بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
ازدهرت حركة التصنيف في بلاد المغرب١ في أيام الحكم الإسلامي. واتجه المصنفون في كتاباتهم اتجاهات متنوعة، فمنهم من كتب في التراجم والسير، ومنهم من اختص بالتواريخ والأحداث السياسية وأخبار الممالك والإمارات والملوك. ومنهم من صنف في علوم الأدب والشعر والفلسفة، وغير ذلك.
والمعجب في تلخيص أخبار المغرب، واحد من تلك المصنفات النفيسة التي عنيت بأخبار البلاد المغربية وسِيَر ملوكها وأمرائها ودويلاتها، ألفه أبو محمد، عبد الواحد بن علي المراكشي، استجابةً لطلب أحد الأعيان الرؤساء، الذي سأله إملاء أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدوده وأقطاره، وشيء من سير ملوكه، وخصوصًا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن، من لدن ابتداء دولتهم، إلى حدود سنة ٦٢١هـ/ ١٢٢٥م، مع نبذة من سير الذين لقيهم أو روى عنهم من الشعراء، وأهل الفضل والرواية والأدب٢.
وقبل شروعه بتأليف الكتاب، اعتذر المراكشي لرئيسه عن أمور ثلاثة:
- أولها: ضعف عبارته، وغلبة العي على طباعه.
- وثانيها: عدم امتلاكه لكتاب في هذا الشأن يعتمد عليه، ويجعله مستندًا أو مرجعًا، على عادة المصنفين الذين سبقوه أو عاصروه.
- وثالثها: قلة محفوظاته وتشتتها بسبب ازدحام همومه، وكثره غمومه٣.
ويشتمل هذا الكتاب على فصول كثيرة، بدأها المؤلف بالحديث عن جزيرة الأندلس وحدودها ومدنها وقراها. ثم انتقل إلي أحداث فتحها، وسير ملوكها، ومن كان فيها من الفضلاء حتى نهاية حكم الأمويين. ثم توسع بذكر أخبار الأندلس بعد زوال الحكم الأموي، وأخبار من حكمها من متغلبين، ومرابطين، وموحدين.
ويمكننا تحديد منهج المؤلف في كتابه هذا بالنقاط الآتية:
_________
١- المراد بهذا الاسم -وفقًا لمفهوم المسلمين القدامي- بلاد المغرب العربي والأندلس.
٢- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، المراكشي:٣.
٣- المصدر نفسه:٤.
1 / 5
- تصديره الكتاب بمقدمة تشتمل على دوافع تأليفه، وموضوعاته، وتتضمن اعتذارًا صريحًا عن قصر باعه فيما طُلب إليه تصنيفه.
- تقسيمه الكتاب إلي فصول تفاوتت في أحجامها، فبينما كان بعضها يقصر فلا يتجاوز الصفحتين أو الثلاث الصفحات، اتسع بعضها الآخر ليتجاوز الخمسين صفحة.
- تحديده لسمات منهجه فى جمع الأخبار، وسماع الروايات، وتدوين المشاهدات؛ فبعد اعترافه بالعجز عن كمال التأليف في مقدمة الكتاب، يقول في ختام حديثه عن دولة المصامدة: هذا تلخيص التعريف بأخبار المصامدة،.... وإنما أوردنا من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، وتُجشِّم الضرورة من عُني بالأخبار إلى معرفته ... ولم أثبت في هذه الأوراق المحتوية على دولة المصامدة وغيرها إلا ما حققته نقلًا من كتاب، أو سماعًا من ثقة عدل، أو مشاهدةً بنفسي؛ هذا بعد أن تحريت الصدق، وتوخيت الإنصاف في ذلك كله١.
- ذكره المصادر التي استقى منها مواد كتابه، وفي طليعتها كتاب٢ ابن أبي نصر فتوح الحميدي٣، مؤلف كتاب: جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، ثم ما وسعه حفظه من أخبار وأشعار وروايات، وما شاهده وعاينه بنفسه من وقائع وأحداث.
- تضمينه الكتاب مجموعة ضخمة من الأشعار، إذ كان لا يكتفي بالبيت الواحد أو البيتين، وإنما كان يورد القصائد الطوال، التي تتجاوز القصيدة الواحدة منها الخمسين بيتًا. وكان يعلل ذلك بنفاسة القصيدة، وجودة معانيها، وحسن تمثيلها للمواقف والأحداث٤.
- اعتذاره عن عدم إيراد بعض القصائد كاملة، ورده ذلك إلى ضعف الذاكرة، وقلة الحفظ، في مثل قوله بعد أبيات للشاعر الرمادي٥ في مدح أبي علي القالي٦:
هذا ما بقي من حفظي منها٧.
_________
١- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٣٣٢-٣٣٣.
٢- يقول المراكشي: "وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت". "المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٦٩".
٣- هو أبو عبد الله، محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي، الأزدي، الميورقي: مؤرخ، محدث، من أهل ميورقة. توفي سنة ٤٨٨هـ/ ١٠٩٥م. "بغية الملتمس، الضبي: ١١٣".
٤- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٧٦، حيث أورد المراكشي قصيدة لعبد المجيد بن عبدون في مدح بني المظفر وأيامهم، بلغت خمسة وسبعين بيتًا.
٥- هو أبو عمر، يوسف بن هارون الرمادي الشاعر، المتوفى سنة ٤٠٣هـ/ ١٠١٢م.
٦- هو أبو علي، إسماعيل بن القاسم القالي، الأديب الشاعر، اللغوي، المتوفى سنة ٣٥٦هـ/ ٩٦٧م.
٧- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٢٥.
1 / 6
- حرصه بعد الحديث عن كبار الملوك أو الأمراء على ذكر وزرائهم، وحجابهم، وكتابهم، وقضاتهم، وأبنائهم، وشعرائهم، كالذي نجده في ختام ترجمته للأمير عبد المؤمن بن علي بن علوي الكومي١، وختام ترجمته للأمير أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن٢.
- تضمينه الكتاب بعض العبارات أو الجمل المعترضة التي كانت تجري على ألسنة الناس آنذاك، مثل: لعنه الله، بعد أسماء ملوك الأعاجم المناوئين للمسلمين في الأندلس، ورحمه الله، بعد أسماء أمراء المسلمين وقادتهم، وأعادها الله إلى المسلمين، بعد اسم كل مدينة غلب عليها الفرنجة أو احتلوها، وأسأل الله إبقاءه إلى أن تقوم الساعة، بعد أسماء المساجد المشهورة.
