إن إيليا المذكور في تاريخ القرن السالف خلفه على الراجح جيورجيوس على ما روى السمعاني في ما كتبه إلى طابعي تراجم القديسين، وجيورجيوس خلفه بطرس سنة 1053 كما روى لكويان، وعمل بالعادة القديمة بأن كتب إلى البابا لاون التاسع، وإلى بطاركة المشرق، وكتب ميخائيل شيرولاريوس البطريرك القسطنطيني إلى هذا البطريرك منددا بطقوس اللاتينيين وعاداتهم، فأجابه مدافعا عن هذه الطقوس ومنزها نفسه عن كل انشقاق عن الكنيسة الرومانية، وخلف توادوسيوس بطرس المذكور، وقام بعد توادوسيوس إميليانس في أيام الملك ميخائيل السابع الذي استوى على منصة الملك سنة 1067، ولما أتى إسحق ألكسيس أخو الملك ألكسيس كومنانوس سنة 1081 قبله البطريرك في بستانه في ظاهر المدينة، فنهاه الأمير عن الدخول إليها وأرسله إلى اللاذقية، وأمره أن يمضي إلى القسطنطينية وقام بعده نيقوفور، قال زوناراس: إنه كان سنة 1089.
ورقي إلى الكرسي الأنطاكي بعد نيقوفور يوحنا الرابع، وكان في أنطاكية لما بلغت إليها جيوش الإفرنج سنة 1098، ولما فتحوها ولم يكن يألف عادات اللاتينيين مضى إلى قسطنطينية، فلم يقم اللاتينيون له خلفا مدة حياته؛ لئلا يكون أسقفان على كرسي واحد، ويظهر أنه بقي حيا إلى سنة 1103، وهذا هو البطريرك الذي جرت مكاتبات بينه وبين توما أسقف كفرطاب في شأن الاعتقاد بمشيئتين وطبيعتين في المسيح، فجمع البطريرك أقوال الآباء والمجامع المثبتة أن في المسيح مشيئتين وفعلين، فادعى توما أن يرد كلامه بكتاب قسمه إلى عشر مقالات، وهذا الكتاب مشهور وكان هذا الجدال سنة 1400 لإسكندر الموافقة سنة 1089م.
وأما بطاركة أورشليم فكان منهم بعد إرميا الذي سمل الحاكم بأمر الله عينيه توافيلس، الذي شرع في تجديد كنيسة القبر المقدس بعد تدمير الحاكم بأمر الله لها، ولم يكمله بل أكمله نيقوفور خليفته، وقال دوزيتاس في جداول بطاركة أورشليم إن الكرسي الأورشليمي ظل فارغا من بطريرك إحدى عشرة سنة، وأن نيقوفور المذكور خلف توافيلس، وكان في سنة 1024 بطريرك في أورشليم يسمى أرسانيوس، ولا يعلم في أية سنة توفي، وكان بعده يوردانس في سنة 1033، وجاء في كتب بعضهم أن صفرونيوس الثاني كان سنة 1059، وجاء في الجداول اللاتينية أن أوتيميوس خلف صفرونيوس الثاني وسمعان خلف أوتيميوس، وفي أيام سمعان أتى بطرس السائح الإفرنسي سنة 1094 إلى أورشليم، ففاوضه البطريرك مليا في أمر استنقاذ أمراء المغرب الأرض المقدسة، ولما بلغه وصول عساكر الإفرنج إلى أنطاكية سنة 1098 انتقل إلى قبرس، وأرسل هدايا إلى الإفرنج، لكنه توفي سنة 1099 بعد افتتاحهم أورشليم، فأقاموا بطريركا لاتينيا واستمر أهل البلاد يقيمون بطاركة منهم. (2) في بعض من عرفناهم من أساقفة سورية في القرن الحادي عشر
من هؤلاء سرجيوس أسقف دمشق اعتزل الأسقفية، وسار إلى رومة فقضى ما بقي من حياته في السيرة الرهبانية، وكان في أيام البابا بيوس التاسع الذي استوى على منصة الرياسة من سنة 1033 إلى سنة 1048، وذكر لكويان في المشرق المسيحي سابا أسقف صور، وقال: إنه انتخب بطريركا على أورشليم، ولكنه لم يذكر سابا في عداد بطاركة أورشليم في هذا القرن، وكان في هذا القرن أيضا على الأظهر سامونا أسقف غزة، واشتهر سنة 1072 وله مناظرة مع رجل مسلم اسمه أحمد في وجود جسد المسيح في القربان الأقدس حقيقة، وهذه المناظرة شهيرة ومثبتة في التأليف الموسوم بالدفاع عن اعتقاد الكنيسة الكاثوليكية دائما بسر الأوخارستيا (مج1 ك3 فصل 26)، وقد لخصناها في تاريخنا الكبير (مجلد 5 صفحة 561).
