Memorias de una niña llamada Suad
مذكرات طفلة اسمها سعاد
Géneros
وارتعدت مفاصل سعاد وهي تستمع لأبيها، وقد تخيلت الابن الصغير صاعدا إلى جوار أبيه نحو الجبل يتحسس عنقه في رعب، ولا يعرف لماذا يذبحه أبوه وهو لم يخطئ ولم يقترف ذنبا يغضب الله منه، وتساءلت سعاد بصوت مرتجف: ولماذا يعاقب الله إسحاق بالذبح وهو لم يفعل أي ذنب؟ وقال أبوها: إن الله لم يكن يعاقب إسحاق، ولكنه كان يمتحن أبوه إبراهيم بهذا الأمر الصعب ليرى هل سيطيع أمر الله أم لا، وقد نجح سيدنا إبراهيم في الامتحان وأطاع أمر الله، ووضع السكين فوق عنق ابنه ليذبحه ... (وأسرعت دقات قلب سعاد، وتعاقبت أنفاسها وهي تتحسس عنقها بأصابع مرتجفة) ... وفي اللحظة الأخيرة وقبل أن تقطع السكين عنق الابن، وقد تأكد الله من طاعة إبراهيم له، أنزل الله من السماء خروفا ليذبحه إبراهيم بدلا من ابنه مكافأة له على طاعة الله، فالطاعة يا ابنتي هي أعظم الفضائل.
كانت سعاد لا تزال ترتعد، وعقلها لا زال مشغولا بالابن الصغير الذي أسلم عنقه للذبح، والذي كان لا بد قد مات من الذعر حين اقتربت السكين من عنقه، لكن أحدا لم يكن يفكر في حالة الابن النفسية، حتى الله نفسه لم يكن يهتم إلا بامتحان طاعة الأب على حساب الابن، ولم يتردد الأب في إظهار هذه الطاعة ونجح في الامتحان، أما الابن فماذا حدث له إثر هذه التجربة المخيفة؟ وإذا تردد الأب وسقط في الامتحان، فهل يذبح الابن لأن أباه غير مطيع لله، وكيف يرضى الله أن يعاقب الابن بسبب ذنب أبيه، وهل هذا عدل؟
أنفاسها كانت تلهث وشفتاها تنفرجان على وشك أن تسأل أباها، لكنها لم تسأل، فقد عودها أبوها منذ سنين كثيرة ألا تسأل وألا تفكر كثيرا في حكم الله، وكانت تحاول أن تنهي عقلها عن التفكير، لكن عقلها كان يفكر رغم إرادتها، وقلبها أيضا يدق بسرعة رغم إرادتها، ونوع من الرعب يزحف فوق جسدها وعنقها، وعيناها تختلسان النظر إلى أبيها، تحاول أن تختبر بعينيها ملامح أبيها، وهل يمكن لأبيها أن يذبحها لو أمره الله بذلك؟ ولماذا يأمر الله الآباء بمثل هذه الأوامر المفزعة للأبناء، ولماذا لا يفكر الله في مشاعر الأبناء ولا يفكر إلا في الآباء فقط؟
أسئلة كثيرة قديمة منذ الطفولة لم تعد تسألها لنفسها، فقد أدركت أن الأسئلة حرام ومثل هذا التفكير نوع من الكفر بالله، وعدالة الله، فالله عادل سواء عدل أم ظلم أو بطش، والله رحيم سواء ذبح الأبناء أم لم يذبحهم.
وفي بيت جدها الواسع لم تعد مثل هذه الأفكار الطفولية تراودها، وعقلها أصبح مشغولا بالدروس الكثيرة، فالمدرسة الثانوية أصعب من الابتدائية، والكتب أكبر حجما، والامتحانات أصعب، وبمجرد أن تعود من المدرسة تجلس في حجرتها وتذاكر حتى يأتي الليل، والليل في بيت جدها الواسع الصامت مخيف، وروح جدها قد تظهر في أي ليلة على شكل عفريت، والعفريت مثل الجن يعرف ما لا يعرفه الإنسان، وقد يعرف عفريت جدها أنها لم تكن تحب جدها، فينقض عليها في إحدى الليالي لمجرد الانتقام.
من شدة الخوف كانت تجلس بالقرب من جدتها حيثما تكون في الصالة أو في حجرتها، وأحيانا تتبعها حتى دورة المياه وتنتظرها أمام الباب حتى تخرج، لم يكن منظر جدتها يطمئنها كثيرا، رأسها مغطى بالسواد، وجسمها مغطى بالسواد، ولا يظهر منها إلا وجه غريب الملامح، عينان رماديتان لا تعرف منهما هل هي تراها أم لا تراها، وشفتان منقبضتان لا تعرف منهما هل هي صامتة أم تتحدث أم تتنفس أم توقفت عن التنفس، وحين يدب الصمت في البيت ترهف أذنيها لسماع صوت أنفاسها، أو لمراقبة صدرها وهو يعلو ويهبط، تخشى أن يتوقف كل شيء فيها فجأة وتموت هي الأخرى كما مات جدها، وهي لا تريد منها أن تموت إلا بعد أن تتخرج من المدرسة الثانوية، فهي الوحيدة التي تسليها في هذا البيت، وهي لا تسليها بالكلام لأنها صامتة معظم الوقت، ولكن صوت أنفاسها يبدد خوفها من عفريت جدها، كما أنها لو ماتت هي الأخرى فسوف يصبح في البيت عفريتان اثنان بدلا من عفريت واحد. •••
في مكتبة المدرسة الثانوية عثرت على كتب كثيرة مليئة بقصص الحب، وكانت كلمة «الحب» تفزعها فتغلق الكتاب وتكف عن القراءة، وتتوضأ وتصلي وتطلب من الله أن يغفر ذنبها.
بعد الصلاة تشعر بنوع من الراحة، كأنما تقبل الله توبتها وغفر ذنبها وأعادها إلى ملكوته مع الصالحات والصالحين، إلا أنها تدخل إلى المكتبة مرة أخرى لتقرأ، وتشعر بلذة وهي تقرأ الكتب والقصص، لكن اللذة يصاحبها نوع من الذعر خوفا من عقاب الله والحرق في النار، وتسرع إلى الوضوء والصلاة والتوبة.
وتتكرر القراءة مع اللذة مع الفزع والألم يعقبها إحساس بالذنب أشد عنفا، وشعور بالمهانة والضعف والفساد، والخوف من عقاب الله، وصوت أبيها يأتيها وهي نائمة يقول لها بغضب: لا بد أن تطردي الشيطان من عقلك وروحك، وتغمض عينها تحاول النوم وتحاول أن تطرد الشيطان الذي يدفعها إلى قراءة الكتب خارج المنهج المقرر في المدرسة.
كانت الدروس التي يلقيها عليها المدرسون والمدرسات مملة كئيبة خالية من المعنى، مفككة لا يربطها شيء، ولا يمكن لها أن تفهم شيئا، وما عليها إلا أن تحفظ الدروس عن ظهر قلب كما تحفظ آيات القرآن.
Página desconocida