها على خلق عادات المواطنة المدنية مما يتهدد المجتمع بالتفكك.
والمثل العليا للمواطنة الثقافية في المجتمع المدني في نشأته هي: (1)
الأصالة، أي أن يعبر المرء عن ذاته، بالأصالة عن نفسه، ويكون هو ذاته عملا ورأيا، وصاحب عقل مستقل في حكمه على قضايا الحق والخير والسياسة، وهو ما لا يتحقق إلا في مناخ من الحرية. (2)
الاستقلال الذاتي، أي حقه في أن يصوغ حياته وفق اختياره المستقل، وهو ما لا يتحقق إلا في مجتمع منتج وديمقراطي حر. (3)
الإيمان بأولوية تاريخية وأنثروبولوجية للطبيعة الحرة المتساوية والفردية للوجود الإنساني السابق على أي اجتماع بشري قسري إقطاعي أو ديني أو طائفي، وهو ما يعني إيمانا بأن الحرية والمساواة فطرة بشرية، وهذا ما ثبت خطؤه علميا، وإن كان الخطأ لا ينفي مبدأ حق الحرية كشرط للمواطنة.
وتتجسد هذه المعايير والمثل العليا في مؤسسات المجتمع المدني وتقاليده وأخلاقياته وأعرافه ومواطنيه لبناء المواطنة أو الهوية المدنية والمواطن المدني، لذا فإن تجسيد هذه المعايير مهمة ثقافية مدنية. (3) المجتمع المدني وأزمة الغرب
ولكن مع انتصاف القرن العشرين وبداية التحولات الجذرية في العلوم والفلسفات والفكر الاقتصادي والسياسي والتي شملت كل الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، واجه الغرب أزمة عميقة صدعت أطره الفكرية التقليدية، أي أطر فكر التنوير، وخاصة المجتمع المدني، وأشرنا في صدر كلامنا إلى مظاهر هذا السقوط وتجلياته، وتهاوت على مدى النصف الثاني للقرن العشرين، ولا تزال، أسباب معقولية وقبول هذه الأفكار.
وأكثر من هذا أنه على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، والآن، تجلت خصوصيات مجتمعات شقت طريقها نحو النهضة الحداثية، دون التزام بالنهج الغربي في التحديث الثقافي، وهي مجتمعات شرق آسيا والهند تحديدا، لم تعد هذه المجتمعات مثلما كانت في فكر التنوير مجتمعات برابرة، ولم تعد كذلك موضوعا للاستشراق والأنثروبولوجيا في ضوء النظرة الغربية التقليدية، وإنما أصبح لهذه المجتمعات حضورها السياسي والاقتصادي والثقافي والفكري، وأجريت دراسات علمية مقارنة عن أسس التفكير وعن المنظومات الذهنية لهذه المجتمعات والمنظومات الذهنية التقليدية عند الغرب، وكشفت هذه الدراسات المقارنة عن أن ما ساد أكاديميا على مدى قرون بشأن قوانين الفكر وقواعد الإدراك ومسار الحضارات، إنما يمثل خصوصية غربية، وليست قوانين كلية عامة لكل إنسان في كل زمان ومكان، وأصبح لزاما مراجعة كل ما توارثته البشرية في محاولة لاستكشاف قوانين جديدة، أو قوانين الخصوصيات النسبية وقواعدها للفكر الإنساني في ضوء توزيع نسبي جغرافي زماني.
وظهرت دراسات أخرى عن حضارات هذه الشعوب كشفت انحيازا غربيا في اختلاق مسار خطي أحادي لتطور الحضارات يدعم نظرة المحورية الغربية، والزعم بأن الحضارة الغربية هي ذروة كمال التطور الحضاري وعندها ينتهي التاريخ.
وصدع هذا الواقع الجديد للمنظومة الذهنية الغربية، وسادت الغرب نزعة شك متعاظمة، تشك في الفروض الكلية وفي القول بجوهريتها وطبيعيتها، والتي تشمل أساس الفكر السياسي الليبرالي الحداثي، ويواجه العالم اليوم حقائق دامغة تؤكد طبيعية وضرورة التنوع الثقافي الكوكبي، وأن التنوع معين الحياة المتجددة والمتفاعلة للثقافات، وكشف الوعي بهذا التنوع الثقافي عن أن القيم المدنية والهويات المدنية هي مفترضات ذهنية ثقافية
Cultural Constructs
قوامها انحياز جزئي خاص، ووليدة تقاليد مجتمعية محلية في بلدان شمال الأطلسي، وكشفت الأحداث أيضا عن أن الثقافات الجزئية أو الطائفية كامنة بفعل عوامل خارج ذاتها وعادت إلى الظهور في ظل سياسات العولمة، أو الهيمنة من قبل قوة أكثر طغيانا.
ولم يعد مقبولا مع تقدم العلم الزعم بأن الوضع الطبيعي للبشرية البدائية هو الفردية الحرة المتساوية، ومن ثم نفي العملية التاريخية التطورية للبشر والمجتمعات، إن العبيد صنعتهم ثقافة عبيد، والأحرار صنعتهم ثقافة أحرار بفضل فعالية إنسانية اجتماعية متطورة المراحل، ومع تقدم العلم أيضا ثبت خطأ الزعم بأن الباحث المستنير هو العارف المستقل ذاتيا بالمعنى النظري الميتافيزيقي، ذلك أن العلم نشاط اجتماعي لباحثين علميين بينهم تفاعل على صعيد محلي وكوكبي، إذ أصبح العلم - من حيث هو مشروعات بحثية ضخمة وتنظيم مؤسسي وتمويل وطني - مختلفا تماما عن تصورات ديكارت وكانط.
ويشهد تاريخ الأحداث على أن مفهوم العقل الكلي، ويعني عقل الغرب المتحضر، ومفهوم المعرفة الكلية، التي تعني معارف هذا العقل وصدقها الكلي، كانا أساسا لدعم المركزية الغربية وفرض عصر للهيمنة الكوكبية الغربية، واستطاع الغرب من خلال التوسع الإمبريالي أن يفرض بقوة وسلطان القنابل وآلات الحرب، وبفضل التفوق التكنولوجي والعسكري، أن ينشر مع التوسع نفوذ مفاهيم التنوير عن الطبيعة والحرية والحق باعتبارها ثقافة الغرب، وهذه هي المصطلحات أو الكلمات التي حددت معنى الحداثة الثقافية، وغرس الغرب وهما بأن لا انفصام بين التحديث الاقتصادي والتكنولوجي، وبين التحديث الثقافي على النمط الغربي، أي ضرورة التغريب شرطا للحداثة والتقدم الحضاري.
وليس خافيا أيضا أنه على مدى النصف الثاني من القرن العشرين - باسم طبيعة الأمور والصدق الكلي - فرضت الولايات المتحدة على اليابان وعلى عدد من الدول الزراعية في أمريكا الجنوبية دستورا ديمقراطيا ليبراليا لإيمانها، أو ظنا منها حسب إطار الفكر التنويري، أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن يكون وفق الرؤية الكلية لمعنى العقل - الطبيعة - المعرفة - المجتمع المدني، وفرضت دستورا ديمقراطيا غريبا عن الثقافة القومية بحجة أن الشعوب إذا أتيحت لها فرصة الاختيار التلقائي الحر سوف تختار التشبه بأمريكا؛ لأن هذه هي الطبيعة التي حرمتها منها ظروف وأوضاع قسرية، ولكن إنجازات اليابان ومن بعدها الصين وغيرهما من بلدان شرق وجنوب آسيا، وهي إنجازات حداثية، تحققت لأسباب أخرى، وليس بسبب الإصلاح الخارجي، كذلك المكسيك وبيرو وبورتوريكو وبلدان أمريكا الجنوبية أخفقت لأسباب أخرى، على الرغم من فرض دستور ديمقراطي ليبرالي، أي صورة مجتمع مدني، ولكن لا تزال الولايات المتحدة الرسمية تتعلق بأذيال التنوير الغربي أو بأوهامه، وترى فرض «الإصلاح» من خارج، ورفض مبدأ التنوع الثقافي، ظنا منها أن ثقافة «الأنجلو ساكسون» أو الرجل الأبيض هي الأرقى والأحق بالسيادة، وطبيعي أن فرض الإصلاح من خارج على يد قوة مهيمنة يعني إذعان الضعيف وإلزامه بتوفيق أوضاعه بما يتلاءم مع مصالح الطرف الأقوى ليشهد له بالصلاح.
وهكذا واجه - ويواجه - مفكرو الغرب أزمة عميقة صدعت أطر الفكر التقليدي أو الحداثي الغربي، وأصبح لزاما على الغرب إصلاح ذاته، وغني عن البيان أن الإصلاح المنشود عند الغرب غيره عند المجتمعات الأخرى لأسباب تاريخية واجتماعية وثقافية ... إلخ، وكانت ثورات الشاب الغربي في الستينيات نذيرا بالفشل التام لفكر التنوير في صورته الكلية، ودعوة لتجديد الفكر الغربي والالتزام بالخصوصية الغربية على قدم المساواة مع الخصوصيات الاجتماعية الأخرى، والاعتراف بالمستجدات من أحداث على الصعيد العالمي، وبالتنوع الثقافي وتعدد سبل التحديث وصولا إلى الحداثة، أي تجديد جذري لمفهوم وآلية المجتمع المدني الديمقراطي الليبرالي.
وخرجت من تحت عباءة ثورات الشباب في الستينيات تيارات فكر ما بعد «المودرنزم» أو ما شاعت تسميتها - وإن خطأ - ما بعد الحداثة، وأصبح مطلوبا فك الارتباط بين الديمقراطية الليبرالية ونظرة التنوير التقليدي إلى العالم (النظرة الكلية) للوصول إلى مفهوم عن المجتمع المدني الغربي وعن ثقافة المواطنة الغربية، مفهوم يؤكد الصواب الأخلاقي والمكانة الثقافية الجزئية لثقافة المواطنة المدنية الغربية.
وهذه دعوة لما يسمى الثقافة المدنية بعد الحداثية
Modern
أو الثقافة المدنية لما بعد التنوير
، وتلتمس هذه الثقافة الآن سبيلا جديدا لفهم طبيعة المواطنة الديمقراطية الليبرالية بعيدا عن أوهام الحديث عن عقل له ميزات ميتافيزيقية أو إبستمولوجية، فهذه الأوهام ضرب من الأيديولوجيا والشمولية الفكرية المرفوضة، ومن ثم فإن الدعوة إلى المجتمع المدني في فكر ما «بعد المودرنزم» هي دعوة لمراجعة ومناهضة فكر التنوير التقليدي، ومفاهيم المعرفة، والحق، والعقل الكلي المتميز، وإبداع قاموس لغوي غير قاموس التنوير القائم على النزعة الكلية والماهوية والمحورية الغربية، وتذهب هذه الدعوة إلى تأكيد التعددية والنسبية الثقافية، والتنوع الثقافي، وترى أن هذه هي طبيعة الأمور مما يؤكد حق المجتمعات الأخرى.
المجتمع المدني إذن - وحسب التعريف - مجتمع غربي، وقضية المجتمع المدني المثارة الآن في الغرب قضية غربية بامتياز، والأزمة هي أزمة تجديد الفكر الغربي وإصلاح المجتمع المدني الغربي، واحتل التفكير في المجتمع المدني مكان الصدارة بعد ثبوت إخفاق الليبرالية السياسية الحداثية التي جردت المواطن من فعاليته، وأصبح لزاما تجديد فعالية المواطن الغربي وإعادة بناء الثقافة المدنية على أساس من الخصوصية الجزئية، وهذا هو التحدي أمام الغرب، التحدي الثقافي والفكري، تحدي تغيير المفاهيم ولغة النظرية الليبرالية السياسية الحداثية التي تعزز خطابات أطر الفكر الكلية والتي تحول دون فهم التحولات الجديدة واستيعابها في العالم، أي تدعم المركزية الغربية وتغفل الجديد مع ظهور العالم الثالث.
ويرى التيار الإصلاحي الغربي أن الغرب بحاجة إلى لغة جديدة غير لغة قاموس التنوير التقليدي للحفاظ على الخصوصية الغربية إيمانا بالتنوع الثقافي، إننا - كما يقولون - بحاجة إلى التماس الطريق لإبداع ثقافة مدنية بعد تنويرية قادرة على دعم المؤسسات الليبرالية الديمقراطية وسط عالم متكافئ العناصر الحرة، ويتساءلون هل يمكن تجديد المعيارية المحورية المحددة للمثل العليا السياسية الليبرالية للحرية الفردية والمساواة، وأن يأتي التجديد متلاحما ومتسقا، على الرغم من تجريده من زخارف التنوير التي تحمل مسمى الرؤية الكلية الجوهرية؟
السؤال الآن: كيف يمكن لثقافة الغرب عن المواطنة المدنية - بعد أن سادت ثلاثة قرون وفرضت مفاهيمها ورؤاها على العالم باعتبارها النظرة الميتافيزيقية الكلية إلى العالم والتي قدمها التنوير - أقول كيف يمكن لها أن تعيد تأويل ذاتها لتحديد معالم أسلوب ثقافي جزئي للحياة مميزا عن الآخرين، أسلوب حياة له معاييره ولكنه قاصر فقط على مواطني الديمقراطيات الليبرالية في شمال الأطلسي؟
أزمة الثقافة الغربية هي أن الأفكار السياسية الليبرالية الحداثية التي كانت حاسمة لخلق ثقافة مدنية ليبرالية، ثقافة المجتمع المدني، فقدت مصداقيتها، ومن ثم بات لازما البحث عن أشكال جديدة فعالة للثقافة المدنية وللتعليم المدني وإعادة تأسيس المجتمع المدني، وغني عن البيان أنه لكي تؤدي المؤسسات الحرة في المجتمع المدني بعد الحداثي أو بعد التنويري دورها بكفاءة يلزم توفر مواطنين طوروا بالفعل المواقف والاستعدادات والقيم المعيارية الملائمة للمواطنة المدنية لعصر ما بعد التنوير: الإيمان بالتنوع وحرية الذات والآخر واستقلال العقل والمساواة بين الجميع وحق الاختلاف فيما بينهم.
وضمانا لتحقق هذا الشكل ولتكاثر هؤلاء المواطنين المدنيين يجب أن يمتلك المجتمع الوسائل الثقافية التي تمثل وتعبر لنا عن المعايير الديمقراطية الليبرالية للحرية والمساواة بأسلوب متماسك مقنع ومتسق منطقيا، أي ابتكار شكل بعد حداثي لثقافة مدنية جديدة، شكل يجسد معايير الحياة المدنية في صورتها الجديدة، دون حاجة إلى معايير معرفية كلية، أي إسقاط الشمولية المعرفية.
وإذا كانت قضية المجتمع المدني في ضوء ما سبق، وحسب التعريف والتاريخ المحددين لها قضية خارجية (غربية)، أعني ليست قضية مصرية أو عربية، وإنما نحن نرددها، كما جرت العادة، ونكون رجع صدى لقضايا الفكر الغربي: الطريق الثالث، الشمولية، والمجتمع المدني ... إلخ؛ إذن يكون السؤال هو: ما هي قضيتنا نحن بالفعل، إذا لم تكن بنية المجتمع المصري، ولا أي من المجتمعات العربية، تجسيدا لصورة المجتمع المدني؟ وطبيعي أن ما يسمى «إصلاحا» منشودا رهن فهمنا لطبيعة مجتمعنا نحن التزاما بالخصوصية. (4) الإصلاح
شهادة الأمم والتاريخ
تنبثق الدعوة إلى التغيير من بين ركام الفشل، ويولد النهج والنظرية من بين تنوع وصراع الآراء، وتاريخ الأمم التي ثارت على واقعها وخطت بقوة وعزم على طريق النهوض والتجديد شاهد على هذا، أبدعت أوروبا إطارها الفكري التنويري، الذي تجاوزت به عثرات ومآسي الحروب العرقية والدينية والطبقية على مدى مائة عام، وبنت نهضتها وتقدمت، وسادت ثقافة المواطنة المدنية والمواطن المدني في مجتمع مدني، وأبدعت اليابان نهجها للوحدة والتقدم بعد صراعات وحروب محلية امتدت خلال القرن السابع عشر، وعانت آلام صراع فكري بين التقليد والتجديد على مدى القرن الثامن عشر، ثم تساءل الجميع، «أيهما أحب إليك، كونفوشيوس أم الحقيقة؟»، وكان جواب الجميع: «لقد كان كونفوشيوس ساعيا للحقيقة يؤثرها على نفسه»، وانتصرت الحقيقة، حقيقة عصر العلم والتجديد، أو العقل والواقع، وأصبح امتدادا حضاريا لتراث اليابان وثقافتها في صورة جديدة، ومهد عصر الطوكوجاوا، وهو عصر الصراعات الفكرية، الطريق للنهضة التي انعقدت ولايتها لعصر الميجي.
وشهدت الصين في تاريخها القديم (500-600) قبل الميلاد صراعات دموية في عصر الممالك المتحاربة، وظهرت مدارس فكرية تتأمل أسباب الأزمة، وهي المدارس الست، ومن أهمها مدرسة كونفوشيوس، ومع العديد من المفكرين مثل منشيوس وهسون تزو، وراج شعار أو حكمة صينية قديمة: «دع مائة زهرة تتفتح، ودع مدارس الفكر تتصارع»، وصاغ الحكماء نهجا للاستقرار والنظام والحكم الصالح، كذلك الحال في تاريخ الصين الحديث، فقد شهدت الصين في النصف الأول من القرن العشرين صراعات فكرية وحروبا، ودارت معارك بين دعاة التحديث والتقليد، وتناظر الصين مصر في هذه المرحلة، إذ عرفت الصين - مثلما عرفت مصر - العديد من دعاة التحديث/التغريب، وانتشرت ترجمات لمدارس الفكر الغربي: داروين وهكسلي وغيرهما، وزار بكين برتراند رسل، وجون ديوي وغيرهما حيث ألقوا المحاضرات، ولكن الصين خرجت من الحروب والصراعات إلى نهج جديد تطور مع تجارب السنين، وأبدعت الصين إطارها الفكري التنويري الذي يحمل كل عناصر الثقافة الصينية التاريخية في صيغة تأويلية جديدة تدعم وتدفع حركة التطوير والتقدم.
