إن السلطان مصطفى الثالث توفي سنة 1774، وخلفه أخوه السلطان عبد الحميد الأول، ومما كان في أيامه بسورية أنه لما كان الجزار قد نصب واليا على صيدا سنة 1776، خاف الأمير يوسف حاكم لبنان لما كان بينهما من العداوة، وأسر بالأمر لحسن باشا المكلف بإصلاح شئون سورية، فأجابه كن آمنا فإذا رجعت إلى الأستانة عزلته، وطلب منه أن يدفع له مائة ألف قرش كانت باقية عليه من المال الأميري، فوضع يده على ريع عقارات تخص الحكومة كانت بيد أقربائه، فثار الأمراء عليه ونهضوا إلى البقاع فحشد الأمير رجالا سار بهم، ففروا من وجهه واسترضاه الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا عنهم، وبقي أخواه الأميران سيد أحمد وأفندي يحزبان عليه، فاضطر الأمير أن يرد عليهما إقطاعهما، وسافر حسن باشا إلى الأستانة، ونهض الجزار بعسكر من صيدا إلى بيروت، فاستحوذ عليها وضبط أملاك الشهابيين بها وشدد على الأمير يوسف بطلب الأموال عن ثلاث سنين ماضية، فكتب الأمير إلى حسن باشا وكان بلغ إلى قبرس، فعاد وأخرج الجزار من بيروت وطيب قلب الأمير، وبينما كان فرسان الجزار راجعين إلى صيدا أكمن لهم المشايخ النكدية في السعديات بقرب الدامور، فاندفع الفرسان عليهم وقتلوا منهم كثيرين وأسروا شيخين منهم، وكتب الأمير يوسف إلى الجزار معتذرا بأن ذلك لم يكن بعلمه، والتمس إطلاق الشيخين وجعل له فدية عن ذلك مائة ألف قرش، فأجابه الجزار إلى ذلك ووزع الأمير المبلغ على البلاد، فأبى الأمراء اللمعيون دفع ما نابهم منه، فالتمس الأمير من الجزار إرغامهم على الدفع، فأرسل عسكرا على المتن فأحرق المكلس والدكواني والجديدة، وقتل جماعة ثم دهم الشويفات فصده رجالها فقفل إلى بيروت ثم سار إلى صيدا، وخرج منها بعسكر إلى البقاع وضبط كل ما بها للبنانيين من الغلات، فاتفق حينئذ الأمير يوسف مع الأمراء اللمعيين وجمع عسكرا زحف به إلى المغيثة، وكان بين الفريقين وقعات كان النصر فيها لعساكر الجزار.
وكانت في هذه الأثناء وقعات بين عساكر الجزار، والشيخ علي بن ظاهر العمر في نابلس قتل فيها ابناه الحسن والحسين، ففر الشيخ علي إلى نيحا بالشوف، وراسل الأمير يوسف أن يقبله في بلاده وهو يكفيه مئونة القتال للجزار، فلم يقبله الأمير خوفا من الجزار، وعاد الشيخ إلى نابلس فقتله علي أغا القيصري بدسيسة من محمد باشا العظم والي دمشق، وزال مجد بيت ظاهر العمر بعد قتل الشيخ علي واستحوذ الجزار على بلادهم.
وفي هذه الأثناء أرسل يوسف باشا والي أطرابلس، فكبس الأمير حيدر أخا الأمير يوسف بأهدن، وحاصره يومين فتسارع الناس من جبة بشري وغيرها، ودفعوا عسكر أطرابلس إلى أميون، وبلغ ذلك الأمير يوسف، فنجد أخاه وزحف إلى أميون ففر عسكر أطرابلس، وقتل منهم جماعة.
وفي سنة 1778 وما بعدها كانت مغالبات بين الأمير يوسف وأخويه الأميرين سيد أحمد وأفندي على ولاية لبنان، والجزار يتلاعب بالفريقين إلى أن جمع الأمير يوسف أعيان البلاد في الباروك، وخلع نفسه أمامهم من ولاية البلاد وسلمها إلى أخويه، وأقطعاه إقطاعات في كسروان وأسقطا عنه المال الأميري، فوجه الجزار خلعة الولاية لأخويه وأقاما في دير القمر، وعاد هو إلى غزير ولكن لم يطل الوقت حتى جد وقع النفور بينهم، وجمع أخواه رجالا في بعبدا وجمع هو محازبيه، واستنجد أصحابه المراعبة ولاة عكار وبني رعد ولاة الضنية، فجزع أخواه وكتبا إلى الجزار، فأرسل لهما عسكرا، وحضر هو إلى بيروت فقام الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى بعقلين، وأرسل يعد الجزار بمائة ألف قرش؛ ليعزل أخويه فرضي عنه ورده إلى الولاية، فدخل الأمير يوسف باحتفال إلى دير القمر وفر أخواه إلى المتن.
