فقال متضجرا: «الحب والجمال»، «دعونا يا عبيد الحياة من هذه الكلمات الجوفاء ذات الرنين، فما الأفراح واللذات والأحلام والشهوات سوى أشراك ذهبية لامعة تنصبها لنا الحياة لتقودنا بها عبيدا مسخرين إلى غاياتها البعيدة الغامضة».
فقلت: «وهل تدعونا أنت إلى التحرر من عبودية الحياة؟»
قال: «كلا! فأنا لا أدعو إلى هذا لأن الانطلاق من عبودية الحياة معناه الموت، بل الموت نفسه ليس إلا لونا آخر من ألوان هاته العبودية الخالدة، ولكنني أكبر من العبد الأسير أن لا يحسب القيد حلية فيستقبله مهللا شاديا محتفلا، بل يتلقاه وهو عالم أنه ليس إلا قيدا براقا وغلا مموها بالذهب ...»
فقلت له: «وما جدوى هذا؟ أليس هذا مما يجعل الحياة شديدة لا تطاق؟»
قال: «ما الجدوى وما الفائدة؟ تريدون لكل شيء فائدة، ولكنكم لا تسألون عن الفائدة من خلقكم في هذا الوجود ... ما الفائدة؟ حتى الحقائق تريدون لها قيمة ذهبية ...! تالله ما أسخفكم يا عبيد الحياة، الفائدة هي أننا عرفنا الحقيقة ولو كانت مرة، ولم نكن مخدوعين بشعوذة الحياة ...، ولكنكم تفرون من الحقيقة المرة مؤثرين عليها حلاوة الأوهام.»
ومر بنا صبي صغير يقتاد قردا وهو يعرضه على النظارة ليمثل أدوارا علمته إياها العادة والمران، فأشرت إليه في شيء من السخرية والجفاء والمرارة قائلا: «يا للشقاء والخيبة على مثل هؤلاء تشيد الأمم صروح الأمل؟». فتأفف قليلا، ثم قال ثائرا وهو ينفث الدخان من فمه: «السخرية! الجفاء! الكلام! ذلك ما علمتنا الأيام، أما الحقائق فهي تبكي وحدها في ظلام الأسى ... ثم رماني بنظرة عطف وقال: «لا تسخر يا صديقي! فإن كل واحد من أبناء الإنسان يجر من نفسه قردا أو قردة في مسالك الحياة الوعرة ...، فواحد من سخافاته وادعاءاته، وواحد من غروره وكبريائه، وواحد من دناءة الطبع وخساسة النفس، وواحد من إقفار الذمة وخراب الضمير، إلى كثير غير ذلك من أنواع القردة المعنوية التي يجرها الناس وهم لا يشعرون ...»
الأحد 12 جانفي 1930
ليس لدي ما أكتبه اليوم عن نهاري هذا. ولعل خيرا لي أن أذهب إلى فراشي وأنام، لأنسى في عالم الأحلام مشاهد هذا الوجود السخيف وآلام القلب المرة الموجعة.
ولكنني أدري أنني لا أنام إلا وبأجفاني خيالات الدموع وأشباح الأسى، سآوي إلى فراشي وستتجاذبني الأحلام المخيفة المزعجة والذكريات الأليمة الدامية، ذكريات الأمل الضائع والقلب الصديع، وسأرى أبي. آه نعم ! ذلك الأب الذي قد شق له الناس لحده، وسووا عليه التراب، وبقيت بعده في الحياة آلم وألذ، وأسر وأحزن. أجل سأراه كما قد رأيته في ليالي الكثيرة الخالية حينما ينطفئ السراج ويشمل الغرفة ظلام الدجى ... أراه وهو في حالة ساكنة هادئة، يحادثني في شؤون كثيرة بصوت هادي مطمئن، وأراه وقد اشتدت عليه وطأة الداء، وأصبح يعالج ألم الموت ونزاع الحياة، والطبيب يفحصه ويحقنه بأدوية كثيرة. ثم يخرج يائسا مخفيا يأسه عني أنا المسكين الصغير ...
وأراه وقد شمله الموت براحته، فأصبح ساكن الطائر، متزن النفس، تخاله في حلم النائم المطمئن، والنساء يبكين في قلب الليل ويملأن فجاج الأفق برنات النياحة، وأنا كالطائر الذبيح أكاد أجن من الحزن والنحيب، طورا أقف عند رأسه، وأخرى عند رجليه، وأخرى أجلس عن يمينه، وأخرى عن شماله، وبيميني هاته أجرعه من حين لآخر جرعا من الماء يكاد يمازجها دمعي المنهل، وتكاد تريقها هزات تسبيحي. ثم رأيته التفت إلي وأوقف مقلتيه، فحسبته يرنو إلي فاقتربت منه قائلا: أبي! أبي! ماذا تريد ...؟ ولكن آه يا قلبي لقد كانت تلك نظرة الموت، حسبتها نظرات الحياة تدعوني. ثم لوى عنقه وشخص ببصره وارتجفت شفتاه بالشهادة التي لم يفتر عن تردادها، ولفظ النفس الأخير.
Página desconocida