أذكر رجلا ذا نفس شريفة وميل إلى الخير، يعتقد بمقدرته كل الاعتقاد، خطر له أن يرد إلى الطريق القويمة غاوية
8
قد توغلت في شرور السقوط، فأخذها إلى بيته وعاملها كأخت له، كان يحترمها ويكرس لها كل أوقات فراغه، ويثق بها كل الوثوق، فتغيرت الفتاة في بادئ الأمر، وافتخر الرجل بذلك التغيير الذي طرأ عليها، وصارت تلك التي كانت بالأمس غاوية، من أعف الفتيات، ملأ قلبها شكر من أحسن إليها، أمينة خجولة، فعزم منقذها على أن يتزوجها، ولكنه عاد إلى منزله في أحد الأيام فوجد الفتاة قد هربت وتركت له ورقة مكتوبا عليها: أشكرك جدا، ولكني ضجرت منك!
وكان ذلك مسببا من أنه لم يدرك نفسها في كل تلك المدة التي كان عائشا فيها معها، ولم يفهم أنه من الواجب عليه أن يعوض عليها ما انتزعه من حياتها بأشياء تقوم مقامها سوى اللطف والمؤانسة.
شكوى القبور
مر ملاك في المقبرة الساكنة، وكان حزينا حزن من يرى الموت قريبا، وكان على الأرض ليل وربيع، وأريج أشجار الأزدرخت يتدفق منتشرا فوق المقبرة.
فبكت القبور، وتألمت نفس المسجونين فيها؛ لأنها لم تكن مستريحة، بل كانت تحلم في نومها بآمال بعيدة.
فقال الملاك: ناموا، فإن القبور أولى لكم، ففيها سكون وراحة، لماذا تشكون؟ ألعل حياتكم كانت بلا مصائب ومتاعب؟ ألم تمر كلها كالخيال ؟ هو ذا كثير من الأحياء يتنهدون ويقولون: آه ما أحلى الموت! فناموا ولا تذكروا الماضي، ولا تأسفوا عليه.
فأجابت الأصوات من القبور باكية: على الأرض ربيع فلا نقدر أن ننام.
وقال واحد منها للملاك: لقد وصل إلي أرج الأزهار مخترقا الثرى، وأيقظني وأذكرني تلك التي كنت أحبها، فاسمح لي أن أنهض وأفتش عنها تحت ظل شجرة الياسمين التي كنا نجلس تحتها سعيدين، لعلي أرى شفتيها وعينيها التي كنت أقبلها سابقا.
Página desconocida