أما البحر فكان في هياج. وقد حصل ساعة خروجنا حادث غريب، وهو أنني صعدت إلى برج السفينة في مؤخرتها ومعي أخي زيد وعابدين بن الشريف دخيل الله العواجي، وهما بعد صغيران في الثامنة من عمريهما؛ وبينما نحن ننظر إلى البحر وجبال لبنان، وإذا بأحمد أفندي بن محمد أفندي مدير الحرم يقف خلفي وقد مد كلتا يديه وأخذ الغلامين من محزميهما رافعهما إلى السماء وهو يقول: يا سيدي عبد الله ماذا تصنع لو قذفت بهما إلى البحر؟ فبهت، وإذا به ينظر إلى صاري السفينة، ثم يترك الولدين ويتوجه إلى السلم الحبل يأخذه صعدا إلى الصاري ويقول: يا سيدي عبد الله أنا صاعد إلى سيدي عيسى بن مريم، انظره في منتهى السلم يدعوني ... فأشرت لأخي وزميله بأن يفرا، ففرا، وأمسكت برجليه وهو يقول: «اتركني» وينظر إلى فوق ويقول «يا سيدنا عيسى مره يتركني» ثم ينظر إلي ويقول «والله لئن لم تتركني لأهشمن أسنانك بما في رجلي»، وإذا بأحمد أفندي الياور وثلاثة بحارة يصلون إلى حيث نحن، فأمسكنا به وتجاذبناه كلنا، ووالله لم نأخذه حتى كاد يعيينا؛ ثم أخذوه وأنزلوه إلى أحد عنابر السفينة لئلا يؤذي أحدا أو يتأذى هو، وقد رآه الطبيب فقال إن مسا في عقله. فاستمرت سفينتنا بعد هذا الحادث، في بحر شديد الرياح والأمواج، فلم نصل بور سعيد إلا في الليلة الثانية بعد الصبح بثلاث ساعات، فرست ببور سعيد، وقدم إلى السفينة الشيخ عبد الله باناجه باشا، ومعه أخوه أحمد أفندي باناجه، ولكن لم يتمكن من الصعود إلى السفينة لمناسبة الحجر الصحي. ثم تبادل المرحوم البرقيات مع المرحوم الخديوي عباس، فتحركت السفينة من بور سعيد ليلا إلى السويس، ومنه رأسا إلى جدة.
وكان الوصول في أول أسبوع ذي القعدة سنة 1328 فرست السفينة، وبعد رسوها وإتمام المعاملات أقبلت السنابك الشراعية نحو السفينة، وفيها مئات الرجال من شرفاء وعظماء ومشايخ عربان، فكانوا يدخلون على المرحوم وكلهم دامع العين شوقا وسرورا. أما الشرفاء فمن آل محمد بن عون: محسن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عون، وأخو عبد الله، وجميل بن ناصر بن علي بن محمد، وإخوته عبد المعين وزامل. ثم كان يتقدم أشراف الطائف الشريف زيد بن فواز بن ناصر، وابنه عبد الله، وابن أخيه شرف، وبنوه حمود وشاكر وعلي. ثم كان هناك من الفعور الأشراف: حمزة بن عبد الله ومستور. وكان الشريف فتن بن محسن. وكان من أشراف تهامة: الشريف أحمد بن منصور، والشريف شرف بن عبد المحسن، ومحمد بن عبد المحسن، وناصر بن شكر، وسائر ذوي حسين. ثم شرفاء المضيق الحرث ومشايخ حرب وهذيل. ومن العلماء مفتي مكة المكرمة الشيخ عبد الله سراج يتقدم العلماء كلهم. ثم من لا أعرف من الناس. وإن أنس لا أنس ما كان يردح به مقدم بيشة، حيث قد نبأ بردحته عما حصل بعد «أطرد الخوان وأسلم، وباعد من شرد يا ملك مكة، ويا سلطان جميع العرب».
