Mis Memorias 1889-1951
مذكراتي ١٨٨٩–١٩٥١
Géneros
ثم جاء دور «في أعقاب الثورة المصرية»، وقد أخرجت الجزء الأول من هذا الكتاب في يوليو سنة 1947، والثاني في نوفمبر سنة 1949، والثالث في أكتوبر سنة 1951. والأول يشتمل على تاريخ مصر القومي من أبريل سنة 1921؛ أي من نهاية الثورة إلى أغسطس سنة 1927 تاريخ وفاة الزعيم سعد زغلول، ويشتمل الثاني على تسلسل الحوادث من وفاة سعد إلى وفاة الملك فؤاد في أبريل سنة 1936، والثالث من ارتقاء جلالة الملك فاروق عرش مصر إلى سنة 1951.
لم أجد من العناء في استقراء حوادث هذه الحقبة من الزمن ما عانيته في الحلقات السابقة؛ لأن صورها ووقائعها ماثلة أمام عيني، عالقة بذهني، ولم أكن في حاجة إلى مراجع فيها؛ فإن أهم مرجع هو ما وعته ذاكرتي عنها، وكانت وثائقها حاضرة بين يدي؛ إذ كنت أجمعها في حينها. ولكن العناء الذي صادفته في هذا الكتاب كان عناء معنويا؛ فإن الكتابة فيه تمس أشخاصا تربطني ببعضهم صلات الود والصداقة وأكن لهم في نفسي شعور التقدير والرعاية، فكيف يمكنني أن أكتب عنهم غير ما يودون؟ لقد عبرت عن هذا الحرج في مقدمة الجزء الأول ثم الجزء الثاني من هذا الكتاب، وتساءلت: هل علي أن أضحي بهذه الاعتبارات عندما أكتب عن أشياء تمس أولئك الأشخاص؟ وقلت إن هذا ولا ريب هو واجب المؤرخ، ولكن في الدنيا شيء اسمه المجاملة ومراعاة الظروف. لقد تدبرت في هذا الحرج كثيرا، وانتهى بي البحث والتفكير إلى أنه لا يجوز لمن يتصدى لكتابة التاريخ أن يدخل عنصر المجاملة فيما يكتب، وكل ما يملك إذا أراد أن يجامل أن يدع «الفترة المحرجة» ويرجئ تأريخها إلى حين، ثم تساءلت: إلى أي أجل يرجئها؟ ولماذا يرجئها؟ وإذا كان في مقدوره أن يؤرخها كما أرخ المراحل التي سبقتها، ففيم إذن يتنحى عن تأريخها؟ لقد فكرت في هذا الأمر مليا، ولم أكتم عن نفسي دقة الموقف وما يلابسه من حرج، وانتهيت إلى أنه ليس من حقي أن أقف بالكتابة في تاريخنا القومي عند حد قديم أو حديث، وما دمت قد حملت نفسي مهمة وضع هذا التاريخ فعلي أن أؤدي الرسالة كاملة قدر ما وسعني الجهد، ووصفت المؤرخ بأنه يشبه في طبيعة رسالته أن يكون قاضيا يفصل في القضايا التاريخية التي يعرض لها وعليه أن يقتبس من القاضي روح العدل الذي يستلهمه في قضائه، فكما أن واجب القاضي ألا يجامل في الحق أحدا ولو كان أقرب الناس إليه، ولا يتحامل على أحد، ولو كان أبغضهم إلى نفسه، فعلى من يتصدى لكتابة التاريخ أن يتحرى الحق والإنصاف ويتجنب المجاملة والمحاباة في ما هو بسبيله، هذا ما اتجه إليه قصدي وانعقدت عليه نيتي، و«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.» (11) كيف قوبلت كتبي؟
إني أعترف بأن كتبي لم تقابل في السنين الأولى مقابلة حسنة، ولولا ما وهبني الله من الصبر والاحتمال لوقفت عند الجزء الأول أو الثاني، أو على الأكثر عند كتاب «عصر محمد علي» الذي كان في طبعته الأولى الجزء الثالث من تاريخ الحركة القومية.
