فرأى محمد علي في إجابة الطلب ثلاث فوائد كبرى لنفسه: الأولى: إمكان إبعاد جيشه الألباني غير المنظم والكثير التمرد، بحجة لا سبيل إلى الشك في حقيقتها، فإمكان تنظيم الجيش المرغوب فيه، المدرب على الطريقة الغربية، أثناء غياب أولئك الألبانيين. الثانية: إمكان تحصيل ما في الرغبة من أموال، والاستيلاء على أكثر ما يمكن من الأملاك بحجة لزوم النقود للإنفاق على الحرب المقدسة، وفي سبيل استرداد الحرمين الشريفين. الثالثة والأهم: جمع عواطف مسلمي الأرض قاطبة على حبه وولائه، بصفته منقذ الحرمين، ومعيد مناسك الحج. •••
فأقدم على تجهيز مهمات حملة هائلة، منذ أواخر سنة 1809، وأظهر في ذلك لأول مرة مقدار تأثير قوة إرادته وثبات عزمه على ماجريات الأمور، فإنه لوعورة الطريق البرية بين مصر والبلاد العربية صمم على نقل جيوشه إلى ميدان القتال عن طريق البحر.
ولكنه لم يكن لديه مركب واحدة في موانئ البحر الأحمر كلها، فعزم على إنشاء عمارة بحرية في السويس، تنفعه لتلك الحملة وللمستقبل.
وبالرغم من أن كل الأدوات اللازمة كانت تعوزه، وأنه كان مضطرا إلى إحضارها من الخارج، فإن عزمه لم يخر، وإرادته لم تضعف، بل أرسل واشترى من موانئ تركيا كل ما كان في احتياج إليه، وأنشأ في بولاق ترسانة جمع فيها كل من تسنى له جمعهم من الصناع ذوي الخبرة بعمل المراكب، وأقبل ينفذ تصميمه.
فصاروا كلما عملت قطعة يضعون عليها رقما خاصا بها، ويرسلونها إلى السويس على ظهر الجمال، حتى بلغ عدد ما استعمل من هذه الحيوانات في ذلك أكثر من ثمانية عشر ألفا.
فكان لا بد للنجاح من أن يكلل هذه الجهود العظيمة، فلم تمض عشرة شهور إلا وبدت في خليج السويس ثماني عشرة مركبا تتهادى بخيلاء فوق الأمواج، وقد بنيت بحيث تسع أكثر ما يمكن من الجنود والمؤن والذخائر.
الإرسالية الطبية الأولى.
فنزل جيش الحملة فيها يوم 3 سبتمبر سنة 1811، فأقلعت إلى ينبع، وما استولى عليها إلا وقامت الحرب بينه وبين الوهابيين سجالا؛ تارة يفوز طوسن فيها، وطورا يقهر، وأبوه ينجده ويمده، حتى تمكن من إنقاذ المدينة المنورة أولا، فمكة المكرمة فيما بعد.
ولكن الدائرة عادت فدارت عليه، فأسرع محمد علي إلى نجدته بنفسه، وبعد أن أدى فريضة الحج أقام يحارب في البلاد العربية ما يزيد على ثلاث سنوات، أظهر في خلالها من الثبات على المكاره، ومن شدة المراس، وقوة العزم والحزم وتفتق الذهن؛ ما لا نظير له إلا في أخلاق أعظم رجال التاريخ.
فحق للأقدار أن تساعده، ولملاك الموت أن يؤازره على أعدائه، كسابقة عهده، فمر بسعود أمير الوهابيين الهمام، في درية - عاصمة ملكه - في 17 أبريل سنة 1814 واغتاله، فبات أمر المنشقين في يد عبد الله ابنه، ولم يكن على شيء من فضائل أبيه وميزاته.
Página desconocida