ولما كنت أعلم أن الشيخ إبراهيم معلمي يتمنى الوصول إلى وظيفة شيخ جامع بلدته بمركز مغاغة، وأن يكون عنده «ركوبة حصاوي»، فقد أخبرت والدتي بذلك لتحقق أمنيته مكافأة له على تعليمي، ولما جاء في اليوم التالي يودعني، فرحت كثيرا لسروره العظيم عندما أعطته والدتي «ثمن الركوبة» وخطابا لعلي بك شعراوي الذي كان وصيا علينا وناظرا على أوقاف والدي لكي يتوسط في تعيينه شيخا لجامع بلدته، وقد عين فعلا.
ختمت القرآن، فظن من حولي أنني ملكت ناصية اللغة العربية والديانة. ولكني في الحقيقة لم أكن أستطيع قراءة شيء غير القرآن؛ لأنه مشكل، ولا أعرف من علوم الديانة إلا كيفية الوضوء والصلاة والصوم ومع ذلك فقد ساعدني على فك الخط والكتابة دراسة اللغة التركية التي تلقيتها على أيدي معلمين أكفاء مثل أنور أفندي وحسن أفندي الخطاط المشهور وحافظ أفندي ... وكان الأخير رصينا في الإلقاء ومجيدا في ترتيل الشعر التركي والفارسي، وقد نهجوا في تعليمي للغة التركية الطريقة الصحيحة، فتعلمت قواعدها والخط الرقعة والنسخ، وقد أفادني ذلك بالنسبة للغة العربية نظرا لتماثل حروف اللغتين.
وكنت أشتري من أمام الباب خلسة الكتب العربية من الباعة المتجولين، وكان ذلك محظورا علينا، ولم أكن أميز ما أشتريه، ولكن الكتاب الذي كان يسهل علي فهمه، كنت أفرح به وأقرظه وأقول إنه كتاب جيد، أما الكتاب الذي كنت لا أفهمه، فقد كنت أحكم عليه بأنه كتاب رديء وأهمله في دولاب صغير عندي.
وكنت بفطرتي أميل للشعر، ولذلك كنت أشتري كل كتاب فيه أشعار، وقد زادني ميلا إلى الشعر في طفولتي السيدة خديجة المغربية الشاعرة التي كانت تتردد علينا كثيرا، وتقضي عندنا أياما عديدة في غرفة تخصص لها طوال إقامتها، وكنت أذهب إلى غرفتها كل صباح، فأجدها تحت «الناموسية» في فراشها تكتب في أوراقها.
وإذا سألتها ماذا تكتبين؟ أجابتني إنها تكتب شعرا، فأطلب منها روايته فتروي لي ما نظمته، وقد بلغ من تعلقي بالشعر وحبي له في ذلك الوقت أن طلبت منها أن تعلمني نظم الشعر، فقالت لي: إنه يحتاج إلى الإلمام بعلوم كثيرة منها النحو والصرف والعروض، وقد كنت أجهل هذا تمام الجهل.
لقد كنت معجبة بتلك السيدة إعجابا شديدا؛ لأنها كانت تحضر مجالس الرجال، وتتباحث معهم في أمور أدبية واجتماعية بينما كنت أرى المرأة الجاهلة ترتعد فرائصها خوفا ويتصبب جبينها عرقا؛ إذا قضى الحال أن تحادث رجلا حتى ولو كان من وراء ستار، وقد أعطتني بذلك فكرة أن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتساوى بالرجل إن لم تفقه ... فازددت إعجابا بها، وتمنيت أن أكون مثلها رغم دمامتها.
ولم يعد يكفيني ما أشتريه من الكتب بين الحين والآخر، وإنما أصبحت في مطالعة كتب والدي، لعلمي أنه كان رحمه الله يحب الأدب والشعر، وكان دائما محوطا بالشعراء والأدباء، ولذلك كنت أتحين الفرص لأتمكن من فتح مكتبه بتجربة المفاتيح التي كانت تحت يدي، وكانت معي فتاتان في سني تربيتا معي، إحداهما شركسية والأخرى مصرية، فكنت أعهد إليهما بمراقبة الدهليز في الوقت الذي أحاول فيه فتح خزانة الكتب، وكانت موجودة في غرفة التدريس. وأخيرا تمكنت من فتحها. وكم تألمت لما فوجئت بمنظر الشيكولاته التي كان يحتفظ بها والدي لنا، وقد أذابتها السنون، فسالت على الأوراق وتركت بها أثرا، ولكن حب الاستطلاع تغلب على عاطفتي، ودفعني إلى مد يدي المرتجفة إلى تلك الكتب، فآخذ منها كتابين دون معرفة ما بهما، وكان أحدهما الجزء الثاني من «العقد الفريد»، والثاني «ديوان أبو النصر» أحد شعراء ذلك العصر، وما زالا عندي حتى الآن. وأذكر أن أول قصة قرأتها هي قصة «المملوك الشارد» تأليف جورجي زيدان، وقد حببت إلي قراءة القصص التاريخية.
