Muawiya Ibn Abi Sufyan
معاوية بن أبي سفيان
Géneros
تقدير وتصدير
بين القدرة والعظمة
تمهيدات الحوادث
الدهاء
الحلم
خليقة أموية
موقف معاوية من قضية عثمان
النشأة والتكوين
الأعمال
في الميزان
Página desconocida
تقدير وتصدير
بين القدرة والعظمة
تمهيدات الحوادث
الدهاء
الحلم
خليقة أموية
موقف معاوية من قضية عثمان
النشأة والتكوين
الأعمال
في الميزان
Página desconocida
معاوية بن أبي سفيان
معاوية بن أبي سفيان
تأليف
عباس محمود العقاد
تقدير وتصدير
التاريخ عرض الإنسانية ...
والعرض مناط
1
الحمد والذم في الإنسان ...
وكذلك التاريخ بالقياس إلى الإنسانية في جملتها، لا يكون شيئا إن لم يكن تقديرا لما هو صادق أو كاذب، أو ما هو صواب أو خطأ، وما هو حميد أو ذميم، من الحوادث والناس.
Página desconocida
وقد نذكر الحوادث توسعا في التعبير، فإن الحوادث لا تعنينا لذاتها إن لم يكن معناها تقويما لأعمال وقياما بأعمال، أو لم يكن معناها في صيغة أخرى تعريفا بأقدار الناس مما عملوه واستطاعوه ...
وكل شيء في الحياة الإنسانية هين إذا هان الخلل في موازين الإنسانية، وإنها لأهون من ذلك إذا جاوز الأمر الخلل إلى انعكاس الأحكام، وانقلابها من النقيض إلى النقيض.
يهون كل شيء إذا هانت موازين الإنسانية؛ لأن موازين الإنسانية جماع ما عندها من الفكر والخلق والعقيدة والذوق والخيال.
ومن هوان الموازين الإنسانية أن يختل كل هذا، فلا يوثق بمحصول الإنسانية كافة في تاريخها القديم والحديث.
وأهون من ذلك ألا تختل وكفى ... بل تختل وتنعكس، فيوضع فيها الذم موضع الحمد، والكذب موضع الصدق، والخداع موضع الإخلاص والإيمان ...
وقد هان عرض إنسان واحد يشتريه المال أو الغرض في حياته، فماذا يقال في عرض الإنسانية الذي يشترى في الحياة وبعد الممات، ويزيف فيه الواقع للعيان، ثم يلازمه الزيف بعد ذلك مدى الأجيال على صفحات التاريخ!
ذلك أفدح مصاب تصاب به الإنسانية: إنه مصاب في عرضها، في صميم أفكارها وأخلاقها وعقائدها وأذواقها وأحلامها - في موازينها وحسب، وما من شيء يعتز به الإنسان لا يدخل في هذه الموازين.
وأوجب واجب على الإنسان لضميره أن يحمي نفسه من شر هذا المصاب الفادح، وألا يتيح لأحد أن يختلس التاريخ في حاضره ومستقبله؛ فليس البلاء هنا بلاء منفعة تفوت أو مضرة تحدث، ولكنه بلاء الزيغ
2
في البصر والبصيرة، وعلينا نحن أن نصحح البصر إذا زاغ؛ لأنه نقص وعيب أو لأنه تشويه في سواء الخلقة، وإن لم يعجل منه الضرر، ولم تذهب به المنفعة ... •••
Página desconocida
إن تاريخ الإنسانية من أوائلها إلى حواضرها لا يملك للعاملين جزاء غير حسن التقدير، وصدق القياس لما عملوه.
وكثير على أحد أن يبتذل هذا الجزاء؛ لأنه استطاع أن يحشو بعض البطون أو بعض الجيوب، فيملك - بهذه الرشوة الرخيصة - خير ما تؤتيه الإنسانية أحدا من أبنائها في الحياة وبعد الممات.
