المحيط البرهاني في الفقه النعماني
محمود البخارى بن مازه
Página desconocida
مقدمة المؤلف
فِقْه الإمَامْ الأعظم أبِيْ حَنيفَة الكوفِي رَحمة اللهِ عليْه
الحمد لله خالق الأشباح بقدرته، وفالق الإصباح برحمته، شارع الشرائع بفضله، ومبدع البدائع بطوله، منزِّل الكتب على الأنبياء، منشىء الشهب في السماء، مالك الرقاب....، رافع العلم ومن يليه وواضع الجهل ومن يليه، أرسل الرسل حجة على الجاحدين، وختم باب الرسالة بنبينا خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
قال العبد الضعيف الراجي لفضل الله، الخائف من عدله، المعتمد على كرمه محمود بن الصدر الكبير، تاج الدين أحمد بن الصدر الشهيد، برهان الأئمة عبد العزيز بن عمر:
إن معرفة أحكام الدين من أشرف المناصب وأعلاها، والتفقه في دين الله من أنفع المكاسب وأزكاها، فحوادث العباد مردودة إلى استنباط خواطر العلماء ومداركهم، مربوطة بإصابة ضمائر الفقهاء قال الله تعالى: ﴿ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ (النساء: ٨٣)، وكفى العالم شرفًا أن يُحشر يوم النشور مغفورًا، ويُرى سعيه الجميل في العقبى مشكورًا قال ﵇: «يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة، ثم يبعث العلماء، ثم يقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم»، وكفى العالم شرفًا أن بين درجته ودرجة الأنبياء حرفًا واحدًا، قال ﵇: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»، وقال ﵇ في صفة أمته: «هم فقهاء كأنهم من العلم أنبياء»، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمورضي عنهم صابرين على التعلم والتفقه في الدين، ولذلك صاروا مقتدى للعالمين، قال ﵇: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم» فحفظوا رضوان الله عليهم ما نشر رسول الله صلى الله عليه وسلّممن درر الآثار، ونصبوا قواعد الفوائد
1 / 28
لمن بعدهم من الأخيار، ولما انقرض الصدر الأول من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين قام ينصر هذا الدين الإمام الأعظم سراج الأمة ومنهاج الملة هادي الخلق وناصر الحق أبو حنيفة وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهم الذين حدوا ديباجة الشريعة بحدها ومهدوا قواعد الملة الزهراء تمهيدًا، فصوروا المسائل تصويرًا، وقرروا الدليل تقريرًا، فمضوا إلى رحمة الله وموائد فوائدهم منصوبة للأنام، وساروا إلى المنازل الموعودة وآثارهم باقية إلى يوم القيامة، ثم من بعدهم من علماء الملة بالغوا في شرح المعضلات، وجَدّوا في كشف المشكلات، وصنفوا الكتب تصنيفًا، ورصفوا النوازل ترصيفًا، ولم يزل العلم مورثًا من أول ومنقولًا من كابرٍ إلى كابر حتى انتهى إلى
جدود وأسلاف السبعة، تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، فكلهم رضوان الله عليهم أجمعين شرحوا ما بقي من الفقه مجملًا وفتحوا ما ترك مقفلًا، فمصنفاتهم متداولة بين الورى يستعان بها عند القضاء والفتوى (على) ما ترك، وقد وقع على رأيي أن أتشبه بهم بتأليف أصل جلل يجمع جمل الحوادث الحكمية، والنوازل الشرعية ليكون عونًا حال حياتي وأجرًا حسنًا بعد وفاتي، فقد قال ﵇: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»، وذكر من جملتها علمًا ينتفع به.
وقد انضم إلى هذا الرأي الصائب التماس بعض الإخوان فقابلت التماسهم بالإجابة، وجمعت مسائل «المبسوط»، «والجامعين»، «والسير»، «والزيادات»، وألحقت بها مسائل «النوادر»، والفتاوى والواقعات، وضممت إليها من الفوائد التي استفدتها من سيدي ومولاي والدي تغمده الله بالرحمة. والدقائق التي حفظتها من مشايخ زماني رضوان الله عليهم أجمعين، وفصلت الكتاب تفصيلًا، وحللت المسائل تحليلًا، وأيدت بدلائل عول عليها المتقدمون واعتمد عليها المتأخرون، وعملت فيه عمل من طب لمن خب، ووسمت الكتاب بالمحيط، وتوقعت ممن ينظر فيه وينتفع به مدة حياتي أو بعد انقراضي أن يدعو لي بأن يتقبل الله في دينه جهدي، ويجعل كتابي هذا نقلًا من ميراثي وقد لا يصرف به وجهي عنه، نستعيذ من ردة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هو حسيب عباده ونعم الحسيب.
1 / 29
كتاب الطهارات
هذا الفصل يشتمل على تسعِ فصول:
١ * في الوضوء.
٢ * في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب
٣ * في تعليم الاغتسال
٤ * في المياه التي يجوز التوضؤ بها، والتي لا يجوز التوضؤ بها
٥ * في التيمم
٦ * في المسح على الحفين
٧ * في النجاسات وأحكامها
٨ * في الحيض
٩ * في النفاس.
1 / 31
الفصل الأول في الوضوء
هذا الفصل يشتمل على أنواع:
نوع منه في بيان فرائضه
فنقول: فرض الوضوء غسل الوجه، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل القدمين مع الكعبين.
