وأخيرا ارتفع في الفضاء زئير أصوات كثيرة في صفوف النظارة؛ إيذانا بوصول من كانوا طيلة الوقت في انتظاره، فاتجهت الأبصار جميعا نحو نقطة الابتداء، ولم تنقض بضع لحظات في لهفة شديدة وارتقاب بالغ، حتى شوهدت الأعلام خفاقة في الفضاء، والأسلحة وهاجة في ضياء الشمس، وجاء الجنود صفا صفا، يمشون إلى الساحة بانتظام، ثم وقفوا فاصطفوا، وتعالت كلمات الأمر من أفواه القواد، فارتفعت البنادق والأسلحة مؤدية وقفة السلام، وجاء القائد العام يمشي إلى جانبه الأميرالاي بولدر وعدد كبير من الضباط يتفقد العرض، وعزفت الموسيقات كلها عزفة واحدة، ووقفت الخيل على ساقين، وتراجعت إلى الخلف، وهزت أذيالها في كل مكان، ونبحت الكلاب، وارتفع الهتاف من أفواه الحاشدين، وانطلقت الكتائب في سير عام مبتعدة، فلم تجد العين تشهد على الجانبين وإلى نهاية مدى البصر، غير ظل مستطيل في أردية حمر وسراويل بيض، وهي مستقرة جامدة بلا حراك.
وكان المستر بكوك مشغولا طيلة الوقت بالتعثر والسقوط، وتخليص نفسه بأعجوبة من بين سيقان الخيل، فلم يستمتع بمشاهدة المنظر استمتاعا كافيا، حتى اتخذ الصورة التي وصفناها؛ فتمكن عندئذ من الوقوف مستويا على ساقيه، ولم يلبث سروره وابتهاجه أن جاوزا الحدود.
فأقبل على صاحبه المستر ونكل يقول: «هل يمكن أن يكون في الدنيا شيء أبدع من هذا، وأكثر متعة للنفس؟»
فأجاب هذا قائلا: «لا يمكن.»
وكان رجل قصير القامة، قد لبث ربع ساعة واقفا على قدميه يدوسهما بكل ثقله، وهو صابر لا يشكو.
وهاجت في صدر المستر سنودجراس وقدة الشاعرية، وكادت تبعث متأججة منه؛ فذهب يقول: «إنه حقا لمشهد رفيع باهر، أن تلم عينك بحماة وطنك البواسل، وهم مصطفون في ثيابهم البراقة أمام مواطنيهم الآمنين، مشرقو الوجوه، لا بوحشية الحرب بل بلطف الحضارة، ملتمعو الأعين، لا بنار الرغبة في النهب والسلب وحب الانتقام، بل بضياء الإنسانية وبريق الفهم والذكاء ...»
واندمج المستر بكوك بكل مشاعره في روح هذا المديح ومعانيه، ولكنه لم يستطع ترديد أصدائه، وتكرار ألفاظه بالذات.
وتلفت حوله وأنشأ يقول: «نحن الآن في موقف بديع.» فقد بدأ الناس يتفرقون من مواقفهم القريبة منهم، حتى كادوا يخلون لأنفسهم حيث وقفوا.
وانثنى المستر سنودجراس والمستر ونكل يرددان قول صاحبهما: «بديع!»
ووضع المستر بكوك منظاره فوق عينيه، وقال: «وما تراهم يفعلون الساعة؟»
Página desconocida