وفي سنة 1782 أحدث الأمير يوسف ضريبة على التوت سموها البزرية، فأثار أخواه الجنبلاطية عليه، وجمعوا حشدا وساروا به إلى قرب دير القمر قاصدين طرده وقتل مدبره سعد الخوري، فوعد الأمير بإبطال الضريبة ، فانفض الحشد واستمر الأميران والجنبلاطية على عزمهم. وفي سنة 1783 اجتمعوا في دار الأمير أفندي ليلا؛ ليمضوا إلى كنيسة التلة ليقسموا على اتفاقهم على طرد الأمير وقتل مدبره، وعرف الأمير ذلك فأكمن لهم المغاربة في طريقهم فقبضوا على الأمير أفندي، وفر الأمير سيد أحمد، ولما رأى الأمير يوسف أخاه حملته سورة غضب، فقتل أخاه بيده، وأما الأمير سيد أحمد فاتفق مع الشيخ حسن جنبلاط، والشيخ عبد السلام العماد على خلع الأمير يوسف، فخاف الأمير يوسف وأسرع إلى الجزار ووعده بثلاثمائة ألف قرش، فولاه وأرسل معه عسكرا قام به إلى إقليم الخروب، وحشد الأمير سيد أحمد عسكرا، وأرسله مع ابن أخيه الأمير قعدان، والتقى الجيشان بعانوت فانكسر عسكر الأمير قعدان وهو نجا منهزما، وارتاع الأمير سيد أحمد ففر ومعه الشيخ قاسم جنبلاط إلى صليما عند الأمير إسماعيل اللمعي، فضبط الأمير يوسف أملاكهم وهدم مساكنهم والتجأ الأمير سيد أحمد إلى محمد باشا العظم والي دمشق، فولاه على وادي التيم والبقاع وأصحبه بعسكر وأتى معه الجنبلاطية إلى قب إلياس، والتقاهم الأمير، فكانت الحرب بينهم ثلاثة أيام فانهزم الأمير سيد أحمد والجنبلاطية إلى الزبداني، وعاد الأمير يوسف إلى دير القمر، وأخذ يصادر محازبي أخيه، ثم تدخل الأمير إسماعيل خال الأمير يوسف بالصلح بينهم وبين ابن أخيه، فرضي الأمير يوسف عنهم بشرط أن يدفعوا مائة وخمسين ألف قرش، فدفعوها وعادوا إلى وطنهم، وأمر الأمير يوسف الأمير سيد أحمد أن يسكن بالشويفات فأطاعه. ثم استحوذ الجزار على بلاد بشارة بإرساله عسكرا ضخما إلى بني منكر وبني صعب المتاولة، فحاربهم وقتل رئيسهم نصيف النصار، فهربوا إلى بلاد عكار عند محمد بك الأسعد.