على أن الموازين الإنسانية لا تزيفها الرشوة المقصودة دون غيرها، ولا يختل بها غرض المنتفعين المتواطئين على تبديل الحقيقة، ذهابا مع الأجر العاجل والعطاء المعروف.
بل تصاب هذه الموازين من النهازين أو «الوصوليين» المطبوعين، كما تصاب من النهازين المصنوعين أو المصطنعين.
فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الفضيلة أو على الحقيقة، وإن لم يكن هو صاحب المنفعة، ولا حاضرا لها عند انتفاع المنتفع بها.
من الناس من يحب ذلك؛ لأنه يرجع إلى طبيعته، فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة، والحقائق الصريحة.
ومنهم من يحب الناجحين بالمنافع؛ لأنه يتمنى أن ينجح على مثالهم، ولا ينكر النجاح إذا جاءه بوسيلة كوسيلتهم.
ومنهم من يبلغ بهذه الخصلة حد التعصب والغيرة العمياء؛ لأنه يكره أن يدان الناس، أو تقاس الأعمال بمقاييس المثل العليا فيلوم نفسه، ولا يقدر على التماس المعذرة لها في نقيصتها، أو في طبيعتها التي لا فكاك منها.
إذا استسلم أحدهما مع الهوى لمحاباة ولده أو ذوي قرباه لم يعذلوه أو لم يعنفوه في عذله، بل اتخذوا من ذلك شريعة يؤتم بها، وتجري الوتيرة
3
Página desconocida
عليها ...
وماذا في هذا الصنيع عندهم مما يستغرب؟ كان على الرجل أن ينسى ابنه؛ ليفضل عليه الغرباء عنه؟ أليس هذا الصنيع صنيع كل إنسان في هذا المكان؟ ...
يعذرون هنا بل لا يلومون، ولا ينفرون ممن يلومونه إن جاملوا «الظواهر» فلاموه.
أما خصمه المثالي فمعدود عليه أن يحابي نفسه فضلا عن محاباة ولده، ومعدود عليه أن يهبط من السماوات العلا لحظة واحدة؛ ليشبه سائر الناس في نقيصة من النقائص أو أمل من الآمال.
ولا حاجة إلى إمعان في البحث للكشف عن خبيئة الطبيعة النهازة في هذه التفرقة بين الحكم على النفعيين والحكم على المثاليين.
إن الطبيعة النهازة لا تريد هنا أن تحكم، وأن تنصف بين خصمين.
إنها تريد أن تعذر نفسها لتقول: إن ذلك المثالي ناقص، وإن هذا النفعي يجري على العرف الشائع بين جميع الناس؛ ولهذا يتناول النهاز الميزان وهو يتعمد أن يزيد في ناحية من السيئات ويحط من الحسنات، ويتعمد في الناحية الأخرى أن يقلب الكفة، فيزيد على الحسنات ويحط من السيئات ...
ويكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز، ولا يسعى إليها ليشعر النهاز بالاختلاف والجفوة
4
بينه وبين ذلك العظيم المثالي، ثم يشعر بنوع من القرابة والألفة بينه وبين خصمه، فيميل إلى سماع الأحدوثة الحسنة عن هذا، ولا يميل إلى سماعها عن ذلك، ويضطره إلى ذلك وقوفه بين طريقين: أحدهما غريب يصغره في نظر نفسه، والآخر مألوف يطرقه كل يوم، أو يحب أن يطرقه غير ملوم بينه وبين دخيلته ... •••
Página desconocida
نعم، يكفي أن ينسب إلى العظيم المثالي عمل من الأعمال التي لا يقدر عليها النهاز ولا يسعى إليها؛ لتنفرج الهوة بينهما فلا يستريح النهاز إلى العظيم المثالي كما يستريح إلى النفعيين الناجحين.
وليس أبغض إلى الإنسان من احتقاره لنفسه.