أما اللغة الفرنسية، فقد بدأت أتعلمها وأنا في سن التاسعة بعد ما ختمت القرآن. وكانت معلمتي إيطالية الجنسية تحسن تعليم الموسيقى أكثر من تعليم الفرنسية. وبهذه المناسبة أذكر كيف بدأت دراسة البيانو في تلك السن.
أشار الطبيب الذي كان يعالج أخي أن يشتروا له مهرا صغيرا «سيسي» ليتعلم ركوب الخيل - وهو إذ ذاك في السابعة من عمره - لأن الركوب رياضة سامية تقوي الجسم وتنشط حركة الأمعاء وفي الوقت نفسه لا تتطلب مجهودا كبيرا، فطلبت أنا أيضا أن يشتروا لي مهرا لأركب مثله، وحاولوا إقناعي بأن ركوب الخيل لا يليق بالبنات، ولكني دحضت زعمهم هذا بحجة دامغة، فضربت لهم مثلا بجارتنا ابنة الضابط لمعي بك التي تركب الخيل وتقود عربتها الصغيرة بنفسها، ولما عجزت والدتي عن إقناعي، خيرتني بين الحصان والبيانو، وكانت تعرف ميلي الشديد للموسيقى فنجحت إذ فضلت البيانو على الحصان، قائلة في نفسي: أكسب البيانو وأتمتع بركوب حصان أخي كلما أردت ...
ويمكن هنا أن أروي ما أتذكره من برنامج حياتنا اليومية، فقد كنا ننتهي أنا وشقيقي وفتاتان تربيتا معي من تلقي الدروس في الظهر، وبعد تناول الغداء، كانوا يأخذون أخي إلى غرفة النوم للراحة. أما أنا فكنت أنزل إلى الحديقة لألعب على الأرجوحة أو أقوم بتجاربي في تسلق الأشجار والأسوار أو تنسيق حديقتي الصغيرة؛ إذ كان لكل منا قطعة صغيرة في وسط الحديقة يزرعها كيف يشاء. وأذكر أنني بينما كنت أشتغل بزراعة حديقتي، كان يساعدني أحيانا في تنظيمها وإرشادي إلى فن الزراعة بستاني يدعى «متى» وكذلك الساقي الذي كان يخدم والدي، وهو عبد حبشي اسمه «عنبر» كان كثير المزاح والضحك، وقد أوهمني يوما بأن الدراهم تزرع وتؤتي ثمرها فأبديت رغبتي في زراعتها، فصار يأخذ مني قروشا ويدفنها أمامي في الأرض، ثم يوصيني بألا أخبر بمكانها أحدا حتى لا تسرق، وقال: إنها إذا سرقت لا نجني من وراء زرعنا ثمرا، واستمر الحال هكذا مدة طويلة وكنت كلما سألته على انفراد: لماذا تأخر ظهور شجر الدراهم؟ أجاب إن هذه الأشجار ليست كغيرها في سرعة نباتها، ولذلك فإن الدراهم غالية ولا يملكها كل إنسان. فانتظرت ولما أعياني الانتظار ولم أجد الأرض قد أنبتت ذهبا ولا فضة، سألت «متى» البستاني قائلة: هل الأغنياء يجنون كثيرا من النقود من زراعتهم الواسعة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: لماذا إذن لم تثمر نقودي؟ فقصصت عليه القصة، فقهقه طويلا وقال لي: هل يعقل أن تزرع المعادن وتنبت؟ فكان ذلك درسا في إساءة الظن بالناس وعدم التسليم بما يقال بدون تحكيم عقلي أو الاسترشاد بمن حولي فيما لا أعرفه قبل القيام بمثل هذه المشروعات.
Página desconocida