وفي سنة 1785 كانت فتنة بين الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل والي حاصبيا؛ لأن الجزار عزل الأمير إسماعيل عن ولاية مرجعيون وولى عليها الأمير يوسف، فدفع الأمير إسماعيل إلى الجزار ثلاثمائة ألف قرش على ولاية لبنان ومرجعيون، فشرط الجزار عليه أن يكون معه واحد من الأمراء اللبنانيين ... فاستدعى الأمير سيد أحمد فلم يتوقف عن القبول وحضر إلى عكا، فخلع الجزار عليه وعلى الأمير إسماعيل، وسير معهما عسكرا وأرسل الأمير يوسف عسكرا مع مدبره الشيخ سعد الخوري، فكانت بين العسكرين وقعات كان النصر فيها لعسكر الأمير يوسف، واستدعى المتاولة المذكورين من عكار، وأطلق لهم السطو على عمال الجزار في بلاد بشارة، وعاد عسكر الأمير إلى دير القمر، فعاد عسكر الجزار ومعه الأميران سيد أحمد وإسماعيل، وظهرت خيانة الحزب الجنبلاطي، فقام الأمير يوسف إلى المتن ودخل الأميران إلى دير القمر، وحضر أعيان البلاد وسلموا الأمر إليهما، وسار الأمير يوسف إلى بسكنتا ثم إلى كسروان وبلاد جبيل، وأتبعه الأمير إسماعيل وقام الأمير سيد أحمد إلى البترون، فانصرف الأمير يوسف إلى عكار وكتب إلى الجزار يلتمس صفو خاطره، فأوعز إلى سعد الخوري أن يعود بمولاه فيرده الجزار إلى ولايته فعاد للحال من عكار، فوجد الجزار ببيروت وأخذه معه إلى عكا، وتعهد الأميران إسماعيل وسيد أحمد للجزار بدفع خمسمائة ألف قرش إن أهلك الأمير يوسف، وتعهد الأمير يوسف بدفع ألف ألف قرش في مدة ثلاثة أشهر، فخلع عليه وأصحبه بعسكر وافر وأبقى عنده الشيخ سعد رهنا، وأسرع الأمير يوسف إلى دير القمر وقتل خمسة من خدام الأمير إسماعيل، وفر الأمير سيد أحمد إلى المتن وقبض الأمير يوسف على الأمير إسماعيل وعلى نحو من خمسمائة رجل من أتباعه، وألقاهم بالسجن وصادر الجنبلاطية بأموال وافرة، وانهزم الأمير سيد أحمد إلى حوران.
وفي سنة 1786 توفي الأمير إسماعيل في سجنه وعاد الأمير سيد أحمد إلى صليما نزيلا على امرأة أخيه، فأمنه أخوه وأمره أن يسكن بحمدون، وأطلق له أملاكه ثم قبض عليه سنة 1787، وسمل عينيه وأرسله إلى عبية. وفي هذه الأثناء توجهت ولاية دمشق على الجزار، فسار إليها ومعه الشيخ سعد الخوري، وتوجه إلى الحج، ولما عاد شكا له الشيخ سعد من مرضه، فبعث به إلى داره بهودج، وتوفي في جبيل ولم يبق الجزار على ولاية دمشق إلا سنة واحدة، وشكا المسلمون جوره بدمشق فأمر بالعود إلى عكا فعاد إليها.
وفي سنة 1787 أمن الأمير يوسف الأمير نجم أخا الأمير إسماعيل، فعاد من دمشق ولما دخل على الأمير قتله. وفي سنة 1788 ثار على الجزار بعض مماليكه الذين كان قد رقاهم إلى المناصب، وكتبوا إلى الأمير يوسف فارتاح إلى مناصرتهم، ولكن شتت الجزار شملهم وعزم على الانتقام من الأمير يوسف. وكانت بعض وقعات بين عسكر الجزار ورجال الأمير، وكان النصر فيها لعسكر الجزار، فعول الأمير على التنزل عن الولاية، ونقل عياله إلى المتن وجمع أكابر البلاد وأبدى لهم عجزه عن الولاية والمشاحنة بينه وبين الجزار، وأطلق لهم أن يختاروا واليا من أرادوا فاختاروا الأمير بشير قاسم المعروف بالكبير؛ لأنه كان فتى نبيلا والجزار يميل إليه، وبينه وبين الجنبلاطية موادة، فأحضره الأمير يوسف وأشار عليه أن يتوجه إلى عكا، ويأخذ خلعة الولاية فأجابه: أخاف أن أمضي ابنك وأرجع ابن الجزار، وتوجه وقلده الجزار الولاية على الشوف وكسروان، وأصحبه بألف عسكري وأمره أن يطرد الأمير يوسف، فأرسل الأمير بشير يخبره بأمر الجزار فقام متدرجا إلى لحفد، وقام الأمير بشير إلى وطا الجوز، ثم إلى العاقورة، وجمع الأمير يوسف المشايخ الحمادية ومشايخ جبة بشري، وأرسلهم مع رجاله إلى المجال، وكانت وقعة اندحر فيها رجال الأمير يوسف، وقتل منهم الشيخ يوسف بولس شيخ أهدن وخلق كثير، وفر الأمير يوسف إلى أهدن، وسار الأمير بشير إلى لحفد، وأرسل الجزار ألف فارس إلى البترون، وأرسل والي أطرابلس يحذر الأمير يوسف أن يقوم من أهدن، فقام بجماعته إلى بعلبك ثم إلى الزبداني ثم إلى منين، وبقي هناك أربعة أشهر.