وحد الوجه: من قصاص الشعر من الرأس إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذن، وإيصال الماء إلى داخل العين ساقط، فقد روي عن أبي حنيفة ﵀: لا بأس بأن يغسل الرجل الوجه وهو مغمض عينه، وفي رواية الحسن أن أبا حنيفة ﵀ سُئِل أَتُغْسل العين بالماء؟ قال: لا، وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن من غسل وجهه وغمض عينه تغميضًا شديدًا لا يجوز ذلك وقيل فمن رمدت عينه فرمصت فأصبح رمصها في جانب العين يجب إيصال الماء تحت مجتمع الرمص، ويجب إيصال الماء إلى المآقي.. وتكلموا قال بعضهم: الشفة تبع للفم فلا يجب إيصال الماء إليه، وقال الفقيه أبو جعفر ﵀: ما ظهر من الشفتين عند الانضمام، فهو من الوجه، فيجب إيصال الماء إليه، وما انكتم منه عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب إيصال الماء إليه، ومسح بللآ في بشرة الوجه من اللحية ما يذكره في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ﵀ في غسل الأصول روايتان.
في رواية قال: يفرض إيصال الماء إلى اللحية أو ربعها كأنه أراد بهذا الكناية عن الذقن الجفن، وهو قول أبي يوسف، وذكر الحسن في «المجرد» عنه أنه يفرض إيصال الماء إلى ما يوازي الذقن.
ولكن عند بعض مشايخنا يسن، قالوا وكذلك إمرار الماء على ظاهر الشارب على الروايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني ﵀ اتفقوا أن عليه أن يمس الماء شعرها
1 / 33
غسله بالماء، فإذا لم يصبه الماء لا يجوز، وإن لم يكن إيصال الماء إلى أصل المنبت على وجه الغسل شرطًا.
قال ﵀: وكذلك في الشارب عليه إيصال الماء إلى شاربه، وفي «القدوري»: مسح ما يلاقي بشرة الوجه من اللحية واجبة رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وأشار في باب الوضوء إلى أنه يفرض إيصال الماء إلى مواضع الوضوء ما ظهر منها.
وذكر الزندويستي في «نظمه» أن حاصل الجواب أن على قول أبي حنيفة ﵀ مسح ثلثها، وعلى قول محمد والشافعي وأبو يوسف في رواية يمسح كلها وهو
1 / 34
أحسن الأقاويل؛ لأن الوجه ما يواجه به الناس واللحية هي التي تواجهها الناس، ولا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر اللحية عندنا باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب (إيصال) الماء إلى ما استرسل من الشعر من الذقن عندنا.
وأما البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن. ذكر شمس الأئمة (١أ١) الحلواني ﵀ إن ظاهر المذهب أن عليه أن يغسل ذلك الموقع ليس عليه سواه، وذكر الطحاوي أن عليه غسل ذلك الموضع.
وفي «القدوري»: أنه يجب غسله عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وزعم الطحاوي: أن ما ذكر هو الصحيح، عليه أكثر مشايخنا، لكن فيه كلفة ومشقة، فالأولى أن يقال يكفيه بلّ الماء بناءً على ما روي عن أبي يوسف ﵀: أن المتوضي إذا بل وجهه وأعضاء وضوئه بالماء ولم يسل الماء على عضوه جاز، ولكن قيل تأويل ما روي عن أبي يوسف: أنه إذا سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك.
وذكر الفقيه أبو إسحاق الحافظ: روي عن أبي يوسف، ومحمد، وزفر ﵏ يفترض عليه غسله. قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: إن غسل فحسن، وإن لم يغسل أجزأه.
أما فرض غسل اليد: فمن رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ويدخل المرفقان في الغسل عند علمائنا الثلاثة ﵏؛ لأن اسم اليد يقع على هذه الجملة، وهل يجب إيصال الماء إلى ما تحت الأظافر؟ قال الفقيه أبو بكر ﵀: يجب، حتى إن
1 / 35
الخباز إذا توضأ وفي أظفاره عجين أو الطيان إذ توضأ وفي أظفاره طين يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وكان يفرق بين الطين والعجين وبين الدرن أن الدرن يتولد من الآدمي فيكون من أجزائه ولا كذلك الطين والعجين.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار ﵀ في «شرحه»: أن الظفر إذا كان طويلًا بحيث يستر رأس الأنملة يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان قصيرًا لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان في أصبعه خاتم إن كان واسعًا لا يجب تحريكه ولا نزعه، وإن كان ضيقًا ففي ظاهر الرواية (قال) أصحابنا ﵏ لا بد من نزعه أو تحريكه، وروى الحسن عن أبي حنيفة، وأبو سليمان عن أبي يوسف ومحمد أنه لم يشترط النزع أو التحريك وبين المشايخ اختلاف في هذا الفصل.
وأما فرض مسح الرأس: مقدر بالناصية وذلك قدر ربع الرأس وقدره بعض العلماء ﵏ بثلاثة أصابع، هكذا ذكر «القدوري»، وفي صلاة «الأصل» قدره بثلاثة أصابع وفي «المجرد»: قدره بربع الرأس، ولو أخذ الماء بثلاثة أصابع ووضعها عليه وضعًا ولم يمدها أجزأه على قول من قدره بثلاثة أصابع ولم يجزئه على قول من قدره بالربع حتى تستكمل بالإمرار، هكذا ذكره «القدوري» .