وليس أحب إليه من اعتذاره لها عن حقارتها. •••
وإنك لو بحثت جهدك عن عصبية عمياء تغطي على بصر الإنسان وتملك عليه هواه، لم تجد لها علة أقوى من هذه العلة التي ينقاد لها ولا يبتغي الشفاء منها.
إنه يتعصب في كل شعور يدفع به النقص، ويمهد به العذر، وينفي عنه الإضرار إلى الإقرار بسبق السابقين له، وارتفاع المرتفعين عليه.
وإنه ليعترف بالجهل إذا استطاع أن يدعي لنفسه تعلة يسمو بها على أهل المعرفة ...
وإنه ليعترف بالعجز إذا استطاع أن ينزل بالقادرين إلى «مستواه» بخديعة من خدائع النفوس.
وإنه ليعترف بالرذيلة إذا استطاع أن يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة.
وإنه ليتشبث بهذه التعلات كما يتشبث الغريق بأوهام النجاة؛ لأنه بغير هذه التعلات غريق في شعور ثقيل على جميع النفوس، وهو الشعور بالهوان ...
لهذا يتعصب النهازون المطبوعون على أصحاب المثل العليا؛ لأنهم بين اثنتين: إما أن يدينوا أنفسهم بالمثل العليا، ويعملوا في السر والعلانية عمل أصحابها، وذلك مطلب عسير يصطدمون بعقباته كل يوم وكل ساعة ...
Página desconocida
وإما أن ينكروا تلك المثل العليا على أصحابها، ويتعصبوا لمن ينجح بأساليبهم أو يتمنوا النجاح بأساليبه، وذلك مطلب لا يكلفهم تغيير الطباع، وإن لم يبلغوه بفعالهم كما بلغه ذوو القدرة أمامهم من الناجحين الفعالين ... •••
وقد عرفنا من هؤلاء أناسا في التاريخ ما عرفناهم في الحياة الحاضرة.
عرفناهم فعرفنا عجبا من العصبية العمياء التي تكيل بالكيلين، وتزن بالميزانين في الحادث الواحد والحقبة الواحدة.
إذا وقفوا بين خصمين أحدهما من النفعيين، والآخر من المثاليين - رأيت العجب في المقياس الذي يلتمسون به المعاذير لهذا، وينكرونها على الآخر في اللحظة الواحدة ...
وتقول: «عمل من الأعمال لا يقدر عليه ولا يسعى إليه»؛ لأن هناك أناسا لا يقدرون على العمل المثالي، ولكنهم يسعون إليه، أو يتمنونه أو يحبون أن يؤمنوا بسعيهم إليه وتمنيه، وصبرهم على مشقة هذا السعي وهذه الأمنية ...
وليس هؤلاء بالنفعيين المطبوعين.
هؤلاء مثاليون تعوزهم القدرة، ولا يعوزهم الأمل في بلوغها ولا الغبطة بوجودها، وميولهم إلى جانب العظماء المثاليين أقرب وأغلب من ميولهم إلى جانب المنفعة الناجحة بالحيلة أو بكل وسيلة، والأمثلة من هؤلاء وهؤلاء كثيرة بين سواد الناس الذين لا يدخلون إلى ساحة التاريخ إلا شهودا أو مستمعين.
فلو كان محنة التاريخ كله من النهاز المأجور لما خفيت حقائقه هذا الخفاء، ولا طال العهد على الزيف، أو الغرض المموه بالأباطيل.
وإنما المحنة الشائعة من أولئك النهازين المتطوعين الذين يقبلون العملة الزائفة ويرفضون ما عداها، ويجاهدون من يكشف هذا الزيف ويقومه بقيمته الصحيحة ، ثم تكثر العملة الزائفة في الأيدي حتى ليوشك أن تطرد العملة الصحيحة، وتحيطها بالريبة والحذر، ولا ينفع المحك الناقد في هذه الحالة؛ لأن المحك الناقد لم يسلم قبلها من التزييف ... •••
وفي التاريخ الإسلامي مراحل كثيرة تصحح لنا موازين التاريخ التي يرتبط بها عرض الإنسانية، وربما كانت هذه المراحل أجدى على المؤرخ من غيرها في تواريخ الأمم؛ لأنها حاضرة الأخبار والروايات، حاضرة الأسباب والبواعث، ولا يخفى من شأنها غير النيات والمزاعم، وليس بالمؤرخ من تضلله النيات والمزاعم حين تشخص أمامه الأخبار والروايات، ولا تتوارى خلفها الأسباب والبواعث بحجاب كثيف ...