هكذا استطاع المفكرون في هذا البلد أو ذاك أن يستوعبوا الأحداث وأن يصوغوا نظرياتهم عن نهضة تتوفر إمكاناتها المادية في المجتمع وعن نوع الإنسان المنوط به الإنجاز وإمكاناته وقدراته. وكانت لكل بلد رؤيته المعبرة عن خصوصية قضاياه وثقافته، وليس غريبا أن يحتدم الصراع ويصل إلى حد الاقتتال والاتهام بالتجديف والفكر؛ إذ ثمة هدف ينشده الجميع، وثمة ضغوط اجتماعية وحضارية تحفز الجميع لالتماس سبيل للبناء وتحقيق الذات في الداخل وللمنافسة مع الآخرين، وسد الذرائع أمام الطامعين من الخارج، وكانوا جميعا يتطلعون بأبصارهم إلى المستقبل وليس إلى الماضي، ويقفون بأقدامهم على أرض الواقع، وليسوا محلقين مع تهويمات في الفراغ، ولهذا انتصر كل بلد أو إقليم على عوامل الشقاق والنزاع، وتوصل إلى نهج مميز للتحديث، ليس انسلاخا عن الذاتية القومية، وإنما امتداد حضاري لتراث تاريخي عريق، وقطيعة معرفية مع القديم الذي كان صالحا لزمانه، وتكيفا ناجحا مع مقتضيات العصر وتحدياته.
وأصبحت ثقافة التجديد والتطوير هي ثقافة المجتمع المعاصر، وأصبح المواطن فعالية وطنية نشطة في سياق حضاري جديد يواكب مقتضيات العصر، كانت القضية في وقت الأزمات في كل من هذه البلدان: تشخيص الداء، تحديد الهدف في سياق التحديات المحلية والخارجية، رسم المنهج اللازم للوصول إلى الهدف، بناء إنسان مواطن جديد في ضوء استراتيجية تطوير تعبر عن آماله وحاجاته وتطلعاته، وسيادة ثقافة وتعليم وإعلام هي قوة داعمة لبناء هذا الإنسان الحر الملتزم، المسئول الفعال، بمعنى أن الجهود دائما تصب - حسبما هو مفترض - في السعي من أجل تطوير فعالية الإنسان العام وتعظيم رأس المال البشري وإن اختلفت الثقافة الحضارية الجديدة من بلد إلى آخر حسب خصوصيته الثقافية والتاريخية.
وصنع التطوير رهن رصيد ومنتج أو عائد، رصيد يكفل قدرة الفرد أو الجماعة أو الأمة على صنع حياة ميسورة ومقبولة لتطوير حياة مادية ومعنوية صحية سوية في ضوء إطار مفاهيمي، وهو ابتكار ذاتي، لمعنى هذه الحياة وتحدياتها، ويتألف الرصيد من حزمة عناصر هي جماع رأس مال الأمة الاقتصادي والمالي والاجتماعي والإنساني: (1)
رصيد الموارد الطبيعية والموارد المالية (مدخرات واحتياطات ونهج استثمار وثقافة داعمة لهذا النهج). (2)
رصيد ممتلكات قومية (جسور وطرق وعقارات وموجودات عامة وثقافة الحفاظ عليها وتطويرها). (3)
رأس المال المؤسسي (مؤسسات قانونية حامية، وإدارات حكومية ديمقراطية ذات كفاءة وفعالية، ومؤسسات مدنية علمية وتعليمية واجتماعية وسياسية في مناخ من ثقافة الحرية والطوعية). (4)
رأس المال المعرفي (تنشئة، تعليم عام، جامعات، براءات اختراع، مراكز التفكير الاستراتيجي، إنتاج معرفي، والتي تصب فيما نسميه رأس المال البشري). (5)
رأس المال البشري (مستويات ونوعيات التعليم، المهارات، القدرات الإبداعية كما ونوعا وتنوعا، حرية تفكير وتنظيم). (6)
رأس المال الثقافي (ثروة إنتاج ثقافي، رصيد القيم الحاكمة للسلوك والداعمة للإبداع وللارتقاء والتطوير والمنافسة، تراث ثقافي مرن قابل للتأويل، استجابة لمقتضيات التطوير وقابل للتفاعل والتسامح، وإيمان راسخ بالمثل العليا للمواطنة المدنية). (7)
رأس المال الاجتماعي في صورة انتماء وتضامن وعوامل إيجابية، تعزز ذلك من حيث التفاعل الحر وعلاقة ديمقراطية بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، أي السلطة.
الوعي بالتاريخ وعيا موضوعيا، خاصة وأن التاريخ القومي كان ضحية تشويه من قبل الغزاة وأصحاب السلطان ضمانا لثقافة الولاء.
الثراء المعرفي، لا الفقر المعرفي بما يواكب تحديات العصر.
توفر رؤية مشتركة إزاء استراتيجية تطوير شامل تكون موضع اتفاق للآراء وموضوع حوار حر وتمثل عقيدة اجتماعية للتطوير وأساسا للمنافسة. (8)
التغذية المتبادلة بين الرصيد المنتج أو العائد الاجتماعي في إطار الاستراتيجية، وتجري التغذية في شفافية وحرية المعلومات والتعبير، مناخ ديمقراطي ونقد موضوعي. (9)
فهم عقلاني علمي نقدي لمجريات أحداث العالم وتياراته الفكرية والعلمية والسياسية ... إلخ، وقدراته وإجابة نقدية موضوعية عن المعوقات الذاتية.
إصلاح أم تطوير؟!
إجادة التشخيص خطوة أساسية نحو تحديد العلاج اللازم، وتجري على الألسنة الآن كلمة «الإصلاح» لأنها الكلمة أو النصيحة، الدعوة الواردة على لسان سادة العالم اليوم في نظرنا، وكثيرا ما نكون - إن لم نكن دائما في العصر الحديث - رجع صدى لقضايا الخارج أو متطلباته منا، وهكذا زخرت ساحتنا الإعلامية والثقافية بكلمات مثل: الشمولية، الطريق الثالث، تمكين المرأة، الديمقراطية، التنمية، وغيرها وغيرها، ومنها كلمتا المجتمع المدني والإصلاح.
ولكن ما هو الفارق بين التنمية والإصلاح في حالتنا نحن؟ وهل هي كلمات واضحة المعنى ومحددة للهدف الذي يشكل طوق النجاة لحياتنا، أحسب أن الكلمتين مضللتان من حيث المدلول والهدف المتوقع إنجازه، ومن ثم خاطئتان، الإصلاح إدخال تعديلات على بنية أساسية قائمة وغير مطلوب تغييرها أو تجاوزها، لذلك فإن إصلاح المجتمع المدني في أوروبا أمر واضح، إذ المطلوب الحفاظ على المجتمع المدني، ولكن في إطار منظور جديد لتصويب أخطاء موروثة من عصر التنوير، وتعني التنمية تغيرا كميا على صعيد أفقي، مع الحفاظ على البنية الاجتماعية الأساسية والواقع الثقافي وهيكل العلاقات، ويكفي هنا مؤشرا على التنمية كمثال زيادة متوسط نصيب الفرد من الدخل القومي، لذلك كانت التنمية في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية كلمة صحيحة للدلالة على الحفاظ على البنية الليبرالية الديمقراطية مع إعادة تنشيط الإنتاج ودعم دولة الرفاه.
ولكن التطوير تغير كيفي على صعيد رأسي، انتقال المجتمع من طور إلى طور من حيث الإنتاج وأدواته والثقافة والعلاقات الاجتماعية وهيكل المؤسسات ودورها في القوانين الاجتماعية الحاكمة وفعالية الإنسان العام باعتباره قوة مشاركة إيجابية وبناءة ومسئولة، لهذا كان انتقال اليابان من عصر «الطوكوجاوا» إلى عصر «الميجي» تطويرا لا تنمية، أي انتقال إلى مرحلة حضارية جديدة، هي حضارة التصنيع بكل مقتضياتها، لم ينقلها ما سمي «الإصلاح الأمريكي» وإنما صراع اليابانيين من أجل بناء بلدهم الذي أوجزه شعار «أمة غنية وجيش قوي»، ودفعها هذا إلى التهام تكنولوجيا الغرب وعلومهم والمشاركة الإيجابية، بل والسبق في تطويرهما، وهذا هو ما يصدق على الصين؛ إذ كانت نظراتها منذ خمسينيات القرن العشرين ليست إصلاح البنية الأساسية القائمة آنذاك للمجتمع الصيني، بل تطوير الصين والانتقال بها إلى حضارة عصر العلم والتكنولوجيا، والآن عصر المعلوماتية واقتصاد المعرفة، وفرض هذا عليها، مثلما فرض على اليابان وعلى الغرب، سياسات جديدة في التعليم والعلم والثقافة الاجتماعية والإعلام ... إلخ، ولهذا يبقى السؤال بالنسبة لمصر: إصلاح أم تطوير؟
مصر والتغيير
الحديث عن الإصلاح في مصر ليس جديدا، ولكن الجديد أنه مطلب خارجي، وهذا أمر بحاجة إلى دراسة نقدية تحليلية لخروجه عن طبيعة الأمور على الرغم من وقوع الحدث، عرفت مصر في تاريخها الحديث على مدى القرنين الأخيرين مرحلتين من صعود قرين دعوة للإصلاح، ثم انحسار قرين صمت أو إعداد لحمل جديد، وأخفقت المرحلتان أو انحسرتا مبتسرتين دون أن تبلغ أي منهما مداها المأمول، واعتدنا في الحالتين أن نرد الفضل إلى مؤامرات الاستعمار، أي إلى سبب خارجي فقط، دون أن نكمل النظرة النقدية بالبحث عن أسباب كامنة في ذاتنا، في ثقافتنا باعتبار الثقافة هي المحدد للسلوك، لذلك لم تقترن دعوات الإصلاح بنزعة شك في الموروث والأطر الفكرية النافذة أو المعتمدة، ويلاحظ أننا رددنا مرارا السؤال: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ ولم نقرأ بعد إجابة صحيحة، وجدير بالذكر أن المجتمعات عادة حين تواجه صدمة الفشل تسأل أحد سؤالين: ما الخطأ فينا؟ والذي جعلنا فريسة للفشل؟ أو «من فعل بنا هذا»؟ السؤال الأول سألته اليابان وأوروبا والصين وماليزيا وغيرها عند تعبئة الجهود للنهضة، السؤال الثاني هو السؤال الذي اعتدنا نحن أن نسأله، والإجابة مؤامرة الآخر، ثم ينسدل الستار دون رؤية نقدية للذات.
المرحلة الأولى للإصلاح أو التغيير مع أواخر القرن الثامن عشر، وأثمرت مع مطلع القرن التاسع عشر، وكان نظام حكم محمد علي، كما سبق أن وصفناه في كتابنا «التراث والتاريخ»، مناسبة لا سببا للإصلاح أو التطوير الذي يستهدف مصر حضارة وتاريخا وإنسانا، وأعني به الفلاح المصري، وزار مصر آنذاك وفد ياباني، مثلما زار عددا من الدول المتقدمة آنذاك، ليدرس كيف تكون النهضة، وعرفت مصر أعلاما مثل رفاعة الطهطاوي إمام النهضة الثقافية المصرية الحديثة، والذي كان امتدادا - أو تلميذا - لمثقفين ومفكرين إصلاحيين عاشوا في مصر مثل الشيخ حسن العطار وغيره، عرفت في المجال العسكري أحمد عرابي، ابن الأرض السوداء وفلاحي مصر، الذي أعلن أنه لم يكن يريد امتيازا ولا تميزا لمصري دون شركسي أو تركي، أي عبر عن مفهوم تنويري لمجتمع مدني منشود، ثم من بعدهما جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، وانحسرت حركة الإصلاح مع انحسار طموحات محمد علي وتقييد أطماعه، ولكن بقي منها ما لم يستطع أحد أن يمحوه، ألا وهو خروج المصري الفلاح لأول مرة في تاريخه خارج المعزل الذي حاصره منذ غزو الفرس، خرج ليتعلم ويشارك إذا ما تهيأت له الفرصة.
وشهدت مصر في أواخر القرن التاسع عشر ميلاد زعماء إصلاح أو تغيير ليبراليين جدد احتلوا الساحة على مدى النصف الأول من القرن العشرين: طه حسين، علي عبد الرازق، سلامة موسى، أحمد لطفي السيد، أحمد أمين، فؤاد صروف، شبلي الشميل، عباس العقاد، علي مشرفة، وآخرين، وتجلى هذا كله في تنظيمات دستورية ومؤسسات اجتماعية وسياسية وتعليمية امتدت أصداؤها وتأثيراتها إلى أنحاء المنطقة العربية، واستهدفت الجهود بناء مجتمع مدني على غرار الغرب، وشهدت الساحة الثقافية صراعات فكرية حول قضايا التقليد والتجديد، تحديث أم تغريب؟! ... إلخ، ولم تبلغ الحركة كامل عنفوانها ونضجها، وانحسرت مع النصف الثاني من القرن العشرين وإن تباينت أسباب الانحسار أو الانتكاس على مدى فترات الحكم الثلاثة في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي اتصفت بخاصية واحدة مشتركة، وهي تعطيل الفعالية الحرة الفردية والجماعية للمواطن المدني المصري، ومن ثم المجتمع المدني الذي كان مشروعا تطوريا على مدى النصف الأول من القرن ولم يتحقق.
والتغيير على طريق التطوير استجابة مجتمعية، وابتكار ذاتي إزاء تحديات مفروضة، استجابة مجتمع يتميز بعافية وقدرة ومن خلال آلية حرة منظمة تكفل أكبر قدر ممكن من صواب رد الفعل، ولكن حين يغيب رد الفعل المجتمعي على الرغم من الصدمات والأحداث الجسام التي تحيط بالمجتمع، كما نرى الآن، فإن هذا يعني أن المجتمع بات مصيره مجهولا، وليس أمره بيده، والتغيير والتطوير في عصرنا الحديث ليس جهد أمير أو سلطان أو حاكم فرد مهما خلصت وصلحت النوايا، نحن نعيش عصر الإنسان العام، أو عصر الجماهير ومثقفي الجماهير وحكام الجماهير، عصر زعماء يتحركون بالجماهير المنظمة مؤسسيا وبالإنسان العام الواعي ذي الفاعلية العقلانية الواعية، ومن خلال مؤسسات معبرة عن كل مجالات الأنشطة والمصالح الاجتماعية في إطار المساواة والحرية والسيادة القانونية.
ولقد شرع العديد من بلدان المستعمرات السابقة، التي عرفت طريقها إلى النهضة في استكشاف الموارد الغزيرة المستمدة من تقاليدها الثقافية المحلية لدعم استراتيجيتها للتطوير والتقدم اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وإنسانا عاما، ونشأت حركات فكرية تقدمية هي ابتكار ذاتي وتجسيد لاستراتيجيات التطوير من مثل الأسينة
Asianization ، مثلما نشأ عندنا شعار الأسلمة، ولكن من أسف أن قنع به أصحابه رسما دون مضمون وبرنامج عملي استراتيجي، ويلاحظ هنا أن الجميع يستثمرون مصادر تراثهم على أساس دراسة نقدية وفي تأويل جديد داعم للتكيف مع الواقع العالمي المتغير وليس للدوران داخل حدود نص شكلي قديم، جف معينه بعد أن مضى زمان صلاحيته، أدركوا عن صواب أن الدراسة المستقبلية تستلزم رؤية نقدية للغرب وللتراث وللذات التاريخية الثقافية وتطوير التراث ليكون آلية دفع، لا آلية ارتداد، وبذا تتجدد المنظومة الذهنية قرين استيعاب الواقع الراهن والمشاركة في إبداع الجديد استلهاما لروح العصر: العلم والتكنولوجيا.
والتغيير على طريق التطوير حسب هذا المعنى تعبئة وحشد وتطوير لكل الجهود والطاقات: معرفية ومعلوماتية وعلمية وتعليمية وتراثية وثقافية وتربوية وإعلامية واقتصادية وعسكرية، لتصب جميعها من خلال مؤسساتها في جهود بناء الإنسان الجديد، ويتلخص هدف التطوير وصورته في شكل إطار فكري نظري صالح للتطبيق بفضل هذا الإنسان ومعبر عن حصاد جهد وحوار جمعي، ولهذا نحن في مصر بحاجة أولا وأساسا إلى إطار فكري تنويري تميزه خصوصية الواقع وأحداث التاريخ، قرين رؤية نقدية ذاتية لتراثنا الثقافي والسياسي، ويكون بوصلة موجهة للسلوك وقادرا على حشد زخم القوى الاجتماعية وحفز الحركة قدما على طريق التطوير.
وينبني مثل هذا الإطار الفكري، لكي تتوفر فيه الخصوصية المميزة، على أساس دراسة تسهم فيها كل المؤسسات المدنية ذات المصلحة المنوط بها إنجاز نشاط اجتماعي ما، ولا يكون حبيس رأس حاكم وحده مهما بلغت حكمته، وتتصف هذه الدراسة بأنها متعددة الأبعاد: تاريخية وثقافية اجتماعية واقتصادية وسياسية وأنثروبولوجية ... إلخ، ودراسة مقارنة لواقع أزمة المجتمع المحلي وواقع حال المجتمع الإقليمي والعالمي وتناقضاتهما وإنجازاتهما وتحدياتهما، إنه إطار فكري لاستراتيجية بعيدة المدة وإن قسمها المجتمع إلى مراحل، وهو دائما موضوع الحوار والاختلاف والصراع، وتجري هذه الدراسة بالضرورة في إطار الحرية والعقلانية والمنهجية الموضوعية مع مساحة للصراع الفكري الحر الملتزم بالعقل العلمي وقبول الاختلاف مع الآخر، والتعالي عن الحزازات والانحيازات الدينية والطائفية والجزئية التزاما بمصلحة المجتمع العام، وذلك ضمانا لحشد القوى ليكون تغييرا جمعيا ما دام أنه يستهدف الإنسان/المجتمع، أو المواطن العام صاحب المصلحة، وتتحدد معه آليات التنفيذ الحر من تثقيف وتعليم وتنشئة اجتماعية وإعلام وحق الاقتراع والانتخاب والترشيح وبناء المؤسسات علمية وسياسية، والاعتراف بالذاتية المستقلة الحرة للمواطنة وبالروح الجماعية التي لا تعني نظرة أيديولوجية شمولية تحجب الاختلاف، وإنما تسمح به وتتسامح معه وتملك آلية صحية لمعالجتها.