- إكثاره من إيراد عبارة: كما تقدم، أو كما ذكرنا، أو فلان المتقدم الذكر في صفحات كتابه. وسبب ذلك أنه كان يورد الخبر مجملًا في مكان من الكتاب، ثم يعود إلى ذكره مفصلًا في مكان آخر منه.
- بالرغم من ميل المؤلف إلى التلخيص والإيجاز، فإن الاستطراد والتطويل كانا يلاحقانه في غير موضع من الكتاب. مثال ذلك: أنه أورد رواية على لسان أبي محمد علي بن حزم٣، ثم استطرد فترجم له، وأورد مقتطفات من أشعاره، واعتذر عن ذلك بقوله: "وإنما أوردت هذه النبذة من أخبار هذا الرجل، وإن كانت قاطعة للنسق، مزيحة عن بعض الغرض؛ لأنه أشهر علماء الأندلس اليوم، وأكثرهم ذكرًا في مجالس الرؤساء وعلى ألسنة العلماء٤.
وكذلك فعل المراكشي عندما قال في نهاية حديثه عن أستاذه أبي جعفر الحميري: وقد امتد بنا عنان القول إلى ما لا حاجة لنا بأكثره؛ رغبةً في تنشيط الطالب، وإيثارًا للأحماض٥.
- إظهاره لتواضع علمي لا نجده عند الكثير من المصنفين الذين يملئون الأسماع ضجيجًا وادعاءً، بدا ذلك في قوله: مع أن أصغر خدم مولانا لم تجر عادته بالتصنيف، ولا حدث قط نفسه به، وإنما بعثته عليه الهمة الفخرية٦.
_________
١- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ١٩٨-٢٠٠.
٢- المصدر نفسه: ٢٦١-٢٦٤.
٣ هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المتوفى سنة ٤٥٦هـ/١٠٦٤م.
٤- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٤٥-٤٩.
٥- المصدر نفسه: ٣٠٤.
٦- المصدر نفسه: ٣٤٦.
1 / 7
- اعترافه بفضل سابقيه، من دون إغفاله لجهده الخاص، حين قال: وهذا آخر أخبار الحسنيين وما يتعلق بها، حسبما أورده أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، عليه عولت في أكثر ذلك، ومن كتابه نقلت، خلا مواضع تبينت غلطه فيها، أصلحتها جهد ما أقدر١.
ونظرًا لأهمية هذا الكتاب في إغناء المكتبة العربية بما اشتمل عليه من صور حية لحياة ملوك المغرب، وممالكهم، ومعاركهم، وإنجازاتهم العمرانية، واهتماماتهم الدينية والفكرية والأدبية والاجتماعية، وحرصًا منا على بعث التراث العربي الأندلسي، وإظهار مكنوناته النفيسة، نُخرج اليوم هذا الكتاب، ونقدمه للقراء بحُلَّة جديدة، وإضافات مهمة في الضبط والشرح والتوثيق والفهرسة، جَهِدنا أن تكون على مستوى طموحاتهم وحاجاتهم وأذواقهم.
ويقوم عملنا في هذا الكتاب وفقًا للخطة الآتية:
- تصدير الكتاب بمقدمة تشتمل على حياة المؤلف أبي محمد عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، وآثاره، ومنهجه في تأليف الكتاب.
- ضبط أسماء الأعلام والأماكن والبلدان وغيرها.
- ضبط الشواهد الشعرية، وشرحها، وتعيين بحورها.
- التعريف بالأعلام غير المترجم لهم في الكتاب ما أمكن، مع الإحالة إلى أهم المصادر التي ترجمت لهم.
- تزويد الأعلام المترجم لهم بعدد من الكتب التي ترجمت لهم ما أمكن.
- التأكد من سلامة النص من خلال تصحيح بعض الأخطاء الإملائية والمطبعية، أو إضافة ما سقط في بعض مواضع الكتاب من كلمات أو حروف.
- تزويد الكتاب بمجموعة من الفهارس الفنية التي تساعد القارئ، وتمكنه من الرجوع إلى مواد الكتاب بسهولة ويسر.
واللهَ ﷾ نسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يلهمنا السداد في الفكر والقول والعمل، إنه سميع مجيب، وبالإجابة جدير.
صلاح الدين الهواري
١ ربيع الثاني ١٤٢٦هـ
١٠ أيار ٢٠٠٥م
_________
١ المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٦٩.
1 / 8
ترجمة المؤلف
حياته وتنقلاته:
هو أبو محمد، عبد الواحد بن علي التميمي، المَرَّاكُشِيّ١، المالكي: مؤرخ، بحَّاثة، ولد بمَرَّاكُش في ربيع الآخر سنة ٥٨١هـ/١١٨٥م، في أول أيام أبي يوسف، يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي المُوَحِّدِيّ٢، المنصور، صاحب بلاد المغرب. ثم انتقل إلى مدينة فاس، وهو ابن تسعة أعوام، فقرأ فيها القرآن وجوده ورواه عن جماعة من الأفاضل المُبرّزين في علوم القرآن والحديث والنحو واللغة.
وحين تم للمراكشي ما رغب فيه من تحصيل بفاس، عاد إلى مراكش، وظل يتردد بعد ذلك بين المدينتين، ينهل ما يتاح له من علوم ومعارف وفنون.
ثم رغب في السفر إلى الأندلس، فعبر إليها في أوائل سنة ٦٠٣هـ/١٢٠٧م، وأدرك جماعة من علمائها وفضلائها، لكنه لم يحصل منهم -كما يقول- إلا معرفة أسمائهم ومواليدهم ووفياتهم وعلومهم٣.
ومن الذين لقيهم المراكشي، وتوثقت صلاته بهم من أدباء عصره: أبو بكر بن زُهْر٤، وأديب آخر هو أحد أنجال ابن الطفيل الفيلسوف الأندلسي المشهور.
وعندما نزل إِشْبيليَّة، قدمه صديق له يدعى محمد بن الفضل إلى واليها إبراهيم بن أبي يعقوب يوسف، أخي الخليفة الموحدي الناصر، فحظي عنده، وأصبح من أصحابه وجلاسه٥.
وعن رأفة هذا الأمير به، وتقريبه إياه، يقول المراكشي: كان لي ﵀ محبًّا، وبي حفيًّا؛ وصلت إليَّ منه أموال وخِلَع جمة غير مرة. وعن بدء علاقته به
_________
١- معجم المؤلفين، عمر كحالة: ٢١٠/٦، الأعلام، خير الدين الزركلي: ١٧٦/٤.