Página desconocida
وأسبق هذه المراحل وأضخمها مرحلة النزاع بين علي ومعاوية بعد مقتل عثمان ...
فقد اختلفت فيها الأحكام على الرجال والمناقب والأعمال، ولم تنقطع عنا أخبارهم وحوادثهم التي اتفقت عليها جميع الأقوال.
وإذا لم يرجح من أخبار هذه الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن «علي» على المنابر بأمر معاوية لكان فيه الكفاية؛ لإثبات ما عداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان.
فإن الذي يعلن لعن خصمه على منابر المساجد لا يكف عن كسب الحمد لنفسه في كل مكان وبكل لسان، ولو لم يرد من أخبار تلك الفترة أن معاوية كان يغدق الأموال على الأعوان، ومن يرجى منهم العون لكان لعن خصمه على المنابر كافيا للإبانة عما صنعه لكسب الثناء عليه، وإسكات القادحين فيه، ولكن أخبار الأموال المبذولة لتغيير الحقائق في هذه الفترة تفيض بها كتب المادحين والقادحين، ومن لا يمدحون ولا يقدحون، ولم يعلم أحد مبلغها من الوفرة والجسامة، ولكنها معلومة بالتقدير، وإن لم تعلم بالإحصاء وأرقام الحساب؛ لأنها استنفدت خزانة الدولة، وجرت إلى مضاعفة المكوس
5
والضرائب، ومخالفة العهود لأهل الذمة وحسبان الزكاة من حصة الخزانة التي يستولي عليها ولاة الأمور.
ويبقى عمل النهازين المطبوعين بعد عمل النهازين المأجورين، فإنهم قد تطوعوا في ذلك العصر، وفي العصور التالية؛ لترجيح كفة النجاح المنتفع على كفة المثالية العالية، ولم يخف الأمر على أبناء ذلك العصر كما نشرحه الآن بأساليب علم النفس في الزمن الأخير، فإن الأقدمين لم تفتهم «النفس» بجوهرها، وإن فاتتهم مصطلحات النفسانيين من أبناء القرن العشرين، وقد نفذوا إلى بواطنهم بالنظرة الثاقبة؛ لأنهم أصحاب نفوس تعلم ما تنطوي عليه النفوس. •••
جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الإمام ابن حنبل أنه سأل أباه عن علي ومعاوية، فقال: «اعلم أن عليا كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا، فجاءوا إلى رجل قد حاربه وقاتله، فأطروه كيادا
6
منهم له.»
Página desconocida
وهذه دخيلة من دخائل النفس الصغيرة معهودة متكررة في كل جيل، وفي كل خصومة، فكثير من الثناء لا يصدر عن حب للمثني عليه كما يصدر عن حقد على غيره، وكثير من هذا الحقد تبعثه الفضائل ولا تبعثه العيوب ...
إن تاريخ معاوية بن أبي سفيان لا يحتاج إلى مزيد من تفصيل، وإنما يحتاج تاريخه وتواريخ النابهين جميعا إلى تصحيح الموازين، وبيان المداخل التي تؤتى من قبلها أحكام الناس على الحوادث والرجال، فتصاب بالخلل أو تنقلب رأسا على عقب، ويصاب بالخلل معها تفكير المفكر، ونظرة الناظر، وإدراك المدرك لما يحيط به من حوادث زمنه وحوادث سائر الأزمنة.