وكان منهم أيضا المطران داود الماروني، وقد ترجم من السريانية إلى العربية كتابا كان أحد آباء الطائفة المارونية قد ألفه وعني المطران داود بترجمته سنة 1059، وهذا الكتاب يسمى تارة كتاب القوانين، وتارة كتاب الهدى أو الهداية وقد أخذ العلامة السمعاني نسخة منه من المشرق، فوضعه في المكتبة الواتيكانية في عدد 76 من الكتب العربية، وهو يشتمل على ثلاثة وخمسين عنوانا، وقد عبث بهذا الكتاب توما أسقف كفرطاب المار ذكره، فزاد عليه ما يظهر منه أن الموارنة يقولون بمشيئة واحدة في المسيح توسلا لغرضه أن يطغي الموارنة بهذا الضلال ... مع أنه في نسخ هذا الكتاب السالمة من التحريف ما يخالف ذلك صراحة.
ونلحق بذكر هؤلاء الأساقفة ذكر القس عبد الله بن الطيب المكنى أبا الفرج، فهذا ذهب العلامة الدويهي أنه كان مارونيا أصلا وتغرب إلى بلاد العراق، فصار نسطوريا، وذهب إلى أن في المسيح مشيئة واحدة، ولكن خالف السمعاني الدويهي في رأيه أنه كان مارونيا متابعا ابن العبري في تاريخه السرياني أنه كان عراقيا ونسطوريا وكاتبا لإيليا الأول بطريرك النساطرة، ومهما يكن من الخلاف في أصله فهو عالم مشهور، وله تآليف كثيرة، منها تفسيره للعهدين القديم والحديث في العربية، وكتاب عنوانه فردوس النصارى اشتمل على مباحث موجزة في العهدين، وتفسيران للأناجيل أحدهما بالمعنى الحرفي والثاني بالمعنى المجازي، ثم مجموعة للقوانين الشرقية والغربية ومقالة في التوبة، ومقالات في الإرث، وكتاب في شرف الصوم والصدقة والصلاة، ومقالة يندد بها بمن يسمون العذراء والدة الله ومقالة في التثليث، وله أيضا تفسير كتب أرسطو، وقد توفي سنة 1043، وله تلميذ يسمى ابن بطلان وهو طبيب نصراني بغدادي، وخرج عن بغداد وأقام بحلب مدة، ثم سار إلى مصر، وجرت منافرة بينه وبين ابن رضوان الفيلسوف المصري، فسار إلى أنطاكية وانقطع عن العالم في بعض الأديرة، وترهب ثم توفي سنة 1053، والمشهور من تصانيفه كتاب تقويم الصحة، وكتاب دعوة الأطباء ورسالة في اشتراء الرقيق، وتنديد بابن رضوان المذكور في رسالة ذات سبعة فصول، وذكره السمعاني (في مجلد 3 من المكتبة الشرقية صفحة 546)، وقال: إنه كان يعقوبيا لا ملكيا كما وهم رينودوسيوس.
الفصل الحادي عشر
في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر
في ما كان من الأحداث في هذا القرن (1) في حصار الإفرنج أنطاكية وفتحهم لها
إن جل تاريخ سوريا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر إنما هو أخبار حملات الإفرنج المعروفين بالصليبيين على سورية، ومغالبات المسلمين لهم على ملكها وانتزاعها من أيديهم، فإنهم في آخر القرن الحادي عشر تألبوا من كثير من ممالك أوروبا، وزحفوا إلى سورية فكان وصولهم أولا إلى أنطاكية سنة 1097، فحاصروها مدة ثمانية أشهر وافتتحوها في آخر حزيران سنة 1098، وكان واليها باغي سنان من قبل الملوك السلجوقيين وأحسن الدفاع عنها، ولكنه فر منها لما دخلها الإفرنج وسقط مغشيا عليه في ظاهرها، وتركه أصحابه واجتاز به رجل أرمني، فقطع رأسه وأخذه إلى الإفرنج، وكانوا قبل فتحهم لها تراكمت النوائب عليهم من قلة الزاد، وفشاء الوباء بينهم وكثرة الأمطار وشدة البرد، وبعد أن استحوذوا على المدينة حشد أميرا حلب ودمشق وغيرهما من الأمراء عشرين ألف فارس، فخرجت إليهم نخبة من جنود الإفرنج، فهزموهم وقتلوا منهم نحو ألفي رجل.
Página desconocida