٢- توفي سنة ٥٩٥هـ/١١٩٩م. وستأتي ترجمته وافية في هذا الكتاب.
٣- المعجب في تلخيص أخبار المغرب، المراكشي: ٣٦٠.
٤- هو أبو بكر، محمد بن عبد الملك بن زهر الإيادي: من نوابغ الطب والأدب في الأندلس. ولد بإشبيلية، وتوفي سنة ٥٩٥هـ/١١٩٩م. "الأعلام، الزركلي: ٢٥٠/٦".
٥- تاريخ الفكر الأندلسي، آنخل بلانثيا: ٢٤٨.
1 / 9
وما تلاها من محبة وتلازم، يقول: لم أعرفه أيام وزارته، وإنما كانت معرفتي إياه حين ولوه إشبيلية سنة ٦٠٥هـ،.... ثم علت حالي عنده بعد ذلك، إلى أن يقول لي في أكثر الأوقات: والله، إني لأشتاقك إذا غبت عني أشد الشوق وأصدقه١.
ومن الذين أخلصوا له الود من أهل القضاء: أبو عمران، موسى بن عيسى بن عمران القاضي، وفيه يقول: وأبو عمران هذا صديق لي، لم أر صديقًا لم تغيره الولاية غيره. ولم يزل يعاملني بما كان يعاملني به قبل ذلك، لم ينقصني شيئًا من بره. ما لقيته قط في مركبه إلا سلم عليَّ مبتدئًا، وجدد لي برًّا٢.
وطمحت نفس المراكشي إلى مصر، فسافر إليها سنة ٦١٣هـ/١٢٢٧م، والتقى ببعض علمائها، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، فأدى فريضة الحج سنة ٦٢٠هـ/١٢٢٤م. ثم تجول بعد ذلك في بعض بلدان المشرق٣.
آثاره:
لم يذكر الذين ترجموا لأبي محمد غير كتاب واحد هو: المعجب في تلخيص أخبار المغرب، الذي ألفه استجابة لطلب واحد من أعيان عصره.
وقد فرغ المراكشي من تأليف هذا الكتاب سنة ٦٢٠هـ/١٢٢٤م. ونشره دوزي سنة ١٢٤٠هـ/١٨٤٧م، وأعاد طبعه سنة ١٢٩٨هـ/١٨٨١م، وترجمه فانيان إلى الفرنسية، ثم نشر الترجمة في الجزائر سنة ١٣١٠هـ/١٨٩٣م.
_________
١- المعجب في تلخيص أخبار المغرب: ٣٠٨-٣٠٩.
٢- المعجب نفسه: ٣١٣.
٣- معجم المؤلفين، كحالة: ٢١٠/٦؛ الأعلام، الزركلي: ١٧٦/٤.
1 / 10
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
الحمد لله مفني الأمم، وباعث الرِّمم١، وواهب الحكم، ذي البقاء والقِدَم٢، الذي لا مطمع في إدراكه لثواقب الأذهان٣ ونوافذ الهمم. أحمده على ما علم وألهم، وسوغ وأنعم. وصلى الله على كاشف الظلم، ورافع التهم، وموضح الطريق الأَمَم٤، المخصوص بجوامع الكَلِم٥، والمبتعث إلى جميع العرب والعجم، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والكرم، وسلم عليه وعليهم وشرف وعظم.
وبعد -أيها السيد الذي توالت علي نعمه، وأخذ بضَبْعي٦ من حَضِيضَي الفقر والخمول اعتناؤه وكرمه، وقضى إحسانه إليَّ ومحبته التي جُبلت٧ عليها بأن ألتزم من بره وطاعته ما أنا ملتزمه- فإنك سألتني -بوأك الله أعلى الرتب، كما عمر بك أندية الأدب، ومنحك من سعادتي الدنيا والآخرة أوفر القِسَم٨، كما جمع لك فضيلتي التدبير والقلم- إملاء أوراق تشتمل على بعض أخبار المغرب وهيئته وحدود أقطاره، وشيء من سير ملوكه، وخصوصًا ملوك المصامدة بني عبد المؤمن، من لَدُن ابتداء دولتهم إلى وقتنا هذا -وهو سنة ٦٢١- وأن ينضاف إلى ذلك نبذة من ذكر من لقيتُه، أو لقيتُ من لقيه، أو رويتُ عنه، بوجه ما من وجوه الرواية، من الشعراء والعلماء وأنواع أهل الفضل؛ فلم أر بُدًّا من إسعافك والمسارعة إلى ما فيه رضاك؛ إذ هي الغاية التي أجري إليها، والبغية التي أثابر أبدًا عليها؛ ولوجوب طاعتك عليَّ من وجوه يكثر تعدادها؛ فاستخرت الله ﷿ فيما ندبتني٩ إليه، واستعنته واعتمدت في كل ذلك عليه؛ فهو الموئل والملجأ،
_________
١- الرِّمَم: جمع الرُّمَّة: العظام البالية.
٢- القدم: الوجود من غير ابتداء.
٣- ذهن ثاقب: مُتَّقد، يقال: ثقبت النار ثقوبًا: اتقدت، والكوكب: أضاء.
٤ الطريق الأمم: الواضح، البين، القريب، الوسط.
٥- الكلام الجامع: الذي قلت ألفاظه وكثرت معانيه.
٦- الضبع: ما بين الإبط إلى نصف العضد من أعلاها، وهما ضبعان.
٧- جُبل فلان: خُلق، يقال: جبل الله الخلق جَبْلًا: خلقهم، ويقال: جبله على الشيء: طبعه.
٨ القسم: جمع القسمة: النصيب.
٩- ندب فلانًا إلى الشيء: دعاه ووجهه.
1 / 11
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
هذا مع أني أعتذر إلى مولانا -فسح الله في مدته- من تقصير إن وقع، بثلاثة أوجه من الأعذار:
فأولها: ضعف عبارة المملوك وغلبة العِيِّ١ على طباعه، فمهما وقع في هذا الإملاء من فتور لفظ، أو إخلال بسرد، فهو خليق بذلك.
والوجه الثاني: أنه لم يصحبني من كتب هذا الشأن شيء أعتمد عليه وأجعله مستندًا كما جرت عادة المصنفين. وأما دولة المصامدة خصوصًا فلم يقع إليَّ لأحد فيها تأليف أصلًا، خلا أني سمعت أن بعض أصحابنا جمع أخبارها واعتنى بسيرها، وهذا المجموع لا أعرفه إلا سماعًا.
