ففي أواخر يوليو سنة 1816 أصدر أمره بإنشائه، وبصفة مستعجلة، فهاج ذلك سخط الجند لا سيما الألبانيين منهم، فإنهم صاحوا: «إن هذه لبدعة، وكل بدعة في النار!» وشرعوا يقتلون الضباط المكلفين بالتعليم والتدريب في الشوارع، بل في ساحة المناورات ذاتها، فاتخذ محمد علي ضد البعض منهم إجراءات صارمة، فما كان من بعض كبار الزعماء إلا أنهم دبروا مؤامرة لاغتياله، وفي مساء 3 أغسطس اجتمع ثلاثة منهم في منزل زميل لهم اسمه عابدين بك، كان قد عاد حديثا من بلاد العرب، وطفقوا يتكلمون معه في الأمر، لكي يستميلوه إليهم، وأطلعوه على ما قر عليه الرأي من مباغتة محمد علي في منزله لدى بزوغ فجر الغد، وألحوا عليه بأن يكون عونا لهم، ويشاركهم في عملهم، فتظاهر بالقبول، ثم تذرع بحجة، فتركهم وتنكر، وركب حمارا، وأسرع إلى محمد علي وأطلعه على ما قيل له، ثم عاد إلى منزله، ولم يدر أحد من الموجودين فيه بما تم.
فأسرع محمد علي واستدعى إليه فرقة من الجند كان يثق بها، فأقامها على حراسة قصره، وأخذ معه نفرا عديدا من المخلصين له الولاء، وسار بهم إلى القلعة، فدخلها في منتصف الليل من باب الجبل.
ولما بزغ الفجر رأى زعماء المتآمرين أن التدبير قد خاب، فخافوا وما حركوا ساكنا، ولكن الجند البسيط أبى إلا الاندفاع في تيار فتنة عسكرية هائلة، لم يعد لها من غرض سوى النهب والسلب، وما عتمت نارها أن خبت من تلقاء نفسها؛ لأنها كانت فتنة لا يديرها رؤساء، على أن محمد علي اضطر مع ذلك أن يعد بقسم صريح بعدم العود إلى فكرة إنشاء النظام الجديد، ولكنه اشترط من جهته أن لا يحمل الجند أسلحتهم إلا متى كانوا في الخدمة.
هذه المؤامرة ونتائجها جعلته يدرك أنه لا سبيل له إلى تحقيق أمنيته إلا إذا تخلص من جماهير الجند المأجور غير النظامي الذي تساعد به على البلوغ إلى الذروة، فما انفك يرسل فيالقه الواحد تلو الآخر إلى البلاد العربية؛ أولا لمحاربة الوهابيين، فإلى مجاهل السودان، ثانيا للبحث عن مناجم الذهب والإتيان بالعبيد، حتى تمكن من إفناء أكابر الزعماء المعارضين في إنشاء النظام الجديد، ومعظم القوات المتململة والمتذمرة منه، وتسنى له بذلك التخلص من تمردات الجند، والنظر بطمأنينة إلى المستقبل. •••
وأما المماليك فإن محمد علي لم يجعل عينيه تغفلان لحظة عن أن النزاع بينه وبينهم لم يكن بنزاع على السلطة والحكم فحسب، بل كان نزاعا على البقاء والحياة، وأنه يلزمه إذا أن يبرز لهم تارة في جلد الثعلب، وطورا في جلد الأسد، وفقا للفرص والظروف، فأول ما كان من أمره معهم أنه أرسل إليهم من أخصائه رجالا عرضوا عليهم إدخالهم في العاصمة خلسة، إذا هم أتحفوهم بمبلغ من المال عينوه لهم، فاطمأن المماليك إليهم لما رأوا كلامهم معززا بكتابات من السيد عمر مكرم ومن أكابر المشايخ، واعتقدوا أن الرأي العام عاد إلى العطف عليهم، وكان النيل قد بلغ الوفاء، فاتفقوا على اغتنام فرصة خروج الوالي مع الناس للقيام بمراسم العيد، والدخول إلى العاصمة على غرة من الجميع، ولكن محمد علي أمر بقطع الخليج في الليل وبترك أبواب المدينة مفتوحة بلا حراس، فلما أتاها المماليك ووجدوها على تلك الحالة، توطد فيهم اليقين بنجاح المؤامرة، ودخلوا في كبكبة عظيمة، وخلفهم نقاقير كثيرة وجمال وأحمال، وقصد فريق منهم الجامع الأزهر، وذهبوا إلى بيت السيد عمر، فأغلق في وجههم الباب، فقصدوا بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي ودخلوه، فوافاهم السيد عمر إليه.
وفي تلك الأثناء سار فريق آخر إلى باب زويلة وتقدم إلى جهة الدرب الأحمر، فأطلق عليهم العساكر الساكنون هناك الرصاص، فرجعوا القهقرى، وإذا بفرقة من الجند قد أخذت عليهم الطريق، ففقدوا صوابهم، وترجل بعضهم ولجأ إلى جامع البرقوقية، وذهبت طائفة كبيرة منهم تعدو بخيولها إلى جهة باب النصر، فإذا به قد أقفل.
