وأخيرا تونس
والآن نترك باخرة «الطاعون» ونحمد الله الذي نجى زملاءنا منها، فنقول إننا أخذنا باخرة أخرى من مرسيليا إلى تونس. ولا أطيل عليك القول، فأقول إننا وصلنا إلى ثغر «بيزرت» فاستقبلنا أهلها الأكرمون استقبال الفاتحين ورأينا الموسيقيين يدقون الطبول والزمور، وشاهدنا مندوبي الجمعيات الخيرية يحملون إلينا الأزهار، والشعراء ينثرون أمامنا القصائد من كل البحور، وخطب الترحيل تتلى علينا من هنا ومن هناك بشكل لم نر له مثيلا من قبل.
شاهدت كل ذلك فقلت: اللهم إني أسألك أن تجعل الخاتمة خيرا، وأن لا تسئنا يا ربي في عملنا، ولا تخيب رجاءنا يا أكرم الأكرمين.
وراحت السكرة ثم جاءت الفكرة. كان علي يوسف - وآخ من علي يوسف - كان قد استأجر مسرح البلدية في تونس لمدة اثنتي عشرة ليلة، وهي كل الليالي الخالية فيه إذ ذاك، لأنه استأجر لفرق أخرى بعد ذلك. ولكن الطاعون قاتله الله، وتأخير الباخرة أكل علينا أربعا من هذه الليالي، لأننا وصلنا متأخرين أربعة أيام عن الموعد الذي قدره علي يوسف.
آدي دقة، أما الأخرى فهي أن الأستاذ أبا علوه ... كان قد استدان قبل وصولنا مبلغ ألف ومائتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، وقبل أن نبدأ العمل بوغتنا بحضرات السادة الدائنين وقد شرفوا قبل وصول أي زبون، شرفوا لا للفرجة كغيرهم لا سمح الله، بل للحجز على إيراد الشباك سدادا لديونهم المستحقة بس! ... والله عال ... يعني جايين من مصر مخصوص، وشايفين الويل وويل الويل في البر والبحر وفي الطاعون وأثينا علشان تسدد الديون. وإن شالله ما حد أكل ولا شرب.
زاد الطين بلة
كانت الرحلة منصبة على اثنتي عشرة حفلة كما سبق القول، ولكنها رست على ثمان (كما سبق القول برضه)، ومع ذلك فإن الطين رأى أن يزداد بلة أخرى، وكأن هذا كله لم يكف! هذه البلة هي أن سي على رأي أن يتبرع للجمعيات الخيرية في تونس بإيراد أربع حفلات مجانا لوجه الله.
وهنا جلس مديرنا المالي (الخواجة جياكومو) على قرافيصه يندب حظنا اللي ما فيش منه. وإني لأذكر جملة مأثورة خرجت من فمه فأضحكتنا جميعا (وشر المصائب ما يضحك) جلس جياكومو يذكر صديقيه اللذين ورطاه هذه الورطة فقال: «يعني صالح وموريس بعتوا تلغراف لعلي يوسف قالوا له فيه وجدنا بغل نركبه سوا»!
ذلك هو الوصف الذي ارتضاه مديرنا المالي لنفسه، فجزاه الله عن المروءة كل خير!
كان موقفي في منتهى الحرج مع فرقة مؤلفة من أربعين شخصا بينهم ست ممثلات وراقصات ممتازات، وليس معنا ما نقتات به. فكنت أعمل جاهدا لإدخال أكبر كمية من الصبر على قلوبهم، بينما كان (الخيبة الثقيلة) الأخ علي يوسف يزوغ مني هنا وهناك ولا حياة لمن تنادي.
Página desconocida