اجتمع شيوخ بني إسرائيل يسألون صموئيل أن يقيم عليهم ملكا، فصلى إلى الرب فأمره أن يبين لهم سنة الملك وما يجريه عليهم من المتاعب والخسائر ، ولما ألحوا على صموئيل أوحى إليه الرب أن يختار شاول ملكا عليهم، وهداه إليه بأن شاول أتى إلى صموئيل يسأله عن أتن ضلت لأبيه وخرج يطلبها، فعرفه الرب به ومسحه سرا وأمره أن يوافيه في اليوم السابع إلى المصفاة (المعروفة الآن بشفعات)، ودعا صموئيل الشعب في ذلك اليوم إليها، وأمرهم أن ينتخبوا ملكا منهم بإلقاء القرعة على أسباط إسرائيل الاثني عشر، فأصابت بنيامين ثم ألقوا القرعة على عشائر هذا السبط، فوقعت لشاول بن قيس، ووقف بين الشعب فإذا هو يزيد طولا عن الشعب كافة من كتفه وما فوق، فهتف الشعب: «ليحيى الملك»، وكانت باكورة أعماله محاربته لناحاش ملك العمونيين، فهذا نزل على يابيش جلعاد في ناحية الصلت وضايق أهلها وطلبوا منه الأمان، فأجابهم أنه لا يؤمنهم إلا أن يقلع كل عين يمنى لهم، فأرسلوا رسلا إلى شاول وصموئيل، فاجتمع إليهم نحو ثلاثمائة ألف رجل ومن رجال يهوذا ثلاثون ألفا، ورتب شاول عسكره ثلاث فرق، فشتت بني عمون شذر مذر ووجد ناحاش ملكهم مجندلا بين القتلى.
وفي السنة الثانية لملكه حارب الفلسطينيين، وكان الرعب قد أخذ بني إسرائيل فلم يجتمع إلى شاول إلا بعض الشجعان في الجلجال (الجلجول الآن في جهة أريحا)، وأقام ثم شاول سبعة أيام لينتظر صموئيل بحسب موعده ليقدم الذبائح لله، فلم يأت وطفق الشعب يتفرق فأقدم على إصعاد المحرقة، ولما فرغ منه إذا بصموئيل قد أقبل فلامه شديد اللوم على اختلاسه حق الكهنة بتقدمة الذبائح، وأسمعه أن ملكه لا يدوم، وخرج الفلسطينيون ثلاث فرق يخربون في أرض إسرائيل، وأقبلت طلائعهم إلى معبر مكماش (مخماس)، فانفرد يوناثان بن شاول وتسلق على صخر هناك مع حامل سلاحه ووثبا على محرس الفلسطينيين، فقتلا منهم نحو عشرين رجلا، فاستولى الرعب على الفلسطينيين وأخذوا يهربون، ولما رأى عسكر شاول تشتتهم وثبوا عليهم وانضم إلى شاول من كان من بني إسرائيل مع الفلسطينيين وغيرهم حتى صار عسكره نحو عشرة آلاف رجل، واستمروا يطاردونهم من مخماس إلى يعلو وهي في شرقي عمواص، ثم حارب شاول كل من كان حوله من الموآبيين والعمونيين وملوك صوبا، وكان ظافرا، ولم يطرفنا الكتاب بشيء من تفصيل أخبار هذه الحرب.
لكن الكتاب أنبأنا أن الرب أرسل صموئيل إلى شاول؛ ليحارب العمالقة ويبيدهم؛ لأنهم اعترضوا بني إسرائيل في طريقهم إلى أرض موعدهم، فجمع شاول مائتي وعشرة آلاف راجل وزحف بهم إلى مدينة عماليق وضربهم، وقتل كل من وجده بحد السيف، وأسر أجاج ملكهم وأبقاه حيا وعفا عن خيار الغنم والبقر، وكل سمين وعاد ظافرا، فأوحى الرب إلى صموئيل أنه ساخط على شاول؛ لأنه لم يبد العمالقة وكل ماشيتهم كما أمره فأتى إليه صموئيل، فأنبه على ذلك قائلا: «أترى الرب يسر بالمحرقات كما يسر بالطاعة لكلامه!» وأبان له أن الرب قد رذله، فقال شاول: «قد خطئت فاغفر خطيتي.» وتحول النبي لينصرف فأخذ شاول بطرف ردائه فانشق، فقال له: «سيشق الرب مملكة إسرائيل عنك.» ثم قال صموئيل: «هلم إلي بأجاج ملك عماليق.» وأمر بقتله فقتل.
