أيام محمد علي الأخيرة
على أن دول أوربا المتحالفة في مصلحة تركيا ضد الباشا الكبير، وإن أرغمته على التخلي عن ممتلكاته الآسيوية، فقد ضمنت ملك مصر له ولذريته من بعده، بمقتضى الفرمانين اللذين أرغمت سلطان تركيا على منحهما إياه في 13 فبراير سنة 1841 واعتمدتهما.
فبات الرجل العظيم في شيخوخته مطمئنا على سدته المصرية، مطمئنا على مستقبل أسرته، ولئن زالت من قلبه مطامع الفتح التي أوقدتها فيه رغبته في إنشاء دولة عربية مستقلة، لما وجد بين يديه جيشا زاهرا لا مثيل له في الشرق، فقد زالت أيضا منه المخاوف على مستقبله ومستقبل أولاده التي كانت دسائس الديوان ومساعيه الخفية توقظها في فؤاده وتعلق سيفها فوق رأسه كسيف دامكلس الشهير.
فلم يعد يفكر في شيء إلا في تحويل جهوده الباقية إلى تمكين حاضر البلاد ومستقبلها من جني ثمار ما غرست جهوده الماضية، ولئن أقفل في الحقيقة معظم المدارس والمصانع التي كانت قد فتحها سابقا لما حتمت عليه فتحها احتياجاته العسكرية، فإنه أبقى منها ما كانت تستلزمه الحال السلمية التي آلت إليها البلاد بعد الحروب السورية، وأخذ يكثر من إرسال نجباء المدارس إلى أوربا، ليصبحوا عمال المستقبل.
وكان - بالرغم من دخوله في حلقة الثمانين من عمره الخصيب - قد زار السودان؛ ليختبر بنفسه شئونه ويرتب أحواله، فلما وضعت تلك الحروب أوزارها أقدم يشجع الاكتشافات العلمية والجغرافية فيه، فلم يكتف بما بذل من مسهلات ومساعدات لجرانت وسيبك وغيرهما ممن أقبلوا على السفر إلى أعالي النيل للوقوف على ينابيعه، بل جهز هو نفسه حملة لهذا الغرض عينه، وسيرها تحت قيادة سليم قبطان، إلى جهات خط الاستواء، فقامت بالمهمة خير قيام، ووضعت في رحلتها رسالة شيقة ملأى بالفوائد.
ولما اكتشفت قوة البخار وأنشئت في أوربا السفن البخارية، والسكك الحديدية، فإن عينه اليقظة لم يفتها الالتفات إلى ذلك، ولم يفت فؤاده الزكي الإقدام على الانتفاع به، فأحضر لنفسه زورقا بخاريا ليسافر فيه على النيل، وأراد أن يبدل آلات بخارية رافعة، بالآلات الرافعة القديمة المستعملة في ري الأطيان منذ أيام الفراعنة، لولا أنه وجد بسرعة أن الوقود الذي تستلزمه الآلات البخارية يجعل استعمالها متعذرا لجسامة النفقات التي يوجبها.
ولكنه أراد الانتفاع حالا بفوائد السكك الحديدية، فأقدم بهمته المعتادة على ابتياع مهماتها من أوربا، ولكن فرنسا أبدت له نفورها من ذلك، وخوفته من عاقبة قيام شركة إنجليزية بإنشاء السكة الحديدية المرغوب فيها ، وكان الباشا الكبير لا يعتمد في الملمات إلا على تلك الدولة، فأبى إغضابها وأهمل مشروعه.
وكان ضابط إنجليزي يقال له واجهرن قد أنشأ بريدا سريعا بين الهند وأوروبا عن طريق السويس فمصر فالإسكندرية، عرف باسم «ذي أوفرلند روت» ونظم له مصلحة سميت «مصلحة الترانزيت» كان كل عمالها من الإنجليز، فاشتراها منه محمد علي، وزاد في تنظيمها، وأبدل مصريين بجميع عمالها الأجانب، فأصبحت مصلحة من خير المصالح العائدة على البلاد بالخير الجزيل.
ولما رأى أن وسائل الري العديدة التي أنشأها في البلاد يتضاءل نفعها في سني النيل الشحيح، أقدم وهو في السابعة والسبعين من عمره على إنشاء القناطر الخيرية التي دعوناها معجزة معجزاته العظيمة.
وكان قد وقع في خلده لأول وهلة أن يهدم الهرم الأكبر بالجيزة، لينتفع بحجارته الضخمة في بناء تلك القناطر، ولكنه ما لبث أن أدرك أن نفقات هدم ذلك الأثر الفرعوني الهائل ونقل حجارته تربو بكثير على نفقات استخراج الحجارة اللازمة للعمل من محاجر جبال طرا والمعصرة والمقطم، فعدل عن فكره.
Página desconocida