ونحن نفهم تاريخ معاوية، ونفهم معه تواريخ الكثيرين من بناة الدول إذا صححنا الموازين، وعرفنا ما يعرض لها من الانحراف عن قصد أو عن شعور غير مقصود ...
ولكننا لا نعرف تاريخ معاوية ولا تواريخ غيره إذا أخذنا بظواهر الأقوال، ولم ننقب وراءها عن بواطن الأهواء والبواعث الخفية، ولا بد منها في هذه المرحلة بذاتها: مرحلة الدولة الأموية الأولى على التخصيص.
لقد كان قيام الدولة الأموية بعد عصر الحلافة حادثا جللا بالغ الخطر في تاريخ الإسلام، وتاريخ العالم. •••
وما كان أحد ليطمع في بقاء عصر الخلافة على سنة الصديق والفاروق أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ لأن اطراد النسق من ولاة الأمر على هذه الطبقة العليا من الخلق والتقوى أمر تنوء به طاقة بني الإنسان.
فما كان دوام الخلافة الصديقية أو الفاروقية بمستطاع على طول الزمن، وما كان قيام الملك بعد الخلافة بالأمر الذي يؤجل إلى زمن بعيد.
ولكن الملك بعد الخلافة كان على مفترق طريقين: كان في الوسع أن يسير على مشابه الخلافة ملكا بارا نقيا مصونا من بذخ الهرقلية والكسروية، وسائر ضروب الملك في عصوره الخالية.
وكان في الوسع أن يسير على مشابه الملك في العصور الخالية بذخا ومتاعا، وزينة وخيلاء كخيلاء العواهل من القياصرة والشواهين.
كان في الوسع أن يبتدئ الملك في تاريخ العالم على النهج الصديقي أو الفاروقي، وإن لم يبلغ هذا المدى من النزاهة والصلاح، وكان هذا النهج خليقا أن يظل إماما للرعية يتوارثونه، ويقتدون به ويحميهم نكسة الأخلاق والآداب قرونا وراء قرون من بقايا الوثنية وأوشاب
Página desconocida
7
المادية، وما شابهها من آداب تدور على النفع العاجل، وتقبل المعاذير منه في أخطر الأمور ...
كان في الوسع هذا، وكان في الوسع ذاك.
ونشأة الدولة الأموية على مفترق هذين الطريقين هي الحادث الجلل في صدر الإسلام، وهي الحادث الجلل الذي يقرر تبعتها في التاريخ الإسلامي، بل في التاريخ العالمي كله.
ورأس الدولة الأموية، معاوية بن أبي سفيان، هو صاحب هذه التبعة التي يجب أن تتقرر بأمانتها العظمى في ميزان لا تلعب به المنافع المقصودة، أو المنافع التي هي أخطر منها على الحقيقة، وهي منافع الطبائع المستسلمة لأيسر المعاذير، يشق عليها الصعود إلى المثل الأعلى، ولو بالأمل وحسن المظنة، ويطيب لها أن تسترسل على هينة
8
مع مألوفاتها في كل يوم ... •••
والصفحات التالية تتناول النظر في سيرة معاوية من هذه الوجهة، فليست هي سردا لتاريخه ولا سجلا لأعماله ولا معرضا لحوادث عصره، ولكنها تقدير له وإنصاف للحقيقة التاريخية وللحقيقة الإنسانية كما يراها المجتهد في طلبها وتمحيصها، ونكاد نقول كما يراها من لا يجتهد في البعد عنها وإخفاء معالمها، والتوفيق بينها وبين دخيلة هواه من حيث يريد أو لا يريد، وبعض المؤرخين بعد العصر الأموي إلى زماننا هذا يفعلون ذلك حين ينظرون إلى هذه الفترة، فلا تخطئهم من أسلوبهم ولا من حرصهم على مطاوعة أهوائهم، كأنهم صنائع الدولة في إبان سلطانها وبين عطاياها المغدقة، ونكاياتها المرهوبة، ورجالها الذين تنعقد بينهم وبين معاصريهم أواصر المودة ، والنسب وأواصر المشايعة في المطالب والمعاذير.