وذكر الزندويستي في «نظمه» وقال: روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإبراهيم بن رستم عن محمد ﵏: أنه يجوز، وقال في اختلاف زفر لا يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن يمسح بقدر ثلث رأسه أو ربعه، وذكر في صلاة الأثر أنه يجوز من غير ذكر خلاف، وإن مسح بأصبع واحد بجوانب الأصبع قدر ثلاثة أصابع روى زفر عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وهذا الجواب مستقيم على الرواية التي قدر المسح فيها بثلاثة أصابع، ولو مسح بالأصبعين لا يجوز إلا أن يمسح بالإبهام والسبابة مفتوحتين فيضعها مع ما بينهما من الكف على رأسه فحينئذ يجوز، لأنهما أصبعان وما بينهما من الكف قدر أصبع، فيصير ثلاثة أصابع فيجوز، وإن كان على رأسه شعر طويل فمسح بثلاثة أصابع إلا أن مسحه وقع على شعره، إن وقع على شعر تحته رأس يجوز عن مسح الرأس، وإن وقع على شعر تحت جبهته أو رقبته لا يجوز عن مسح الرأس
1 / 36
لأن المسح على الشعر عن المسح على البشرة التي تحته، ولو مسح على بشرة الجبهة أو العنق لا يجوز عن مسح الرأس، ولو مسح على بشرة الرأس أجزأه فكذا إذا مسح على الشعر، وذكر الزندويستي هذه المسألة بهذه العبارة، وفي موضع آخر ذكر بعبارة أخرى.
ولو كان شعره طويلًا، فمسح ما تحت أذنيه لا يجزئه عن مسح الرأس، ولو مسح ما فوقه يجوز، وإن وضع إصبعًا واحدًا على رأسه ومدها قدر ثلاثة أصابع لم يجزه، هكذا ذكر في «نوادر ابن رستم» وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه ماء: قد توضأ به فالتحق به بمسألة لو أخذ الماء ووضعه على جبهته ومدها إلى أصل الذقن حتى استوعب جميع الوجه أجزأه، وأشار إلى المعنى فقال: لأن بملاقاة الماء الجبهة لا يصير الماء مستعملًا إلا بالسيلان؛ لأن فرض الوجه الغسل، ولا يتأتى الغسل إلا بالسيلان على العضو، والماء في عضو واحد لا يصير مستعملًا.
أما في فصل الرأس الماء بملاقاة بشرة الرأس يصير مستعملًا؛ لأن فرض الرأس المسح؛ والمسح يحصل بمجرد الملاقاة فيصير الماء مستعملًا بمجرد الملاقاة.
ذكر الناطفي في «الهداية» إذا اختضب ومسح برأسه عند وضعه على خضابه لا يجزئه وإن وصل الماء إلى شعره، قال: وهو كالمرأة إذا مسحت على الوشاح ووصل الماء إلى شعرها وذلك لا يجوز فههنا كذلك.
ورأيت مسألة الخضاب في شرح بعض المشايخ: أنه إذا اختلط البلة بالخضاب، وخرج من حكم الماء المطلق لا يجوز المسح وهو بمنزلة ماء الزعفران.
ورأيت مسألة مسح المرأة على الخمار في نسخ بعض المشايخ أيضًا أنّ الماء إن كان متقاطرًا بحيث يصل إلى الشعر يجوز المسح، وإلا فلا.
وذكر الزندوستي في نظمه قال بعض في العلماء: إذا وصل الماء إلى الشعر جاز وإلا فلا.
وقال بعضهم إن كان الخمار غير لا يجوز؛ لأنه لا يصل الماء.
وقال بعضهم إن ضربت يديها المبلولتين فوق الخمار جاز وما لا فلا لأن بالضرب يصل الماء إلى الشعر.
ولو كان ذؤابتان مشدودتان حول الرأس كما يفعله النساء فوقع مسحه على رأس الذؤابة بعض مشايخنا قالوا بالجواز إذا لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شعر تحته رأس، فصار كما لو مسح على الشعر الأصلي، وعامتهم على أنه لا يجوز أرسلهما أو لم
1 / 37
يرسلهما؛ لأنه مسح على شيء مستعار، فصار كما لو مسحت المرأة فوق الخمار ولم يصل الماء إلى ما تحته.
وإذا نسي المتوضي مسح الرأس، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاث أصابع فمسحه بيده أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس؛ لأن الله تعالى وصف الماء بكونه طهورًا، والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره، فلا يتوقف حصول التطهير على فعل يكون منه كان كالذي هو محرق لا يتوقف حصول الإحراق على فعل يكون من الغير.
وإذا نسي أن يمسح برأسه، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه لا يجوز؛ لأن هذا مسح بالمستعمل والماء يأخذ حكم الاستعمال عندنا كما زايل العضو استقر على الأرض أو لم يستقر، وههنا زايل العضو بدليل أنه يخرج عن الجنابة بالإجماع، وفي المسألة أثر عن ابن مسعود ﵁.
ولو كان في كفه بلل فمسح به رأسه أجزأه قال الحاكم الشهيد ﵀: هذا إذا لم يستعمله في عضو من أعضائه بأن أدخل يده في إناء حتى ابتلت، فأما إذا استعمله في عضو من أعضائه بأن غسل بعض أعضائه وبقي على كفه بلل لا يجوز، وأكثرهم على أن قول الحاكم خطأ.
والصحيح أن محمدًا ﵀ أراد بذلك ما إذا غسل عضوًا من أعضائه وبقي البلل في كفيه، بدليل أن محمدًا ﵀، قال: وهذا بمنزلة ما لو أخذ الماء من الإناء، ولو كان المراد ما قاله الحاكم لم يكن لهذا التشبيه معنى.
وفرّقوا بين بلل اللحية وبين بلل الكف، والفرق أن بلل الحلية ما سقط به فرض غسل الوجه وصار مستعملًا، فلا يقام به فرض آخر.