والوجه الثالث: أن محفوظاتي في هذا الوقت على غاية الاختلال والتشتت؛ أوجبتْ ذلك هموم تزدحم على الخاطر، وغموم٢ تستغرق الفكر، فرغبة المملوك الأصغر إجراء مولانا إياه على جميل عادته وحميد خلقه من التسامح والتغاضي، لا زال مجده العالي يرفع الهمم، ويعقد الذمم، ويوصل النعم، ويعمر ربوع الفضل والكرم.
_________
١- العي: العجز عن التعبير اللفظي بما يفيد المعنى المقصود، أو عدم الاهتداء لوجه المراد.
٢- الغموم: جمع الغم: الكرب أو الحزن.
1 / 12
فصل في ذكر جزيرة الأندلس وحدودها
فأول ما يقع الابتداء به ذكر جزيرة الأندلس١ وتحديدها والتعريف بمدنها ونبذ من أخبارها وسير ملوكها، من لدن فتحها إلى وقتنا هذا وهو سنة ٦٢١؛ إذ هي كانت مُعْتمد المغرب الأقصى، والمعتبرة منه، والمنظور إليها فيه. وهي كانت كرسي المملكة، ومقر التدبير، وأم قرى تلك البلاد؛ لم يزل هذا معروفًا من أمرها إلى أن تغلب عليها يوسف بن تَاشُفين اللَّمتوني٢، فصارت إذ ذاك تبعًا لمراكش٣ من بلاد العُدْوَة٤، ثم تغلب عليها المصامدة بعده، فاستمر الأمر على ذلك إلى وقتنا هذا، فأقول وبالله التوفيق:
أما حدود جزيرة الأندلس؛ فإن حدها الجنوبي منتهى الخليج الرومي الخارج من بحر مانطس، وهو البحر الرومي٥ مما يقابل طَنْجَة٦، في موضع يعرف بالزُّقاق -سعة البحر هنالك اثنا عشر ميلًا-وهذا الخليج هو ملتقى البحرين، أعني بحر مانطس وبحر أُقيانس٧.
_________
١- الجزيرة: الأرض التي يُحدق بها الماء، أي: يحيط بها من جميع جهاتها، وليست الأندلس كذلك؛ لأنها تتصل بالبر من جهة الشرق. وقد سميت جزيرة على المجاز، من باب تغليب الكل على الجزء.
٢- هو أبو يعقوب، يوسف بن تاشفين بن إبراهيم المصالي الصنهاجي اللمتوني الحميري: سلطان المغرب الأقصى، وملك الملثمين، وأول من لُقب بأمير المسلمين في المغرب. بنى مدينة مراكش سنة ٤٦٥هـ. ثم شمل سلطانه المغربينِ الأقصى والأوسط وجزيرة الأندلس بأكملها. توفي سنة ٥٠٠هـ/ ١١٠٦م. "الأعلام، الزركلي: ٢٢٢/٨".
٣- مراكش: مدينة عظيمة بالمغرب، بينها وبين البحر عشرة أيام في وسط بلاد البربر. وبينها وبين جبل درن ثلاثة فراسخ. "معجم البلدان، الحموي: ٩٤/٥".
٤- العدوة لغةً: شاطئ الوادي، أو المكان المتباعد، والمراد بها هنا: الشاطئ الإفريقي، أو بلاد المغرب الأقصى.
٥- البحر الرومي: هو البحر الأبيض المتوسط.
٦- طنجة: مدينة على ساحل بحر المغرب، مقابل الجزيرة الخضراء، وبينها وبين سبتة مسيرة يوم واحد. "معجم البلدان، الحموي: ٤٣/٤".
٧- أقيانس: الأوقيانوس، أو المحيط الأطلسي.
1 / 13
وحداها الشمالي والمغربي البحر الأعظم، وهو بحر أقيانس المعروف عندنا ببحر الظلمة، وحدها المشرقي الجبل الذي فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين: بحر الروم وهو مانطس، والبحر الأعظم. ومسافة ما بين البحرين في هذا الجبل قريب من ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود الأندلس. وحداها الأكبران الجنوبي والشمالي، مسافة كل واحد منهما نحو من ثلاثين مرحلة. وهذا الجبل الذي ذكرنا فيه هيكل الزهرة الذي هو الحد المشرقي من الأندلس، هو الحاجز ما بين بلاد الأندلس وبين بلاد إفرنسة من الأرض الكبيرة١، أرض الروم التي هي بلاد إفرنجة العظمى.
والأندلس آخر المعمور في المغرب٢؛ لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر أقيانس الذي لا عمارة وراءه.
ومسافة ما بين طُلَيْطُلة التي هي قريبة من وسط الأندلس، ومدينة رومية قاعدة الأرض الكبيرة، قريب من أربعين مرحلة، ووسط الأندلس كما ذكرنا مدينة طليطلة العتيقة، التي كانت قاعدة القوطا من قبائل الإفرنج، ثم ملكها المسلمون زمان الفتح على ما سيأتي بيانه، وعرضها تسع وثلاثون درجة وخمسون دقيقة، وطولها ثمانٍ وعشرون درجة بالتقريب، فصارت بذلك قريبًا من وسط الإقليم الخامس.
وأقل بلاد الأندلس عرضًا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، على البحر الجنوبي منها، وعرضها ست وثلاثون درجة، وأكثر مدنها عرضًا بعض المدائن التي على ساحلها الشمالي، وعرض ذلك الموضع ثلاث وأربعون درجة.
فتبين بما ذكرنا أن معظم الأندلس في الإقليم الخامس أميل إلى الشمال؛ فلذلك اشتد بردها وطالت مدة الشتاء فيها وعظمت جسوم أهل ذلك الميل وابيضت ألوانهم وكانت أذهانهم إلى الغلظ ما هي، فنَبَتْ٣ عن كثير من الحكمة.
وطائفة من الأندلس في الإقليم الرابع، كإشْبِيلية، ومالَقة، وقُرطُبة وغَرْنَاطة، والمَرِيَّة ومُرْسِيَة، فهذه البلاد التى ذكرنا في الإقليم الرابع أعدل هواء وأطيب أرضًا وأعذب مياهًا من البلاد التي في الإقليم الخامس، وأهلها أحسن ألوانًا وأجمل صورًا وأفصح لغة من أولئك؛ إذ كان للميول والسُّموت في اللغات تأثير بين لمن استقرأ ذلك وفهم علته.
وجملة مدن الأندلس التي هي أمهات قراها ومراكز أعمالها ومواضع مخاطبات
_________
١- الأرض الكبيرة: هي عند قدماء العرب: بلاد الفرنجة التي تلي الأندلس من جهة الشرق.