ولولا أننا نأبى أن نضرب الأمثلة بالأسماء لذكرنا من هؤلاء المؤرخين المعاصرين من يتكلم في هذا التاريخ كلاما ينضح بالغرض، ويشف عن المحاباة بغير حجة، فمنهم من ينكر الخلاف بين هاشم وأمية في الجاهلية، ومنهم من يحسب من همة معاوية أنه تصدى للخلافة مع علي، ويحسب من المآخذ على غيره أنهم تصدوا للخلافة مع يزيد، ومنهم من يشيد بفضل أبي سفيان على العرب؛ لأنه كان تاجرا يعرف الكتابة والحساب ويعلمهما من يستخدمهم في تجارته، ومنهم من يلوم أهل المدينة؛ لأنهم نكبوا في أرواحهم وأعراضهم على أيدي المسلطين عليهم من جند يزيد، ولا تكاد تسمع منه لوما لأولئك المسلطين، بل تكاد تسمعه يعذرهم ولا يدري ما يصنعون غير ما صنعوه.
ولو أننا ذكرنا أسماء هؤلاء المؤرخين المعاصرين لكان تمام البيان عن منهجهم أن نشفعه
Página desconocida
9
بأطراف من تراجمهم، وألوان من مسالكهم في طلب المنفعة واللياذ بالقادرين عليها، وألوان من معاذيرهم التي يرتضونها لأنفسهم، ويوجبون على الناس أن يرتضوها لهم أو يلتمسوها لهم، وإن لم يعلنوها ... •••
ولكننا ندع هذا التمثيل؛ لأننا في غنى عنه بما ثبت من الأمثلة المحفوظة عن زمانها، ونتخذ الشواهد من حوادثه وأقوال رجاله، ونتحرى في ذلك كله أن نصون التاريخ - نصون ذمة الإنسانية - أن يملكها من يملك الجاه والسلطان في زمن من الأزمان.
بين القدرة والعظمة
زبدة الصفحات التالية أن رأس الدولة الأموية كان رجلا قديرا، ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
والفرق بين القدرة والعظمة يوضحه الاصطلاح، ولا توضحه المعجمات اللغوية هذا التوضيح الذي نعنيه، فقد يقال عن العظيم: إنه قدير، ويقال عن القدير: إنه عظيم، ولا يخطئ القائل من الوجهة اللغوية في هذا الترادف المقبول ما لم يقيده الاصطلاح.
إنما الاصطلاح الذي نعنيه وننظر فيه إلى أحوال الطباع أن القدرة غير العظمة في أشياء.
فربما وصف الرجل بالقدرة؛ لأنه مقتدر على بلوغ مقاصده واحتجان
1
منافعه والإضرار بغيره، ولكنه إذا وصف بالعظمة، فإنما يوصف بها لفضل يقاس بالمقاييس الإنسانية العامة، وخير تغلب فيه نية العمل للآخرين على نية العمل للعامل وذويه. •••
Página desconocida
ولعلنا نقترب من توضيح الاصطلاح إذا نقلنا التفرقة من القدرة والعظمة إلى التقدير والتعظيم.
فنحن نقدر الإنسان بمقداره عظيما كان أو غير عظيم، بل نقدر الأشياء بمقاديرها ولو لم يكن لها عمل، ولم تكن من وراء العمل نية، ولكننا إذا عظمنا الإنسان فإنما نوجب له التعظيم علينا؛ لأنه يعنينا ويستحق إكبارنا، ويرتفع إلى المكانة التي تلحظها الإنسانية بأسرها، وتعود عليها في منافعها وخيراتها.
فكل عظيم قدير ...
ولكن ليس كل قدير بالعظيم ...
والعظمة قدرة وزيادة ...
أما القدرة فليس من اللازم أن تكون عظمة، فضلا عن أن تكون عظمة وزيادة، ومعاوية قدير ولا ريب ...