وفي سنة 1789 كتب إبراهيم باشا والي دمشق إلى درويش باشا والي أطرابلس أن يولي الأمير يوسف بلاد جبيل، فولاه إياها فكتب الأمير بشير إلى الجزار فأرسل عسكرا إلى حرش بيروت، وأمره أن يقوم إلى جبيل ويطرد الأمير يوسف، فسير الأمير بشير أخاه الأمير حسنا بذلك العسكر، ففر الأمير يوسف إلى كرك بعلبك، واختبأ مدبره الشيخ غندور الخوري في الضنية، وصرف رجاله إلى أوطانهم وأقام فارس الشدياق بدلا من الشيخ غندور، وأرسله إلى دمشق وكيلا عنه، وسار هو إلى حوران. (6) في ما كان بسورية في أيام السلطان سليم الثالث
توفي السلطان عبد الحميد الأول سنة 1789، وخلفه السلطان سليم الثالث، ومما كان في أيامه بسورية أن الأمير يوسف كتب إلى الجزار يستأذنه بالحضور إلى عكا، فأذنه فدخل عليه وفي عنقه منديل الخضوع فأمنه وأكرمه، وأقام عنده خمسة أشهر. وفي سنة 1790 خلع عليه خلع الولاية على لبنان بعد أن تعهد له بدفع ستمائة ألف قرش، ورهن عنده على ذلك ابنه الأمير حسينا ومدبره الشيخ غندور الخوري، واتخذ فارس الشدياق مدبرا عوضا عن غندور، فقام الأمير بشير إلى نيحا، ثم إلى عكا وتعهد للجزار بدفع زيادة على ما دفع الأمير يوسف، فأنعم عليه بخلعة الولاية على لبنان، وأمر أن يلقى الأمير يوسف بالسجن ومعه عشرة من خدمه من بيت الدحداح وسمعان البيطار، وفارس الشدياق، وأمر الأمير بشير أن يسرع إلى دير القمر، ويأخذ معه الأمير حسينا ابن الأمير يوسف، ولما وصل إلى دير القمر قبض على كل من وجده من محازبي الأمير يوسف، وأودعهم السجن، ووجه جباة يجمعون المال، فاجتمع الأمراء اللمعيون، ووجوه المتن في مأتم الأمير محمد اللمعي وائتمروا على الأمير بشير، واختاروا مكانه الأميرين حيدر ملحم وابن أخيه قعدان، وبثوا إلى وجوه البلاد ما عزموا عليه، وطردوا جباة المال، فجمع الأمير بشير رجاله وسار إلى عين دارا، واجتمع المتنية في حمانا، وسار الأمير حيدر ملحم إلى أعبية واتفق مع ابن أخيه الأمير قعدان، وضوى إليهما بعض المشايخ النكدية والعمادية، وخاف الأمير بشير أن يسبقاه إلى دير القمر فأسرع إليها، وأرسل الجزار ألفا من الأرناؤط إلى حرش بيروت، فخاف الأمير حيدر ملحم وقام إلى العبادية واتفق مع المتنية، وأرسل الأمير بشير رجالا لمساعدة عسكر الجزار، فكانت بينهم وبين المتنيين وقعات انهزم بها المتنيون وقتل منهم خلق كثير، وكتب الأمير بشير إلى الجزار يخبره وينسب هذه الثورة إلى الأمير يوسف، وكان الجزار في طريق الحج فغضب، وكتب إلى نائبه في عكا أن يشنق الأمير يوسف ومدبره غندور الخوري ، ثم خمد غضبه وكتب إلى نائبه أن يتوقف عن شنقهما، وبلغ الأمر الثاني قبل الأول فأخفاه النائب بإشارة ابن السكروج؛ لأنه كان عدوا للشيخ غندور وأخذهما إلى المشنقة، فشنق الأمير يوسف وأما الشيخ غندور فمات خوفا، وقيل: شنقا.
Página desconocida