Memorias Geográficas en los Países Sirios
المذكرات الجغرافية في الأقطار السورية
Géneros
10
وهنا لا يجوز لنا أن نضرب الصفح عن أمر لم يكن في الحسبان، وهو تأثير غابات لبنان في أحوال أهلها وتدبير شئونهم، فإن هذه الأحراج هي التي أكسبت الفينيقيين نقابة البحر؛ لأن منها كانوا يستمدون الأخشاب اللازمة لتجهيز السفن، فصاروا بذلك في مقدمة الملاحين، يتولون التجارة البحرية مع البلاد البعيدة، لكن هذه المنافع أيضا قد حركت مطامع الشعوب المحيطة بهم للاستيلاء على بلادهم، فترى كيف الأهواء البشرية تتعرض لأحكامه تعالى، فتبلبل النظام الذي سنه لكل بلاد، وقد سبق أن سورية في رسم الخالق وضعت لتكون بلدا وسطا، يجمع في التحاب والألفة الشعوب المتنائية.
واعلم أن أقطار الشام لم تشعر فقط بثقل وطأة الأمم الشرقية، لكنها نالت أيضا من موقعها نعما عزتها عن هذه المساوئ، وخولتها منافع مشكورة ومننا سابغة، فإن وقوعها بجوار بلاد اليونان كان سببا لترقيها في الصنائع والفنون، ولتقدمها في ضروب العلوم، وكذلك استفادت من الرومان حسن سياستهم وتدبيرهم وصيانتهم للسلام، كما تعلمت من أمم القرون الوسطى أن تدافع عن المبادئ الدينية؛ إذ رأت ما للدين من القوة في طلب آثاره القديمة وصيانة معابده، التي لأجلها اهتزت شواعر ألوف من البشر فبرحوا المواطن حبا بها.
11
ليس التاريخ إلا صدى لاصطدام الأهواء البشرية، ولما ينجم عن التحامها من النكبات ومن الحروب ومن الخرائب، وعلى خلاف ذلك السلام والخير والفضيلة، فإنها لا يسمع لها جلبة، وبناء على هذا قد قال القائل: «طوبى للأمم التي ليس لها تاريخ.» وهذا لا يصح في سورية كما رأينا، وكان الأولى بها وبأهلها أن تبقى في عزلتها، دون أن تستلفت إليها نظر العالم، لكن الشعوب كما الأفراد لا يمكنها أن تؤثر لها خطة تجري عليها باختيارها، وتنسج على منوالها حياتها العمومية؛ لأن الشعوب في التفكير والله في التدبير. •••
اعلم أن الثروة والجمال موهبتان خطرتان، وأول غوائلهما أنهما يثيران الحسد على أصحابهما، قلنا إن الله سبحانه وتعالى إذ منح لسورية موقعا أثيرا جعلها كطريق عام يجمع بين ثلاث قارات العالم القديم، وذلك أن سورية محصورة بين البحر والبادية، ففيها وحدها طريق سهل يمكن سلوكه بين آسية وأفريقية، وقد أدرك الفينيقيون ذلك فجعلوها سوقا واسعة لتجارة الخافقين، ومعبرا متواصلا لقوافل الأمم، وأضحى مع ذلك أهل السواحل السورية رؤساء البحر، وفاقوا كل القدماء في خوض غمراته مدة قرون متعددة، فمخروا عبابه قبل اليونان بزمن طويل. ولما أراد البابليون وبنو إسرائيل أن ينشئوا لهم ملاحة ويعمروا السفن، لم يستطيعوا إتمام مرغوبهم إلا بأن يلتجئوا إلى الفينيقيين،
12
وسليمان الملك راسل في ذلك حيرام صاحب صور كما ذكر الكتاب الكريم؛ لأن الفينيقيين كانوا أوقفوا نفوسهم ليكونوا سعاة وعمالا بين الشعوب الساكنة على سواحل البحر المتوسط، ففتحوا في كل مرفأ مكتبا تجاريا لمعاملاتهم، وسبقت صور وصيداء غيرهما من المدن في الاستعمار؛ فإن أول مستعمرة يذكر التاريخ إنشاءها ينسبها لتينك المدينتين، وإليهما يعود الفضل في توسيع المعاملات التجارية وتعميمها بين الدول. فإن المتاجرات كانت قبل ذلك محصورة بين الشعوب المتجاورة، فتستبدل الواحدة ما يزيد على احتياجها مما ينقصها من محصولات جارتها؛ والتجارة على هذه الصورة ترتقي إلى أول العالم. أما الفينيقيون فإنهم أنشئوا التجارة الكبرى - أعني التجارة البحرية - فنالوا من الفخر ما لم يحصل عليه شعب آخر إلى القرن السادس عشر؛ إذ دخل فن الملاحة في طور جديد باكتشاف قارة أميركة.
13
وما يزيد فضلهم أنهم أول من نهج تلك المسالك، وكان المصريون من قبلهم كما البابليون والصينيون منزوين في أصقاعهم يتنعمون بهبات الطبيعة دون أن يفكروا في نشرها بين غيرهم.
Página desconocida