فبالرغم من الجهود المضنية التي بذلتها في تأريخ الحركة القومية، وما شهد به أهل الذكر من أن هذه الكتب جمعت بين المنهج العلمي البحت والروح الوطنية، وبالرغم من حرصي الشديد على استقراء الحقائق التاريخية الثابتة مهما كلفني ذلك من عناء حتى صارت هذه المجموعة - والحمد لله - مرجعا معتمدا، بالرغم من كل ذلك فإن هذه الكتب لم تلق الإقبال، ولا أقول الرواج، الذي كنت أنتظره.
إن إقبال المثقفين في بلادنا على القراءة ضعيف جدا، هذه حقيقة يلزمنا أن نعترف بها، وهو أقل من إقبال المثقفين في البلاد الأخرى التي في مستواها الثقافي، بل إني أستطيع القول بأن سكان الجنوب من هذا الوادي - وأقصد إخواننا السودانيين - أكثر منا إقبالا على القراءة والمطالعة إذا تعلموا وأخذوا بنصيب ولو قليل من الثقافة. وقد حدثني غير واحد من الأصدقاء وغير الأصدقاء أن إقبال المثقفين وأنصاف المثقفين في السودان على قراءة كتبي أكثر منه في مصر، واهتمامهم باستيعاب محتوياتها أكثر من استيعاب إخوانهم في مصر، وهم - جزاهم الله خيرا - يتحدثون عن كتبي بأكثر مما يتحدث عنها سكان الشمال، وألمح من أحاديثهم أنهم قرءوها واستوعبوا ما تحتويه، بخلاف ما رأيت من المثقفين المصريين.
وأذكر على سبيل المثال أني سمعت من بعض مثقفينا أسئلة تثير الدهشة حقا، سألني بعضهم: هل أرخت شيئا بعد عصر محمد علي؟ مع أني كنت قد وصلت إلى ثورة سنة 1919، وسألني البعض الآخر: سمعت أنك قد وضعت كتابا في تاريخ مصر، فهل هو جزء واحد أم جزآن؟ مع أني كنت قد أخرجت اثني عشر جزءا منه، وفهمت من سؤاله أنه لم يقرأ جزءا واحدا منها، وكثيرا ما يسألونني من قبيل المجاملة: هل تباع كتبك؟ وأين؟ وما ثمنها؟ وهذا بالطبع سؤال من لم يقرأ شيئا منها أو من يريد أن يقرأها مجانا ...
وسألني بعضهم: هل أرخت عصر إسماعيل؟ وما اسم الكتاب الذي أرخته فيه وأين أجده؟ فأجبته على سؤاله، وبعد عام سألني نفس السؤال فأجبته بنفس الجواب، ثم دفعني حب الاستطلاع أن أسأله بدوري عن سبب اهتمامه بهذا الكتاب بالذات حتى يسألني عنه مرة في كل عام، فأجابني أنه يبحث عن تاريخ والده - أو جده لست أدري - في هذا الكتاب، فدهشت لهذا الجواب؛ إذ كنت أتوقع منه أنه يريد أن يطلع على تاريخ مصر في عصر إسماعيل لا أن يكون قصارى اهتمامه أن يعرف تاريخ والده، وجملة القول أني وجدت عدم اكتراث بالقراءة وتوسيع الأفق الذهني بين أغلبية المثقفين عندنا.
لست أدري ما هو السبب في ذلك كله، ولكن هذه مشاهدات وحقائق لا بد لي من الإفضاء بها لأنها حالة نفسية يحسن بنا أن نجد لها علاجا.
وقد كنت أسائل نفسي أمام الكساد الذي قوبلت به الحلقات الأولى من المجموعة واستمراره سنوات طويلة، كنت أتساءل: ألا تساوي هذه الكتب بعض القصص والروايات التي يقبل عليها الجمهور في بلادنا؟ أوليس التاريخ رواية واقعية مشوقة لمن يريد أن يعرف قصة بلاده ووطنه؟ ألا يستوجب حب هذا الوطن أن يعرف المواطنون قصته ومراحل حياته البعيدة والقريبة؟ إن من يحب إنسانا، سواء كان هذا الحب عائليا أو غراميا، يود أن يتعرف أخباره وأحواله وماضيه وحاضره، فهلا يستحق الوطن مثل هذا الشعور؟
أدع هذا جانبا، وأتحدث عما قوبلت به كتبي في السنوات الأولى من إخراجها.
Página desconocida