وأمر الرب صموئيل أن يمسح داود ملكا على إسرائيل وهداه إليه، فمسحه النبي سرا واعترى داء الماليخولية شاول، وأشار ذووه عليه أن يستدعي رجلا يحسن الضرب بالكنارة حتى إذا اعترته نوبة المرض فرج كربه، وهداه بعضهم إلى داود بن يسى فأرسل إلى أبيه أن يبعث إليه به، وجعله حامل سلاحه، وكان داود قبل أن يدعوه شاول أو بعده صارع جليات الجبار، وقتله بحجر ألقاه في مقلاعه، ثم أخذ سيفه واحتذ رأسه به، وأتى به إلى شاول فوضع السيف في بيت الرب، وأحب شاول داود وقربه إليه وصافاه يوناتان بن شاول وأخلص له، ولم يعتم شاول أن أخذته الغيرة من داود ووجس أن يكون خلفا له، فهرب داود من وجهه أولا إلى أخي ملك الكاهن، ثم إلى جت وموآب وطارده شاول وتمكن داود من قتله فعفا عنه.
وتألب أقطاب الفلسطينيين لمحاربة شاول مؤملين الظفر به لانقسامهم، وحسبانهم أن داود ورجاله يناصرونهم على شاول، وتقدمت جيوش الفلسطينيين نحو الشمال إلى مرج بن عامر، ونزلوا بجلبوع وهو المسمى الآن جبل جلبوع، ورأى شاول كثرة جيوش الفلسطينيين، فخاف وارتعد وسأل الرب فلم يجبه لا بالحلم ولا بالكهنة ولا بالأنباء، فمضى إلى عرافة في عين دور (جهة الناصرة) وطلب منها أن تصعد له صموئيل فأصعدته، فقال له: «شق الرب المملكة من يدك ودفعها إلى صاحبك داود، وغدا تكون معي أنت وبنوك في القبور.» وأمثل الأقوال في ظهور صموئيل أن الرب سمح بذلك لينذر شاول بهلاكه، وقال ابن سيراخ (فصل 46 عدد 22) في صموئيل: «ومن بعد رقاده تنبأ وأخبر الملك بوفاته، فعاد شاول إلى معسكره كئيبا مرتاعا، وتقدم الفلسطينيون إلى يزرعيل (ذرعين الآن)، وتسعرت نار الحرب وانهزم بنو إسرائيل وشد الفلسطينيون على أثر شاول وبنيه فقتلوا أولاده الثلاثة، وأدرك الرماة بالقسي الأب وأثخنوه بالجراح، فقال لحامل سلاحه: «استل سيفك وأوجئني به؛ لئلا يقلتني هؤلاء.» فلم يشأ حامل سلاحه أن يمد إليه يدا، فأخذ هو سيفه وسقط عليه فمات، وناح عليه داود مناحته المذكورة في الفصل الأول من سفر الملوك الثاني، وكان ملك شاول أربعين سنة. (14) في داود الملك والنبي
كان داود يحارب العمالقة عندما قتل شاول، ولما عاد ظافرا صعد إلى الخليل فأتى رجال يهوذا، فأقاموه ملكا، فلم يكن من إبنير بن نير عم شاول ورئيس جيشه إلا أنه أخذ أشبوشت بن شاول وملكه على سائر بني إسرائيل، فدان له سكان عبر الأردن وكثيرون من أسباط إسرائيل، واستتب له الملك على مريديه سنتين، فأخذ إبنير بن نير رجال أشبوشت، وأتى بهم إلى جبعون (الجب الآن)، فأرسل داود لملتقاهم يواب بن صروية أخته ... وكانت عاقبة القتال انهزام إبنير ورجال أشبوشت، واستؤنف القتال مرات فكان النصر لداود، وانحاز إبنير إلى داود وعاهده بأن يجمع بني إسرائيل إليه وهم بذلك، فشق ذلك على أيوب بن صروية رئيس جيش داود فقتل إبنير؛ لأن إبنير قتل أخاه عشائيل، وغدر بأشبوشت رئيسا غزاة له فقطعا رأسه وأتيا به إلى داود، فأمر داود بقتلهما فقتلا، وناح داود على إبنير وأشبوشت واستقل بالملك.