أما أنه عظيم فذلك الذي نعرض له في الصفحات التالية؛ لنبين فيها الفارق بين القدرة والعظمة، في ترجمة رجل من أنفع الرجال النابهين لتوضيح هذا الفارق بميزان الحوادث وميزان الأخلاق.
ومن سرف القول أن يقال إن معاوية لم يكن يعمل بباعث من الغيرة الدينية، أو بباعث من أحكام المروءة والعرف المتبع في الأخلاق.
فليس في وسعه أن يتجرد من هذه البواعث لو أراد، وليس في وسع رجل أسلم على يد النبي - عليه السلام - وصاحبه، وعمل على أيدي الجلة من صحابته أن يغفل عن غيرة دينه، وأحكام فرائضه، وواجبات المروءة في عرف زمنه ... •••
إلا أننا - مع العلم بغيرته الدينية في شعوره وفعاله - نستطيع أن نعلل جميع أعماله بعلة المصلحة «الذاتية» أو مصلحة الأسرة والعشيرة.
Página desconocida
ونستطيع أن نعمم القول بغير استثناء على كل مسعى من مساعيه، وكل حيلة من حيله وكل مأثرة من مآثره، فنقول: إن المصلحة الذاتية أو مصلحة الأسرة والعشيرة كافية لتعليلها والقيام بها، وإنه لم يعارض المصلحة الذاتية بإرادته في حين واحد، وعارض المصلحة العامة في أحيان، كان رجلا قديرا ولكنه لم يكن بالرجل العظيم.
ومهمة المؤرخ في سيرته أن يقدر قدرته، وأن يعرف ما اقتدر عليه بسعيه وتدبيره، وما اقتدر عليه بمساعدة الزمن وممالأة الحوادث والمصادفات ...
وهذه المهمة تتقاضانا «أولا» أن نجمل القول في جميع التمهيدات التي مكنته من الاقتدار على مقاصده، ومنها ما كان سابقا للإسلام وسابقا لمولده، ومنها ما تم قبل ملكه، وما تم في أثناء ملكه إلى ما بعد موته ...
وتتقاضانا هذه المهمة «ثانيا» أن نزن المواهب العقلية والخلقية، التي اشتهر بها وأسند إليها ما أسند من أسباب نجاحه.
فنبدأ الكلام في الفصول التالية بالتمهيدات التاريخية من قبل الإسلام إلى قيام الدولة الأموية، ثم نتلوها بتحليل الأخلاق والمواهب التي تعد من وسائل نجاحه ...
ونلاحظ في ذلك كله أن «نقدر القدرة» التي ثبتت لهذا الرجل القدير من وراء المدائح والأهاجي، ووراء الدعاية له والدعاية عليه.
ونحسب أننا وفينا بهذه الأمانة إذا انتهينا من هذه الصفحات إلى الوزن الصحيح، الذي يوزن به رأس الدولة الأموية، ويوزن به غيره من أعلام التاريخ.
تمهيدات الحوادث
بدأ التمهيد لبني أمية في الشام قبل الإسلام بجيلين متعاقبين، وكانت الشام قبل ذلك سوقا عامة لقريش، تأتيها قوافل الصيف بتجارة الحجاز في حراسة الرؤساء من بيت مناف على الأكثر، وأظهرهم في الجيل الذي سبق الدعوة النبوية هاشم بن عبد مناف.
ولم يكن رجحان هاشم بالرئاسة والثروة حائلا بين الأمويين وغشيان الشام للتجارة والإقامة بين المدن والبادية فيها، بل كان هذا الرجحان - فيما اتفقت عليه الأخبار - سببا لهجرة أمية من مكة، وإقامته بالشام عشر سنين؛ إذ تنافر هاشم وأمية وتنافسا على الرئاسة، واحتكما إلى الكهان كعادتهم على أن يكون للغالب إجلاء المغلوب عن مكة عشر سنين، فقضى المحكمون لهاشم على أمية، وخرج أمية إلى الشام فاختارها مقاما له خلال هذه السنين، وربما كان ضيقه بالزعامة المعقودة لهاشم في مكة من دواعي الهجرة قبل الحكم عليه في قضية المنافرة المشهورة، وهي قضية قد تصح بتفصيلاتها أو لا تصح إلا بجزء منها، ولكن هجرة أمية إلى الشام لم تكن مما اختلف عليه المختلفون.