٢- هذا مبلغ ظن العرب آنذاك، قبل اكتشاف القارة الأمريكية.
٣- نبا الشيء نُبُوًّا ونَبْوَةً: لم يستوِ في مكانه المناسب له، ونبا السيف عن الضريبة: لم يُصبها، ونبا البصر عن الشيء: أعرض عنه ونفر.
1 / 14
أولي الأمر منها: أولاها في الحد الشمالي: مدينة شِلْب، ثم مدينة إشبيلية، ثم قرطبة، ثم جَيَّان، ثم أَغِرناطة١، ثم المرية، ثم مرسية، ثم بَلنْسِيَة، ثم مالقة، وهي على البحر الرومي.
فالذي على البحر الأعظم من هذه المدائن: شلب، وإشبيلية، وبينهما قريب من خمس مراحل.
والذي على البحر الرومي: المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء، وهي من أعمال إشبيلية؛ ثم مالقة، وهي مستقلة، ثم المرية، ثم دانية؛ هذه كلها على البحر الرومي.
ثم سائر ما ذكرنا من المدن ليست على ساحل.
ولما استقر أمر المسلمين بالأندلس في غُرة المائة الثانية، تخيروا مدينة قرطبة فجعلوها كرسي المملكة ومقر الإمارة، فلم تزل على ذلك إلى أن انقرضت دولة بني أمية بالأندلس، فتغلب على كل جهة من الجزيرة متغلب على ما سيأتي بيانه.
وهذه المدن التي ذكرت هي التي يملكها المسلمون اليوم، وقد كانوا يملكون قبلها مدنًا كثيرة لم أذكرها في هذا الموضع؛ إلا أن ذكرها سيرد فيما يأتي من تفصيل أخبار الأندلس، تعرف ذلك بقولي: أعادها الله للمسلمين.
فهذه جملة من أخبار الأندلس وحدودها وبلادها الكائنة بأيدي المسلمين.
_________
١- أغرناظة: أي: غَرْنَاطة، وهي آخر مدينة أندلسية انتزعها الإسبان من العرب.
1 / 15
ذكر فتح جزيرة الأندلس ولمع من تفصيل أخبارها وسير ملوكها ومن كان فيها من الفضلاء منها ومن غيرها
ثم نعود إلى افتتاحها فنقول والله الموفق:
افتتح المسلمون جزيرة الأندلس في شهر رمضان سنة ٩٢ من الهجرة، وكان فتحها على يدي طارق١، قيل: ابن زياد، وقيل: ابن عمرو، وكان واليًا على طنجة، مدينة من المدن المتصلة ببر القَيْروان٢ في أقصى المغرب، بينها وبين الأندلس الخليج المذكور المعروف بالزُّقاق، وبالمجاز. رتبه موسى بن نُصَير٣ أمير القيروان. وقيل: إن مروان بن موسى بن نصير خلف طارقًا هناك على العساكر، وانصرف إلى أبيه لأمر عرض له، فركب طارق البحر إلى الأندلس من جهة مجاز الجزيرة الخضراء، منتهزًا لفرصة أمكنته؛ وذلك أن الذي كان يملك ساحل الجزيرة الخضراء وأعمالها من الروم خطب إلى الملك الأعظم ابنته، فأغضب ذلك الملك، ونال منه وتوعده، فلما بلغه ذلك جمع جموعًا عظيمة وخرج يقصد بلد الملك، فبلغ طارقًا خلو تلك الجهة، فهذه الفرصة التي انتهزها ...
وقيل: إن العِلْج٤ كتب إليه بالعبور لسبب أنا ذاكره، وهو أن لُذْرِيق ملك الجزيرة-لعنه الله- كان له رسم: يوجه إليه أعيان قواده وأمراء دولته ببناتهم، فيربيهن عنده في قصوره ويؤدبهن بالآداب الملوكية حسبما كانوا يرونه....؛ فإذا بلغت الجارية منهن وحسن أدبها، زوجها في قصره لمن يرى أنه كفء أبيها. فوجه
_________
١- هو طارق بن زياد الليثي بالولاء: أصله من البربر. قائد فاتح مشهور. توفي سنة ١٠٢ هـ/ ٧٢٠م. "الأعلام، الزركلي: ٢١٧/٣".
٢- القيروان: مدينة عظيمة بالمغرب، بناها عقبة بن نافع سنة ٤٥ هـ، وجعلها حصنًا لجيشه. "معجم البلدان، الحموي: ٤٢٠/٤".
٣- هو أبو عبد الرحمن، موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد اللخمي بالولاء: قائد فاتح، أصله من وادي القرى بالحجاز. توفي سنة ٩٧هـ/٧١٥م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ٣١٧".
٤ العلج: الكافر، أو الرجل القوي الضخم من كفار العجم، وقيل: كل صلب شديد: علج، والجمع: علوج.
1 / 16
إليه صاحب الجزيرة الخضراء وأعمالها بابنته على الرسم المذكور، فكانت عنده إلى أن بلغت مبلغ النساء، فرآها يومًا فأعجبته، فدعاها فأبت عليه، وقالت: لا والله حتى تُحضر الملوك والقواد وأعيان البطارقة وتتزوجني، هذا بعد مشورة أبي! فغلبته نفسه واغتصبها على نفسها، فكتبت إلى أبيها تعلمه بذلك، فهذا كان السبب الذي بعثه على مكاتبة طارق والمسلمين، فكان الفتح، فالله أعلم أي ذلك كان.
فأول موضع نزله فيما يقال منها: المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء اليوم، نزلها قبيل الفجر، فصلى بها الصبح بموضع منها وعقد الرايات لأصحابه، فبُني بعد ذلك هناك مسجد، عُرف بمسجد الرايات، وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، أسأل الله إبقاءه إلى أن تقوم الساعة ...