أما بلل الكف ما لم يسقط به فرض الغسل؛ لأن فرض غسل الأعضاء أقيم بالماء الذي زايل العضو لا بالبلل الذي على الكف، فلم يصر هذا البلل مستعملًا، فجاز أن يقام به فرض مسح الرأس.
ولو أمر الماء على رأسه ولحيته ثم حلقها لا يلزمه إعادة المسح عليهما هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد ﵀.
قال الناطفي: ورأيت في كتاب الصلاة محمد بن مقاتل أن في الرأس لا يلزمه
1 / 38
الإعادة، وفي اللحية يلزمه الإعادة.
وأشار إلى الفرق فقال: إن في الرأس قبل نبات الشعر كان فرضه المسح كما بعد نباته، فزوال الشعر لا يغير صفة الفرض.
أما في الوجه صفة الفرض قد تغيرت ألا ترى أن قبل ما نبت الشعر على الوجه، فرضه الغسل وبعد نباته لا يكون فرضه الغسل.
وفي «القدوري» يذكر هذه المسألة بعبارة أخرى فيقول: وليس في زوال عضو من وضوء ولا إمرار ماء على موضع المزال، يريد به إذا توضأ ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وكان إبراهيم النخعي ﵀ يقول: بإعادة المسح في الرأس واللحية وأشباههما، وكان يقيس هذه الصورة على المسح على الخف فإنه لو مسح على الخفين ثم نزعمهما يسقط حكم ذلك المسح ويفرض غسل القدمين.
ونقل ابن سماعة عن محمد ﵀ فرقًا بين المسح على الخف وبين هذه الصورة فقال: الجلد والشعر (٢ب١) والرأس شيء واحد ذهب بعضه وبقي البعض فلم يرتفع حكم ذلك المسح بمرة فأما الخف فهو غير الرجل، فإذا نزعه فقد ارتفع حكم ذلك المسح بالمرة، قياس مسألة الخف في هذه المسألة أن لو كان الخف ذا طاقين فمسح عليه ثم نزع أحد الطاقين إذا تقشر بنفسه وهناك لا يلزمه إعادة المسح أيضًا.
وأما فرض غسل الرجلين فمن رؤوس الأصابع إلى الكعبين، ويدخل الكعبان في الغسل عند علمائنا ﵏.
والكعب هو العظم الناتىء في الساق الذي يكون فوق القدم.
والذي روى هشام عن محمد ﵀ أن الكعب هو العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك، فذاك وهم منه، لم يرد محمد ﵀ في هذا تفسير الكعب في الطهارة والصلاة، وإنما أراد به في حق المحرم إذا لم يجد نعلين ومعه خفان قال يقطعهما أسفل من الكعبين، وأراد بالكعب العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك ليصير آلة في معنى النعلين.
وأما تفسير الكعب في الطهارة والصلاة العظم الناتىء الذي هو في الساق فوق القدم، ولو قطعت رجله من الكعب وبقي النصف من الكعب يفرض عليه غسل ما بقي من الكعب وموضع القطع، وكذلك هذا الحكم في المرفق في اليد إذا قطع اليد من المرفق وبقي نصف المرفق يفرض عليه غسل ما بقي من المرفق وموضع القطع.
وإن كان القطع فوق الكعب وفوق المرفق لم يجب غسل موضع القطع.
وتخليل الأصابع إن كانت مضمومة وتوضأ من الإناء، وإن كانت مفتوحة فترك التخليل جاز.
وإن كان توضأ في الماء الجاري أو في الحياض، فأدخل رجليه الماء وترك التخليل
1 / 39
جاز، وإن كانت الأصابع مضمومة، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» .
وفي «شرح شيخ الإسلام»: أن تخليل الأصابع قبل وصول الماء إلى ما بين الأصابع فرض وبعده سنة، وذكر شمس الأئمة الحلواني ﵀ أن تخليل الأصابع سنة مطلقًا.
قال ﵀: ومن الناس من قال تخليل أصابع القدم فرض قال محمد ﵀ في «الأصل» لو توضأ مرة واحدة تامة أجزأه.
وتكلموا في تفسير الشيوع، قال بعضهم: غسل العضو بالماء أولًا ثم يسيل عليه الماء، فيتيقن بوصول الماء إلى جميع العضو.
وقال بعضهم: يسيل الماء على عضوه ويدلكه حتى يصل الماء إلى جميعه، والفقيه أبو جعفر ﵀ مال إلى القول الأول في زمان الشتاء وإلى القول الثاني في زمان الصيف.
وروى هشام عن أبي يوسف ﵀ أنه إذا بل الأعضاء ثلاث مرات يجزىء عن الغسل ثم إذا توضأ مرة واحدة، فإن فعل ذلك لقلة الماء أو للتبرد أو للحاجة لا يكره ولا يأثم، وإن فعل ذلك من غير عذر وحاجة يكره ويأثم هكذا قيل.
وقد قيل أيضًا إن اتخذ ذلك عادة يكره.
وإن فعل ذلك أحيانًا لا يكره.
وإذا كان ببعض أعضاء الوضوء جرح قد انقطع قشره أو نحو منه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحته؟ كان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول ننظر إن كان ما يقشر يزال من غير أن يتألم لم يجزه إلا أن يصل الماء إلى ما تحته، وإن كان لا يزال من غير أن يتألم أجزأه إن لم يصل الماء إلى ما تحته، قال: لأنه بمنزلة ما لم يقشر.