إن الدعوة إلى الإصلاح أو التطوير يتعين أن تكون دعوة عامة ومسئولية عامة لمراجعة نقدية لكل مقومات المجتمع، ويلزم أن نسأل أنفسنا ضمانا لجدية الخطو على طريق النهضة في اتساق مع مقتضيات العصر:
كيف نفكر في قضايانا ومشكلاتنا؟ ما هي مرجعيتنا في التفكير: عقل علمي، أم عقيدة موروثة؟ ما هو تراثنا الثقافي في التفكير، تنافس، أم قناعة بميزة نسبية تتمثل في موجودات طبيعية؟ تواكلية في السلوك، أم إبداع وتحد؟ صراع على السلطة، أم صراع على برامج ومناهج عمل؟ التركيز على رأس المال المادي/المالي أم رأس المال البشري المعرفي؟ رعايا أم مواطنون، ووصاية أبوية أم حرية فردية مسئولة؟ هل نعتمد التراتبية الرأسية أم الجدارة والمرونة؟ هل دأبنا سياسة رد الفعل أم المبادرة الداعمة للفعل واستباقه؟ السلطة هي المفكر الرئيسي أم الأمر مشاركة فاعلة منظمة من الإنسان العام والمؤسسات؟ هل نهجنا في الحياة والإصلاح إعادة توزيع الثروة أم خلق الثروة؟ هل نلتزم نظام حكم قائم على نزعة أبوية أم الابتكار والمشاركة الديمقراطية بين مواطنين أحرار متساوين؟ هل رأس الدولة غايته الاستقرار والمحافظة أم التطوير والتغيير والتحدي.
ولنا أن نسأل ما هي ثقافة قيادة الأمة في الحكم وفي الأحزاب وفي مشروعات الأعمال؟ كيف يصوغون استراتيجياتهم على النحو الذي نراه، إن كانت لهم استراتيجية، ولماذا لا يعملون على هدى استراتيجية، ويقنعون بسياسة رد الفعل؟ كيف تفكر الجماعات والأحزاب في قضايا الأمة؟ هل التفكير في إطار قبول التحدي والمنافسة البرنامجية وفي أسلوب الأداء أم كفالة البقاء؟ في أي المجالات تؤكد القيادات وجودها وقوتها، الأمن، الاستقرار (أمن السلطة واستقرارها أم الوطن والمواطن)، خلق الثروات، دعم التنافس، تطوير الإنسان وتعظيم رأس المال البشري، الحريات والديمقراطية، تطوير رؤية مشتركة والمشاركة في صنعها، أم رؤية فردية، المصالح الشللية والمحسوبية أم المساواة أمام القانون صاحب السيادة في الحقوق وفي فرص العمل والثروة؟
ما هي الثقافة الاجتماعية وثقافة القيادات السياسية وتجلياتها في التعليم والإعلام والتنشئة والتفاعل الاجتماعي ...؟ هل هي ثقافة مقاومة للتغيير أم غرس قيم التغيير ومعاييره وفضائله؟ إبداع وسائل غير تقليدية والالتزام بالمنهج العلمي في التفكير وفي فهم مشكلات الداخل ومشكلات العالم من حولنا؟ قد يكون التحدي خلق نماذج ذهنية أو إعادة بناء المنظومة الذهنية الحاكمة لثقافتنا العامة وثقافة القيادات، وهو ما يتأكد ويتحقق من خلال الحياة السياسية العامة داخل منظومات حرة؟ هل التغيير من خلال الناس وبالناس بوصفهم مواطنين أحرارا في مجتمع مدني، أم تأسيسا على نظام الوصاية؟ بات ضروريا تغيير النماذج الذهنية الأساسية الموروثة التي تشكل طريقة المرء في التفكير بشأن المخاطرة والثقة والمنافسة والسلطة ... إلخ، وحري أن يمثل هذا بؤرة جهود التغيير وأن يتجلى في التعليم والنشاط العلمي والسياسي.
فعالية الإنسان المصري في التاريخ
ثمة سؤال ثقافي اجتماعي يلح كثيرا على الأذهان: إذا كان التغيير والتطوير استجابة مجتمعية ردا على تحديات، فلماذا الإنسان المصري يتصف بضعف رد الفعل إزاء التحديات الحضارية في الداخل والخارج؟ ويتطور السؤال أحيانا: لماذا المجتمعات العربية لا تحركها أحداث جسام مثل هزيمة عسكرية أو احتلال أرض أو تفوق خصم علميا وتكنولوجيا بينما تثور غاضبة هائجة عند وقوع حدث يمس شيئا له القداسة مثل الاعتداء الصهيوني على المسجد الأقصى؟ وسبق أن قال المقريزي: «قال الرخاء: إني راحل إلى مصر، فقال الذل: وأنا معك»، وتكرر مثل هذا المعنى على لسان آخرين.
ولكنني إذ أرفض السؤال على هذا النحو أرى أن أصوغه على النحو التالي: ماذا حدث للإنسان المصري على مدى قرون من التاريخ قاربت ألفين وخمسمائة عام ليصبح على حاله الذي هو عليه الآن؟
السلوك الإنساني وشكل فعالية الإنسان والاستجابة الاجتماعية، جمعية أو فردية، أمور يصنعها واقع الحياة في التاريخ، أو بمعنى آخر: الثقافة الاجتماعية الحاكمة للسلوك نتاج تفاعل أيكولوجي يشمل البيئة وطبيعة التعامل معها لإنتاج الوجود ، ويشمل العلاقات بين الناس، والعلاقات مع الحكام ونظم الحكم، ويشمل الصراعات مع الخصوم والأعداء والطامعين، ويترسب حصاد هذا كله في صورة ثقافة، أي شكل من أشكال التكيف والرؤية تعبر عنه أقوال مأثورة وأمثلة عامية هي حكمة المجتمع المستخلصة من واقع حياته، ويتجلى سلوكا فرديا وعاما، والثقافة بهذا المعنى آلية تكيف قصد امتلاك أو اقتناص فرصة للبقاء.
وإذا تأملنا تاريخ مصر منذ غزو الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد نجد أن مصر عاشت طوال هذا التاريخ حتى منتصف القرن العشرين خاضعة لحكام غزاة رعاة أجانب استنزفوا خيراتها ونزحوها إلى بلادهم في الخارج، ودمروا مؤسساتها التعليمية والعلمية والدينية المقامة في صورة معابد، وسام الحكام الإنسان العام المصري سوء العذاب والإفقار والتجهيل، أصبح المصري منذ هذا التاريخ غريبا على أرضه ليس له الحق في المشاركة برأي أو كلمة، وإنما عليه الطاعة في خوف، وأن يعمل كادحا لينتج ما لا نصيب له منه، وعاش المصري - الفلاح المصري - فيما يشبه المعزل العنصري، كسر محمد علي جدار هذا المعزل ليستخدم الفلاحين جنودا، وخرج من بينهم أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي.
أذكر هنا أن جمال الدين الأفغاني أرقه هذا الوضع في مصر وهو يحرض على الثورة، وشاء له أن يذكر المصريين بأمجادهم وتاريخهم باعتبارهم صناع حضارة، وهذه هي الأمور التي عمد الغزاة والطغاة والحكام المستبدين إلى طمس معالمها لكسر النخوة الوطنية، وتجريد المصري، ليسلس قياده، من أسباب الاعتزاز بنفسه، ومن أية قدرة على التحدي أو إمكانية استعادة ذاتيته بوصفه صاحب حق في حياته وفي أرضه وبناء مستقبله باختياره.
وقال جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد، وتربيتم في حجر الاستبداد، تناوبتكم أيادي الغاصبين من الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك، وكل منهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه، ويستنزف قوام حياتكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم، بالعصاب والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وأجدادكم، هبوا من غفلتكم، واصحوا من سكرتكم، عيشوا مثل باقي الأمم أحرارا، أو موتوا شهداء، وأنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض بفأسك لتستنبت ما يسد الرمق، لماذا لا تشق قلب ظالمك؟»
نعم هناك تاريخ صامت لثورات المصريين، وهبات هنا وهناك ضد الغزاة الطغاة، ولكن التاريخ ينطق عادة بلسان الحكام محليين أو غزاة ويصمت عن سواهم، وابتدع المصري آلية ثقافية تكفل له فرصة البقاء وهو المغترب على أرضه، تمثلت هذه الآلية في الهجرة إلى الغيب التماسا للسلامة والعزاء، وقد تكون الهجرة بعيدا عن وادي النيل إلى بطن الصحراء، وقد تكون توحدا ظاهريا مع الغاصب المعتدي: «إيد تبوسها وعايز تقطعها»، «وإن كنت في بلد تعبد العجل حش وارميله»، وقد تكون انطواء على النفس ودعاء إلى الله وموالا مشحونا بالأنين يفرغ فيه أحزانه وأشجانه في عتمة الليل، ولكنه في الحالين أعزل ومعزول فاقد الحيلة.
خلق هذا المناخ وبيئة الاستبداد وفقدان الحيلة على مدى القرون الطويلة ثقافة جامعة بين النقيضين على قدر الحال، ثقافة تجمع بين الغضب الصريح من بطش الحاكم وتمني هزيمته أو كتمان الغضب كرها، والاستسلام لحكم القوي على الضعيف، ورسخ هذا الوضع ثقافات الردة والماضوية والاكتفاء بالدعاء على الظالم، والتحليق في فراغ الخيالات.
وهكذا تحول المجتمع المصري إلى نثار، تجمع سكني دون انتماء، وتراث ثقافي موروث في صيغة أسطورية؛ ذلك لأن العقل الجمعي تخلقه فعالية جمعية، وبرزت على السطح مأثورات الانطواء والسلبية واللامبالاة، وكم هو عسير - إن لم يكن من المستحيل - بناء نهضة بإنسان لا منتم أو إقامة مجتمع علمي أو حضارة علم وتكنولوجيا قوامها الإبداع المنهجي المنظم وسط تجمع بشري لا يعرف النظام وإنما تسوده فوضى، وتحول الإنسان المصري بسبب الاستبداد الممتد والاغتراب المفروض قسرا، ناهيك عن فساد الإعلام والتعليم والتراتبية الهرمية الاجتماعية التي لا تعتمد الكفاءة لصالح المجتمع معيارا أوحد، تحول الإنسان المصري بسبب هذا إلى كائن حي وليس فعالية، وتحول إلى غريزة منفلتة، طموحه المتاح هو أن يبقى على قيد الحياة لا أن يبني مجتمعا لا ناقة له فيه ولا جمل.
ولكن هذا الواقع الممتد تاريخيا لا يعني أبدا أن ثقافته تعبير عن تكوين جبلي، كما زعم المقريزي، إذ كانت شعوب الأرض في ظل النظم العبودية قديما على هذه الصورة، هكذا كان الأوروبيون قبل التنوير وفي ظل محاكم التفتيش، وهكذا كان الصينيون قديما، ويؤكد العلم أن الإنسان تحكمه ثقافته الاجتماعية، ولكنه أيضا هو الخالق لثقافته، ومن هنا كانت دعوة حركة التنوير في أوروبا إلى ثقافة مدنية للمجتمع المدني لصوغ المواطنة المدنية وبناء المواطن المدني المؤمن بالحرية والعقل والمساواة وصاحب الفعالية العقلانية والذي ساهم في بناء المجتمع المدني والحفاظ عليه، ولهذا يتعين النظر نظرة نقدية إلى ثقافتنا وعلاقتها بالتغيير والتطوير، وصولا إلى ثقافة جديدة لا تحفز إلى ردة ولا إلى تقليد بل إلى فعل إبداعي عصري تضعنا أندادا لأهل التقدم، وهكذا روح المصري الثائرة المتمردة ثاوية في أعماقه، طواها بين جوانحه خوفا من البطش والاستبداد، وقناعة بالدعوات والكلمات أو النكات، ولكنها تنطلق عارمة مدمرة في لحظات الهبات والانتفاضات وكأنها تنتظر قوة تنظيمية حرة هادفة لتكون قوة بناء منهجي لخير الجميع.
ثقافة تطوير لا إصلاح
قضيتنا تطوير وتحول حضاري وليست إصلاحا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطار من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالا على الآخر المتقدم المنتج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: «لقد سخر الله لنا الغرب»، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحققه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقق من خلاله ذاتيته أو هويته في تكامل متطور، والوجود صراع وتحد، وتكيف مطرد في استجابة لهذه التحديات المتواترة، ولهذا فإن ثقافة المجمع هي آلية التكيف، ودعامة التطوير والتغيير، وتتصف بالمرونة الدينامية وغرس روح الفعالية والنهم المعرفي باعتبار ذلك قيمة أخلاقية ومثلا أعلى.
وسبق أن قلنا في دراسة لنا (الترجمة في الوطن العربي - الواقع والتحدي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1991) أن المجتمعات، أو لنقل الثقافات الاجتماعية في رأينا صنفان، والتصنيف ليس قدرا أبديا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار، أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف، ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخ الموروث، والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقول السلف والأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد، والزمان امتداد متجانس فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم، فهو بداية التاريخ وغايته، وليس غريبا أن تسود هذه الثقافة مقولة: «الشرور في المحدثات، فكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
هذا بينما ثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير، والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها، وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
وليس غريبا أن علاقة الثقافة بالتطوير باعتبارها أحد المقومات الأساسية تمثل اليوم موضوعا رئيسا في الدراسات الثقافية الاجتماعية، وموضوعا محوريا في الجهود النهضوية سعيا لتأويلها تأويلا جديدا داعما للحراك النهضوي الاجتماعي، وهذا ما فعلته أوروبا النهضة وما فعلته اليابان وتفعله الصين الآن، والثقافة هنا ليست فقط مجرد مشاهد الإنتاج الثقافي من أفلام وندوات وكتب وحفلات وكأنها جزر معزولة عن النسيج الاجتماعي العام، وإنما ينصب الاهتمام على النماذج الذهنية أو المنظومة الثقافية الذهنية المحددة للقيم والأفكار وما ينبغي وما لا ينبغي أن أفعله، أي حاكمة لطريقة النظر والتفكير في الأمور والعلاقات وما يتوجب على المرء من سلوك، إنها بذلك القاعدة الأساسية التي تنتظم حولها أنشطة المجتمع والمصداقية الاجتماعية لهذه الأنشطة وضمان أن تكون ثقافة تغيير ديمقراطية النهج، وثقافة خلق للثروة وليست القناعة بالموجود، وطبيعي أن تأويلا جديدا للثقافة يعني توترا مرحليا بين ثقافة تقليدية وتطوير يستلزم تغييرا في أنماط السلوك.
ولهذا عمدت أكثر هذه الدراسات إلى بيان توزيع المجتمعات بين مجتمعات نزاعة إلى الحركة والتغيير والتقدم أو ناهضة تسودها ثقافات تقدمية داعمة للتقدم، ومجتمعات متخلفة تسودها ثقافة سكونية، وعلى الرغم من أننا لا نؤمن بأن مثل هذا التقسيم هو تقسيم جامد مطلق الصواب، وإنما هو نسبي مشروط بظروف وأن المجتمعات قابلة لظروف بعينها سياسية أو اقتصادية ... إلخ، أن تكون هذا، وقابلة لظروف أخرى أن تكون ذاك، وإنما نرى من المفيد أن نعرض هنا ما أجمله الدارسون من خصائص تميز هذه المجموعة أو تلك:
الثقافات التقدمية
الثقافات السكونية (1) تؤكد على بناء المستقبل والتأثير في المصير بجهد وإرادة الإنسان/المجتمع، وترى الحقيقة والصواب ثمرة بحث علمي لعلماء العصر من أبناء المجتمع. (1) تؤكد على الحاضر أو الماضي وترى الجزاء والحقيقة والصواب من فم رأس الدولة أو التقليد. (2) محورية العمل من أجل حياة جديدة قوامها الإبداع والإنجاز. (2) العمل عبء، وأفضل الثروات ما يأتي مجانا مع قناعة بالموجود. (3) المبادرة الفردية والإبداع أساس للتقدم والتطوير. (3) قمع المبادرة الفردية والإنجاز، وترى الحياة والسلامة داخل النص: نص التقليد ونص إرادة السلطان. (4) الادخار أصل الاستثمار والأمن المالي وضمانة اجتماعية. (4) الادخار - إن وجد - فهو شأن فردي أو ليكن لي يومي الذي أعيش فيه. (5) التعليم مفتاح التقدم وإشباع وتحقيق للذات، وأداة تغذية وصياغة واستكشاف جديد وإثراء معرفي. (5) للتعليم أهمية هامشية وليس طريقا للإبداع والتفوق في الإنجاز وإنما تأكيد للتقليد. (6) الجدارة أساس التقدم والترقي. (6) المحسوبية أساس تسلق النظام الهرمي. (7) الثقة تمتد إلى نطاق المجتمع العام. (7) الثقة قاصرة على الذات أو الأسرة أو الطائفة، والتهرب الضريبي للإفادة الذاتية. (8) القانون أكثر التزاما وأقل فسادا. (8) القانون إرادة السلطة أو رجال الدين. (9) السلطة تميل إلى الانتشار وتكون قسمة مشتركة ومسئولة عامة وموضوعا للمحاسبة. (9) تراث السلطة استبدادي، والسلطة شديدة المركزية، فردية مطلقة. (10) نفوذ السلطة الدينية محصور في نطاق ما يخص الدين وسؤال العامة. (10) نفوذ السلطة الدينية يمتد إلى كل مجالات الحياة متجاوزا خصوصيتها وتخصصها، وتابعة للسلطة السياسية وضمانة لاستمرارها. (11) آليات المجتمع في التنشئة والإعلام والتعليم وممارسات السلطة داعمة للتطوير ولمصداقية القيم الثقافية النهضوية. (11) ثقافة التنشئة داعمة للتقليد والانحياز والتبعية والولاء الأبوي مع تأكيد فضيلة الطاعة والخضوع للسلطة، وأن الفرد رعية والحاكم هو الأب الراعي. (12) الفرد مواطن وفاعلية إيجابية في حرية ومساواة بين الجميع الحاكم والمحكومين ومصدر للتشريع والسلطات. (12) أبناء المجتمع رعايا، والحاكم هو الأب الوصي له البيعة، والفعالية استجابة في طاعة وولاء لأمر الحاكم، هو المرجعية الأعلى ولا راد لمشيئته. (13) ثقافة التجديد والتغيير وتداول السلطة تأسيسا على الاقتراع العام الحر، والزمان حركة مجتمعية مستقبلية مطردة التقدم بفضل الفعالية الإنتاجية لمواطنين أحرار. (13) المحافظة، رفض التغيير، أي رفض دور الزمن كحركة متقدمة ورفض لفعالية الإنسان، وإنما الزمن دوراني الحركة والأمل ردة إلى عصر ذهبي مضى.