ثم دخل طارق هذا الأندلس وأمعن فيها واستظهر١ على العدو بها، وكتب إلى موسى بن نصير موليه بخبر الفتح وغلبته على ما غلب عليه من بلاد الأندلس وما حصل له من الغنائم، فحسده موسى على الانفراد بذلك، وكتب إلى الوليد بن عبد الملك بن مروان٢ يعلمه بالفتح وينسبه إلى نفسه، وكتب إلى طارق يتوعده، إذ دخلها بغير إذنه، ويأمره ألا يتجاوز مكانه الذي ينتهي إليه الكتاب فيه حتى يلحق به، وخرج متوجهًا إلى الأندلس، واستخلف على القيروان ابنه عبد الله، وذلك في رجب من سنة ٩٣. وخرج معه حبيب بن أبي عبدة الفهري٣ ووجوه العرب والموالي وعرفاء البربر في عسكر ضخم، ووصل من جهة المجاز إلى الأندلس وقد استولى طارق على قرطبة دار المملكة، وقتل لذريق الملك-لعنه الله- بالأندلس، فتلقاه طارق وترضاه، ورام أن يستلَّ ما في نفسه من الحسد له، وقال له: إنما أنا مولاك ومن قِبلك، وهذا الفتح لك وبسببك؛ وحمل طارق إليه ما كان غنم من الأموال، فلذلك نُسب الفتح إلى موسى بن نصير؛ لأن طارقًا من قِبله، ولأنه أتم من الفتح ما كان بقي على موسى.
وأقام موسى بالأندلس مجاهدًا وجامعًا للأموال ومرتبًا للأمور بقية سنة ٩٣ وسنة ٩٤ وأشهرًا من سنة خمس، وقبض على طارق، ثم استخلف على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى٤، وترك معه من العساكر ووجوه القبائل من يقوم بحماية البلاد
_________
١- استظهر على عدوه: غلبه.
٢- هو أبو العباس، الوليد بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٨٦هـ. وتوفي سنة ٩٦هـ/٧١٥م. "الأعلام، الزركلي: ١٢١/٨".
٣- في رواية: "حبيب بن أبي عبيدة".
٤- هو عبد العزيز بن موسى بن نصير اللخمي بالولاء: أمير شجاع فاتح. توفي سنة ٩٧هـ/٦١٦م. "بغية الملتمس، الضبي.
1 / 17
وسد الثغور وجهاد العدو، ورجع إلى القيروان، ثم سار منها بما حصل له من الغنائم وأعده من الهدايا إلى الوليد بن عبد الملك -وكان مما وجده بمدينة طليطلة حين فتحها مائدة سليمان بن داود ﵉، فيقال: إنها طوق ذهب وطوق فضة، مكللة باللؤلؤ والياقوت- ومعه -فيما يقال- طارق، فمات الوليد وقد وصل موسى إلى طبرية في سنة ٩٦، فحمل ما كان معه إلى سليمان بن عبد الملك١؛ ويقال: إنه وصل أدرك الوليد حيًّا، فالله أعلم.
وأقام عبد العزيز بن موسى بن نصير أميرًا على الأندلس إلى أن ثار عليه من الجند جماعة، فيهم حبيب بن أبي عبدة الفِهْري، وزياد بن النابغة التميمي، فقتله بعضهم، وخرجوا برأسه إلى سليمان بن عبد الملك -وذلك في صدر سنة ٩٨- بعد أن أمروا على الأندلس أيوب ابن أخت موسى بن نصير. ويقال: إنهم كتبوا إلى سليمان بما أنكروا من أمره، فأمرهم بما فعلوه، فالله أعلم.
ثم اختلف الأمر هنالك، ومكث أهل الأندلس بعد ذلك زمانًا لا يجمعهم والٍ، ثم ولي عليها السَّمْح بن مالك الخَوْلاني٢ قبل المائة، واجتمع عليه الناس، ثم ولي عليها الغَمْر بن عبد الرحمن بن عبد الله، ثم وليها عَنْبَسة بن سُحَيم الكلبي٣، وعُزل الغمر بن عبد الرحمن، ثم وليها عبد الرحمن بن عبد الله العكي نحوًا من العشر ومائة، وكان رجلًا صالحًا، ثم وليها عبد الملك بن قَطَن الفِهْري٤، ثم عقبة بن الحجاج٥، فهلك عقبة بالأندلس، ورُد عبد الملك بن قطن، ثم جاء بَلْجُ بن بشر٦ فادعى ولايتها من قبل هشام بن عبد الملك٧، وشهد له بعض من
_________
١- هو أبو أيوب، سليمان بن عبد الملك بن مروان: خليفة أموي، ولد في دمشق، وبويع بالخلافة يوم وفاة أخيه الوليد، وتوفي سنة ٩٩هـ/٧١٧م. "الأعلام، الزركلي: ١٣٠/٣".
٢- أمير من بني خولان، من قضاعة. استعمله عمر بن عبد العزيز على الأندلس، واستشهد غازيًا بأرض الفرنجة سنة ١٠٢هـ/٧٢١م. "جذوة المقتبس، الحميدي:٢٢٠".
٣- أمير فاتح شجاع. ولي الأندلس في عهد هشام بن عبد الملك سنة ١٠٣هـ، فأوغل في غزو الفرنجة. توفي سنة ١٠٧هـ/ ٧٢٥م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ٣٠١".
٤- هو عبد الملك بن قطن بن نهشل بن عبد الله الفهري: أمير قائد شجاع. ولي الأندلس سنة ١١٤هـ/٧٣٣م، وتوفي سنة ١٢٣هـ/٧٤١م. "بغية الملتمس، الضبي: ٣٦٩".
٥- هو عقبة بن الحجاج السلولي: أمير شجاع فاتح. ولي الأندلس من قِبَلِ عبد الله بن الحبحاب أمير إفريقية، وتوفي سنة ١٢٣هـ/ ٧٤١م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ٣٠١".
٦- هو بلج بن بشر بن عياض القشيري: قائد دمشقي حازم شجاع. استبدَّ بالأندلس بعد قتل أميرها، وتوفي سنة ١٢٤هـ/ ٧٤٢م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ١٧٠".
٧- هو هشام بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. ولي الخلافة بعد وفاة أخيه يزيد، وعُرف بحسن السياسة والتدبير. توفي سنة ١٢٥هـ/ ٧٤٣م. "الأعلام، الزركلي: ٨٦/٨".
1 / 18
كان معه، ووقعت فتن من أجل ذلك، وافترق أهل الأندلس فيها على أربعة أمراء، حتى أُرسل إليهم واليًا أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي١، فحسم مواد الفتن، وجمعهم على الطاعة بعد الفرقة. وفي تقديم بعض هؤلاء الأمراء على بعض اختلاف، إلا أن هؤلاء المذكورين كانوا أمراءها وولاة الحروب فيها أيام بني أمية قبل ذهاب دولتهم في المشرق.
_________
١ هو أبو الخطار، حسام بن ضرار بن سلامان بن خيثم بن ربيعة الكلبي الربعي: أمير شجاع حازم. ولاه حنظلة بن سفيان أمير إفريقية إمارة الأندلس سنة ١٢٥هـ/٧٤٣م، فأقام بقرطبة، وتوفي سنة ١٣٠هـ/٧٤٨م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ١٨٨".
