ومضى الشهر الأول والنجاح حليف «الليالي الملاح»، ولم نكن قد أنهينا من الرواية التالية غير الفصل الأول. وبعد أيام تبعه الثاني، وكانت بديعة أشبه بالسوط يلهب ظهورنا، ويستحثنا على الإسراع وبذل الهمة «للفراغ من دي المهمة»! فلما أبطأنا بعض الشيء لم تجد إلا أن ترميني بالكسل.
وقد كانت سامحها الله، أول من خلع علي لقب البطولة في هذه الرذيلة. وقد وجدت دعايتها من أذهان الناس مرتعا، فأصبحت في نظرهم جميعا شخصا كسولا، ولزمني هذا الوصف «بهتانا» إلى اليوم، كذكرى من ذكريات السيدة بديعة مصابني. وأقول بهتانا لأنني لا أرى مسوغا له، ولا أرضى أن أوصف به!
وأعددنا بقية الرواية الثانية «الشاطر حسن» وكان من أثر استعجال بديعة، أن أخرجنا الرواية قبل تهيئة الفصل الأخير منها، فظهر في اليوم الأول مفككا لا ضابط له، إلا أننا استطعنا بحمد الله أن نصلح ما أفسدت السرعة منه. فاحتلت الرواية مكانها من إعجاب الجمهور، وكانت كسابقتها من حيث النجاح والإقبال.
ويهمني أن أعترف هنا، بأن بديعة كانت تنتقل في كل يوم من نجاح إلى نجاح، حتى جاءت الرواية الثالثة «أيام العز»، وفيها ارتكز مجد بديعة على أساس ثابت، وأضحت العروس التي تنبأت بها، والمعدن الذي كشف الصقل جوهره، فبدا للعيان لامعا كشمس الضحى. كان هذا حال بديعة بعد الرواية الثالثة، فإذا كانت قد رمتنا بالكسل قبل أن تصل إلى هذه الدرجة من السمو، فماذا بربك تكون حالتنا في نظرها وهي تريد أن تظهر كل يوم في رواية جديدة؟
بديع مؤلف وزجال
وقد قلت فيما قبل إن الزميل بديع خيري كان إلى ما قبل ظهور رواية «الليالي الملاح» زجالا فحسب. إلا أنني حين اطلعت على أثره في تلك الرواية عرفت أنه مؤلف بغريزته، وأن أثوابه تخفي تحتها عبقريا لا ينقصه إلا أن يرفع عنه ستار الخجل الذي يكسوه، وإلا أن يحل من قيد التردد الذي يعروه. هذا ما تأكدت منه بعد درس روايته الأولى التي اشترك معه فيها أخي الصغير.
وتوالت الروايات التي اشترك معي في تأليفها بديع، وفي خلال تلك المدة كسبت في شخصه أكبر معين لي في عملي، إذ اتحدت أذواقنا، وائتلفت أرواحنا، وأصبح كل منا للآخر أخا روحيا أو تكملة لابد منها للثاني.
لقد قلت في مناسبات كثيرة إن بديعا الزجال كان آية من آيات النبوغ في فنه، وهاأنذا أؤكد أن تلك المكانة من الزجل لمست فيه أضعافها في التأليف، ورسم الحقائق والأخلاق المصرية الصميمة، والقدرة على إلباسها الثوب الحقيقي الخلاب في أسلوب يلذ للمرء أن يتابعه بشغف وانتباه.
أضحى بديع خيري إذن زجالا ومؤلفا في وقت واحد. وقد ساعدني ذلك على التفكير في إخراج الكوميدي المصري الصميم.
هذا ما أرى من واجبي أن أثبته للحقيقة والتاريخ قبل أن أواصل السير في سرد الوقائع التي بدأت بها.
Página desconocida