فنزلوا هم أيضا عن خيولهم، وتسلق بعضهم الأسوار، فنجا بنفسه، وتفرق آخرون في العطوف واختفوا في الجهات، وأما الذين دخلوا في جامع البرقوقية، فإن اثنين منهم فقط تمكنوا من الخروج والذهاب إلى المماليك النازلين في بيت الشيخ عبد الله الشرقاوي، وبعد أن أخبروهم بالواقع فر الجميع، وأما الباقون فإن العسكر احتاطوا بهم، وأحرقوا عليهم الباب، وهاجموهم وقبضوا عليهم، وعروهم من ثيابهم، وأخذوا ما معهم من الذهب والنقود والأسلحة، وذبحوا منهم نحو الخمسين ذبح الأغنام، وسحبوا خمسين آخرين عراة موثوقي الأيدي إلى محمد علي، وكان قلقا، ينتظر نتيجة تدبيره، فلما رأى المماليك يساقون إليه على تلك الحال ابتهج وجهه بفرح قلبه، فوجه الكلام إلى أحمد بك تابع البرديسي، وكان - حين الاستيلاء على دمياط في أيام خسرو - قد عين أميرا عليها، وقال له متهكما: «أوقعت في الشرك يا أحمد بك؟» فطلب هذا ماء، فحلوا وثاقه وقدموا له قلة، فخطف في الحال يطقانا من وسط بعض الواقفين، ووثب على الباشا يريد قتله، فصعد محمد علي بسرعة بضع درجات من سلم بيته، ونجا بذلك من الموت، وتكاثر القوم على أحمد بك وأثخنوه جراحا، فوقع ميتا، ولكن بعد أن قتل بعض أنفار من مهاجميه، ثم وضع باقي المأسورين في القيود وربطوا في حوش الدار ، وهم على حالتهم من العري والذل، وفي اليوم الثاني أحضر جزارون وأمروا بسلخ رؤوس القتلى بين يدي أولئك المعتقلين وهم ينظرون، وأحضرت جماعة من الإسكافيين، فحشوها تبنا وخيطوها، ثم لما جن الليل قتل المعتقلون أيضا وعمل برؤوسهم ما عمل برؤوس رفاقهم في الصباح، وأرسلت الرؤوس كلها إلى الأستانة برهانا على الإيقاع بالمماليك، وكانت هذه ضربة قوية فلت عزم الأمراء، فابتعدت جموعهم عن مصر، وذهبت إلى أسيوط.
وبينما محمد علي يتجهز لقتالهم، إذا بعون أتاه من حيث لم يكن لينتظر؛ فإن ملاك الموت مر في أواخر سنة 1806 بمظال عثمان بك البرديسي أحد زعيمي الأمراء الكبيرين، متقمصا في شخص طبيب مغربي أرسل إليه من مصر ليعالجه من حمى صفراوية انتابته، فأرداه وهو في الثامنة والأربعين من عمره، فخلص محمد علي بذلك من عدو باسل كان بمثابة سيف بتار مسلول أبدا في وجهه، وقد رأت بلدية الإسكندرية، في عهد خلفاء الباشا العظيم من أسرته الفخيمة أن تطلق اسم ذلك البطل المهيب والفارس الصنديد على أحد شوارعها تخليدا لذكره، وبمثابة اعتراف من محمد علي - وهو في جنة الخلد، حيث لا عداء بين ساكنيها - بفروسية ذلك العدو وشجاعته وشدة بأسه، ومحمد علي خير من يعترف لعدو بالفضل الذي فيه!
وكان الألفي - الزعيم الكبير الثاني - بعد أن حاصر دمنهور مدة، واضطره إلى رفع الحصار عنها امتناع الأقوات عنه بسبب هجر فلاحي الريف المجاور بلادهم حوله، قد سار إلى الصعيد، والغيظ والحنق يملآن فؤاده، فجاءه رسل من لدن الأميرين إبراهيم بك الكبير وعثمان بك حسن، يدعونه إلى وضع خطة سير يتبعها الكل تحت زعامته، فتقدم الألفي نحوهما، وهو قليل الوثوق بإخلاصهما، وأتى وأقام معسكره في شبرامنت، ولكنه كان مكتئب المزاج، حاده إلى درجة لم يكن أحد ليجسر معها، أن يخاطبه.
وفي ظهر يوم 30 يناير سنة 1807 خرج للتنزه راكبا، لا يتبعه إلا بعض الحراس على أقدامهم، فرأى عربانا من جيشه حطوا بجمل في حقل مزروع غلة، وأقبلوا يتلفونه، فاشتعلت ثورة الغضب في رأسه، فانقض على أولئك الناس، وقتل بيده أربعة منهم، بينهم شيخ من مشايخ القبائل، ولكن هذا الانفعال الشديد قلب كل كيانه، فلما عاد إلى خيمته اعتراه قيء مستمر كله دم، وما لبث الأمير قليلا إلا ورأى ملاك الموت قادما نحوه بمنجله المهلك، فقال: «لقد قضي الأمر، وبات القطر المصري من نصيب محمد علي، لا ينازعه فيه منازع!»
Página desconocida