فعادوا إليها في شهر أكتوبر التالي، وراياتهم لم ينكسها عار انكسار!
هذا ما كان من جمع محمد علي عواطف العالم الإسلامي على ولائه. •••
أما ما كان من نقله مصر إلى بيئة غير البيئة التي وجدها فيها، فقد عمل ذلك:
أولا:
بأن أقلع عن طريقة الحكم التي سبقت عهده، واقتدى بما وضعه الغربيون، لا سيما ناپوليون الأول، من نظامات حكم وإدارة، فاحتاط بديوان مؤلف من نخبة الرجال المحنكين - دعاه الديوان الخديوي - وأنشأ وزارتين: إحداهما للحربية - وكانت الأولى من نوعها، لانصراف أفكاره في البدء إلى الحروب فالفتوح - والأخرى للداخلية لتدير شئون البلاد، بينما يكون هو مشتغلا في شئون السياسة الخارجية وتنظيم البلاد المفتوحة، وتسهيلا للعمل على الوزارتين قسم البلاد المصرية إلى 64 قسما، وجعل على كل قسم رئيسا دعاه ناظر القسم، وكون من تلك الأقسام مجموعات دعاها مراكز، عين على كل منها رئيسا سماه المأمور، ثم كون من تلك المراكز مجموعات أخرى دعاها مديريات، عين على كل منها رئيسا سماه المدير، وكان كل قسم من تلك الأقسام الأربعة والستين يشمل عدة نواح ونجوع وكفور، يدير شئون كل منها شيخ أو عدة شيوخ يقال لهم مشايخ البلدان جعلهم محمد علي المسئولين عن التجنيد وعن جباية الأموال.
ثانيا:
بأن أنشأ من أبناء البلد جيشا زاهرا مدربا على الطريقة الغربية، بالرغم من صعاب كانت الواحدة منها كافية لتفل الحديد وتدك الجبل! وللجندية في الشكل الذي أنشأ محمد علي جيشه عليه؛ مزايا ومنافع مادية وأدبية، لا سيما في قطر كقطرنا تتعدد فيه الأجناس والملل والنحل، ما لا يمكن أن تغيب عن أحد؛ منها : إزالة الفوارق بين هذه الأجناس والملل والنحل، وإيجاد رباط أخوة في الراية والشرف بين أفرادها، ومنها تقوية الأجسام بالتمارين الرياضية، وعلى الأخص تقوية الأرواح وتغذيتها بألبان فضائل فردية كالهمة والنشاط والترتيب، واجتماعية كتضحية الأنانية والمروءة واحترام القوانين والولاء للوطن وحبه، وهذه المزايا والمنافع كانت أمتنا في أشد الاحتياج إليها، بعد أن مضى عليها ما يزيد على أربعة عشر قرنا - وهي تعبير اتنوجرافي فقط - وهي مدوسة تحت أقدام الفاتحين!
وأنشأ، بجانب هذا الجيش، عمارة فخمة خولت الراية المصرية مهابة معظمة في مياه البحر الأبيض المتوسط ومياه البحر الأحمر، وأنشأها من العدم، وبالرغم من عدم وجود مادة واحدة لديه من المواد اللازمة لبنائها، ثم إذ دمرتها دونمات الدول الثلاث المتحالفة في مياه نافارين، عاد فابتنى غيرها في ظرف وجيز وسلحها بما يزيد على ألف وخمسمائة مدفع، فدفع بها عن شواطئ ديارنا الأخطار والخطوب، ولم يكن يمكن ولا لملوك الجن، في بلد كانت تعوزه كل الوسائل، وكانت كل الآراء فيه معارضة؛ أن تنجز ما أنجزه محمد علي في هذا الباب الهام.
ثالثا:
بأن جدد بجدة المعارف بتغييره برامج التعليم وطرقه، وفتح ميدانا جديدا للعلم أدخل الأمة فيه قسرا، فقد كان التعليم، حتى قيام دولته، قاصرا على تلقين أصول الدين وأصول اللغة العربية، ولم يكن في البلاد سوى كتاتيب يعلم فيها القرآن الشريف، لا كينبوع علوم دينية - محيية، إن لم يكن لشيء، فللأخلاق الحميدة - بل كمادة تحفظ على ظهر القلب بدون أن يفقه حافظها معناها، وسوى الجامع الأزهر، وقلما أخرج عالما واحدا يشار إليه بالبنان، بعد القرن العاشر للهجرة.
Página desconocida