وفي «مجموع النوازل»: رجل ببعض أعضائه قرحة قشر أو بأطراف وضوءه وضوء قشر القرحة موصولة بالجلد إلا الطرف الذي يخرج منه القيح، فغسل الجلد ولم يصل الماء إلى ما تحت الجلد جاز وضوءه، وجاز له أن يصلي؛ لأن ما تحت الجلد ليس بظاهر فلا يعتبر غسله.
وفيه أيضًا وإن كان على بعض أعضاء وضوئه قرحة نحو الدمل وشبهه وعليه جلدة رقيقة، فتوضأ وأمرّ الماء على الجلدة ثم نزع الجلدة قيل يلزمه غسل ما تحت الجلدة، قال: إن نزع الجلدة بعد ما بدأ بحيث لم يتألم بذلك، فعليه أن يغسل ذلك الموضع، وإن نزع محل البثر وبحيث تألم بذلك إن خرج منها شيء وسال نقض الوضوء، وإن لم يخرج لا يلزمه غسل ذلك الموضع والأشبه أنه لا يلزمه الغسل في الوجهين جميعًا.
وفي «فوائد القاضي الإمام» ركن الإسلام علي السغدي ﵀: إذا كان على
1 / 40
بعض أعضاء وضوئه خرء ذباب أو برغوث، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته جاز؛ لأن التحرز عنه غير ممكن.
ولو كان جلد سمك وخبز ممضوغ قد جف، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته لم يجز؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وقد قيل إذا كان على أعضاء وضوئه.f
... ولا يصل الماء إلى ما تحته فتوضأ كذلك يجوز؛ لأنه يتولد من البدن فهو بمنزلة الدرن.
وفي «مجموع النوازل» إذا كان برجله شقاق، فجعل فيها الشحم وغسل الرجل ولم يصل الماء إلى ما تحته ننظر إن كان يضره إيصال الماء إلى ما تحته يجوز، وإن كان لا يضره لا يجوز والله أعلم.
نوع منه فى تعليم الوضوء
قال محمد ﵀ في «الأصل»: الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثًا ولم يذكر كيفيته، وحكي عن الفقيه أي جعفر الهندواني ﵀: أنه ينظر إلى الإناء إن كان الإناء صغيرًا يمكنه رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثًا، وإن كان الإناء كبيرًا لا يمكن رفعه كالحب وشبهه، وكان معه كوز صغير يرفع الماء بالكوز، ولا يدخل يده فيه ثم يغسل يديه بالكوز على نحو ما بينا.
وإن لم يكن معه كوز صغير أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ولا يدخل الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، فيفعل كذلك ثلاثًا ثم يدخل يده اليمنى بالغًا ما بلغ في الإناء، وقوله ﵇: «لا يَغْمُسَنَّ في الإناء» محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة أو كانت كبيرة، ولكن معه آنية صغيرة.
وأما إذا كان الإناء كبيرًا وليس معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة.
ثم يستنجي والكلام في الاستنجاء يأتي بعد هذا في النوع الذي يلي هذا النوع.
وبين المشايخ اختلاف في أنه يغسل يديه قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء.
قال بعضهم: قبل الاستنجاء.
وقال بعضهم: بعد الاستنجاء.
1 / 41
وأكثرهم على أنه يغسل يديه مرتين، من قبل الاستنجاء ومن بعد الاستنجاء، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، هكذا ذكر محمد ﵀ في «الأصل»، ولم يقل ثم يغسل يديه.
من أصحابنا من قال: إنما ذكر ذراعيه؛ لأنه سبق غسل اليدين، فلا يجب الإعادة.
قال شمس الأئمة السرخسي ﵀: والأصح عندي أنه يعيد غسل اليدين؛ لأن الأول كان شبه افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء وأنه مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير، فإذا حصل التطهير بأي طريق حصل فقد حصل المقصود، فلا معنى لإعادة الغسل. ثم يمسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء واحد ثم يغسل رجليه مع الكعبين والله أعلم.
نوع منه فى بيان سنن وضوئه وآدابه
فنقول: السنّة سنّتان.
سنّة الرسول ﵇.
وسنّة أصحابه.
فسنّة الرسول: هي الطريق التي فعلها رسول الله ﵇ وواظب عليها كركعتي الفجر والأربع قبل الظهر وأشباهها.
وسنّة أصحابه رضوان الله عليهم: هي الطريق التي فعلها الصحابة، وواظبوا عليها كالتراويح، فإن التراويح يقال: سنّة عمر ﵁؛ لأن عمر فعلها وواظب عليها.
والأدب: ما فعله رسول الله ﵇ مرة وترك مرة، فنقول: من السنّة أن يغسل يديه إلى الرسغ ثلاثًا، ويغسلها قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء، فيه كلام وقد ذكرناه، وهذا إذا لم يكن على بدنه نجاسة حقيقية، أما إذا كانت فإنه يفترض غسلها.
قال الطحاوي ﵀: ويسمي، فيقول: (بسم) الله العظيم والحمد لله على الإسلام، وفي كون التسمية سنّة كلام.
ففي ظاهر الرواية ما يدل على أنه أدب فإنه قال: ويستحب له أن يسمي، وذكر في «صلاة الأثر» أنها سنّة، وهكذا ذكر الطحاوي والقدوري رحمهما الله.
وفي محل التسمية اختلاف المشايخ، قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء وقال بعضهم يسمي بعد الاستنجاء.
1 / 42
فصلفي الاستنجاء وكيفيته
ومن السنة الاستنجاء، وإنه نوعان:
أحدهما: بالماء.
والثاني: بالحجر أو المدر أو ما يقوم مقامها من الخشب أو التراب.