وكان باكورة أعمال داود حصاره قلعة صهيون في أورشليم وفتحها، وكان اليبوسيون قد بقوا بها وسماها مدينة داود وزاد في الأبنية والتحصين فيها، وحالف حيرام ملك صور كما مر في كلامنا على الفونيقيين، وخشي الفلسطينيون سطوة داود وشدة بأسه وآثروا الهجوم على الدفاع تداركا من زيادة صولته، فاجتمعوا في وادي الجبابرة (في جنوب أورشليم على الراجح ويسمى الآن البقعة)، فزحف داود إليهم فانذعروا تاركين ذخائرهم وأصنامهم، على أنهم استأنفوا القتال ثانية مستنجدين بغيرهم من ملوك سورية، فعكف داود عليهم من الوراء وأثار الرب عليهم عاصفا شديدا، فتبعهم داود إلى جازر التي هي التخم الفاصل مملكة داود عن مملكة الفلسطينيين، ثم نقل تابوت عهد الرب من يعريم (أبي غوش الآن)، حيث كان وضع بعد رد الفلسطينيين له إلى أورشليم باحتفاء عظيم، ووضعوه في وسط المظلة التي أعدها داود له في قصره، وأقام مرنمين يسبحون الله أمام التابوت في أوقات عينها ونظم لذلك مزامير، وكان كلام الرب إلى يوناتان النبي أن يقول لداود ليهتم ببناء هيكل له وترى داود يقول لسليمان ابنه (أخبار الأيام الأول فصل 23 عدد 2): «قد صار إلي كلام الرب قائلا: قد سفكت دماء كثيرة وباشرت حروبا عظيمة، فلا تبن أنت لي بيتا فهو ذا يولد لك ابن هو يبني بيتا لاسمي.» وكان داود يدخر كل ما يجمع من ذهب وفضة لينفقه ابنه في بناء الهيكل، واستأنف داود الحرب مع الفلسطينيين وأذلهم، وافتتح جت (ذكرين) عاصمتهم وما جاورها، ولما رأى نفسه آمنا من جهة مجاوريه عبر الأردن بعسكر جرار، فضرب الموآبيين وبدد شملهم وأسر منهم جما غفيرا، ثم ضرب داود هدد عازر ملك صوبة، وأخذ منه ألفا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل وعرقل خيل المركبات، وسمع توعي ملك حماة أن داود بدد جنود هدد عازر وآرامي دمشق، فأرسل ابنه يورام إلى داود فوقع على معاهدة بينهما، وكان من الجهة الأخرى معاهدا حيرام والفونيقيين، فأصبح ملك داود شاملا سورية من الفرات إلى حدود مصر، وأنبأتنا الآثار المصرية أن قد توفرت في تلك المدة الحروب الأهلية في مصر، فجعلت داود في مأمن من سطو المصريين على جنوبي مملكته.