1 / 19
ذكر من دخل الأندلس من التابعين
وأنا ذاكر هاهنا من دخل الأندلس من التابعين للجهاد والرباط:
فمنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري، يروي عن أبي هريرة١.
ومنهم حَنَش بن عبد الله الصَّنْعاني٢، يروي عن علي بن أبي طالب، وفضالة بن عُبَيْد٣.
ومنهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافِقِيّ٤، يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب٥.
ومنهم يزيد بن قاسط، وقيل: ابن قَسِيط، السَّكْسكي المصري، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومنهم موسى بن نصير الذي يُنسب الفتح إليه، يروي عن تميم الداري٦.
_________
١- هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الملقب بأبي هريرة: صحابي، كان أكثر الصحابة حفظًا للحديث النبوي، أسلم سنة ٧هـ/ ٦٢٩م، وتوفي سنة ٥٩هـ/ ٦٧٩م. "الأعلام، الزركلي: ٣٠٨/٣".
٢- هو حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة الصنعاني: تابعي، قائد شجاع. بنى جامع سرقسطة بالأندلس، وتوفي سنة ١٠٠هـ/ ٧١٨م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ١٨٩".
٣- هو أبو محمد، فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي: صحابي، من الذين بايعوا النبي ﷺ تحت الشجرة. توفي سنة ٥٣هـ/ ٦٧٣م. "الأعلام، الزركلي: ١٤٦/٥".
٤- هو أبو سعيد، عبد الرحمن بن عبد الله بن بشر بن الصارم الغافقي: من كبار القادة الغزاة الشجعان، أصله من غافق باليمن. توفي سنة ١١٤هـ/٧٣٢م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ٢٥٣".
٥- هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي: صحابي من أشراف قريش، نشأ في الإسلام، وشهد فتح مكة. توفي سنة ٧٣هـ/٦٩٢م. " الأعلام، الزركلي:/١٠٨".
٦- هو أبو رقية، تميم بن أوس بن خارجة الداري: صحابي، نسبته إلى الدار بن هانئ اللخمي. توفي سنة ٤٠هـ/٦٦٠م. "الأعلام، الزركلي: ٨٧/٢".
1 / 20
فصل في فضل المغرب
وقد جاء في فضل المغرب غير حديث، فمن ذلك ما حدثني الفقيه الإمام المتقن المتفنن، أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل الشيباني سماعًا عليه بمكة في شهر رمضان من سنة ٦٢٠ قال: حدثني المؤيد بن عبد الله الطوسي قراءة عليه بنيسابور قال: حدثنا الإمام كمال الدين محمد بن أحمد بن صاعد القراوي قراءة عليه قال: حدثنا ابن عبد الغافر الفارسي، حدثنا محمد بن عيسى بن عَمْرَوَيْه الجلودي، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان، حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري١ قال: حدثنا يحيى بن يحيى عن هشام بن بشر الواسطي عن داود بن أبي هند بن أبي عثمان النهدي عن سعد بن أبي وقاص٢ أن رسول الله ﷺ قال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة".
ومن فضل الأندلس أنه لم يذكر قط أحد على منابرها من السلف إلا بخير.
وما زالت الولاة بالأندلس تليها من قبل بني أمية أو من قبل من يقيمونه بالقيروان أو بمصر، فلما اضطرب أمرهم في سنة ١٢٦هـ بقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك٣، اشتغلوا عن مراعاة أقاصي البلاد، ووقع الاضطراب بإفريقية والاختلاف بالأندلس أيضًا بين القبائل، ثم اتفقوا بالأندلس على تقديم قرشي يجمع
_________
١- هو أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: حافظ، من أئمة المحدثين. ولد بنيسابور، وتوفي فيها سنة ٢٦١هـ/٨٧٥م. من آثاره: "الجامع الصحيح" في الحديث. "الأعلام، الزركلي: ٢٢١/٧".
٢- هو أبو إسحاق، سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري: صحابي، أمير، وأحد الستة الذين اختارهم عمر للشورى، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. توفي سنة ٥٥هـ/٦٧٥م. "الأعلام، الزركلي: ٨٧/٣"
٣- هو أبو العباس، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان: من خلفاء الدولة الأموية في الشام. توفي سنة ١٢٦هـ/ ٧٤٤م. "الأعلام، الزركلي: ١٢٢/٨".
1 / 21
الكلمة إلى أن تستقر الأمور بالشام لمن يخاطَب، ففعلوا، وقدموا يوسف بن عبد الرحمن الفهري١، فسكنت به الأمور، واتفقت عليه القلوب؛ واتصلت إمارته إلى سنة ١٣٨ بعد ذهاب دولة بني أمية بست سنين.
_________
١- هو يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبدة بن عقبة بن نافع الفهري القرشي: قائد شجاع داهية. وُلد في القيروان، وتُوفي سنة ١٤٢هـ/٧٥٩م. "الأعلام، الزركلي: ٢٣٦/٨".
1 / 22
ذكر خبر دخول عبد الرحمن بن معاوية* الأندلس
وفي هذه السنة دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأندلس، الملقب بالداخل؛ فقامت معه اليمانية، وحارب يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عَبْدَة بن عقبة بن نافع الفهري الوالي على الأندلس المذكور آنفًا، فهزمه؛ واستولى عبد الرحمن على قرطبة دار الملك، وكان دخوله إياها يوم الأضحى من السنة المذكورة، فاتصلت ولايته إلى أن مات سنة ١٧٢.
وكان مولده بالشام سنة ١١٣، أمه أم ولد اسمها: راح، ويكنى أبا المطرف. دخل الأندلس في ذي القعدة، واستولى على قرطبة دار ملكها في التاريخ المذكور؛ وذلك أنه هرب من الشام لما انتشرت دولة بنى العباس، فلم يزل مستترًا ينتقل في بلاد المغرب حتى دخل الأندلس، ودخل حين دخلها طريدًا وحيدًا لا أهل له ولا مال، فلم يزل يُصرِّف حيله ويسمو بهمته والقَدَر مع ذلك يوافقه، إلى أن احتوى على ملكها، وملك بعض بلاد العُدوة. وكان أبو جعفر المنصور١ إذا ذكر عنده قال: "ذاك صقر قريش".