والاستنجاء (٣أ١) بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن لم يمكنه ذلك إلا بكشف العورة يستنجي بالأحجار، ولا يستنجى بالماء، وإتباع الماء الأحجار أدب وليس بسنّة؛ لأن النبي ﵇ فعله مرة وتركه مرة.
من مشايخنا من قال: هذا كان أدبًا في زمن النبي ﵇ وأصحابه، أما في زماننا فهو سنّة، واستدل هذا القائل بما روي عن الحسن البصري ﵁ أنه سئل عن هذا فقال: هو سنّة، فقيل له: كيف يكون سنّة وقد تركه رسول الله ﵇ مرة وفعل مرة، وكذلك خيار الصحابة، فقال الحسن: إنهم كانوا يبعرون بعرًا وأنتم تثلطون ثلطًا، ولا خلاف لأحد في الأفضلية، فإتباع الماء الأحجار أفضل بلا خلاف، والاستنجاء من البول والغائط والمذي والمني والدم الخارج من أحد السبيلين دون غيرها من الأحداث.
وينبغي أن يستنجي بالأشياء الطاهرة نحو الحجر والمدر، والرماد، والتراب، والخرقة، وأشباهها، ولا يستنجي بالأشياء النجسة مثل السرقين ووضع الإنسان، وكذلك بحجر استنجى به مرة هو أو استنجى به غيره إلا إذا كان حجرًا له أحرف، فيستنجى في كل مرة بحرف لم يستنج به في المرة الأولى، فيجوز من غير كراهته.
وكذلك لا يستنجى بالعظم والروث، فقد قيل العظم طعام الجن والروث علف دوابهم، فلا يفسد عليهم طعامهم وعلف دوابهم، وكذلك لا يستنجى بمطعوم الآدمي وعلف دوابهم نحو الحنطة والشعير أو الحشيش وغيرها.
وذكر الزندويستي أنه يستنجي بالمدر والحجر والتراب، ولا يستنجي بما سوى هذه الأشياء.
وعدد الثلاثة في الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها ليس بأمر لازم، والمعتبر هو الإنقاء، فإن أنقاه الواحد كفاه وإن لم ينقه الثلاث زاد عليه.
وقيل في كيفية الاستنجاء بالأحجار أن الرجل في زمن الصيف يدبر بالحجر الأول، ويقبل بالحجر الثاني، ويدبر بالثالث، وفي الشتاء يقبل بالحجر الأول ويدبر بالثاني ويدبر بالثالث؛ لأن في الصيف خصيتاه متدليتان، ولو أقبل بالأول تتلطخ خصيتاه، فلا يقبل ولا كذلك في الشتاء. والمرأة تفعل في الأحوال كلها مثل ما يفعل الرجل في الشتاء.
1 / 43
وقد قيل المقصود هو الإنقاء، فيفعل على أي وجه يحصل المقصود.
قيل في كيفية الاستنجاء بالماء: أنه ينبغي أن يجلس كأفرج ما يكون ويرخي كل الإرخاء حتى يطهر ما بداخل فرجه من النجاسة، فيغسلها وإن كان صائمًا لا يبالغ في الإرخاء حتى لا يصل الماء إلى باطنه، فيفسد صومه.
وعن هذا قيل: لا ينبغي أن يقوم عن موضع الاستنجاء حتى ينشف ذلك الموضع بخرقة حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وكذلك قيل: لا ينبغي أن يتنفس في الاستنجاء للمعنى الذي ذكرنا، ويستنجي بيساره سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجر، ويستنجي بأصبع أو أصبعين أو ثلاث، ولا يستعمل جميع الأصابع لأن ذلك الموضع لا تتسع فيه الأصابع كلها، فلو استعمل الأصابع كلها يخرج الماء النجس من بين أصابعه، ويسيل على فخذيه فينجس به فخذاه وعسى لا يشعر به.
أو نقول المقصود يحصل بالثلاث، ففي الزيادة على الثلاث استعمال النجاسة بلا ضرورة، وإن كان المستنجي رجلًا يستنجي بأوساط أصابعه، وإن كان امرأة تستنجي برؤوس الأصابع عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تستنجي بأوساط الأصابع.
بقي الكلام بعد هذا في عدد سكب الماء، وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من لم يقدر في ذلك تقديرًا وفوضه إلى رأي المستنجي، وقال: يغسل إلى أن يقع في قلبه أنه قد طهر، وبعضهم قدروا في ذلك تقديرًا، واختلفوا فيما بينهم، فمنهم من قدره بالثلاث، ومنهم من قدره بالسبع، ومنهم من قدره بالتسع، ومنهم من قدره بالعشر، ومنهم من قدره في الإحليل بالثلاث، وفي المقعد بالخمس.
وينبغي أن يستنجي بعد ما خطا خطوات حتى لا يحتاج إلى إعادة الطهارة، وإن كان المستنجي لابس الخفين وماء الاستنجاء يجري تحت خفه يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، إلا إذا كان على الخف خروق، ويدخل ماء الاستنجاء باطن الخف، فحينئذٍ يغسل باطن الخف، وإن كانت الخروق بحالٍ يدخل الماء فيها من جانب ويخرج من جانب آخر يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار ﵀.
وفي قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير ﵀: أنه سئل عن رجل شلت يده اليسرى، ولا يقدر أن يستنجي بها كيف يستنجي؟ قال: إن لم يجد من يصب الماء عليه والماء في الإناء لا يستنجي، وإن قدر على الماء الجاري يستنجي بنفسه، وإن كانت يداه كلاهما قد شلتا ولا يستطيع الوضوء والتيمم، قال: يمسح يده على الأرض يعني ذراعيه مع المرفقين ويمسح وجهه على الحائط ويجزىء ذلك عنه، ولا يدع الصلاة على كل حال.
