فكان ذلك فاتحة الحرب بين مصر والدولة العثمانية.
فسار إبراهيم باشا لمقابلة الجيوش المتقدمة لقتاله، فأرسل فرقة للاستيلاء على طرابلس الشام، وزحف ببقية جيشه إلى دمشق فدخلها فائزا، وسار منها إلى حمص، حيث كان في انتظاره جيش عثماني مؤلف من خمسة وثلاثين ألف مقاتل.
فدار القتال بينهما، وأسفر عن انهزام العثمانيين، تاركين ألفي قتيل في ساحة الوغى وثلاثة آلاف أسير وعدة مدافع، ولم يخسر المصريون سوى مائتي قتيل ومائتي جريح، فطارد إبراهيم الجيش المهزوم إلى حلب وطرده منها، واستولى عليها، ولكنه لم يستقر فيها إلا برهة ثم قام يتعقب أثر الفارين، وكانوا قد تحصنوا في موقع منيع في بيلان، فوثب إبراهيم بجيشه عليهم وثوبا برؤوس الحراب، فانهزموا مرة أخرى تاركين ألفي أسير وخمسة وعشرين مدفعا بين يديه، وما كان من الضباط والعساكر العثمانيين إلا أنهم أخذوا يهجرون راياتهم، وينضمون إلى صفوف الجيش المصري المظفر.
فتقدم إبراهيم، واستولى على أطنه وطرسوس وعلى مضايق جبال الطورس وممراتها، ولكن السلطان محمودا جهز جيشا عظيما عززه بمدفعية هائلة، وسلم قيادته إلى رشيد باشا - الصدر الأعظم - وسيره إلى قتال المصريين، فقام إبراهيم وزحف إلى قونيه، وما بلغ سهول الأناضول إلا وفتحت أزمير ومدن أخرى عديدة أبوابها له، فوجد في قونية كمية عظيمة من المدافع والمؤن، تركها العثمانيون الفارون منها، ووافاه إليها الجيش التركي، وعدده ستون ألف مقاتل، يوم 24 ديسمبر سنة 1832، واصطف أمامه تاركا فراغا كبيرا بين فرسانه وشمال مشاته، فما رأى إبراهيم باشا ترتبه إلا واندفع بسرعة في ذلك الفراغ، فقلب كردوس الفرسان، وأسر الصدر الأعظم، وألقى الخبل في صفوف المشاة، فتوقفت عن المقاومة، وانسحبت من ميدان القتال بمنتهى الصعوبة؛ فباتت طريق الأستانة مفتوحة أمام المصريين الفائزين، ولو سار إبراهيم إليها من غد لتغيرت مجاري التاريخ!
ولكنه لم يسر إلا بعد شهر، وكان السلطان قد استنجد للدفاع عنه قوة روسية وعقد مع نقولا الأول - القيصر الروسي - معاهدة أنكيار سكيلاسي، فاضطربت أوربا لذلك وتداخلت في الأمر، وأجبرت المتحاربين على عقد معاهدة قوتاهيه.
فآلت سوريا بمقتضاها إلى محمد علي، ومقاطعة أضنا فوقها.
ولكن السلطان محمودا لم يكن ليستطيع صبرا على هذا الذل، فما فتئ يدس الدسائس في سوريا فيثير شعبها على الجيش المصري والإدارة المصرية، ولم يفتر لحظة عن إعادة النظام إلى جيشه وتعزيزه؛ حتى إذا أحس بأنه أصبح كفؤا للقتال، حشد منه 23 ألف راجل و14 ألف فارس، وعززهم بمائة وأربعين مدفعا، وسيرهم إلى آسيا الصغرى، تحت قيادة حافظ باشا الساري عسكر.
فنهض إبراهيم في الحال، وتقدم لقتالهم على رأس 43 ألف مصري، وتقابل الجيشان في نزيب.
فلما كان صباح يوم 24 يونيو سنة 1839، علم الساري عسكر العثماني أن عدة آليات سورية تستعد للتخلي عن الجيش المصري والانضمام إلى الأتراك، فعزم على تسهيل الأمر لها بمهاجمة المعسكر المصري بغتة، وأخذ يطلق قنابله عليه، فأجاب إبراهيم بالمثل، وأصبح القتال عاما، وانجلى - هذه المرة أيضا - عن فوز المصريين، بالرغم من وجود فون مولتكي الألماني مع أركان حرب الجيش العثماني، يدبر آراءهم ويرشدها، وفون مولتكي - كما لا يخفى - هو الذي قهر فرنسا في الحرب السبعينية، ذلك القهر الفظيع المشهور، فترك حافظ باشا في ساحة الوغى أربعة آلاف قتيل وألفي جريح وأربعة آلاف خيمة وألفا وخمسمائة أسير.
ومن غرائب هذه الواقعة أن الذخيرة في أشد اشتداد المعمعة أعوزت المدفعية المصرية، فأرادت الآليات السورية المخامرة اغتنامها فرصة لتمر بما معها من أسلحة إلى صفوف العثمانيين، ولكن إبراهيم باشا وهيئة أركان حربه بأجمعها اندفعوا إلى مقدمة الصفوف المقاتلة شاهرين سيوفهم وعيونهم تقدح نارا، وهددوا بالقتل كل من يتزحزح من مكانه، فخاف المخامرون ولم يتحركوا.
Página desconocida