وجدير بالإشارة هنا إلى أن بلدان أمريكا الجنوبية التي أخفقت في التقدم بعد أن طبقت النصائح الأمريكية للإصلاح، عادت لتسأل السؤال نفسه الذي اعتدنا نحن أن نسأله: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ واختلف المفكرون هناك زمنا طويلا دون إجابة، وأخيرا بدأ الاهتمام ببحث دور المنظومة الثقافية وكذا مسئولية السياسيين ودور الاثنين في شيوع التخلف والفساد.
ونذكر من بين هؤلاء الكاتبة الأرجنتينية ماريانو جروندونا في دراسات لها معاصرة، وكذلك الكاتب ماريو فارجاس الذي يؤكد أن الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية مع ضرورتها لتحديث البلاد لا يمكن تحقيقها:
ما لم يسبقها أو يصحبها إصلاح لأعرافنا وعاداتنا وأفكارنا وكل المنظومة المعقدة من العادات والمعارف والتصورات والصور التي نفهمها حين نقول «الثقافة»، إن ثقافتنا الآن لا هي ليبرالية ولا ديمقراطية، لدينا حكومات تسمي نفسها ديمقراطية، ولكن مؤسساتنا وردود أفعالنا وعقلياتنا وسلوكنا أبعد ما تكون عن وصفها بالديمقراطية، إنها لا تزال خصائص استبدادية مطلقة، وعقائدية جامدة.
وثمة كتاب، من بين كتب أخرى كثيرة، من تأليف لورانس هاريزون بعنوان: «التخلف حالة ذهنية»، ويدرس الكتاب التطوير الاقتصادي والاجتماعي من زاوية ثقافية، وعقد مقارنات ثنائية بين عدد من الدول، مثال ذلك أن غانا في الستينيات كانت أكثر تقدما من كوريا الجنوبية، ولكن كوريا الآن تحتل مكانة مرموقة بين الدول المتقدمة، بينما تراجعت غانا كثيرا، ولنا أن نضيف إليه مثال مصر واليابان في أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ كانت مصر أكثر تقدما من اليابان، بل تطلعت اليابان لدراسة النهضة من خلال التجربة المصرية، ولكن واقع الحال شاهد الآن بما يملأ النفس مرارة وحسرة.
وفسر هاريزون هوة التطور بعوامل ثقافية: قيم ثقافية تدعم التطوير، وأخرى سلبية تعيق النزوع إلى التغيير، ويقول ثمة قيم ثقافية إيجابية: التغيير والمنافسة، الإبداع، العمل الجاد، التفرد، التفوق، النظام، الالتزام، العقلانية، السلطة للعقل وقسمة مشتركة ليست لحاكم منفرد، ويضيف قوله: «يسود ثقافة المجتمع المؤمن بالتغيير مفهوم أن الثروة ليست ما أملك، وإنما ما أبدعه، أن أبدع ما ليس موجودا بعد، كما وأن العقل والفعل الاجتماعيين هما مبدع الثورة.»
ونعود لنؤكد - في ضوء ما سبق - أن التطوير الحضاري للمجتمع موقف من الحياة، ونمط سلوكي في الاستجابة للتحديات، وهو ثقافة حوار بين الإنسان - المجتمع - والبيئة والمجتمعات المحيطة، وثقافة إنجاز، وفضول معرفي، ويمثل العلم والمعرفة العلمية روح العصر، لذا فإن الثقافة العلمية هي جوهر آلية التكيف، والوجود الاجتماعي الآن، حسب منطق العصر، ليس وجودا تراتبيا هرميا رأسيا وسيادة علوية على رعية كما كان الحال في حضارة الرعي أو الزراعة، بل أصبح وجودا شبكيا أفقيا متكافئا، وهذا هو جوهر الوجود الديمقراطي الآن في عصر المعلوماتية وانفجار المعرفة، وثقافة التطوير الحضاري ثقافة نهم معرفي للتوظيف المعرفي المنهجي من أجل التكيف، إنها ثقافة تمرد على الجمود والتقليد والتماس التجديد، لذلك فإن عملية التطوير هي إبداع اجتماعي ذاتي المنطلق لا يأتي مفروضا من خارج، سواء خارج الذات في الزمان أو من خارج الوطن، إن التفاعل مع الخارج غير الانفعال بالخارج، التفاعل استفادة إرادية نقدية للاستجابة الفاعلة وفق هدف ومصلحة، والتفاعل أيضا قرين فعل داخلي وتكامل معه على نحو يكشف الإمكانات الإبداعية الذاتية لاطراد التطوير.
وتستلزم ثقافة التطوير مثقفا يتصف بالاستقلالية الذاتية الحرة والنهج المعرفي العلمي والتعالي على الانحيازات، كما يمتلك أفقا رحبا شاملا لقضايا المجتمع، ويتصف أيضا بالحرص على أن ينأى بفكره وثقافته وجهده عن خدمة أمير أو سلطان، بل خدمة الجماهير في ضوء رؤية إبداعية مستقلة أصيلة، ويغدو بفضل جهده وصفاته، أداة إثراء فكري لمجتمعه، وهذه إحدى مظاهر أزمة الثقافة والمثقف في مصر، إذ ظل المثقف وثقافته على مدى القرون، ولا يزال، في خدمة صاحب السلطان حتى باتت ثقافته ليست أداة تحرر، وإنما توجهه على طريق التبعية والتماهي بين ذاته والسلطة.
وحيث إن نهج التطوير والتغيير قيمة ثقافية، وموقف من الحياة، فإن لنا أن نسأل عن طبيعة القيم الثقافية السائدة في المجتمع التي تحدد للإنسان العام، أداة البناء، ومن ثم للمجتمع تطلعاته واستجاباته ونظراته وتأويلاته؟ كيف نرى الوجود من خلال ثقافتنا الاجتماعية؟ وما هي تصوراتنا عن الحياة وإلى أين ينصرف مخاضنا أفرادا ومجتمعا؟ وما هي القيم التي تستثير فينا نوازع الغضب أو الرضا والإقدام والفعل بعامة، والتي تمثل مفتاح السلوك أو «الزرار» الذي إذا ضغطنا عليه حرك فينا كوامن النفوس واستنفر الروح منا.
إننا نحصر قيم الوجود في العبادات والحدود الدينية وحدهما، بمعنى الحلال والحرام دينيا فقط، هذا بينما يجدر بنا أن نضيف إلى هذه القيم قيما ثقافية جديدة لازمة لكي نتحرك على طريق التقدم، أو جدير بنا أن نقدم تأويلات تدعم هذا التوجه نحو التطوير وتجعل من التطوير قيمة، مثلما نجعل من العمل والإبداع قيمة سلوكية في التطبيق العملي، إن الفن قيمة، والإبداع العلمي قيمة، والموضوعية قيمة، والتناغم الاجتماعي قيمة، والحفاظ على البيئة قيمة، والفضول المعرفي أو مغامرة الاستكشاف المعرفي قيمة، وصنع حياة جميلة ميسورة وعادلة قيمة، والاستقلال قيمة، بينما الأمية والاستبداد والظلم والفقر والتخلف رذائل وكبائر.
وإذا كنا ننشد بناء مجتمع مدني على مستوى حضارة الصناعة والمعلوماتية باعتبار أن هذا هو التطوير (لا الإصلاح) المنشود، فحري أن ندرك أنه بالضرورة مجتمع مواطنة حرة ومؤسسات حرة متكافئة متشابكة، ومواطنين أحرار ذوي عقول حرة وفكر حر متساوين، لهم ثقافة الفعالية الاجتماعية وقدرة على مغامرة الاستكشاف المعرفي والإبداع، لنقف أندادا مع المجتمعات المتقدمة.
وحري أن ندرك أن الفقر حرمان من الحرية، والأمية حرمان من الحرية، وقصور البحث العلمي حرمان من الحرية، والتخلف بجميع صوره حرمان من الحرية على الصعيدين المحلي والدولي، والتحجر والجمود والتعصب نفي للحرية، هذا بينما التطوير الحضاري هو التوجه الصحيح على طريق الحرية لخلق مجتمع حر لمواطنين أحرار، مجتمع إنتاج حضاري مبدع بذاته في تعاون شبكي على النطاق العالمي.
العالم الآن بصدد أن يصوغ، من خلال الشبكة الفضائية، ما يسمى المخ الكوكبي، ويعني التفاعل المتبادل أخذا وعطاء بين علماء العالم ومفكريه وباحثيه، وهناك أيضا دعوة لما يسمى المصادر المفتوحة عبر الشبكة الفضائية، حيث لا أسرار يخفيها باحث أو مبدع، وإنما تفاعل حر مفتوح بين كل علماء العالم وباحثيه، وطبيعي أن ليس بإمكان مجتمع ما أن يسهم بنصيب إيجابي إلا إذا كان مجتمعا منتجا للمعرفة، وله علماؤه المبدعين، وله القدرة على التحاور والأخذ والعطاء، وبدون هذا يظل المجتمع أشبه بمنطقة في المخ أصابها عطب وعاطلة عن الفعل مما يضاعف من فرص ضمورها.
لذلك ربما يكون من باب التفاؤل القول؛ نحن الآن عند مفترق طرق، وأمامنا الفرصة الأخيرة للاختيار، إن كانت هناك قدرة وعزم على الاختيار، لا نود أن يكون حديثنا في المطلق حديثا نظريا محضا، بل أن نتحدث عبر الحقيقة والواقع وبمنهج علمي، نتحدث عن بشر، عن مجتمع حقيقي يمثل ظاهرة اجتماعية/ثقافية/سياسية/أو اقتصادية في الزمان والمكان، ظاهرة هي جزء من واقع أيكولوجي، أعني واقعا متفاعل العناصر على صعيد متكامل من بشر وبيئة اجتماعية، وعلاقات، ومناخ وبيئة جغرافية، وغير ذلك من مؤثرات تخلق من الجميع ظاهرة واحدة، الإنسان - المجتمع مكون عضوي فيها مع نظرة نقدية مقارنة للذات وللآخر، ولعل هذه هي السبيل إلى الإنجاز، بدلا من تكرار السؤال قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا ؟
الحديث عن مجتمع مدني نظري غير قائم، حديث في فراغ وفضاء ميتافيزيقي يبدو بليغا وينتهي بنهاية الخطاب دون إثمار، لذا حري أن ينصب الحديث على واقع عياني تاريخي متعدد الأبعاد، في ضوء هدف محدد وفهم نقدي لهذا الواقع وللهدف معا، وإذا كان المجتمع المدني مجتمع مواطنة ومواطنين، إذن ليكن بحثنا عن مقومات المواطنة والمواطن في الواقع الحياتي باعتبار هذا شرطا وسبيلا للتحرك قدما.
إحدى قضايانا الأولى هي بناء الإنسان المصري في مناخ من الإنجاز والتقدم والحرية، أو لنقل هي تمكين المجتمع من خلال تمكين الإنسان العام المصري، رجلا وامرأة وطفلا
Human Empowerment ، وأن يتم هذا من خلال التنشئة والتعليم والإعلام والمناخ السياسي الحزبي والأمني، وتوفر الوعي بالذاتية والفردية، والوعي الموضوعي بالتاريخ والفعالية الإيجابية الاجتماعية، ولن نكون في هذا استثناء بين المجتمعات التي عرفت سبيلها إلى النهضة.
لهذا نؤكد أن التطور الحضاري للمجتمع ليس مجرد حيازة لإنجازات العصر، بل مشاركة إيجابية في إبداعها، وأذكر هنا ما قاله شرايبر في كتابه «التحدي الأمريكي» في خمسينيات القرن العشرين وهو يتنبأ بتحدي الولايات المتحدة لأوروبا ودفعها إلى مستوى بلدان من المرتبة الثانية، إذ قال: «ليس الأمر فقط امتلاك جهاز ما، بل القدرة على صيانة الجهاز وتطويره»، وأذكر أن هذا ما فعلته اليابان ومن بعدها الصين ونمور شرق آسيا، وكيف أن القدرة على الصيانة والتطوير حددت مسارات أنشطة اجتماعية عديدة ومنها التعليم، هذا بينما نحن هنا عاجزون حتى عن أن نعالج القمامة وقش الأرز وحرائقهما.
لهذا فإننا إذ نطالب بالتطوير الحضاري لا التنمية ولا الإصلاح، فإن هذا يعني أن يكون التطوير إبداعا ومنطلقا ذاتيا، وقبولا للتحدي، وتأكيدا للهوية التي طالما بحثنا عنها إلا في كلمات بعيدة عن الفعل الاجتماعي الذي هو جوهرها، ويعني التطوير الحضاري أيضا إعادة تشكيل البيئة الاجتماعية وعلاقاتها وفقا لمقتضيات العصر على الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية، بنية أو منظومة محلية داخل منظومة أعلى في تفاعل إيجابي متبادل، ومن ثم قدرة على الفعل الإنتاجي الإبداعي، ويعني كذلك بناء مجتمع مدني، بالمعنى سالف الذكر، ويحمل خصوصية التاريخ والواقع، مجتمع مؤسسات حرة معبرة عن كل أنشطة المجتمع، ويعني تطوير التعليم والإعلام والأنشطة السياسية وتنظيماتها وضمان فعاليتها الحرة.
إنه تطوير شامل لكل مناحي الحياة، ولا يأتي التطوير استجابة لرأي فرد، وإنما استجابة لحوار إيجابي بين المؤسسات الرسمية والأهلية أو المدنية، مثال ذلك: إن تطوير التعليم لا يكون برأي رئيس أو وزير ولا حتى برأي وزارة، وإنما الوزارة إحدى المؤسسات، تشاركها المؤسسات التعليمية والحزبية والمؤسسات الاجتماعية الأهلية للعلماء والباحثين والمعلمين ورجال الصناعة والاقتصاد وكل من يعنيهم أمر التعليم، تعليما عاما أم جامعيا، مع دراسة لوضع التعليم في البلدان المنافسة أو المماثلة وطبيعة التحديات التي نعد المواطن لمواجهتها من خلال آلية التعليم باعتبار التعليم وظيفة لغاية، وهنا يكون للمؤسسات الرسمية والأهلية دور متكامل، وتكون سياسة التعليم تعبيرا عن ذلك الجهد المؤسسي الجمعي وتكون آلية مدنية لتحقيق هدف منشود.
وإن مقتضيات حركة التطور الحضاري وثقافته أن نبحث طبيعة الموروث أو التراث الثقافي وتجلياته السلوكية في عملية ما يمكن أن نسميه بناء الموطن الملائم تاريخيا، ومدى ما يتصف به من مرونة أو جمود وعطاء في عالم يستلزم قدرة دينامية كبيرة على التكيف والتفاعل، وجدير بالذكر أن جميع التراثات الثقافية للمجتمعات في مراحل تقدمها ونهوضها يجري تجديد التفكير بشأنها وتأويلها بما يتلاءم مع مقتضيات الحركة التكيفية للمجتمع، والتراث عملية تراكمية لثقافات اجتماعية متجددة تؤكد صلاحيتها الاحتياجات الاجتماعية العملية.
ولهذا دعوت يوما في دراسة سابقة إلى دراسة طبيعة ما يمكن أن نسميه مجازا «الجينوم الثقافي العربي» ومفاتيحه، مكوناته الشعورية واللاشعورية التي انتقلت عبر الأجيال وتجلياتها في التاريخ من حيث قابلية التغيير والتجديد والفاعلية والتفاعلية، وطبيعة القيم التي تشكل محورا للوجود والسلوك وإليها ينصرف مخاضنا وجهدنا.
نحن بحاجة إلى ثقافة اجتماعية جديدة، ثقافة تحفز إلى التغيير والتطوير إبداعا ذاتيا في تحد ومنافسة، لتكون أساسا ودعامة لبناء إنسان جديد، وعقل جديد في مجتمع مدني منشود.
الفكر العربي ولغز النهضة
مسألة الفكر العربي أو العقل العربي أو الإسلامي، إلى آخر ذلك من مسميات مكرورة، ناقشها كثير من المفكرين العرب والمسلمين في محاولة للكشف عن أسباب التخلف والفشل، وغاب سؤال كيف يفكر «العقل» أو العقول العربية أو الإسلامية، العرب أو المسلمون، في الواقع الحياتي الملموس إزاء قضايا محددة عابرة أو حاسمة؟ بمعنى البحث العقلاني النقدي للكشف عن المنهج وعن محددات الاختيار والانحياز لقضايا فكرية بعينها، وأسلوب المعالجة وتطور هذا النهج إن كان قد تطور أو جمد على مر العصور والأزمان، وكيف هيأ لأصحابه قدرة على الفعل وعلى التفاعل مع الآخرين، أو ألزم أصحابه عزلة وعجزا، وكيف أثرت الأحداث الفاصلة في هذا المنهج، أم أنه قنع بأن يسر لأصحابه العزاء والسلوى والابتلاء في الحياة الدنيا، ولا يزال الغالبية جامدين عند تعريف السلف والأقدمين من أن العقل، أداة الفكر، جوهر، وهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وغفلوا أو عزفوا عن إنجازات علوم عديدة، واكتشافات حديثة مثيرة، وحوارات علمية معاصرة خصيبة، ورؤى متباينة ومتطورة تشكل أساسا مكينا لارتقاء حضاري وإثراء فكري، والخلاص من عثرة أزمنت حتى باتت تقليدا.
