ولم يبق إلا أن أرجو سعادتكم أن تعربوا للحكومة البريطانية عما تراه الحكومة المصرية في عبارة التبليغ، التي تشير إلى مسئولية غيرها، فإنها وإن كانت لم يهمها طبعا إلا الحرص على المحافظة على أرواح الأجانب وأموالهم قد تحمل على أنها غض من سلطان الحكومة القائمة، وتشكيك في انفرادها بالمسئولية، وهي وحدها التي تسأل عن حالة البلاد، وتخاطب في هذا الشأن، فيجر ذلك إلى غير ما قصد إليه من تلك الإشارة مما قد يعيق من قوة التدابير التي تقضي بها إعادة النظام.
وقد كان لهذا الرد شأن كبير جدا في إنجلترا، بل في العالم كله حتى قالت الصحف الإنجليزية: إن الحكومة البريطانية قد لطمت لطمة تحس بصداها الولايات البريطانية من لندن لغاية هونج كونغ، وقد أمرت إذ ذاك بعودة البوارج التي كانت أرسلتها للتهديد من وسط الطريق ... ولكن تأثيرها في مصر - بالأسف - كان أن المعارضة اتهمت هذا الرد القوي بأنه لا يمكن إلا أن يكون متفقا عليه مع الإنجليز، وكانوا منذ سنوات قليلة قد قالوا عن تصريح 28 فبراير إنه تسميم للآبار.
دستور سنة 1930
لما نقل إلى المرحوم زكي الإبراشي باشا رغبة المغفور له جلالة الملك فؤاد في اختياري لتأليف الوزارة سنة 1930، رجوته أن يبلغ جلالته أنه إذا تم ذلك، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية والدستورية تنظيما جديدا يتفق ورأيي في الدستور، واستقرار الحكم والقضاء على الفوضى، والسعي الجدي للإصلاح القومي ... وقد وافق جلالة الملك فؤاد على هذه السياسة، بل إنه كان راغبا فيها بعد ما مرت تجارب سبع سنوات كاملة، دون أن تتقدم البلاد خطوة إلى الأمام، بل لعلها تأخرت إلى الخلف ...
ولذلك ما كدت أنتهي من تأليف الوزارة حتى أخذت أفكر فيما يجب أن يعمل لعلاج الحالة الحاضرة، ولم أرغب في القيام بإجراء غير دستوري - على نحو ما فعل صديقي المرحوم محمد محمود باشا من وقف الدستور، وتأجيل البرلمان ثلاث سنوات قابلة للتجديد - بل رأيت أن أسلك طريق التعديل، الذي رسمه دستور سنة 1923، حتى لا أحرم البلاد من الحياة الدستورية.
لماذا أبدلت دستورا بدستور؟
ولعل مما يهم الجيل الحاضر أن أبين له لماذا نقحت دستور سنة 1923، أو بعبارة أخرى لماذا استبدلت به دستورا جديدا؟
وضع الدستور المصري سنة 1923 منقطع الصلة بالماضي، فإنه على وجه العموم، وفيما عدا ما أحتفظ به من الانتخاب بدرجتين، ليس بينه وبين نظام الجمعية التشريعية، أو ما سبقه من نظام مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية سبب أو نسب.
وضع هذا الدستور على نظام الدستور البلجيكي، مستعيرا من غيره من الدساتير الحديثة أحكاما مختلفة من هنا وهناك، فكان من ذلك كله مجموعة يصح بحق أن تعتبر صورة صادقة، لما بلغته الديموقراطية في أوروبا في العصر الحديث ... ويعلم المطلع على تاريخ الدساتير الأوروبية أن هذه الصورة الأخيرة لم يبلغها طفرة واحدة أي بلد من البلاد، التي نشأ وترعرع فيها النظام النيابي، وأن الدساتير وضعت في كل بلد وفق أحوالها المعاصرة لها، وأن التطورات الاقتصادية والاجتماعية بعد أن تبلغ مداها يكون لها أثرها في تعديل تلك الدساتير، تعديلا يجيء تارة بطريق قلب الدستور وتغييره، وطورا بالطرق التي رسمها الدستور نفسه.
ومن يستقرئ أخبار وضع الدساتير لن تفوته ملاحظة، أن كثيرا من واضعي الدساتير الحديثة يعمدون إلى الانتفاع بخبرة الغير في الأمور الدستورية، دون مراعاة ما بين بلد وبلد من الفوارق في الخلق، والطباع والنظم الاجتماعية. ويظنون خطأ أن آخر الأوضاع خيرها إطلاقا، كما أن أحدث المخترعات أكملها، أو أن ما نجح في بلد لا بد ناجح في غيره من البلاد، ويرون أن النقل عن الغير أقل كلفة وأهون نصبا، إذ كان البحث والاستقراء فيما يناسب ويلابس حال كل بلد أمرا صعب المسلك طويل الشقة.
Página desconocida