وكان عبد الرحمن بن معاوية من أهل العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل؛ ومن قضاته معاوية بن صالح الحضرمي الحِمْصي٢، وله أدب وشعر. ومما أنشد، وقاله يتشوق إلى معاهده بالشام، قوله: من الخفيف
أيها الراكب المُيَمِّمُ أرضِي ... أَقْرِ من بعضي السلام لبعضِي٣
_________
* ترجمته في الكامل لابن الأثير: ١٨٢/٥، الأعلام للزركلي: ٣٣٨/٣.
١- هو أبو جعفر، عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، الملقب بالمنصور: ثاني خلفاء الدولة العباسية في العراق، وأول من عني بالعلوم من الخلفاء. توفي سنة ١٥٨هـ/٧٧٥م. "الأعلام، الزركلي: ١١٧/٤".
٢- هو معاوية بن صالح بن حُدير الحضرمي الحمصي: قاضٍ، من أعلام رجال الحديث. أصله من حضرموت، ونشأ بحمص، وولي قضاء الجماعة بالأندلس. توفي سنة ١٥٨هـ/٧٧٤م. "جذوة المقتبس، الحميدي: ٣١٨؛ تاريخ قضاة الأندلس، النباهي: ٤٣".
٣- الميمم: اسم فاعل من يَمَّم المكان: إذا قصده. ومنه: يممه بالرمح: توخاه وتعمده من دون سواه.
1 / 23
إن جسمي كما علمتَ بأرضٍ ... وفؤادي ومالكيه بأرضِ
قدر البَيْنُ بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غَمْضِي١
قد قضى الله بالفِرَاق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضِي!
وله شعر كثير أبرع من هذا، أورده المؤرخون في كتبهم. وكانت مدة ولايته منذ استولى على قرطبة دار الملك إلي أن توفي، اثنتين وثلاثين سنة.
_________
١- البين: الفرقة والبعد. الغمض: النوم، يقال: ما اكتحلت عينه غمضًا.
ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن* ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يكنى: أبا الوليد، وسنه حينئذٍ خمس وثلاثون سنة، واتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ١٨٠. وكان حسن السيرة، متحريًا للعدل، يعُودُ المرضى، ويشهد الجنائز، ويتصدق بالصدقات الكثيرة، وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر ومعه صُرَر الدراهم يتحرى بها المساتير وذوي البيوتات من الضعفاء؛ لم يزل هذا مشهورًا من أمره إلى أن مات في التاريخ المذكور. أمه أم ولد اسمها: حوراء. _________ * ترجمته في بغية الملتمس: ١٣، الأعلام: ٨٦/٨، وفيه: أنه ولد بقرطبة، وبويع له بعد أبيه سنة ١٧٢هـ، وبنى عدة مساجد، وتمم بناء جامع قرطبة. وكان أهل الأندلس يشبهونه بعمر بن عبد العزيز بعدله وحسن سيرته.
ولاية الحَكَم بن هشام الملقب بالرَّبَضيِّ** ثم ولي بعده ابنه الحكم وله اثنتان وعشرون سنة، يكنى: أبا العاص، أمه أم ولد اسمها: زُخرف، وكان طاغيًا مسرفًا، وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الرَّبَض الوقعة المشهورة، فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم. وكان الربض محلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسمي الحكم الربضي لذلك. وفي أيامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد والحض على قيام الليل في الصوامع، أعنى: صوامع المساجد، وأمروا أن يخلطوا مع ذلك شيئًا من التعريض به، مثل أن يقولوا: يا أيها المسرف المتمادي في طغيانه، المصر على كِبره، المتهاون بأمر ربه، أفق من سكرتك، وتنبه من غفلتك.. وما نحا هذا النحو؛ فكان هذا من _________ ** ترجمته في بغية الملتمس: ١٤؛ الأعلام: ٢٦٨/٢، وفيه: أنه كان من أفحل ملوك بني أمية في الأندلس، وأول من جعل للملك فيها أبهة، وأول من جند الأجناد، وجمع الأسلحة والعدد، وارتبط الخيول على بابه، وأنه ولد ونشأ وتوفي بقرطبة.
ولاية الأمير هشام بن عبد الرحمن* ثم ولي بعد عبد الرحمن ابنه هشام، يكنى: أبا الوليد، وسنه حينئذٍ خمس وثلاثون سنة، واتصلت ولايته سبعة أعوام إلى أن مات في صفر سنة ١٨٠. وكان حسن السيرة، متحريًا للعدل، يعُودُ المرضى، ويشهد الجنائز، ويتصدق بالصدقات الكثيرة، وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الشديدة المطر ومعه صُرَر الدراهم يتحرى بها المساتير وذوي البيوتات من الضعفاء؛ لم يزل هذا مشهورًا من أمره إلى أن مات في التاريخ المذكور. أمه أم ولد اسمها: حوراء. _________ * ترجمته في بغية الملتمس: ١٣، الأعلام: ٨٦/٨، وفيه: أنه ولد بقرطبة، وبويع له بعد أبيه سنة ١٧٢هـ، وبنى عدة مساجد، وتمم بناء جامع قرطبة. وكان أهل الأندلس يشبهونه بعمر بن عبد العزيز بعدله وحسن سيرته.
ولاية الحَكَم بن هشام الملقب بالرَّبَضيِّ** ثم ولي بعده ابنه الحكم وله اثنتان وعشرون سنة، يكنى: أبا العاص، أمه أم ولد اسمها: زُخرف، وكان طاغيًا مسرفًا، وله آثار سوء قبيحة، وهو الذي أوقع بأهل الرَّبَض الوقعة المشهورة، فقتلهم وهدم ديارهم ومساجدهم. وكان الربض محلة متصلة بقصره، فاتهمهم في بعض أمره، ففعل بهم ذلك، فسمي الحكم الربضي لذلك. وفي أيامه أحدث الفقهاء إنشاد أشعار الزهد والحض على قيام الليل في الصوامع، أعنى: صوامع المساجد، وأمروا أن يخلطوا مع ذلك شيئًا من التعريض به، مثل أن يقولوا: يا أيها المسرف المتمادي في طغيانه، المصر على كِبره، المتهاون بأمر ربه، أفق من سكرتك، وتنبه من غفلتك.. وما نحا هذا النحو؛ فكان هذا من _________ ** ترجمته في بغية الملتمس: ١٤؛ الأعلام: ٢٦٨/٢، وفيه: أنه كان من أفحل ملوك بني أمية في الأندلس، وأول من جعل للملك فيها أبهة، وأول من جند الأجناد، وجمع الأسلحة والعدد، وارتبط الخيول على بابه، وأنه ولد ونشأ وتوفي بقرطبة.
1 / 24