ولكن هل حقا يوجد فكر عربي؟ ما هي قضاياه وإنجازاته؟ ما دوره وفعاليته وتطوره مع تطور الأحداث والمجتمعات إن كان له تاريخ متطور؟ وما مضمونه؟ وما مرجعيته؟ هل يمثل تيارا يعبر عن مسار المجتمع أو المجتمعات مستخلصا الخبرة والعبرة من رؤية أو من رؤى عقلانية نقدية عن الماضي والحاضر مع الاستشراف لمستقبل لا نراه ردة إلى السلف، وإنما هو مجمل زخم الحراك الاجتماعي والنشاط الإنتاجي ومعاناة البناء والتطوير الإراديين، الفكر والفعل الاجتماعيان وجهان لحياة دينامية متطورة في تفاعل مطرد على الأصعدة الذاتية والمحلية والعالمية، حياة هي مجمل الجهد الاجتماعي لبناء ما يسمى الموطن الملائم
Nich Construction
الذي هو حصاد فعالية الإنسان/المجتمع مع عناصر البيئة في الزمان والمكان حيث الإنسان/المجتمع امتداد متصل للطبيعة/البيئة/التاريخ وليس كيانا منفصلا مستقلا وإنما هو فكر وفعل متجدد على مدى هذا الامتداد وما نسميه إنسانيا الامتداد الحضاري.
والفكر حصاد معرفة في صياغة نسقية هادفة معنية بتحليل قضايا وحل لمشكلات، وحفز لحراك، ودعم لعلاقات قائمة أو منشودة، وتشكيل أو إعادة تشكيل لهيكل المجتمعات، وتحقيق لتكيف على صعيد اجتماعي متكامل وفي إطار من المنافسة أو الملاءمة على صعيد إقليمي وعالمي، والفكر الاجتماعي منتج جمعي وليد جهد ذاتي متكامل للمجتمع، ومعبر عن هدف اجتماعي مشترك من حيث التغيير والبناء، وعن آلية المجتمع في هذا التغيير وإنجاز الهدف، إنه رؤية جمعية تاريخية غير أحادية، من ثم يجسد حركة متطورة في الزمان، وسجلا للجديد من الأحداث، وحيوية التنوع والتجدد في سياق من حرية التبادل والتفاعل والإبداع، ويشكل قوة جذب وانتماء وتمكين في حلبة الصراع والانتخاب بين الأفكار محليا وعالميا.
وذهبنا في كتابنا «الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل» إلى أنه لا يوجد فكر عربي عصري يحمل هذه الخصائص والصفات، نعم ربما هناك مفكرون أفراد يجتهدون، ولكنه ليس فكرا مجتمعيا بالمعنى العلمي المشار إليه، إنه فكر أو اجتهادات نظرية لأفراد، أو تهويمات وتحليق في فراغ، وليس فكرا حافزا لحراك، ولا فكرا معاصرا نابعا من واقع الاجتهاد الاجتماعي النظري والجهد العملي النشط لبناء الوجود مشروعا مؤسسا على فهم علمي عصري، وآثرت أن أهدي كتابي إلى المثقف العربي الذي افتقدته النهضة ولا تزال، تأكيدا لمسئولية المثقف العربي عن التنبيه إلى هذا الخواء.
ومن أسف رأى غالبية المثقفين ممن ارتهنت حياتهم برضا أصحاب السلطان أن عنوان الكتاب شديد التشاؤم؛ لأننا نعيش مع حكامنا دائما وأبدا عصور إنجازات ورخاء! ورأى البعض أن مثل هذا العنوان والحديث وأد للأمل في مهده، ولكنني - على عكس ما ذهب إليه ظن البعض - أضع أساسا للتفاؤل، ذلك لأنه حين أوضح أن الفشل يحدث لأسباب اجتماعية يقرها علم الاجتماع وتدخل في نطاق إرادة الإنسان وفعله وثقافته وفكره، إنما أقرر أن الفشل ليس قدرا ولا طبيعة جبلية، ومن ثم فإن المجتمع قادر بإرادته وبفعله وفكره، ومنهجه في الفعل والفكر، على أن يصحح الخطأ، ويزيل الأسباب إذا عرف نفسه باعتباره وجودا تاريخيا، وعرف عصره ومقتضياته وتحدياته وعبأ جهوده وطاقاته للتكيف والتغيير.
وأعني بالفشل أن المجتمع عاطل من المعرفة الكاملة والصحيحة نسبيا ومرحليا لتوجيه مسارات حركته وطاقاته وأنشطته الاجتماعية بصورة فعالة في الاتجاه الصحيح للتطوير، أي للتكيف مع حضارة العصر بهدف البقاء والعطاء والامتداد والمنافسة، ومن أسباب الفشل أيضا أن يكون المجتمع عاطلا من ثقافة ترسخ قيم التغيير والتحدي الفعال، وفي حالة غياب هذه المعرفة - الفكر في صورة نسقية يغدو واقع المجتمع أو نشاطه ضربا من أسلوب المحاولة والخطأ مع نسبة عالية من الإخفاق، وحركة غير مطردة وغير سوية ولا مستوية، مختلة التوازن، عاجزة عن كفالة أسباب البقاء، ناهيك عن المنافسة والتطوير.
وأعني بالفكر الاجتماعي الفاعلية الجدلية بين الذات (الإنسان/المجتمع) والموضوع، ذلك أن الإنسان لا يفكر إلا في مجتمع، وفكر المجتمع حصاد تاريخية الفعل أو النشاط الاجتماعي في إطار صراع الوجود، أي إنتاج الوجود، وإنتاج الوجود - أي الحضارة - هو نشاط مادي ومعنوي (تقانة وفكر) وكلاهما وجهان للوجود الاجتماعي وأداة واحدة للتكيف الذي هو معرفة، فكر، وفعل استجابة لتحديات البقاء والتكاثر، والحضارة عندي هي عملية تاريخية قوامها «إبداع الأدوات المادية والإطار الفكري - القيمي في تكامل معا استجابة لتحديات وجودية يفرضها الواقع المتجدد والطبيعة بتفاعلهما مع الإنسان - المجتمع»، وهذا التعريف فيه دينامية، إذ يدمج الإنسان بوصفه أحد مكونات البيئة الحضارية بسلوكه وفكره وقيمه، ويتسق مع التعددية والتطور في الزمان والتنوع في المكان.
الفعل والفكر الاجتماعيان هما المشروع الوجودي الجمعي، وفكر الأمة ليس حاصل تراكم فكر أفراد، ويتعطل فكر الأمة - المجتمع - حين يتعطل الفعل الجمعي لإنتاج الوجود، وهنا يعيش أبناء المجتمع أسرى وعي زائف وثقافة مغتربة، وواقع يغلب عليه طابع النمطية والاطراد العشوائي.
وهنا نمايز بين: (أ)
ثقافة معيشة موروثة. (ب)
وفكر هو ابتكار وتجديد متلاحم مع الفعل الاجتماعي الإنتاجي ويشكل وعيا بالتاريخ وبالواقع في تناقضاته وصراعاته وتحدياته، ويستشرف المستقبل تأسيسا على الفعل والفكر الإراديين للمجتمع، علاوة على أنه فكر نقدي لرصيد الماضي وللواقع، بمعنى أنه آلية مراجعة مستمرة وتغذية مرتدة بين الفعل والفكر الاجتماعيين في حركتهما.
وإن الفعل الاجتماعي لإنتاج الوجود ماديا ومعنويا (تقانة وفكرا) هو عملية اشتباك وتفاعل بين منتج جمعي
Collective Producer (الإنسان/المجتمع) يتفاعل مع البيئة لإنتاج وجوده، وحري أن ننظر إلى هذا الفعل نظرة تطورية باعتبار الإنتاج عملية مركبة العناصر وعملية خالقة دائما وأبدا.
الفكر/اللغة تولد من خلال فعل الإنتاج للإنسان الأول
Hominid
امتدادا للوجود الجيني/البيولوجي، وتخليقا ماديا ومعنويا للعقل الذي يجسد الوجود التاريخي الفاعل النشط للإنسان/المجتمع، وهذه مسألة محورية ومعيار رئيسي للحكم على الفكر الاجتماعي وجودا وعدما أو ركودا وتجددا، إن الفكر/اللغة بدأ نشأته التطورية مع أول أداة إنتاج اقتضت تجمعا وتنظيما لأغراض مجتمعية تعزز التكيف، بدأ هنا التواصل الرمزي بين البشر في سياق الاستجابة وواقع التفاعل أو الفعل الاجتماعي مع الطبيعة، وهو فعل متجدد أبدا، ويفضي إلى تجدد التواصل الرمزي، أي تجدد الفكر/اللغة.
والفعل الإنتاجي المجتمعي، والذي نسميه العمل الاجتماعي، عملية مركبة ومتطورة للتعامل مع المادة التي هي الطبيعة، الطبيعة المعدلة والطبيعة المضافة، والطبيعة البشرية.
وبين الفعل المجتمعي والفاعل، أي المجتمع والطبيعة، وحدة وتكامل، وهذا العمل أو الفعل المجتمعي منتج للأداة المادية: التقانة، وللأداة المعنوية: الفكر، وإن الفعل أو النشاط البشري على امتداد التاريخ الوجودي للنوع البشري دمج الإنسان/المجتمع والطبيعة، وتعتمد علاقة التفاعل بين الإنسان - المجتمع والطبيعة في تطورها المطرد على: (أ)
وسائل الإنتاج. (ب)
الطاقة. (ج)
المعرفة والمعلومات.
وتطورت المجتمعات البشرية حضاريا تأسيسا على تكامل ووحدة هذه العناصر الثلاثة، وتحدد في ضوئها نمط التنامي الحضاري لتوليد المنتج والفائض، وهذه آلية التكيف للنوع البشري في إطار صراع الوجود الحضاري كما وضح مانويل كاستل في كتابه «عصر المعلوماتية»:
حضارة الرعي:
أدنى حد من الطاقة، قيمة العمل والطاقة البشرية المبذولة، أدنى مستوى - الفكر تأمل نظري مجرد، إنه مجتمع الكلمة الشفاهية.
حضارة الزراعة:
طاقة عمل عضلية، نمط تنام محدود رهن القوة العضلية ومساحة الأرض - فائض قيمة محدود يسمح بالتجارة ولغة الكتابة.
حضارة الصناعة:
طاقة آلية متطورة مع توزيع لامركزي، نمط تنامي متسارع - فائض قيمة كبيرة من المخرجات الاقتصادية - علاقة كيفية جديدة بين الإنسان والطبيعة - فكر فلسفة الإرادة - الإنسان العام - كثافة أعلى من حيث التجمع والتفاعل بين العامة في الحضر والذي شكل أساسا لحركات اجتماعية جماهيرية.
هنا يبرز السؤال:
أين موقعنا من العالم من حيث الفعالية، فعالية إنتاج الوجود؟ ومن ثم تصور المستقبل.
هذه هي القضية المحورية في كتابي المشار إليه، ولكن بأساليب تناول مختلفة ومن زوايا متباينة.
إن جوهر أزمة المجتمعات العربية أنها أزمة غياب فعل التطوير الاجتماعي الحضاري، أو أزمة غياب إنتاج الوجود على مستوى منافس لحضارة العصر، وهي قضية امتدت قرابة خمسة قرون بالنسبة لبعض البلدان.
وحاولت الخروج عن السياق التقليدي في النظر إلى عصر ذهبي ولى، والزعم أن الفشل مرجعه أننا تنكبنا طريق السلف، وحاولت الخروج أيضا عن مقولة التحديث محاكاة للغرب في إطار الشكليات، ذلك أن الحداثة معيار متجدد ومتنوع والتحديث متعدد الآليات، وفعل ذاتي أصيل، إنه صناعة لا حيازة، وفعل ابتكاري متجدد، وثقافة تغيير وتكيف، ولنتذكر أن نهضة اليابان لم تكن محاكاة قصد التشبه، بل محاكاة قصد الندية والمنافسة.
القضية تطوير وتحول حضاري وليست تنمية، التنمية امتداد وتوسع وزيادة كمية على مستوى أفقي، أما التطوير فهو امتداد وتعزيز رأسي صاعد، أو تحول كيفي يفضي إلى نشوء أنماط وأشكال وعلاقات جديدة ولغة، أو فكر جديد.
التطوير الحضاري للمجتمع موقف من الحياة، ونمط سلوكي في الاستجابة للتحديات، وآلية تكيف في إطار المنافسة وصراع الوجود، والتكيف فعل اجتماعي إنتاجي مادي ومعرفي نحو هدف صاعد للانتقال بالمجتمع من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى للطاقة والفعالية والتعقد والفهم والإبداع وفرص الاختيار، أو هو إجمالا الإنجاز في إطار معايير حضارة العصر.
ويمثل العلم روح حضارة العصر إنجازا فكريا وماديا تقانيا في تلاحم وتطور مطرد، ووجود مؤسسي وشبكي يعمل ويفكر في حرية على الصعيدين المحلي والعالمي، وأصبح العلم والتقانة بهذا المعنى هما قصبا السبق وأساس التغيير والإنجاز والتمايز وعماد التكيف والبقاء والصراع، ويقتضي التطوير الحضاري للمجتمع في عصر الصناعة والمعلوماتية وعصر اقتصاد المعرفة إطلاق مسارات طاقات جميع أبناء المجتمع وتوجيهها عبر مزيد من التنظيم الاجتماعي المعقد بهدف تعزيز الطاقة الإنتاجية وتنظيم المخرجات، ولهذا تمثل عملية التطوير إبداعا اجتماعيا ذاتي المنطلق وليست محصلة عوامل خارجية حصرا، وإنما تحمل خصوصيات ثقافة وبيئة وتاريخ المجتمع، وتحمل طبيعة الوعي الاجتماعي بالتحديات، وهي عملية إبداعية أيضا، لأن المجتمع يكتشف من خلالها إمكاناته الذاتية لابتكار الوسائل والحلول والأهداف.
والتطوير الاجتماعي عملية تتجاوز الأبعاد المادية للمجتمع في الزمان والمكان، لتشمل في كل واحد متكامل أبعاد العقل والحياة، إن التطوير الاجتماعي ثقافة أو موقف إنساني اجتماعي من الوجود، وهذا الموقف تجل لعناصر حياتية وعقلية ولاعقلية عديدة تتمثل في السلوكيات الاجتماعية والمهارات والخبرات النظرية والعملية والاتجاهات والأعراف والتقاليد والتنظيمات الرسمية والمؤسسات غير الرسمية والقيم الثقافية والمحددات اللغوية والمعلومات وأسلوب تناولها والتماسها ومعالجتها، وكذا العقائد وأنساق الفكر والقيم الروحية، إذ إن هذا كله يتفاعل معا ويؤثر في بعضه بعضا بحيث يؤثر في مسار التطور البشري في صياغة الإنسان/المجتمع، الموقف والفعل.
وحيث إن عملية التطوير هي فعل تكيف اجتماعي، أي إنتاجي، مادي وفكري، فإن المجتمع - ممثلا في مثقفيه ومفكريه - يعتمد بفضل جهد ذهني رفيع المستوى إلى استخلاص المبادئ الأساسية أو الأفكار من حصاد خبراته، وحصاد التفاعلات الاجتماعية والمعلومات المتراكمة، ويصوغ هذا كله بفضل قوة تنظيم الأفكار في صورة مركب نسقي من معارف مفاهيمية، وهكذا يكون التطوير آلية اجتماعية لإثراء الفكر في مراحل تاريخية مطردة، ويكون الفكر الاجتماعي النسقي دالة هذا الجهد المنظم.
النشاط الاجتماعي الإنتاجي يفضي عقليا إلى تنظيم الوقائع في صورة معلومات، ويعمد العقل الاجتماعي إلى تأويل المعلومات في صورة فكر اجتماعي، معنى هذا أن الفكر الاجتماعي جهد نسقي يهدف إلى تأويل الخبرات المكتسبة حصاد التجربة الاجتماعية الإنتاجية في ضوء المصالح والأهداف، ويعود هذا الفكر في صورة تغذية عكسية إلى المجتمع في نشاطه لمزيد من الفعالية والتصحيح والتنظيم، ومن آليات الإنجاز في تطور مطرد، وهنا يبين بوضوح أن التفكير الاجتماعي إنما هو إنجاز اجتماعي يحمل خصوصية التجربة الاجتماعية.
ويجسد المجتمع فكره المستحدث والمتجدد في منظومات اجتماعية متعددة المجالات والمستويات، من ذلك إعادة تنظيم العمليات الإنتاجية من خلال تطبيق المهارات والتكنولوجيات المستحدثة في مجالات الإنتاج والخدمات، ويتجلى هذا أيضا في تنظيم المؤسسات وتنظيم البيانات والمعلومات والمعارف من خلال المؤسسات الاجتماعية مثل المؤسسات التعليمية والعلمية والإعلامية والثقافية، ويسهم هذا كله في بناء الإنسان/المجتمع، وتعزيز أو تجديد تطلعاته الداعمة لحركة التطوير والمنافسة، والانتقال بالفكر الاجتماعي إلى طور آخر تنظيما وفعالية وأرحب أفقا وأرقى منهجا.
وحيث إن نهج التطوير والتغيير قيمة ثقافية وموقف حياتي فإن فعل التطوير تحدده بقوة طبيعة القيم الثقافية السائدة في المجتمع، مثلما تحدده تطلعات المجتمع واتجاه استجاباته، ونظرته للتحديات أو تأويلها، ولهذا يمثل التطوير الاجتماعي دالة على طبيعة الإدراك البشري واتجاهه ومحتواه وتطلعات البشر ومواقفهم وقيمهم وتصوراتهم لذواتهم ولدورهم في الحياة باعتباره مشروعا وجوديا.
