مفاوضاتي سنة 1946
في منتصف فبراير سنة 1946 دعيت لتولي الوزارة بعد أن استقال منها دولة محمود فهمي النقراشي باشا، وقد ترددت كثيرا قبل القبول؛ لتقدم سني من جهة؛ ولأن النظام الحزبي - وهو وليد النظام البرلماني - كان في رأيي مما يصرف أداة الحكم عن كليات الأمور إلى جزئياتها، وذلك بسبب اشتغال الأحزاب بما يهم كيانها قبل اشتغالها بمصلحة المجموع ... على أن حبي لبلدي دفعني آخر الأمر إلى القبول لاعتبارين: أولهما أنني كنت أتوق إلى المساهمة في محاربة الأعداء الثلاثة التي حالت دون تقدم بلادنا العزيزة، وقضت على نشاط الطبقات الفقيرة، وبالأخص في أوساط الريف ... وأقصد: الجهل، والفقر، والمرض، والثاني أن همي أن أرى بلادي قد استفادت من نتائج الحرب - وقد ساهمنا في كسبها بشتى الجهود - فنصل إلى تحقيق أهدافنا القومية بمفاوضة الدولة المحتلة فيما هو معلق بيننا من شئون.
وقد كان المتتبعون لمناقشاتي لخطاب العرش في مجلس النواب أثناء كنت عضوا به، يرون أن أهم غرض لي منها هو دعوة الحكومة إلى العمل لحل المسألة المصرية، إذ كان هذا أوانها لتحقيق أهداف البلاد في الجلاء، ووحدة وادي النيل ... وتذكرون أني لما كنت في حيفا مستشفيا، وحلت الوزارة الاشتراكية في إنجلترا محل وزارة المحافظين بعثت ببرقية طويلة لرئيس مجلس النواب (أظنها لم تعرض على المجلس، وقد نشرت في الصحف) نبهت فيها إلى الفرصة السانحة بحلول قوم مشهود لهم بحب الحرية، بدل قوم ربوا على حب الاستعمار للبدء في حل القضية المصرية ...
لما تقدم من الاعتبارات كان قبولي للحكم فرصة للوصول إلى أغراض طالما نشدتها، وهي تحقيق أهداف البلاد السياسية، والعمل لتحسين حال الطبقات الفقيرة، موطنا النفس على أن أتركه في اليوم الذي أشعر فيه بأن مهمتي قد صادفها النجاح - فليس من داع إذ ذاك لبقائي - أو منيت بالخذلان، فأصبح من حق البلاد أن يعمل لها من هو أكثر استعدادا مني ... ومن أجل ذلك، ومع المحافظة على التقاليد، طلبت المعاونة من غير رجال الأحزاب من أنست فيهم القدرة على الإنتاج، وقد قاموا برسالتهم خير قيام.
والآن أشعر بأني لم أقصر في أداء الرسالة ... أما من ناحية الإصلاح الاجتماعي، فقد وضعت الوزارة التي ألفتها أسسه ولم يبق إلا البناء، وأما من ناحية تحقيق الأهداف القومية، فنظرة منصفة إلى «المشروع» الذي أمضى مني ومن وزير خارجية إنجلترا، تدل على أن مصر كانت قاب قوسين من مطالبها، وسيتبين ذلك مما يأتي من فصول وتفاصيل.
محادثات تمهيدية
ألفت وزارتي في 16 فبراير سنة 1946، ووضعت في رأس مهمتها السعي لتحقيق الأهداف الوطنية، وأشرت في الكتاب الذي رفعته لجلالة الملك، إلى تأليف الوفد المصري الذي يقوم بمفاوضة بريطانيا العظمى مفاوضة حرة طليقة من كل قيد، تحقيقا لإرادة الأمة التي أعلنتها إعلانا.
وقد تألف هذا الوفد في 8 مارس، أي: بعد تأليف الوزارة بثمانية عشر يوما، برياستي وعضوية حضرات: محمد شريف صبري باشا، وعلي ماهر باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، وحسين سري باشا، ومحمود فهمي النقراشي باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، وعلي الشمسي باشا، ومكرم عبيد باشا، وحافظ عفيفي باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا.
وانفردت في أول الأمر بمحادثة السفير البريطاني في منزلي تارة، أو في منزل أحد الأصدقاء لكلينا، أو في السفارة البريطانية أو في رياسة مجلس الوزراء؛ لأن المحادثات كانت تمهيدية للمفاوضات، وكان من شأنها إعداد العدة، وتقريب مسافة الخلف على المبادئ الرئيسية ... والسفير البريطاني سير رونالد كامبل، صديق قديم، يرجع عهدي به إلى وقت اشتغاله وزيرا بدار المندوب السامي حين كنت رئيسا للوزارة في الفترة بين سنة 1930 و1933، فقد تحدثنا كصديقين في اجتماعاتنا الخاصة، ولم يكن وفد المفاوضات البريطاني قد تألف بعد ...
ومضت ثلاثة أسابيع، ولم تؤلف بريطانيا وفدها للمفاوضات المصرية، وقلق الرأي العام من جراء هذا الانتظار، فلما كان يوم السبت 30 مارس سنة 1946 حضر السفير البريطاني لرياسة مجلس الوزراء في زيارة رسمية، فانتهزت هذه الفرصة، وسألته: «متى تبدأ رسميا في مفاوضاتنا؟»
Página desconocida