1 / 44
وفيه أيضًا الرجل المريض إذا لم يكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ، وهو لا يقدر على الوضوء، قال: يوضئه ابنه أو أخوه غير الطهور، فإنه لا يمس فرجه ويسقط عنه الاستنجاء، وفرائض المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج ومن لا يقدر على الوضوء ولها أخت، قال: توضئها الأخت إلا الطهور وسقط عنها الاستنجاء.
ثم الاستنجاء بالأحجار إنما يجوز إذا اقتصرت النجاسة على موضع الحدث، وأما إذا تعدت عن موضعها بأن جاوزت الفرج أجمعوا على أن ما جاوز موضع الفرج من النجاسة إذا كان أكثر من قدر الدرهم إنه يفرض غسلها بالماء، ولا يكفيه الإزالة بالأحجار.
وإن كان ما جاوز موضع الفرج أقل من قدر الدرهم أو قدر الدرهم إلا أنه إذا ضم موضع الفرج يكون أكثر من قدر الدرهم، فأزالها بالحجر ولم يغسلها بالماء فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أنه يجوز ولا يكره.
وعلى قول محمد ﵀ لا يجوز إلا أن يغسله بالماء، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضًا. وإذا كانت النجاسة على موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم واستجمر ولم يغسلها ذكر في «شرح الطحاوي» أن فيه اختلاف، بعضهم قالوا: إن مسحه بثلاثة أحجار والماء جاز، قال: وهو أصح، وبه قال الفقيه أبو الليث ﵀.
وإذا استنجى بالأحجار ثم سبح في ماء قليل أو جلس في طست ماء، ذكر الفقيه أبو جعفر ﵀ في «غريب الرواية»: إن قيل لا ينجس فله وجه، وإن قيل ينجس فلا وجه، قال: وهو الأصح، وبه كان يقول الناطفي، ذكره في «الهداية»، وإن خرج من ذلك الموضع دم أو قيح أو أصابه نجاسة أخرى لا يجزئه الإزالة بالأحجار والله تعالى أعلم.
ومن السنة: النية، وإذا تركها تجزئه صلاته عندنا، وتكلموا في أنه إذا ترك النية هل يثاب ثواب الوضوء؟ قال الأكثر من المتقدمين من أصحابنا؛ لا يثاب، وقال بعض المتأخرين: يثاب، هكذا ذكره الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، وأشار الكرخي في «كتابه» إلى أن الوضوء الذي هو بغير النية ليس الوضوء الذي أمر به الشرع، وإذا لم ينو فقد أساء وأخطأ وخالف السنّة إلا أنه تجوز صلاته؛ لأن الحدث لا يبقى مع الوضوء ثم كيف ينوي حتى تكون متممة للسنّة، قالوا: ينوي إزالة الحدث أو إقامة الصلاة.
ومن السنّة: الترتيب في الوضوء يبدأ بيديه إلى الرسغ ثم بوجهه ثم بذراعيه ثم برأسه ثم برجله. ومن السنّة أيضًا الموالاة. ومن السنّة السواك، وينبغي أن يكون السواك من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم ويشد الأسنان ويقوي اللثة، وليكن رطبًا في غلظ الخنصر وطول الشبر، ولا يقوم الإصبع مقام الخشب، حال وجود الخشب، فإن لم توجد الخشبة فحينئذٍ تقوم الإصبع مقامها.
ومن السنّة أيضًا أن يتمضمض ثلاثًا، ويستنشق الماء، والمضمضة والاستنشاق نفلان في الوضوء عندنا، ولكنهما سنّتان والمبالغة فيهما سنّة أيضًا.
قال شمس الأئمة الحلواني ﵀: المبالغة في المضمضة أن يخرج الماء من
1 / 45
جانب إلى جانب، وقال شيخ الإسلام: المبالغة (٣ب١) في المضمضة الغرغرة.
وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة تكثير الماء حتى يملأ الفم فإن لم يملأ الفم يغرغر حينئذٍ، والمبالغة في الاستنشاق أن يضع الماء على منخريه ويجذبه حتى يصعد من أنفه، وبعضهم قالوا المبالغة في الاستنشاق في الاستنثار.
وتكون المضمضة باليد اليمنى والاستنشاق باليد اليسرى، وفي بعض المواضع: إذا تمضمض واستنشق، فليس عليه أن يدخل أصبعه في فمه وأنفه.
قال الزندويستي: والأولى أن يفعل ذلك وينبغي أن يأخذ لكل واحد منهما ماء على حدة عندنا، وإن أخذ الماء بكفه ورفع منه بفمه ثلاث مرات وتمضمض يجوز مثله، ولو رفع الماء من الكف بأنفه ثلاث مرات واستنشق لا يجوز؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف لأنه يرميه إلى الأرض.
ومن السنّة تكرار الغسل ثلاثًا فيما يفرض غسله نحو اليدين والوجه والرجلين، لما روي أن رسول الله ﵇؛ «توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله تعالى له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» قيل: المراد زاد على أعضاء الوضوء، أو نقص على أعضاء الوضوء.
وقيل زاد على الحد المحدود أو نقص عن الحد المحدود.
وقيل المراد زاد على الثلاث أو نقص متعمدًا؛ لأن السنّة هذا فأما إذا زادهما بنية الطب عند السواك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما (لا) يريبه.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن من توضأ وزاد على الثلاث هل يكره؟ كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يكره، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: لا يكره، إلا أن يدعي أن السنّة في الزيادة، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان من نعته الزيادة تكره، وإن كان من نعته تجديد الوضوء لا يكره بل يستحب له ذلك.
