ومع أن هذا القول كان له التأثير، غير أن التبرم من وجوده كان جليا ظاهرا. ولقد حاول هو الاتصال بالعشائر ولكن لم يستطع للحرس الذي أقيم عليه، خشية أن يدس له الترك بيننا من يعتدي عليه بقصد إفساد ذات البين. ولقد سلمت العشائر الجنوبية من الكثير مما لحق بعشائر الشمال، يوم أن أطلقت له الحرية في جيش الملك فيصل فأصبح - بما بذل من مال وما قال من أقوال - ملك العرب غير المتوج، وأنه صاحب الثورة، وأنه لولاه لما نال العرب أي شيء!
وفي الحق أنه كان المزهو بنفسه الغريب الطباع. ولقد دس إلي من يغريني بملك الحجاز، بحجة أن الوالد المرحوم عنود في فكره متمسك برأيه، فقلت لرسوله - وهو الآن حي يرزق - قل لصاحبك هذا: إن أبي سيدي وملكي وبعده الأخ الأكبر وبعده نجله، وسأكتفي أنا بلقبي إلى آخر أيامي، وأما هو فقد خدمني وخدم العرب أكبر خدمة بقوله إن والدك عنود متمسك برأيه، إذ يظهر أنهم يطلبون من لا رأي له من الناس كي يعمل لورنس ما يشاء.
وقد رأينا ما آلت إليه الشام. ففيه ما يدل على أن فكرة إزالة الناهض المرحوم والمنقذ المظلوم كانت قديمة، وأن المحاولة البريطانية في تمكين ابن سعود - الذي كانت بريطانيا متعهدة بألا تدعه ولا سواه من الأمراء العرب الذين لهم صلات بحكومة الهند أن يقفوا ضد الثورة العربية حتى تتم، وأنه لا ينبغي لصاحب الثورة أن يضمهم أو يلحقهم إلى الحركة العربية لأنهم تبع لحكومة الهند - غاية في الإتقان؛ فأعلنت بريطانيا حيادها عندما صال ابن سعود بوحوش الوهابية على الحجاز المقدس، وألزمت العراق وشرق الأردن بذلك الحياد إلزاما إكراهيا. فأما شرق الأردن فقد بذل كل ما في وسعه لنجدة أم القرى ومركز الثورة العربية ومهبط الوحي، وأما العراق فقد ضن بما عليه. وفي هذا الشيء اليسير من أعمال لورنس ضد البيت الهاشمي.
ولم يكن هذا الموضع من المذكرات محلا لذكر هذه النبذة، ولكن حيث كان لقدوم لورنس إلى العيص هذه البادرة، جعلنا هنا محلا للاستهلال بما نعرفه عنه.
ولقد وجهنا قوة للتخريب وطرد الأتراك من محطة أبي النعم وجداعة والوقر وهدية، وكان هو من جملة الذين ساروا مع القوة لوضع المتفجرات التخريبية، فعاد وهو غير شاكر ما رأى، وأخذ يذم القوة ويقول بأنه كان في الإمكان عمل الشيء المؤثر، ولكن استعجلوا الرجعة. وفي ذلك اليوم نسفت قاطرة وخرب قطار بأجمعه ودمر حوالي أحد عشر كيلو مترا من الخط الحديدي. إن هذا العمل لم يرق لورنس، لأن الأمر لم يسر كما كان يريد. ولقد سافر الشريف حيدر من المدينة إلى لبنان بعيد هذه الضربة بأسبوع، وقبل أن نظفر به، كما رتب وقلنا سابقا، أثناء نزهته ببئر عروة. أما لورنس فقد نفرت في جسده دمامل وخراجات أزعجته، فاستأذن وعاد. ولقد كنت معه مكرما لطيفا معترفا بثمين مساعداته غير راض عن تدخلاته فيما لا يعنيه.
بعض من عرفت من الإنكليز إذ ذاك
استمرت الحالة بعد ذلك، من الضغط على الخط الحديدي الحجازي بلا انقطاع، فشلت حركات النقل سنة 1916 و1917 وبدأت القيادة التركية تخرج المدنيين إلى الشام؛ وأول ما أخرجت الشريف حيدر بن جابر الذي عينه السلطان أميرا على مكة عند إعلان الثورة العربية. وكان مركز الأمير فيصل - كما مر - بالوجه، ومركز الحركة في موقع جيداء وما جاورها. وكانوا حاولوا من ناحيتهم أيضا الضغط على الخط الحديدي من العلا إلى حيث يستطيعون نحو الشام.
ثم لما انبعثت الحركة في الجيش الشرقي الذي أقوده، ألحقت بنا مفرزت تخريب فنية يقودها ضابط بريطاني برتبة ميجر - ثم رقي فصار كولونيلا - واسمه «دافنبورت» وهو رجل دمث خلوق لا يهمه سوى عمله؛ طويل بالنسبة للعرب لا للإنكليز، عريض المنكب أحمر اللون كستنائي الشعر أزرق العينين، وكان قد أسبل لحيته بسبب الحرب. وممن كان في معيته من الإنكليز الكابتن «غارلند» وهو من محبي العرب، مخلص شديد الإخلاص، وكان من الساعين للعمل مع المخلصين من العرب للعرب، وليس هو من الذين يسعون لإيجاد أحد ممن يسعى لمنفعته الذاتية فيخدم عن غش غير أمته، وقد ينسى أن من غش نفسه لا ينصح للآخرين. ثم كان من الرجال الإنكليز الذين عرفتهم بطيبة النفس والإخلاص الكابتن «غولدي» وهو رجل نحيف طويل معروق الوجه أخضر العينين بشوش هشوش. ثم عرفت أيضا من الإنكليز عام 1916 و1917 الكولونيل «نيوكمب» - وهو ما يزال حيا يرزق - وهو ممن يتظاهر بمحبة العرب في كل محل، ومن كثرة أحبابه ظل في عمله.
وممن عرفت منهم الميجر جويس أو الكولونيل جويس أو جويس بك، وهو من أخلص الناس للإنكليز والقضية العربية، وقد خدم أكثر من لورنس خدمة حقيقية قاسى فيها أنواع الشدائد، من حرارة مواسم الحجاز في الذهاب والإياب في العمل. هذا ما يمكنني أن أقوله عن أصدقائنا الإنكليز حين ذاك.
الخط الحديدي
Página desconocida