ولكن مفهوم القيم، ومن ثم مجال تأثيره، مختلف باختلاف الثقافات، وهناك من المجتمعات من يحصر القيم في نطاق الأخلاق، الحرام والحلال دينيا فقط وتكون هذه القيمة بمحتواها المحدود هي مفتاح السلوك أو «الزر» الذي يحرك، بل يستثير، الإنسان/المجتمع عند الضغط عليه، وكأنما انحصر الوجود داخل هذا النطاق المحدود دون سواه، هذا بينما القيم متعددة متباينة بتعدد الأنشطة والسلوكيات صانعة الحياة وتباينها، التطوير والتغيير قيمة، الإبداع قيمة، الفن قيمة، البحث العلمي قيمة، والاستقلال قيمة، بينما التواكل والاعتماد على الغير قيمة سلبية، والسبق في المنافسة العلمية أو غيرها قيمة، والموضوعية قيمة، والتناغم الاجتماعي قيمة، والعدالة قيمة، والتضحية قيمة، وغيرها وغيرها من عناصر سلوكية تكفل انتصار الحياة وتعزز التكاثر والبقاء.
وتشكل القيم بهذا المعنى ما يمكن أن نسميه محتوى تحت الشعور الجمعي، ومن ثم القوة الدافعة وراء مجمل الحركة الاجتماعية، وتنصرف عبرها ومن أجلها طاقة المجتمع في أعمق المستويات، إذ إنها معالم التطلعات الجمعية تحت الشعورية، وصورة المجتمع عن ذاته وفهمه لنفسه، ولنهجه في الحياة، ودالة على معنى الوجود ومجال الاستباق، ومصرف الجهد والنشاط.
ومن ثم إذا عدنا إلى سؤالنا التقليدي: لماذا تخلفنا؟ يجب ألا يقتصر البحث والنظر على الإنجازات المادية ونتصور النهضة حيازة لتقانة أو لفكر من إبداع واستنبات الآخر، وإنما أن نرى التقانة والفكر إبداعا ذاتيا من مخاض المجتمع في سياق تفاعل وتنافس على صعيد عالمي، ويتعين هنا أن نتجاوز الأبعاد الظاهرة الراهنة إلى ما وراءها، أي إلى الموروث من قيم وثقافة تصوغ بنية ما تحت الشعور وتمثل القوة الحاكمة والموجهة، أي أن تنظر إلى الإنسان باعتباره حزمة متكاملة من الجينات قرينة حزمة متكاملة، مما يمكن أن نسميه مجازا الجينوم الثقافي الذي انتقل عبر الأجيال في صورة تراث هو حصاد خبرات مكتسبة على امتداد القرون والأحقاب وقابل للتغير والتلاؤم في ضوء الضغوط الانتخابية، ويمثل هذا التراث الثقافي الذي تتباين عناصره بتباين خبرة المجتمعات وخصوصيات تفاعلها مع الطبيعة عاملا قوي التأثير في بناء الموطن الملائم
Niche Construction ، من حيث الاتجاه والمرونة والنمط، ويصف البعض الإنسان بأنه جماع نمط وراثي ظاهري متطور
Evolutionary Phenogenotype
مؤلف من: (1)
عمليات جينية. (2)
عمليات اكتساب معلومات خلال النشوء التطوري الفردي
Ontogentic . (3)
عمليات ثقافية، والتي تمثل في حقيقة نشأتها وتطورها امتدادا للجينات في التطور المشترك لها
Extended Phenogenotype-co-Evolution .
لهذا فإن من مقتضيات حركة التطوير الحضاري وثقافته أن نبحث طبيعة الموروث، أو التراث الثقافي وتجلياته السلوكية في عملية بناء الموطن تاريخيا، وإلى أي مدى يتصف بالمرونة والدينامية وقابلية التغيير والتجديد والفعالية أو التفاعلية الإرادية، إلى أي مدى يشكل قوة حفز للتفاعل والتطوير في ضوء ما يفرضه من قيم متمايزة حاكمة للسلوك وتشكل المفاتيح الأساسية للنظر إلى الوجود والحياة ومصرفا لمخاض طاقة الإنسان/المجتمع.
لذلك يبدو لي أن من المستصوب السؤال عن طبيعة مكونات الجينوم الثقافي العربي ومفاتيحه وتجلياته في التاريخ من حيث قابلية التغيير والتجديد ومناط التحدي والفاعلية والتفاعلية، وطبيعة القيم التي تشكل محورا للوجود والسلوك، ويدعونا هذا إلى أن نمايز بين نمطين من السلوك الاجتماعي: سلوك قائم على الوعي، أي شعوري
Conscious ، وسلوك تحت شعوري
Subconscious ، السلوك الواعي: هو الفعل قرين الفكر في تفاعل مع البيئة وظواهر الحياة، والسلوك تحت الشعوري: هو التجلي الحقيقي والعفوي للجينوم الثقافي الاجتماعي أو للقيم الاجتماعية وتكون له الغلبة والسيادة في مراحل التخلف والركود.
وذهبت في الكتاب إلى أنه لا يوجد فكر اجتماعي عربي، وإنما خطاب عربي، وسبب ذلك تعطل فعل الإنتاج العربي، ومن ثم تعطل الفاعلية الجدلية بين المجتمع باعتبارها قوة إنتاج، وبين الفعل والفكر، وما يتبع هذا من تطوير مادي ومعنوي، تقاني وفكري وتطوير للرصيد الثقافي الموروث ليكون قوة داعمة، وتطوير للغة اتساقا مع الفكر الجديد، وإن فعل التطوير الحضاري هو الذي سيلقي ضوءا كاشفا ويفرض شروطا وجودية تستلزم تغيير سلوكيات وعلاقات وأوضاع من أجل ضمان نجاح التكيف، مثل محو الأمية الأبجدية والثقافية وتعلم لغة الحاسوب وثقافته، وتطوير لغتنا وحل أزمة المصطلح العلمي والهيكلة المؤسسية لأنشطة المجتمع، والإسهام الإيجابي في حضارة العصر بوصفها قوى فاعلة، وإنما الفكر العربي رجع صدى للسلف، ومن ثم نعيش غربة في الزمان، أو رجع صدى للغرب، ونعيش معه غربة في المكان.
وثم سؤال هل مكونات الجينوم الثقافي العربي، وما يسميه البعض ثوابت الفكر العربي لها دور فاعل في هذا الركود والتواكل والاستلاب؟ أزعم أنه لا يوجد فكر عربي، وإنما هناك ثقافة عربية موروثة لها ظرفها الوجودي التاريخي المؤثر على واقعنا مع تعاقب الأجيال، ما هو الفكر العربي العصري عن قضايا مثل التغير الاجتماعي وأنواعه ومحدداته في التاريخ؟ أو عن تطور الفكر الاجتماعي العربي والإنساني، وعن التكيف الاجتماعي وآليات التكيف ومعاييره؟ أو عن اللغة: النشأة والتطور وتجليات هذا في تاريخ وبنية اللغة العربية، الهوية الاجتماعية في التاريخ، والنشأة والتكوين والتمايز؟ أو عن الظاهرة الثقافية: النشأة والتطور، أم أنها ثابتة في الزمان والمكان، سوسيولوجيا الفكر والعقائد في التاريخ العربي؟ أو عن الحضارات: النشأة والتطور - صعودها وانحلالها؟ أو عن التراث باعتباره رصيدا ثقافيا وتطوره في التاريخ في ضوء نظريات العلوم ذات الصلة (الوراثة - اللغة - آلية انتقال التراث والانتخاب بين الماضي والحاضر - علم اجتماع المعرفة - علم نفس المعرفة)؟
واللافت للنظر أن الحوار الفكري العربي والعالمي منعدم لأن الحوار يجري بين طرفين ولا يوجد الطرف العربي، وإنما العرب أسرى الأخذ فقط منذ قرون، دون عطاء، أخذ عن السلف في تكرار موحش، أو أخذ عن الغرب في تبعية رعناء - وتعطل الفكر مع تعطيل إنتاج مشروع الوجود، الوجود الاجتماعي رهن القدرة التنافسية فيما بين المجتمعات في مجال الطاقة الابتكارية للإنتاج، وإذا كانت الطاقة في عصر الرعي والزراعة هي قوة العضلات، وفي عصر الصناعة قوة المحركات الآلية، فإن الطاقة في عصر المعلوماتية هي المعرفة، والمنتج هو المعرفة في صورتها النسقية، والفائض الذي يوظفه المجتمع للتطوير الذاتي هو فائض قيمة المعرفة، والتنافس بين المجتمعات مضماره إنتاج المعرفة وسرعة معالجة المعرفة وتوظيفها واستثمارها وإدارة دورات المعرفة اجتماعيا في هذا كله، فأين موقعنا ونحن أسرى ثقافة اجتماعية، نصفها بالعراقة والثبات لقدمها وجمودها؟! ثقافة تصرفنا عن علم الدنيا بحثا منهجيا، ودراسة عقلانية، وإبداعا ذاتيا أصيلا، وترصد جهدنا لعلم حياة آجلة، وتحصر طاقتنا لعدو أوحد ليس هو التخلف والتبعية والتحجر والاستبداد، بل هو الشيطان والخطيئة فقط، ورسخت فينا تقليدا هو تأمل ظواهر الوجود بوصفها معجزات يعجز الإنسان عن أن يستكشف أسرارها، ثقافة تفرض حدودا أو قيودا لما يجوز بحثه وتعلمه، في حدود الحرام والحلال الروحانيين، ثقافة اختزالية تصادر جهود البحث والاستكشاف لأنها تضع حلا جامعا مانعا لا سؤال بعده، إنه الخلق، وهكذا كان الخلق، والسؤال والبحث والاستكشاف تطفل وافتئات وانصراف عن «علم نافع» إلى أفكار مثل التطور، أفكار ما أنزل الله بها من سلطان.
لهذا أرى أن سبيلنا ليست تنمية، بل تطويرا اجتماعيا حضاريا، فعالية إرادية أصيلة حيث العالم محل لإرادة الإنسان/المجتمع، لقد تجاوز العالم المتقدم حضارتي الزراعة والرعي، ثم انتقل إلى حضارة الصناعة والعلم إنتاجا تقانيا وفكريا، ثم إلى المعلوماتية، ويقف الآن على الطريق إلى عصر اقتصاد المعرفة إنسان جديد، عقل جديد، عالم جديد لن يرحم من يتخلف عن الركب، فإلى أين نحن نسير؟ هل اخترنا بإرادتنا قدرنا ومصيرنا، أم إن أمرنا موكول لإرادة أخرى؟
مصر .. الغياب الطويل ومحاولة البحث في الجذور
كتابات كثيرة حفلت بها الحياة الفكرية النقدية، وضعت بديهيات كثيرة موضع شك وتساؤل، وهذه هي سمة أساسية من سمات الصحوة، صحوة الفكر المواكب لنشاط مجتمعي، نشاط شامل العقل واليد في تحول جذري نحو حقبة حضارية جديدة صدق العزم بشأنها، بديهيات كثيرة تشكل مرتكز إطارنا الفكري، وحددت بالتالي سلوكنا، بل وتصوراتنا للعديد من ظواهر حياتنا ، حكمت الفكر والسلوك، وإذا بها حين توضع على مائدة الحوار والتساؤل المنهجي، وتخضع للبحث العقلاني النقدي لا تصمد طويلا على الرغم من صمودها في أذهان الناس قرونا، وتكون الصدمة التي تصل إلى حد الذهول وعدم التصديق.
من هذه البديهيات - على سبيل المثال - التي تحولت إلى «حقائق فكرية» اجتماعية شغالة، أعني فاعلة في المجتمع، حاكمة للفكر والسلوك معا قولنا على سبيل المثال، إن العرب بدأت مسيرة حياتهم الاجتماعية من البداوة، أو كما يقال هم أعرق في البداوة وأبعد عن الصنائع، ونأخذ كلمة العرب باعتبارهم اسم جنس من التجانس دون اعتبار لاختلافات فرضها واقع جغرافي، ومن ثم تاريخي وثقافي، أو ما اصطلح على تسميته المحيط العقلي
Noosphere
وكأن اللغة بمعنى النطق، لا بمعنى الفكر، هي المعيار الأوحد المحدد لطبيعة المجتمعات وخصوصياتها وانتماءاتها الثقافية، ونأخذ البداوة على الإطلاق دون اعتبار لحركة التاريخ واتساع النطاق الثقافي الحضاري وكأنه نهر دافق ممتد من منبعه أو منابعه المتباينة حاملا ماضيه مع حاضره الذي نعيشه الآن، كأن البداوة هي المبتدأ لكل مجتمع يحمل صفة العربي ثقافة راهنة، اقترضنا تجانسها المطلق وقطيعتها المطلقة مع ما سبق وكان مبتدأ حقيقيا، وأغفلنا جوهر التطور شكلا ومسارا ومحتوى وتفاعلا ونقصا وزيادة، على الرغم من تناقض هذا الرأي مع وقائع التاريخ الجغرافي الثقافي الحضاري لعديد من المجتمعات، ومن البديهيات أيضا قولنا إن العرب لم يعرفوا نظام الدولة، وإن الدولة بدأت أول ما بدأت مع حدث سقيفة بني ساعدة وعهدها الذي هو أول دستور لدولة عرفها العرب في تاريخهم، وهكذا فقدنا الاتجاهات الأصلية الجغرافية، وفقدنا معها الموقع وتمايزه وتاريخه ونتاجه المادي والفكري، وكأن بلاد ما بين النهرين ووادي النيل لم تعرف النظام المركزي والدولة البيروقراطية، ويبدو وكأن إطارنا الفكري تحكمه مقوله غير صريحة تقول: إن تاريخنا لا يبدأ على أرضنا، وهي مقولة تهدم كل أسس العلم منهجا ومبحثا ونظريات، ومن ثم لن تهدينا، بل تزيدنا ضلالا، وإذا ضللنا الطريق لن نعرف إلى أين نسير بل سنقنع بتهويمات تقتلع جذورنا من الواقع.
وكم من دراسات معاصرة تصحيحية ظهرت خلال العقود الأخيرة أثارت تساؤلات وشكوكا بشأن جذور الحضارة الإنسانية ومسارها وغايتها: هل غايتها تجلي الروح الكلي المتجسد في عقل الإنسان الأبيض؟ وهل جذورها وبدايات الفكر الفلسفي بدأت فجأة ودون مقدمات بين الإغريق، أصحاب العقل العبقري المعجزة كما كان يوصف في السابق؟ وماذا عن إسهامات الحضارات الأخرى ومنها الحضارة المصرية القديمة؟ أطاح العديد من الدراسات النقدية المعاصرة بهذه «البدهيات» التي ترسخت في الأذهان وأضحت شأن البديهيات الأخرى لبنة أساسية، بل محورا لإطار فكري حاكم ننطلق منه وننظر إلى الأحداث على هديه وفي ضوئه، وإن خالفته الوقائع كذبنا الواقع وعدنا إلى بديهيتنا إماما مطلقا له الحاكمية.
ولهذا يطالع البعض في تردد مثل هذه الدراسات ويستشعر معها ما يشبه الصدمة، إذ تتكشف لنا أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدت بفكر الإنسانية، وهي جزء من سياسة عالمية امتدت قرونا، وإذا كانت الحقيقة هي الطريق والمنطلق إلى الحرية فإن التزييف هو الطريق إلى العبودية، أو الاستعباد والظلال، وإذا كانت الإنسانية عاشت قرونا أسيرة أوهام، إلا أن المعاناة الحقة، والآثار الجنائية، إنما وقعت على كاهل من سلبناهم الحقيقة وزيفنا تاريخهم، فهؤلاء هم الضحية.
والتزييف لا يبدأ دائما من تأويل على نحو يخلق أفقا زائفا لنشاط الإنسان بل إنه قد يبدأ بابتداع النص فيكون كذبة في مبدئه، وضلالا في مسيرته، وسلبا لأفق الفعالية الصحيحة، ويضيع الطريق من صاحبه وقد تلقن أسطورة تضخمت وترسخت مع التاريخ.
وإذا كانت الحضارة الخصبة الولودة المتجددة هي ثمرة حوار بين الإنسان/المجتمع، وبين الواقع/البيئة حاضرا وتاريخا، فإن مثل هذا الحوار لا يقوم على كذبة، وإلا فإنه لن يكون منتجا أبدا، ومن ثم يظل المجتمع عقيما، وإنما شرط خصوبة الحوار هو الصدق، صدق الرؤية أعني التزام الحقيقة على هدي عقلاني نقدي مع الإنسان في تاريخه وحاضره وعلاقاته ومنظوره المستقبلي، ولعل في هذا مؤشرا لجوهر أزمة وعينا بالتاريخ، ومن ثم أزمة الانتماء. (1) تزييف الوعي
إن مصر/أفريقيا، ومصر/العرب، ومصر/المتوسط في غيبة أو مغيبة عن حقيقة تاريخها بعد أن حجبته أقنعة مصطنعة وأساطير لبست ثوب الحقائق وباتت مرجعا يستشهد به، روايات غير محققة أحاطت بها هالة ذات قدسية حينا، أو أكاديمية حينا آخر، وظلت محور صراع بين شعوب المنطقة؛ ولم نسأل أنفسنا عن جوهر هذا الصراع وحقيقته ومبتدأه وفعاليته في التاريخ، وطبيعة القوى المادية والروحية أو الثقافية المحركة للبشر أو ما نسميه دينامية أحداث التاريخ.
اصطلحت قوى عديدة على مناهضة تاريخ مصر/أفريقيا وإدانته وإن لم تتوافق زمنا فقد اتفقت رأيا ورؤية منذ سقوط الحضارة المصرية على أيدي الفرس إلى الغزو الأوروبي، فهي حينا حضارة وثنية ملعونة، وحينا آخر حضارة مجهولة المنشأ والفاعل، أو أقامها أناس بيض أسطوريون اختفوا من الوجود، من أين جاءوا، وإلى أين رحلوا؟ لا أحد يعلم، وتشكل هذه الرؤية في جميع الأحوال، وعلى تباينها، أسطورة فاعلة، أو «حقيقة» اجتماعية شغالة، بل ومقدمة أكاديمية ومنطلقا للفكر والسلوك.