وذكر الناطفي في «الهداية»، أن الوضوء مرة واحدة فرض ومرتين فضيلة وثلاثًا في المغسولات سنة وأربعًا بدعة، وهذا كله إذا لم يفرغ من الوضوء، فأما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء، فلا كراهة بالاتفاق، ذكره في متفرقات الفقيه أبي جعفر ﵀، والأصل فيه
1 / 46
قوله ﵇: «من توضأ على وضوء يكتب له عشر حسنات» .
ومن السنّة: استيعاب جميع الرأس في المسح وتكرار المسح والاستيعاب بماء واحد لا بأس به، فالتثليث في المسح بماء.... بدعة، هكذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده ﵀.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رواية أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات يأخذ لكل مرة ماءً جديدًا، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّمتوضأ مرة مرة ورأيته توضأ مرتين مرتين ورأيته توضأ ثلاثًا ثلاثًا وما رأيته مسح برأسه إلا مرة واحدة» .
وبيان كيفية الاستيعاب: أن يأخذ الماء ويبل كفه وأصابعه ثم يلصق الأصابع، ويضع على مقدم رأسه من كل يد ثلاث أصابع، ويمسك إبهاميه وسبابتيه ويجافي بين كفيه، ويمدهما إلى قفاه، ثم يرسل الأصابع ويضع كفيه ويمسح على فوديه بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحتيه حتى يصير ماسحًا جميع الرأس ببلل لم يصر مستعملًا والرواية من مقدم الرأس قول عامة المشايخ.
وروي عن أبي حنيفة، ومحمد ﵀ أنه يبدأ من أعلى رأسه، فيمد يديه إلى مقدم جبينه، ثم إلى قفاه، وذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار ﵀: يبدأ في مسح الرأس من مقدم الرأس، ويجرهما إلى مؤخر الرأس ثم يعيدهما إلى مقدم الرأس، ولا تكون الإعادة استعمال المستعمل؛ لأن اليد ما دام على العضو لا يأخذ حكم الاستعمال وإذا غسل الرأس مع الوجه أجزأه عن المسح هكذا ذكر شيخ الإسلام ﵀؛ لأن في الغسل مسح وزيادة ولكن يكره لأنه خلاف ما أمر به.
ومن السنّة: مسح الأذنين بالماء الذي يمسح به الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديدًا، وقال الشافعي: يأخذ لهما ماءً جديدًا؛ لأنهما عضوان منفصلان؛ ولهذا كان مسح الرأس فرضًا ومسح الأذنين سنّة، ولا يكتفى فيها بماء واحد كالمضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه، ولنا قوله ﵇: «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم لا بيان الحقيقة؛ لأنه مشاهد ولا حكم لجعل الأذنان فيه من الرأس إلا ما قلنا، وأما المضمضة والاستنشاق، فيؤخذ لهما ماء جديد في ظاهر الرواية، وروى ابن شجاع أنه إذا أخذ
1 / 47
غرفة، فتمضمض بها وغسل وجهه جاز، فإن أخذنا بهذه الرواية نحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق على ظاهر الجواب أن المضمضة والاستنشاق يكون مقدمًا على غسل الوجه فلو أصابهما بماء واحد صار المفروض تبعًا للمسنون، وذلك لا يجوز، ولا كذلك الأذنان مع الرأس، وإدخال الإصبع في صماخ أذنيه أدب وليس بسنّة هو المشهور، وعن أبي يوسف ﵀: أنه كان يرى ذلك.
وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده ﵀: أنه يدخل الخنصر في صماخ أذنيه ويحركها، ويرويان في ذلك حديثًا عن «النبي صلى الله عليه وسلّموعن أبي هريرة ﵁ أنه كان يفعل ذلك» .
لم يذكر محمد ﵀ في «الكتاب» مسح الرقبة، وكان الفقيه أبو جعفر ﵀ يقول: إنه سنّة وبه أخذ أكثر العلماء، وقال أبو بكر بن أبي سعيد: إنه ليس بسنّة، وبه أخذ بعض العلماء، وقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء: «أن رسول الله ﵇ مسح على رأسه وأذنيه ورقبته في بيتها» .
وقال ابن عمر ﵄: «امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار» .
وأما تخليل اللحية فليس بمسنون، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول محمد وقال أبو يوسف هو سنّة.
ومن السنّة عند غسل الرجلين أن يأخذ الإناء بيمينه وألقاه على مقدم رجله الأيسر، ودلكه بيساره، وإنما أخبرنا اليسار والدلك؛ لأن الرجل موضع الأذى واليسار للأذى، وإنما بدأنا من مقدم الرجل؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية، وكذلك في غسل اليدين يبدأ من رؤوس الأصابع، لأن الله تعالى جعل المرفق غاية.
(آداب الوضوء)
جئنا إلى بيان الأدب فنقول: من الأدب أن لا نسرف ولا نقتر، هكذا ذكر شيخ الإسلام ﵀، وذكر شمس الأئمة الحلواني ﵀ أن هذا سنّة.
ومن الأدب أن يقول عند غسل كل عضو: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، به ورد «الأثر عن رسول الله ﵇» . ومن الأدب أن لا يتكلم فيه بكلام الناس.
ومن الأدب: أن يتولى أمر الوضوء بنفسه لحديث عمر ﵁، فإنه قال: «إنا لا نستعين على طهورنا»، مع هذا لو استعان بغيره جاز بعد أن لا يكون الغاسل
1 / 48