كانت الإقامة في جدة ثلاثة أيام، وكنا في الإحرام، حيث أهللنا من محاذاة الجحفة في البحر، فتحرك الركاب الأميري بعد صلاة العصر قاصدا (بحره) وكان الركب يمثل جلال القومية في روعة وهيبة، فلا تقع عينك إلا على عربي، فالركاب والخيل والأزياء والأدب عربي هاشمي. ولما اتسع المجال في الخبت خبت جدة، أخذ الفرسان يظهرون أنواع التمارين على خيولهم مثنى وجماعات، فسار الركب العظيم على تلك الحالة، إلى أن وصل إلى الرغامة، وهو أول حد الجبال من خبت تهامة، فنزل الوالد وصلى المغرب، وكان على جواد أشقر (كحيلان النواق)، فطلب حين أراد الركوب إحدى الركائب العمانيات - نسبة إلى عمان - فقدمت إليه ناقة كريمة من خيار عمانيات الحجاز تسمى (غروة)، ولما وضع ركبته على الرحال قال «تعود لجداتها ولو قرحت». ثم ركبت أنا أيضا ذلولا عمانية اسمها (الشرفاء)، فسار الموكب على بركة الله، وكان الشريف حمزة الفعر المعروف بالثرثرة إلى جنبي، فقال «أمسك العصا من هنا وضع الرسن هاهنا، تقدم إلى الأمام والو يمنى رجليك الغزال، ثم أسدل يسراك عليها واحثث الذلول بعرقوبك»، إلى غير هذا مما يرى أنه واجب عليه قوله ... ولما أكثر أحفظني وأغاظني، وبالطبع كنت لا أحسن ركوب المطايا، لسفري من الحجاز وأنا طفل وغيبتي الطويلة، فقلت له «ليتلطف الشريف فيعلمني الركوب متى تفرغنا لذلك، وإلا فالسير على الأقدام أحب إلي من أن تباريني بهذا الشكل» فلامه الناس وندمت على ما قلت، لأنه ربما كان حين ذاك فوق الخامسة والسبعين من عمره.
ما أحسن ذكرى تلك الليلة! كان يتقدم جلالته رتل من المشاة السودان الذين يسمون (البواردية )، تتقدمهم جنائب الخيل وهي ست تقاد ليطلب أيها شاء، يتقدمها خمس من نجائب الركاب تقاد أيضا وقوادها راكبون على مثلها، وعلى يمينه ويساره المشاعل يحملها الرجال توقد بالحطب ويقذف فيها اللبان، وأهازيج الحرس الراكب وحداؤه ... فكان موكبا شريفا تحفه الأشاوس من هاشم والنجباء من المنتمين لربيعة أو مضر. فبلغ الركب الميمون (بحره) في الساعة الخامسة من الليل الساعة الغروبية، فعدل إلى حيث المناخ المخصص، وبه المضارب الهاشمية في بطحاء كاللؤلؤ من وادي مر الظهران، فنزل وأمر بالعشاء وكان مهيأ لكافة من حوى الموكب ولمن جاء لاستقباله من مكة، ثم نادى المنادي بالركوب بعد العشاء فورا وكان ذلك أشد شيء علي، حيث أخذ مني التعب كل مأخذ، فقدمت لجلالته بغلة فارهة شهباء، وركب إلى جانبه الشريف زيد بن فواز أسن آل عون يومئذ، وركبت أنا ذلولي وخشيت تدخلات حمزة، ولكن سلمني الله منه، وقد أدركنا الصبح في (البازان) بعد أن اجتزنا الحديبية، ولعل هذا الاسم يعرفه كل عربي مسلم. فصلى الصبح هناك، ثم تريث حتى أسفر، فطلب إحدى ركائب الخيل فجيء له بجواد أشقر أسحم يقال له (عبد الرحمن) نسبة إلى مهديه عبد الرحمن باشا اليوسف أمير الحج الشامي، وكان من أحسن جياد الشام، فأخذ يتهادى تحته ويصول كأنه قد عرف من عليه. ولقد ذكرتني حالته قول الحادي الذي حدا بالإمام علي زين العابدين، بعد أن حدا هشام بن عبد الملك حيث قال:
يا أيها البكر الذي أراكا
هلا عرفت اليوم من علاكا
أن عليا قد علا ذراكا
وهكذا يمسك الآخر الأول، ذرية بعضها من بعض.
سرنا وإذا بجبال مكة، ثور وخندمة وحراء ثم أبي قبيس وقعيقعان، ثم بلغ الموكب الهجلة، وهناك ضربت خيام الاستقبال، وكان فيها كل من بمكة وكل من بالطائف ومن لحق من أهل المدينة، يتقدمهم الشريف ناصر بن علي شقيق جلالته، ووكيل أمير مكة ووالي الحجاز وقائدها المشير كاظم باشا، وهيئة الولاية وقاضي مكة، ومن العلماء الشيخ بابصيل والسيد عبد القادر الشيبي وأبناؤه الشيخ حسن والشيخ عبد الله وآخر نسيت اسمه، وكبراء عشائر عتيبة يتقدمهم جابر بن هليل الذؤيبي السعدي نسبة إلى حليمة بنت أبي ذؤيب ظئر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو رئيس عشيرة الثبتة، ورؤساء عشائر حرب يتقدمهم ابن عسم، وعشائر هذيل. كل عشيرة عليها رئيسها ومقدمها.
Página desconocida