وكان بعض الملوك استدعى رجل ليستوزره، فقال له الرجل: أيها الملك إنه ليس لي في هذا سلف، فقال له الملك: إني أريد أن أجعلك سلفًا لغيرك، وأصاب هذا الملك، فإنه لو توقف كل بيت على بيت قبله لكان من التسلسل الباطل، فالله تعالى يخرج الحي من الميت ويحيي الأرض بعد موتها، ذلك تقدير العزيز العليم، فلم يزل الشرف يتجدد ويحدث بالعلم والولاية والجود وسائر الأوصاف.
وقد ارتفع الوضعاء بالشعر كما اتضع الرفعاء به، ولذا قال ﷺ: " إنَّ منَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ " وفي رواية: " لَحُكْمًا ".
فمن الأول: المُحَلَّقُ وهو عبد العزيز بن حنتم الكلابي، وكان رجلًا خاملًا مُقَّلًا من المال، فلما مر به الأعشى ذاهبًا إلى سوق عُكاظ قالت له أمه: إن أبا بصير رجل مجدود في شعره، وأنت رجل خامل مقل، ولك بنات، فلو سبقت إليه وأكرمته رجونا أن يكون لك منه خير، فبادر إليه وأنزله ونحر له وسقاه الخمر، فلما أخذت منه الخمر اشتكى له حاله وحال بناته، فقال له ستكفي أمرهن، فلما أصبح قصد إلى السوق فأنشد قصيدته التي أولها:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
إلى أن انتهى فيها إلى قوله في المُحلَّق:
نفى الذمَّ عن آل المُحلَّق جفنةٌ ... كجابية السيح العراقي تفهق
ترى القوم فيها شارعين وبينهم ... مع القوم ولدان مع الناس دردق
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلَّق
وضيعَيْ لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عَوْضُ لا نتفرق
ترى الجود يجري سائرًا فوق جمره ... كما زان متن الهندواني رونق
فما أتم القصيدة إلاّ والناس يسعون إلى المحَلَّق يهنونه، والأشراف يتسابقون إلى بناته، فما باتت واحدة منهن إلاّ في عصمة رجل أفضل من أبيها بكثير.
ومن ذلك بنو أنف الناقة، كانوا يتأذون بهذا الاسم ويكرهون ذكره، حتى تعرض بعضهم للحطيئة فأكرمه فمدحهم، وقلب الاسم مدحًا، وفي ذلك يقول:
سيري أمامُ فإن الأكثرين حصًا ... والأكرمين إذا ما ينسبونَ أبا
قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ... شاءوا العناج وشدوا فوقه الكَرَبا
أولئك الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فصاروا يفتخرون به ويتبجحون بذكره، فهذا كله شرف متجدد بسبب من الأسباب، وقد يزداد الشريف شرفًا بذلك كما وقع لهرم بن سنان المري فإنه كان من سادات قومه، ولكن أخوه خارجة بن سنان أسود منه وأشهر، فلما وقع لزهير من المدائح ما وقع في هرم ازداد شرفًا وشهرة حتى فاق أخاه في ذلك، بل لا يكاد اليوم أخوه يذكر، إلى غير هذا مما يكثر.
ومن الثاني بنو نمير، كانوا من جمرات العرب المستغنين بقوتهم وعددهم عن طلب حلف، وكانوا يفتخرون بهذا الاسم ويمدون به أصواتهم إذا سئلوا، إلى أن هجا جرير عبيد بن حصين الراعي منهم بقصيدته التي يقول فيها مخاطبًا له:
فغضَّ الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
ولو وضعت شيوخ بني نمير ... على الميزان ما عدلت ذبابا
فسقطوا ولم يرفعوا بعد ذلك رأسًا، حتى كانوا لا يتسمون بهذا الاسم، فإذا قيل للواحد منهم من أنت؟ قال: عامريّ.
ومن أظرف ما وقع في ذلك أن امرأة مرت بقوم منهم فجعلوا ينظرون إليها ويتواصفونها، فالتفتت إليهم وقالت: قبحكم الله بني نمير، ما امتثلتم أمر الله إذ يقول:) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا منْ أبْصَارِهِمْ (ولا قول جرير إذ يقول:
فغضَّ الطرف إنك من نمير
ومن ذلك بنو العجلان، كانوا يتفاخرون بهذا الاسم لأن جدهم إنما قيل له العجلان لتعجيله القرى للضيفان حتى هجاهم النجاشي فقلب الاسم ذمًا، وفي ذلك يقول:
قُبَيِّلَة لا يخفرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حَبّة خردل
ولا يردون الماء إلاّ عشية ... إذا صدر الوُرَّاد عن كلِّ منهل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
وما سمي العجلانَ إلاّ لقولهم ... خذ القَعْبَ واحلب أيها العبد واعجل
1 / 16