وعقيبها الفصل الثالث في أوصاف الربيع، وإيماض برقه، ونشر سحائبه، وجلجلة رعده، وسقوط قطره، وفترة نسيمه، وسجسج هوائه، وانعطاف قوسه وسط الغمام أخضر بجنب أحمر إلى أصفر، كما تظاهرت العروس بين جلابيبها وبعض الذيل أصر من بعض، أو كما عقدت الكاعب الرود أسورتها على معصمها من مصوغ ذهب إلى منظوم زبرجد بينهما معقود ياقوت؛ وهبوب الرياح على وجوه الغدران ومسحها أقذاءها كأنها ماوية مصقولة، أو مرآة مجلوة، وعصفة الشمال بالسواقي ممتدة على استواء كأنها حية تسعى أو صفيحة الحسام المسلول؛ وتدريجها متونها حزوزًا كمتون المبارد، أو حلقًا كمراقد الأساود؛ وأنواع الأزاهير وصنوف الرياحين، وكيف يتضمخ الجو من عرفها، وتتضوع المسارب بأرجها؛ وانفتاق الأنوار من أكمامها، وخروجها من أغطيتها إلى مسرى هيجها على ظواهر الأرض، وأوان جفوفها بضواحي الجلد، وحين يبسها بأشراف الجبال ومتون الأقبال؛ وذبول نضارتها، وتصوح بهجتها، وعودها هشيمًا تذروه الرياح، وتنسفه الأرجل مختومًا بمشموم الطيب من المسوك والعنابر والكوافير والأعواد والغوالي، وذكر حقائق اشتقاقها وشواهدها من العربية، وحصر أسمائها وإيراد ما صرفته الشعراء من معانيها.
وبعده الفصل الرابع في نعت الخمور وعد أساميها وتحقيق اشتقاقها وموضوعاتها وأبنيتها ولغاتها، والأمثال المضروبة بها، وصفات أحوالها من مبتكر الأمثال، وتوريق كرومها وتعريشها على الدعائم وشدها بالقوائم، ثم اخضرار أوراقها، وتهدل أفنانها، وتفنن شعبها، وانعقاد حباتها، وإيناع ثمراتها، وتدلي أعنابها، وتساقط قضبانها، موقرة دوالح بأحمالها مكتنزة عناقيدها، هوادل بأثقالها كما احتبى الزنج في الأزر الخضر، أو تعرض الثريا في أزرق الفجر؛ إلى أن تنبذ في الخوابي، وتسلم إلى الظروف، وتودع الأوعية، نصب عين الشمس، فيطبخها حمي الهواجر، ويصفيها لفح السمائم بالظهائر، فتستوعب قوتها، وتستوفي حولها وشدتها، حتى يجتليها السقاة في معارض الأقداح، وتحثها ركبًا على مطايا الراح، قهوة حمراء في زجاجة بيضاء عذراء من حلب الأعناب بمزاج حلب السحاب، فينتظم بها شمل السرور ويتجنب حماها طوارق المحذور.
الباب الأول
أوصاف الشعر
قال بكر بن النطاح:
بيضاء تسحب من قيامٍ فَرعَها ... وتضِلُّ فيه وهو وحفٌ أسحمُ
فكأنَّها فيه نهارٌ ساطعٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ
المعوج الشامي:
وفي أرجورانيِّ الغلالة شادنٌ ... لباسُ الدجى من عُذْره وغدائرهْ
له لحظاتٌ فاتراتٌ يكُرُّها ... بفترة أحوى فاتن الطرفِ فاترهْ
فلا غمد إلاّ من سوادِ جوانحي ... ولا سيف إلاّ من بياض محاجرِهْ
دعبل بن عليِّ الخزاعيِّ:
أما في صروف الدهر أن ترجع النوى ... بهم ويُدالَ القرب يومًا من البعدِ
بلى في صروف الدهر كلُّ الذي أرى ... ولكنَّما أغْفَلْنَ حظّي على عمدِ
فواللهِ ما أدري بأيِّ سهامها ... رَمتْني، وكلٌ عندنا ليس بالمُكْدي
أبا لْجيدِ أمْ مجرى الوشاح؟ وإنني ... لأِتْهم عينيها مع الفاحمِ الجعدِ
عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
سَبَتْهُ بوَحفٍ في العِقاصِ كأنَّه ... عناقيدُ دلاَّها من الكَرْمِ قاطِفُ
أسيلاتُ أبدانٍ دقاقٌ خُصورها ... وَثيراتُ ما الْتفَّتْ عليه الملاحِفُ
ابن الرومي، وأحسن في بسطه ووصفه:
وفاحمٍ واردٍ يقبِّلُ مَمْ ... شاهُ إذا اخْتالَ مُرسلًا غُدُرَهْ
أقبل كالليل من مَفارِقِهِ ... مُنحدرًا لا يذُمُّ مُنحدرهْ
حتى تناهى إلى مواطِئِهِ ... يَلثِمُ من كلِّ موْطئٍ عَفَرَهْ
كأنَّه عاشقٌ دَنا كَلَفًا ... حتى قضى من حبيبه وَطَرهْ
وعبد الله بن المعتز وارده في هذا المعنى حيث قال:
فلّما أنْ قضتْ وَطرًا وهمَّتْ ... على عَجَلٍ لأخذٍ للرِّداءِ
رَأتْ شخص الرقيب على تدانٍ ... فأسبَلتِ الظَّلامَ على الضياءِ
فغاب الصبحُ منها تحت ليلٍ ... وظلَّ الماءُ يَقطُرُ فوقَ ماءِ
والمتنبي منه أخذ قوله:
دعتْ خلاخيلُها ذَوائبَها ... فجِئنَ من قَرْنِها إلى القدمِ
وقوله:
وَمَن كلَّما جَرَّدْتُها من ثيابها ... كساها ثيابًا غَيْرَها الشَّعَرُ الوَحْفُ
1 / 3