ثم وزن نفسه بدقة وبدون محاباة، فوجد أنه الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يكفي الأستانة ومصر شر المماليك، والوحيد الذي يمكنه أن يحكم البلاد حكما يصلحها ويعلي من شأنها، ورأى أن ما خصه به الباري - دون سواه - من مزايا البطولة الحقة والرجولة الحقة، ومن ميزات الرجل المخلوق للإمرة والإدارة، يكفل له تحقيق المنام الذي فسره له الشيخ الوقور، والبلوغ إلى الذروة، إذا هو عرف كيف يستفيد من الظروف، وكيف يجعل الفرص تثمر الثمر المرغوب فيه، بأن لا يستخدم كفاءته إلا في مصلحة فريق يؤدي انتفاعه بها إلى القضاء المبرم على خصمه، وكيف يسير بحكمة سفينة طالعه وآماله.
فدخل بها بحر تلك الفوضى العجاج بجانب قوارب الضاربين فيها، ولم يكن بينهم أحد يعلم المصير، بل كانوا يمخرون حيثما تذهب بهم رياح تصرفات الأيام. وبينما هم غافلون ربط سفينة مطامعه - بحبال خفية - بكل قارب من تلك القوارب، وربط دفات الجميع بدفة سفينته، من حيث لا يشعر أحد، فأصبح كل يجذف بمجذافه، ويظن أنه يجذف لنفسه وفي مصلحتها، بينما هو في الحقيقة يجذف ليوصل إلى الفرضة الأمينة سفينة ذلك الربان الحاذق، الذي كان يدير الدفات كلها في الخفاء - وهو على ظهر سفينته، ونجمته القطبية المنيرة له السبيل بين الشعاب - تحقيق الحلم الذي رآه.
هكذا نرى واضع الأنغام عند الغربيين يضع لكل وتر نغما، ولكل بوق نفخا، ولكل منشد ترنيما، فيعزف العازفون، ويغني المغنون، وكل واحد لا يدري ما نغم رفيقه، فيجتهد بإتقان نغمه، ظنا منه أنه الفائز باستحسان الجمهور وتصفيقهم، وما هو في الحقيقة عامل إلا على نجاح مجموع النغم، وإظهار حذق الواضع واكتساب الشهرة والفخر له.
وكما أن واضع روايات قره قوز يدير من وراء ستار حركات جميع الممثلين فيها، مع أنها تبدو للعيان كأنها حركاتهم الشخصية، هكذا شرع محمد علي يدير حركات الضاربين في تلك القوارب، والملأ يعتقد أنهم هم القائمون بها.
فامتنع لذلك جميعه عن الاشتراك في معركة دمنهور.
ولما كان الذكاء لا يعوز خسرو باشا - وإن أعوزته صفات الرجولة الحقة - فإنه أدرك في الحال سبب امتناع محمد علي من الاشتراك في تلك المعركة. ولدى تصوره أن الرجل مدين له بتقدمه كله ثارت في فؤاده ثورة غضب هائلة، وصمم على الإيقاع به، فأرسل يستدعيه إليه بعد صلاة العشاء؛ بحجة المفاوضة معه في أمر خطير، فلم تنطل الحيلة على محمد علي، وأجاب أنه سيذهب إلى مقابلة الوالي في رابعة النهار وبمعية جنده.
وبما أن البرديسي، بعد وقعة دمنهور وارتحال الجيش الإنجليزي، كان قد سار إلى الصعيد وانضم إلى مماليك إبراهيم بك الكبير، واستولى معهم على مدينة المنيا، فقطع كل اتصال بين القاهرة ومصر العليا، فإن خسرو - لاضطراره إلى إزالة هذا الخطر الجديد، واحتياجه في ذلك إلى محمد علي - أجل النظر في أمر معاقبته إلى فرصة أخرى. وأرسل يستقدمه هو وقائدا آخر يقال له طاهر باشا إلى مصر، ليسيرا منها بعساكرهما إلى المنيا لاستردادها.
ولكن محمد علي رأى أن الوقت حان لإزالة خسرو عن المسرح، فحرك عليه في الخفاء العساكر، فأبوا الزحف إلا إذا دفعت لهم متأخراتهم، فأحالهم خسرو على الدفتردار، وهذا أحالهم على محمد علي، كأني به قد أدرك من أين الضربة آتية، فأجابهم محمد علي أنه لم يصله شيء من مرتباتهم، فاستشاط الجنود غيظا؛ لأنهم اعتقدوا أن الدفتردار ومولاه يهزأون بهم. وعادوا فحاصروا بيت الدفتردار، فأبلغ الدفتردار الخبر إلى خسرو باشا، فثارت في رأس الوالي ثورة الغضب، وأمر بإطلاق مدافع القلعة على الجنود، فطار صواب هؤلاء، فتركوا الدفتردار وشأنه، وتدفقوا إلى سراي الوالي يهاجمونها، فرأى طاهر باشا - بإيعاز من محمد علي - أن يتوسط بينهم وبين الوالي. ولكن خسرو لم يخيب رأي محمد علي فيه، وأبى بغلظة مقابلة طاهر، فانقلب طاهر عدوا صريحا. وأخذ معه فرقة من العساكر، وسار بها إلى القلعة، فأغلق حفظتها أبوابها في وجهه. ولكن بعض جنوده تمكنوا من النفوذ إلى داخل سورها الأول، وأفسدوا على الحكم قلوب الحرس المقام هناك، فلم يعد يستطيع خازندار خسرو، المتولي أمر ذلك الحرس؛ المقاومة، وفتح في الحال الأبواب لطاهر ومن معه، فدخلوها وأخذوا يمطرون القنابل منها على سراي الوالي، فأدرك هذا أن القلعة سقطت في أيدي العصاة، فجمع حرسه النوبي وزهاء مائة عثماني ونفرا من الفرنساويين كانوا في خدمته، ونساءه، وخرج من سرايه، وسار بجمعه إلى المنصورة.
فخلا الجو لطاهر باشا واضطر قاضي الديار إلى المناداة به قائمقام الولاية حتى ترد أوامر الأستانة. وكان الدور المخصص في فكر محمد علي لطاهر هذا السعي إلى مصالحة المماليك ليتساعد بهم على الفراغ من أمر خسرو وعلى الوقوف في وجه الانكشاريين وخلافهم فيما لو أراد أحد استخدامهم لمعاقبة الثائرين على خسرو.
فكاتب طاهر المماليك واستدعاهم إليه، فنزل الأمراء من الصعيد وأتوا وأقاموا معسكرهم في الجيزة.
Página desconocida