وتوفي في تلك الأثناء ملك بني عمون فخلفه ابنه حنون، فأرسل داود يعزيه متذكرا أن أباه أحسن إليه عند فراره من وجه شاول، فحسب العمونيون وفد داود جواسيس فردوهم مهانين، وحلقوا نصف لحاهم، واستفاق بنو عمون إلى سوء فعلتهم، وخافوا بطش داود، فاستأجروا آراميي دمشق وسهول البقاع، وبعلبك وغيرهم من جوارهم، فأرسل داود يواب قائد جيشه وجميع الأبطال، واصطلت نار الحرب ما بين الفريقين وانهزم الآراميون والعمونيون، فحرش هدد عازر بين القوم واستدعى رجالا من الآراميين في عبر الفرات، فرأى داود الأمر يقضي عليه بأن يشهد الحرب بنفسه، فعبر الأردن وزحف إلى الآراميين فانهزموا من وجهه وأهلك منهم سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، ولما رأى باقي المتألبين جيش هدد عاز قد انكسر ذعروا وهربوا، وصالحوا داود ودانوا له، وفي السنة التالية أرسل داود يواب ورجال إسرائيل، فدمروا مدن بني عمون وحاصروا ربة عمون، ورجع داود إلى هناك، ففتح المدينة وأخذ تاج ملكها عن رأسه.
وفي أثناء هذه الحرب اقترف داود إثميه الشهيرين: مفاجرته بتشباع امرأة أوريا وتسببه بقتل زوجها، فهذان الإثمان سودا صفحات تاريخ داود، وقد صرف ما بقي من حياته آسفا باكيا مستغفرا الله مكفرا عن اقترافه لهما، وتشهد لذلك أكثر زبوره، وأرسل الرب إليه تانان يوبخه على صنيعه وينذره بما يجره ذنبه إليه من المصائب؛ وأولها موت الابن الذي ولدت بتشباع من زنائه، ثم خروج إبشالوم ابنه عليه ومحاربته له إلى أن قتل إبيشالوم فوجد عليه كثيرا، وكانت لداود حروب أخرى مع الفلسطينيين أوجز الكتاب بذكرها (ملوك ثاني فصل 21)، ثم أمر داود بإحصاء بني إسرائيل فأغضب الرب بهذا الإحصاء؛ إما لأن مصدره الخيلاء والتكبر؛ وإما لأن غرض داود منه أن يحدث ضريبة على رأس كل رجل، وأرسل الرب جاد النبي إلى داود يذكره بإثمه ويخيره ليختار إحدى ثلاث ضربات: إما الجوع مدة ثلاث سنين، إما الهرب أمام أعدائه ثلاثة أشهر وإما الوباء ثلاثة أيام، فقال داود: خطئت جدا واختار الوقوع في يدي الرب؛ لأن مراحمه كثيرة، فأرسل الرب وباء في إسرائيل، فمات من الشعب سبعون ألف رجل.
قد شاخ داود وطمع أدونيا أحد أبنائه أن يملك مكانه، وعلم ناتان النبي ما ينوي أدونيا، فكلم بتشباع أم سليمان أن تدخل على الملك، فتخبره ما يصنع أدونيا وتذكره بيمينه أن يجلس سليمان ابنها على عرشه، فاستدعى صادوق الحبر وناتان النبي وغيرهما من حاشيته، وعهد بالملك إلى ابنه سليمان ومسحه صادوق الحبر بمزيد الاحتفاء، فهتف جميع الشعب ليحيى الملك سليمان، وسلم داود إلى سليمان رسم هيكل الرب الذي يبنيه وسلم إليه ما كان أعده للنفقة على إنشاء الهيكل، وجمع جميع رؤساء إسرائيل وسليمان، وأوصاهم أن يتقوا الله ويعملوا بسنته، وبعد أن ملك داود أربعين سنة توفاه الله ... والقول المسلم به من جمهور العلماء أن داود ملك سنة 1055ق.م ومات سنة 1015، وقد كتب داود الزبور والأظهر أن ليس كلها له، بل بعضها متأخر عن أيامه كالزبور التي ذكر فيها سبي بابل. (15) في سليمان الملك
Página desconocida