هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر ... وذكريات ... وصور، جمعتها أشتاتا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك ...
والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانا ... فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا.
كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل ... ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر.
وكثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى الله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال ... دون أن يراه أو يصل إليه!
ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل ... وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان - مهما كانت الظروف - أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه ... وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته.
وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام 1942، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: «خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي»!
ولعل «نجيب» هو الممثل الوحيد - بل رئيس الفرقة الوحيد - الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: «خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف». ولهذا السبب كان يهتم جدا بالبروفات، وكثيرا ما كان يقضي شهرا كاملا في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته.
ولم يكن الريحاني الفنان يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط - لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية - ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، والهمبرا بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا. •••
لقد كان فنانا أصيلا، مؤمنا بفنه ورسالته، وقد كوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه. ولكن أكبر مكافأة وأعزها بالنسبة للريحاني كانت من أمه التي حاربت فنه واحتقرته، فقد أثمرت جهوده زهوا وفخارا من الأم بعمل ابنها، لذلك لم يكن يمل من رواية القصة التالية، في فخر وإعزاز وسعادة: «كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل. وحدث أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمى، فأرهفت أذنها لسماع الحديث، وأصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. وما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي، وامتداح عملي، والإشادة بمجهودي ... أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة، التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة «المترو»، واتجهت إلى أولئك المتحدثين، وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل»! ... وخللي بالك من «الممثل» دي، وهي الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، قد أضحت موضع زهوها وفخارها! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله، فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها ويمتدحونه، فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد، أيام حياتي»!
ولقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة جومون الفرنسية عددا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم ياقوت، بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات!
Página desconocida