نحكي عن غزوات القوى الخارجية لمصر مع تعاقب الزمن والعهود، ونصوغ الرؤية صياغة محايدة تخفي كل نوازع الحركة ودوافعها ومظاهرها والتناقض أو الصراع بين صفوف قوى المجتمع سواء داخل مصر أو الزاحفة إليها، لماذا سقطت الحضارة المصرية؟ لا نجد إجابة تكشف لنا الأسباب وتاريخيتها وعوامل تحللها، ما هو دور القوى الغازية على تعددها وتعاقبها وتعارضها وحقيقة الصراعات بينها وبين مصر الحضارة، مصر القوة التاريخية الجغرافية العسكرية الاقتصادية، أي الحاكمة للمنطقة؟ نتحدث عن هذه القوى، وكأنها وافدة زائرة، وفدوا ضيوفا على أرض مباحة أو مستباحة لهم أن يدخلوها آمنين، ونقول على سبيل المثال: دخول الفرس أو الرومان أو غيرهم أو فتحهم مصر، ولكن لماذا؟ وماذا حدث؟ ما هي الأطماع والصراعات والتناقضات؟ ما هي الآثار السلبية على مصر وإلى أي مدى امتد تأثيرها وتفاقمت؟ وهل حقا شعب مصر سمته وخصوصيته الترحيب بالوافدين الغزاة؟ أعني الاستكانة والاستسلام كما يشاع؟ أم كيف صاغت أحداث التاريخ وأقنعة الأيديولوجيا والظروف الاجتماعية؟ أعني كيف صاغت عمليات التزييف الروحي، والنهب المادي، والواقع الاستبدادي المأساوي استجابات الإنسان المصري؟ وما هو مدلول الحشود الوافدة الغازية؟ مدلولها الثقافي والجنسي ؟ أعني إلى أي مدى أثرت جحافل الغزاة الذين استوطنوا في الثقافة السائدة التي اغتذى عليها الإنسان المصري؟ وكيف أثرت في التركيب الجنسي للإنسان المصري؟ وكيف انعكس هذا التزييف في حقيقة الانتماء للتاريخ والوعي بالتاريخ ووحدة التاريخ والمواطنة بحيث كان حصاد السنين ما نراه اليوم؟ (2) السقوط والعزل العنصري
إنني أزعم أن مصر واجهت محاولات خصاء ثقافي على أيدي الغزاة جميعا في تعاقبهم وصراعاتهم للاستئثار بالفريسة، وأزعم أن مصر عاشت في معزل عنصري «أبارتهيد» منذ تاريخ سقوط الحضارة المصرية إلى تاريخ انبعاث حركة النهضة الحديثة، أو عودة الروح المصرية على أيدي رفاعة الطهطاوي، أول من تحدث عن مصر الحضارة وطالب بوحدة تاريخها، وأحمد عرابي أول من أطلق صيحة الفلاح المصري مطالبا بحق المشاركة في صنع القرار، وليس محمد علي كما هو شائع رسميا والذي كان مناسبة لا سببا، وحين أقول مصر فأنا أعني مصر الزراعة اقتصادا وجغرافية وثقافة، مصر الفلاح والأرض السوداء، التي عانت من سيطرة الأجنبي الغازي وسطوته وعدائه لثقافتها إلى حد القتل وفرض عليها العزلة.
جميع الغزاة في تعاقبهم ناصبوا الثقافة المصرية العداء القاتل، وجميع الغزاة ابتداء من الفرس عمدوا إلى تدمير ثروات مصر المادية والروحية ونهبها، إنهم لم يستنزفوا خيراتها الاقتصادية فحسب، بل عاثوا في أرضها فسادا، ودمروا بيوت الثقافة ومؤسساتها فيها، نهبوا الكتب، ودمروا المعابد، وأخرسوا الكهنة، لم تكن معابد مصر المنتشرة في ربوعها مجرد أماكن عبادة، يؤمها المصلون لأداء طقوس ثم ينفضوا، بل كانت في المحل الأول المطبخ الثقافي، أو ترسانة الثقافة، للتثقيف، وصناعة الثقافة، وهي خزانة الوعي الثقافي الاجتماعي تصوغ رؤية المجتمع وإطاره الفكري، ولهذا كانت مستهدفة دائما من الغزاة لتدميرها رغبة منهم في تدمير منابع الثقافة المصرية وإحكام السيطرة، ولم يكن الكهنة في مجموعهم مجرد رجال دين يلقون مواعظ للتخويف والترويع، بل كانوا بدرجاتهم وفئاتهم المختلفة رجال علم: علم دنيا وعلم دين وصناعة معرفة، وقد كانت المعرفة بجميع أشكالها قدسية الطابع، إلهية الطبيعة حسب عقيدتهم، والعارف العالم رجل قدسي لما حظي به من علم ومعرفة ، ولهذا كتبوا علومهم للخاصة بلغة مقدسة هي الهيروغليفية، وحري أن نأتي هنا بشهادة مؤرخ قديم غير مصري هو ديودور الصقلي وقد عاش في الإسكندرية في القرن الأول قبل الميلاد ويدلي بشهادته فيقول «إن الفرس بقيادة قمبيز أشعلوا النيران في كل معابد مصر، وحملوا معهم كل الكنوز إلى آسيا، واقتادوا قسرا عمالا مصريين لبناء القصور الشهيرة وبعض المدن في ميديا»
1
وهذا ما فعله كل الغزاة ابتداء من الفرس، انقضوا في تعاقب على الفريسة ينهشون كنوزها ويدمرون ثقافتها ويستنزفون خيراتها، وكان الحدث الأكبر الذي قطع الحبل السري الواصل بين ثقافة المجتمع باعتبارها مؤسسة وبين أبناء المجتمع حين أصدر كل من الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي ومن بعده جوستنيان في القرن السادس الميلادي مرسوما بإغلاق المعابد المصرية وتحريم تعاليمها، وتجريم العبادة أو تلقي العلم فيها، أي تسريح المؤمنين والقضاء على النظام الثقافي الاجتماعي، وكان هذان القراران المحاولة الرسمية السافرة لإلغاء الذاتية الثقافية المصرية لتبقى مجردة من كل مقومات البقاء والتطور في استقلال ومن الفعالية الاجتماعية المميزة، إن الغزوات والحروب، حتى وإن تخفت وراء أقنعة أيديولوجية تتحدث عن نقل حضارة، أو إبلاغ رسالة وتحقيق مدنية، إنما تهدف أولا وقبل كل شيء إلى الهيمنة على عقول المجتمع الضحية، وقطع موارد الإمداد الثقافي، واستئصال منابع الذاتية الثقافية المعبرة عن وحدة المجتمع وتضامنه وانتمائه، وهذا هو عين ما استهدفته جميع الغزوات المتعاقبة بقوة السيف والسلطان حينا، وقوة التحريم والإدانة حينا آخر ليبقى المجتمع أعزل في حالة خواء، إنه قتل الروح وبقاء الجسد يدر على الغازي عطاء ماديا وقد تحللت عوامل الترابط والتضافر المجتمعي وسقطت أسباب الوعي التاريخي الاجتماعي، وأسباب الوجود المستقل والتفرد في الفكر والثقافة والقدرة على الفعل والتفاعل، ويتحول المجتمع إلى تجمع بشري راكد عاطل من العطاء، مفكك الأواصر، بغير هدف مجتمعي مشترك يسعى إليه، وبغير حافز قوي إلى التغيير، وهكذا نعيش فرادى يضمنا مكان بغير زمان، وننتمي إلى تاريخ لم تجر أحداثه على أرضنا، وهل يستطيع مجتمع أن يتلاحم وتقوى أواصره ويسعى إلى تغيير واقعه نحو هدف واحد وموحد بدون ثقافة مجتمعية وليدة جهده ونشاطه ومعاناته؟ أليس هذا هو عين السقوط الحضاري؟ إن الحضارة هي التصدي على الصعيد الاجتماعي في تلاحم لعوامل التحدي والفناء من أجل البقاء وتغيير المجتمع في اتجاه القدرة على التجديد. (3) واقع ولا تاريخ
تتراوح حركة المجتمع ما بين حافز إلى التغيير، تغيير الواقع ومواجهة تحدياته ضد كل أسباب التحلل وفقدان الذاتية، وما بين نكوص أو ردة إلى أصول، وهذه الردة هي ميكانيزم أو آلية دفاعية عن الذات بسبب تعذر أو تعثر المواجهة وفقدان أدواتها، وتكون الكارثة أشد حال فقدان الوعي العقلاني النقدي بالأصول والعيش في جمود، والشعب المصري في حالة الأبارتهيد أو العزلة والفردية والخصاء الثقافي لتاريخه وتجريده من مقومات الفعل والعطاء والانتماء، وهي حالة فرضها عليه جميع الغزاة، عاش محروما من الأمرين معا، عاطلا من إمكانات التغيير والمواجهة، وعاطلا من الوعي بالتاريخ وبالتضامن الاجتماعي الذي يشكل ملاذا ووقاء، إلى حين، وقت الضعف أو يكون عند الصحوة ركيزة للوعي النقدي العقلاني لتحويل الماضي إلى قوة دفع جمعي، وهكذا عاش قرونا مأساة لا مثيل لها من حيث بؤس الواقع وبؤس الوعي التاريخي.
نحن لم نصنع تاريخا على مدى أكثر من ألفي عام، والوجود الإنساني جوهره تاريخ، وهو تاريخ وعي اجتماعي له مردوده العرفاني، وهو فعل أبناء المجتمع الأصليين ونشاطهم وإنتاجهم باعتبارهم شركاء متضامنين لا شركاء موصيين، وبدون ذلك يبدو التاريخ مجرد امتداد، طالما افتقر إلى الفعل الواعي، أو الفعل والوعي معا باعتبارهما وجهين للوجود المجتمعي.
والتاريخ صناعة أو إنتاج الذات الاجتماعية لنفسها في إطار التحديات من أجل البقاء والوعي بالذات، وهو الخلق الموضوعي للذات الاجتماعية، وإذا غاب الوعي، غاب الفعل الهادف، وركد التاريخ أو انمحى، ولكن المصري عاش في حالة آنية متصلة، همه الخلاص الفردي هربا أو تملقا أو كدحا، فكل الغزاة حلوا عليه سادة استوطنوا الأرض وعاشوا بغير انتماء إلى التاريخ أو الفعل الاجتماعي الجهيض أو إلى العقل المصري الأسير، وإن اعتادوا على مدى تعاقب موجاتهم طوال آلاف السنين أن ينزح المهزوم منهم إلى داخل الصفوف، ولكن ماذا أثمر التسلط الأجنبي؟ وما هي الآثار الثقافية على المجتمع بفعل غزوات وعمليات استيطان واسعة لجماعات بشرية غريبة أو مغتربة.
إن الذاتية الإنسانية بفضل التاريخ - أي بفضل الفعل الحر - تغدو أكثر ثراء معرفيا، ومن ثم ارتقاء حضاريا يستوعب الماضي ونشاط الحاضر ورؤى المستقبل، ويفسر لنا هذا حالة فقرنا، الفقر الفكري والتاريخي والوعي البائس، وهو ما نسميه إيجازا التخلف وتعطل إرادة التغيير، وحين يدخل الماضي مجال الوعي العقلاني النقدي، فإنه يحرك فينا نوازع الفعل والتغيير وإنتاج الوجود ومواجهة التحديات، لأن الماضي بدون وعي به هو الغريزة وحياة الآنية والفناء في اللحظة الراهنة، ونفي للهدف والأمل والتطلعات على الصعيد المجتمعي، ولهذا نقول إنه مع سقوط الحضارة المصرية لم يعد الوجود المجتمعي للإنسان المصري بمثابة مشروع حر يستمد حريته من العمل الإنساني والخبرة الحياتية المجمعة، بل أضحت الحرية حرية فرد في الطاعة والانصياع، ولم يعد التاريخ تاريخ فعالية، أو فعل الإنسان/المجتمع، بل أسقط الفعل ولم يبق غير الحيلة أو التحايل على المستوى الفردي، أو التوحد مع السلطان، وهذا هو جذر الفهلوة. (4) الاهتراء الثقافي
المجتمع المصري طمست صورته المشتركة أو الجماعية إثر سقوط حضارته وإهدار ثقافته التي هي حصاد وعيه المعرفي في التاريخ، لم يعد بالإمكان أن يدرك الإنسان المصري كمجتمع نفس الأشياء وفق ذات الإطار الموحد باعتبارها واقعا مشتركا، إذ بات الواقع فرديا، ومع اختفاء إحساسنا بواقع مشترك، وبقضية مشتركة قومية فقدنا أداتنا الوسيطة المشتركة، وفقدنا الحافز المشترك، والهم المشترك للتعبير وتواصل الخبرات، تشرذم المجتمع إلى تجمع سكني، ومع تمزق الشمول المجتمعي، ومع فقدان الخبرة الفردية لخصوصيتها الكلية، أي العامة المشتركة تحللت الثقافة إلا من أساطير، وتفكك التضامن الاجتماعي أو ساد مناخ الاهتراء الثقافي.
انتفى مناخ العمل الجمعي الموحد وقواعده، مما أفضى إلى حالة أنوميا أو خواء اجتماعي؛ إذ لم يعد الوجود الفردي راسخ الجذور في وسط اجتماعي ثابت ومتكامل وموحد، وفقدت الحياة معناها الذي يضفيه عليها الإنتاج الاجتماعي، وفقد النشاط دلالته وهدفه، وانتفى النشاط الفكري المجتمعي، فالغنى الروحي لا يتأتى بدون عمل جمعي للإنسان/المجتمع، لأن هذا العمل يصنع الأمل، ويحفز إلى التغيير والإبداع إذ يعبر في صورة مجسدة عن قدرة الإنسان على التأثير والخلق ومن ثم الثقة بالنفس.
ولعل في هذا إجابة على سؤال إذا كانت مصر لها فخر الريادة والسبق الحضاري فلماذا توقفت عن العطاء؟ وفي هذا أيضا بيان للفارق بين عمل جمعي إنتاجي في اتصال تاريخي، وبين عمل فردي هو الكدح بعينه، وقد سقطت عنه رابطة المجتمع، والعمل الذي فقدته مصر هو الإنتاج الجمعي الذي يجسد الخبرة الإبداعية والمهارة الاجتماعية وقيم المجتمع في التاريخ، ويرمز إلى وحدة المجتمع وتضامنه وإلى عناصر تميزه، أو تمايزه في إطار أيكولوجي تاريخي؛ لأنه رهن السياق البيئي في شموله جغرافيا وتاريخيا وثقافيا أو إنسانيا بوجه عام، ولهذا يقترن جمود المجتمع بجدب عرفاني وتحلل ثقافي. (5) النشاط المجتمعي شرط إنتاج المعرفة
إن إنتاج أبسط الأدوات يشتمل ضمنا على إنتاج معرفة ومهارات وقيم، أو بعبارة أخرى إن الأداة هي معرفة ومهارات وقيم مجسدة في موضوع أو شيء، والعمل والإنتاج من حيث هما نشاط جمعي منهجي هادف ومنظم، ومن حيث هما صياغة وحلول لمهام وإنجازات لأهداف محددة مجتمعيا، جرى إعدادها فكريا قبل نتائج العمل واستجابة لمهام العمل واتساقا مع وسائله، أي كانت موضوع تأمل وتحليل وتفكير ومحاولة وخطأ وتنظير وتراكم معرفي تاريخي ومراجعة قيمية، فإنهما بذلك كله يمثلان أنشطة لكائن، أو مجتمع قادر على المعرفة ويمتلك وعيا أو عقلا بالمعنى الاجتماعي التاريخي لمصطلح الوعي.
وفي ضوء هذا نقول: إن الحدث التاريخي هو فعل إنساني اجتماعي، ونشاط مجتمعي هادف يترسب في الوعي كخبرة تاريخية للمجتمع تتراكم، ليس كميا، بل يتمثل تراكمها في تطور كيفي للمعرفة والسلوك والإنجازات، معرفة متطورة متباينة هي الإبداع في تفرده الثقافي المعبر عن خصوصية أيكولوجية للإنسان/المجتمع/البيئة في التاريخ وما يفرضه هذا السياق من مهام وتحديات للبقاء.
ولهذا أيضا نقول: إن الحدث التاريخي المجتمعي حدث هادف لا يحدث بسبب، أعني ليس مجرد رد فعل ميكانيكي شأن الحدث في الطبيعة، وإنما يحدث من أجل، لا يصنعه الماضي لزوما واضطرارا ميكانيكيا، بل يصنعه المستقبل، أي الهدف الاجتماعي حين يكون المجتمع نشطا فعالا له فكره ورؤيته، وبذا يكون الفعل الإنساني أو لنقل التاريخ في اتصاله هو مشروع وجود وليس مجرد أحداث أو وقائع متجاورة أو متعاقبة، ولا مجرد نتيجة لفعل خارجي، وهنا يتكامل جدليا الفعل الإنساني المجتمعي والنشاط المعرفي حيث تكون المعرفة هي حصاد سياق النشاط الإنساني في المجتمع، وجماع التطور والنمو في التاريخ أو الزمان وتكون حافزا لفعل اجتماعي جديد، ويشكلان معا وعي الإنسان في التاريخ، ورؤية المجتمع للذات والمستقبل.
أما المجتمع الذي تسوده فردية قاهرة، بفعل قسر يحطم البنية الحضارية للمجتمع، فردية تقطع علاقات التداخل والتفاعل بين أبنائه، وتحجب فعاليته وترابطه الجمعي بين أبنائه، وبينه وبين المجتمعات الأخرى (شأن مصر بعد انهيارها الحضاري)، مثل هذا المجتمع يفقد قدرته على العطاء الإبداعي الجمعي، أي يفقد إرادة جمعية للبناء والتغيير وإبداع المعرفة، مثال ذلك خبرة المجتمع عن الطقس والفصول والتقويم السنوي وغير ذلك مما أبدعه المصريون القدماء، هذه الخبرة ليست وليدة تأمل فردي، بل تأمل أجيال المجتمع في تعاقب وترابط ومصالح مشتركة تشكل بؤرة اهتمام النشاط الاجتماعي وحياة في جغرافيا مشتركة.
وحين نتحدث عن العمل والمعرفة، حري بنا أن ندرك أنه ليس أي نشاط يفضي إلى فكر ويولد معرفة علمية، بل نشاط منهجي مشترك يعكس مصالح مشتركة، نشاط استقصائي ومجتمعي متفاعل وفق خطوات وقواعد متعارف عليها، النشاط الاستقصائي هو بذرة التجريب، بذرة حوار الذهن مع الواقع لفهم الظاهرة، ومراجعة الواقع في إطار شهادة مجتمعية، حوار الذهن مع نفسه (الذي هو رصيد خبرات مجتمعية) ومع الواقع إزاء الظاهرة، وهو حوار نقدي يلتمس الخطأ والصواب دون تقليد أو انقياد، فالذي أنشأ الحضارة وأقام الثقافة هو جدل الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره النقدي مع النص الموروث من جهة أخرى، فإن تفاعل الإنسان من حيث هو مجتمع مع الواقع، وجدله معه - بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية - هو الذي ينشئ الحضارة ويدفعها قدما ماديا وروحيا. (6) أثر تجفيف منابع الثقافة المصرية
ومع جفاف منابع الثقافة القومية، وغياب العمل المجتمعي المعبر عن العلاقة الإبداعية بين الإنسان والبيئة في صورة معرفة، ومع تعاقب الغزاة والتسلط غاب الوعي التاريخي أو الوعي بالتاريخ، وتعطلت قدرة المجتمع على صياغة صورة عن ذاته ممتدة من الماضي إلى مستقبل يهدف إليه بجهده علما وعملا عبر الحاضر، فالأمة تفكر لنفسها وبنفسها، أي يكون لها فكرها المستقل، ويتوفر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هدي مشروع عملي مستقبلي، والوعي بالتاريخ الذي أعنيه هو إطار نسقي للوعي بالذاتية القومية في بعدي الزمان والمكان، أعني تاريخية علاقة المجتمع بالبيئة في امتداد زماني وعلاقته بالآخر، أي بالمجتمعات الأخرى، سلبا وإيجابا في سياق الفاعلية.
لهذا سقطت الحضارة؛ إذ إنها رهن التحرر والانتماء، التحرر في إدارة الأدوات الثقافية إدارة واعية على الصعيد المجتمعي، وبدون التحرر تسقط الإرادة المجتمعية، وينتفي نفوذ المجتمع في تطوير ثقافته وإبداعها، وفي الحوار مع الثقافات الأخرى، لأن الحضارة أيضا تحرر الوعي بالذات أو الانتماء الواعي، وإذا سقط هذا الوعي سقطت مشاعر النحن وحركة النحن، وانتفى الشعور بالأزمة على صعيد المجتمع في شموله وهو أساس الحافز إلى التغيير، وانتفى الشعور بالتحدي المشترك، والفعل المشترك، والصورة المشتركة للجميع، ويبقى للناس الوعي بالتمزق، والوعي بالخواء وتفاهة الحياة، ولا نستطيع أن نقول هناك عقل مصري جمعي يواجه التحدي، ويستجيب بفضل قدراته المجتمعية فكرا وثقافة وإنتاجا، والحضارة استجابة فكرية ومادية منتظمة مجتمعيا ضد أسباب الفوضى والتمزق وضد عوامل الفناء. (7) الانتماء فعل مجتمعي نشط
والانتماء رهن وعي بالذاتية القومية على امتدادها التاريخي الاجتماعي في سياق فعل مجتمعي نشط وهادف تزدهر وتتعزز من خلاله هذه الذاتية، إذ إن هذا الوعي ذروة التلاحم بين الذات الجمعية، وبين الواقع الحي بوصفه عملية تاريخية، أو هو تعبير عن إدراك أبناء المجتمع لخصائصهم بوصفهم شخصية قومية متمايزة لها بعدها التاريخي، ولعناصر ثقافتهم ممثلة في السلوك والقيم والعواطف والآمال والطموحات والمصالح المشتركة وكل ما يشكل قوة ربط وتلاحم، ويمثل عامل تضامن ووحدة على الصعيد القومي، ويسبغ على النشاط العملي الاجتماعي طابع الوحدة والتجانس، وتتحقق من خلاله للمجتمع رؤية مشتركة لحمتها وسداها تاريخه وخصوصيته، وحصاد ذلك مجسد في ثقافته وجهده في تغيير الطبيعة وبناء حضارته ونظرته إلى المستقبل وإلى الحياة بعامة، ثم إدراك المرء لنفسه بوصفه عنصرا متمايزا عن الطبيعة التي يغيرها، وبوصفه وحدة في مجتمع متكامل يشكل نسقا تاريخيا له لغته ورموزه وطقوسه وعقائده وقيمه وسلوكه وأسلوبه في التعامل مع النفس ومع الآخر مجتمعا وطبيعة.
والوعي بالذاتية القومية ليس نسقا سلبيا، بل إنه عنصر نشط إبداعي فعال؛ لأنه وليد التلاحم الإنتاجي بين الذات والمجتمع والطبيعة، والذي يعبر عنه في صورة منتج حضاري ورغبات وحاجات مطردة التغيير تدفع إلى مزيد من الإنتاج الإبداعي المعبر عن خصائص الذات الخالقة، وعن صورة انعكاس العالم الموضوعي في أذهان أبناء المجتمع، وعن ثراء هذا العالم، وبقدر ما يكون الوعي صورة للانتماء الاجتماعي، وبقدر ما يكون استيعابا نقديا لثقافات الماضي وإمكانات الواقع، يكون تعبيرا عن الحاجات والتطلعات الجمعية التي تشكل حافزا مستمرا للبحث العملي والعلمي معا في سياق حركة ممتدة متعددة الأبعاد.
ولعلنا في إطار هذا الفهم ندرك خطر المعزل العنصري الذي فرضه الغزاة المتعاقبون على الشعب المصري، وما أفضى إليه هذا العزل والتسلط من تجفيف لمنابع الثقافة، وقطع كل صلة تربط المصري بجذوره التاريخية، ولم يبق له غير الأسطورة، ولم يعد لشعب مصر حضور فعال على ساحة التفاعل الاجتماعي والبناء والتغيير، ولم تعد له قضية قومية. (8) البحث في الجذور
إن التحرك على طريق النهضة يستلزم، من بين أمور أخرى، إجراء دراسة حالة وصولا إلى تشخيص جيد وفهم سليم للإنسان والمجتمع يكون من خلال فهم البيئة التاريخية ومعرفتها في نشوئها وتطورها، وصراعاتها ومعاناتها، والمواقف المختلفة، والغذاء الفكري وتحولاته ... إلخ، وسياق هذا كله وانعكاسه في الفكر والسلوك، ليس الهدف رواية وقائع، بل دراية بكيف حدثت الوقائع، وماذا فعلت بالإنسان المصري، وما هو طريق الإصلاح، إصلاح بيئة المجتمع، وتصحيح التاريخ، وإيقاظ الوعي على هدي حس تاريخي صادق، ليكون هذا كله مقدمة أساسية لفعل مجتمعي نشط يعبر عن إرادة جمعية وهدف مستقبلي مشترك، إنها قضية قومية لها أولوية قصوى، وهي إشكالية علمية أيضا سوف تتعدد وتتباين، وقد تتصارع بشأنها الآراء إلى حين تصحيح النهج والمسار.
لهذا كله تمثل الدراسات المعاصرة النقدية عن الحضارات دعوة إلى صحوة، أو هي صدمة بكل ما تعنيه كلمة صدمة من مسئوليات وواجبات علينا أن نضطلع بها أفرادا ومؤسسات في مجالات الحياة العامة والسياسية والإعلامية والعلمية والتعليمية وفي التنشئة الاجتماعية، وإنما سوف يتمخض عنه الحوار العلمي والبحث الأكاديمي بشأن موضوع نشأة الحضارات الإنسانية ومسارها وما شاب التاريخ من تزييف، لا بد وأن يكون مؤشرا لمنحى جديد في حياتنا حتى نخطو أولى خطواتنا على طريق النهضة في مواكبة مع التغيير المادي للمجتمع وفعالية أبنائه.
إنني أتوقع - على سبيل المثال - أن تكون هذه القضايا موضوعا لأطروحات علمية في الدراسات العليا في الفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك من علوم وثيقة الصلة، وقد يكون من الملائم أن تتضمن دروس التاريخ، بل والمطالعة، في المدارس مقتطفات من آراء العلماء في حضارة مصر، ومختارات من الأدب المصري القديم أسوة بالأدب في مراحله المختلفة حتى الحديث، وأن تتضمن دراسات عن إنجازات مصر في مجال السبق الحضاري في الفلك والفلسفة والطب والأخلاق والدين ... إلخ، وحري بنا أن نعيد صياغة دروس الرياضيات والفلسفة لنقول كمثال: نظرية فيثاغورس التي تعلمها في مصر، أو نقول: معبد دلفي المصري في اليونان، أو فلاسفة اليونان تلامذة الفلسفة المصرية وليس في هذا خطأ، بل الخطأ هو البقاء أسرى تزييف التاريخ إذا ما ثبتت التهمة، والخطأ أن نظل ضحية مشاعر الدونية وحدود التحريم دون مسوغ موضوعي، والخطأ أن نردد مع خصوم الحضارة المصرية القديمة قولهم إن هي إلا أساطير أولين، أو أن التنقيب في أطلال الماضي مضيعة للوقت أو ردة إلى وثنية مزعومة، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي «الهمجي» واللحاق بالعالم الحديث الذي بات قرية صغيرة بلا حدود قومية، أو أن العلم سوف يحل مشكلاتنا وقد كفانا عناء البحث عن حل لقضايانا الحاضرة وأزمتنا الراهنة، وأن البحث عن الماضي مشكلة محلية وثانوية باتت غير ذات موضوع.
والغريب أن دعاة هذا الرأي جميعا هم أعلى الأصوات في الدعوة إلى التمسك بالتراث، ولكن تراثهم هم، ويكفي أن نقول إن الغرب - على سبيل المثال - حين شرع في ثورة التحديث لم ينكر ماضيه، ولم يستنكره، بل إن التحديث اعتمد على الولاء الإبداعي للماضي، وليس قطع الصلة به، وهذا هو ما ندعو إليه: إيمان عقلاني نقدي بوحدة التاريخ المصري في اطراده، ومراحله المتعاقبة وصولا إلى العصر الحديث، وإيقاظ الوعي به على نحو موضوعي صادق. (9) علم التاريخ الذي نريده
لهذا لا نريد التاريخ روايات صماء، ولا نثار أحداث، ولا رؤية تصادر على الفهم الموضوعي، فلم يعد التاريخ رواية حدث ولا مجرد تأويل لهذا الحدث من منطلق التسليم به أو الانتقاء الأيديولوجي، بل التاريخ إسقاط العلوم الاجتماعية على الماضي في ضوء حركة مستقبلية، ومن ثم فأهم ما يعني المؤرخ الآن الذي يؤمن بأن التاريخ هو الزمان الوجودي والفعل الواعي للإنسان/المجتمع/البيئة هو فهم التحولات المادية والنفسية التي أثرت بقوة ووضوح على العوامل الإنسانية الحاكمة للحياة، واستكشاف الأطر المعرفية التي جرت في سياقها وعلى ضوئها الأحداث، كيف تشكلت، وكيف تكونت؟ ولماذا؟ وفهم العوامل الأساسية الصانعة للإنسان، منتج التاريخ، وفهم الظروف: البؤس، المجاعات، والتسلط، والعلاقات، والطقوس ... إلخ؛ أسبابها وآثارها على الإنسان/المجتمع، لهذا فإن فهمنا للإنسان المصري منطلقه تاريخية الوجود: الفعل والفكر، ولكننا نتحدث عن نهضة وتغيير، وصحوة وانتماء ... إلخ، ودون تحليل نقدي لمعنى مصر والمصريين في ضوء التاريخ باعتباره ظاهرة وعملية نشوئية تكوينية دينامية نتعامل معها، وباعتباره موضوعا للوعي النقدي، وأداة لإنتاج المستقبل. •••
إنني لست من دعاة الردة، ولا تجاوز مراحل التاريخ أو الافتئات عليها، كما إنني لست من دعاة الإغراق في البحث عن الذات بالمعنى المبهم، أو تصور أن الذات وجود مضى نبحث عنه ونستعيده من بين أطلال الماضي، ذلك لأن الذات القومية وجود متصل وفعالية ممتدة وتفاعلا مطردا، ولا أومن بالتحيز إلى نهج بذاته عند الدعوة إلى البحث عن الذات، أو تعريفها مسبقا، فإن التحيز لغير الواقع الموضوعي والمنهج العلمي، يفضي إلى حجب حقائق تاريخية، ومن ثم يدفع إلى الافتعال، وهو ما نعاني منه، وأحد أسباب اختلال الأنا وقصور الفعل، والتحيز يفضي عادة إلى تضييق مجال البحث عن الهوية الثقافية وحصره دون مقتضى في أي من الدوائر النظرية الثلاثة: الدينية أو القومية أو الإقليمية بالمعنى اللاتاريخي، وواقع حالنا اللاتاريخي حافل بمحاولات افتعال صورة للذات ليست هي الحقيقة، وإنما إشباع لهوى طغى، والتزام أو انسياق، أو لنقل انصياع لمحورية هي بطبيعتها منافية للعلم، حينا محورية أوروبية خضوعا لهيمنة الفكر الأوروبي، وحينا محورية ذاتية تمثل أيديولوجية ماضوية ضيقة الأفق تنطوي على ردة إلى واقع محدود هو أيضا لاتاريخي وغير دينامي، ونحن في جميع الأحيان نردد الوافد بعد اقتلاع الجذور.
إننا في مصر باعتبارنا دائرة لواقع له تاريخه وامتداده العضوي والفكري الأفريقي والعربي والمتوسطي بحاجة إلى التزام منهج التحليل والتركيب لتحديد صورة الذات التي تولدت في تعاقب زمني حضاري صعودا أو هبوطا، وأسهم هذا كله بإيجابياته وسلبياته في صياغة تراث نحن في مسيس الحاجة إلى دراسته سوسيولوجيا، وإن سبر أغوار نفسنا الاجتماعية، أو وعينا أو تراثنا الواعي وغير الواعي لا يكون إلا باعتراف منا بالبعد الزماني وبالفاعلية والتفاعلية أو الانفعالية الإنسانية في التاريخ، والنفاذ إلى البعد الزماني يعني نفاذا إلى العمق النابع من دراسة المجتمع باعتباره تجمعا ديناميا لقوى تعبر عن ذاتها وتتجلى في صيرورة مطردة ومتصلة، الكشف عن البعد الإنساني في التاريخ وعاء التراث باعتباره امتدادا، ولن يكشف لنا هذا غير فهم العمليات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية في الزمان.
وفي هذا الاتجاه تضع الدراسات النقدية المعاصرة عناصر فلسفة جديدة هي فلسفة تحرير ووفاء أو رد اعتبار للإنسان الأفريقي، وهدفها هو تحرير أنفسنا وتحرير أوروبا وكل أصحاب الأقنعة الأيديولوجية من أخطاء التاريخ ومن ممارسات غير موضوعية، بل عنصرية وعرقية.
ولا ريب في أن هذه الدراسات - شأن كل الأعمال التي تتصف بجرأة الريادة - قد تشوبها بعض المآخذ من حيث التأويل أو الاستنتاجات على الرغم من صواب جزئيات المعلومات، من ذلك مثلا أننا لا نستطيع أن نقول إن الثقافات، شأنها شأن الجوامد في حركتها تنتقل من مجتمع إلى آخر، أي من بيئة إنسانية واجتماعية وطبيعية إلى بيئة أخرى انتقالا آليا فتكون نسخة طبق الأصل على مدى الحياة المغاير، دون أن تظهر عليها بصمة البيئة الجديدة، خاصة إذا كانت بيئة نشطة ولها عناصر تميزها وتفردها، ولها مجالات تفاعلها، هذه وغيرها من قضايا علمية تجعل إشكاليته منطلقا لدراسات مهمة «وجادة» وموضوعية التماسا للحقيقة، فالسبيل الوحيد إلى النهوض هو التفكير والعمل من خلال الحقيقة، حقيقة التاريخ وحقيقة الواقع الراهن هداية صائبة لخطونا نحو مستقبل نحن صناعه.
المراجع
(1)
الحضارة الغربية .. الفكرة والتاريخ، تأليف توماس سي باترسون، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2001م. (2)
التنمية حرية، تأليف أمارتيا صن، ترجمة شوقي جلال، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 2004م. (3)
The End of the World as We Know it, Immanuel Wallerstein, Univ. of Minnesota, 1999. (4)
www.civsoc.com/issue
The Western Culture of Citizenship in the Clash of Civilization. (5)
www.civsoc.com/reconphil .
(6)
www.civsoc.com/reconciv .
Salvaging Liberalism From the Wreck of the Enlightenment. (7)
www.civsoc.com/eltphil .
Citizenship and the Myth of the Autonomy of Reason. (8)
الشرق يصعد ثانية، أندريه جوندر فرانك، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة. (9)
الثقافات وقيم التقدم، تحرير صمويل هنتجتون ولورانس ولورانس هاريزون، ترجمة شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة. (10)
www.civsoc.com/ctphil .
The Misrepresention of Citizenship in Social Contract Theories. (11)
www.civsoc.com/ctphil .
The Collapst of Englightnment Civic Culture. (12)
www.civsoc.com/nature/nature .
Civic Justice and the Narrative Neutralization of Social Hierarchies. (13)
www.civsoc.com/nature .
The Cultural Creation of Citizens. (14)
http://cwis.livjn.ac.wk/citizen .
Civil Society and Citizenship. (15)
www.Iso.ac.uk/collections .
What’s Civil Society. (16)
نهاية الماركسية، شوقي جلال. (17)
العقل الأمريكي يفكر، شوقي جلال.
Página desconocida