Página desconocida
ولما مات هاشم شغل أبناؤه بالرئاسة الدينية إلى جوار الكعبة، وآل اللواء إلى بني أمية، وهو عمل ينوط بصاحبه حراسة القوافل من الشام وإليها؛ إذ لم يكن من حاجة قريش في الجيل السابق للإسلام عقد اللواء لجيش يغزو القبائل أو يدفع غزوتها لمكة، وإنما كان العمل الأكبر لصاحب اللواء حراسة طريق التجارة بين مكة والشام على الأكثر، وبين مكة واليمن في قليل من الأوقات، وكان عملا يحتاج في الواقع إلى جيش صغير وقائد يحمل لواءه؛ لأن القافلة التي تخرج للتجارة تجمع أموال قريش، وتسير بها المئات من الإبل، ولا ينتظم سيرها بغير قيادة تتولى تنظيم المخافر وتوزيع المؤنة والتعرف إلى رؤساء القبائل التي تقيم على الطريق، أو تقيم على مقربة من أسواق الشام في البادية، فهي عمل متصل لا ينتهي بانتهاء رحلة القافلة، ولا تزال له روابطه وعلاقاته بين صاحب اللواء وأعوانه، وبين ذوي الشأن في مراحل الطريق وفي منازل المقام.
ومن المشهور المتواتر أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كان معروف المكانة بين رؤساء الدولة البيزنطية على حدود بلاد العرب، كما كان معروف المكانة بين الوجوه من قبائل البادية، وخلعت عليه الدولة البيزنطية لقبا من ألقاب الرئاسة؛ ليسفر بينها وبين قومه ويعينها في خلافها مع العرب الغساسنة بالشام، وكانوا يجنحون أحيانا إلى جانب فارس في حربها لبيزنطة، ويرى البيزنطيون أنهم لا يستغنون عن قوة من العرب لمقاومة هذا الخطر من البادية، ولو بتهديد الغساسنة، وتشكيكهم فيمن يجاورهم أو يعاملهم من العرب الحجازيين.
وقد كان بنو أمية على شبه محالفة بينهم وبين بني كلب أقوى القبائل ببادية الشام، وأشدها خطرا على الغساسنة، ومنها من تنصر منافسة للغساسنة في حظوة الدولة مع ارتقابهم للفرص بين الدولتين وبين القبائل العربية، وقد عرفنا بعد الإسلام ثلاثة من كبار الأمويين أصهروا إلى بني كلب في عصر واحد، وهم: سعيد بن العاص والي الكوفة، والخليفة عثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان. ولا تكون هذه المصاهرات أول العهد بالصلة بين الفريقين، فهي بقية لما تقدمها من الصلات.
ومن المشهور أيضا أن أبا سفيان كان على صلة بولاة الأمر من البيزنطيين، وكان يلقى هرقل وأمراء بيته في رحلاته، ويعول عليه هؤلاء فيما يعنيهم من أحوال العرب وأخبارهم، فقيل : إنهم سألوه عن النبي - عليه السلام - عند مبعثه، وإن السائل جعل يستنبئه عن صفاته - عليه السلام - على مسمع من قوم حجازيين في المجلس، ويحذره أن يكذب فيكذبه من سمع كلامه من قومه، قال أبو سفيان: وعلمت أنهم لا يكذبونني إن كذبت، ولكنني صدقت الصفة ضنا بمروءتي أن أقول ما يعلم السامعون أنه نبأ مكذوب ...
قال المقريزي: «إنه ما فتحت بالشام كورة إلا وجد فيها رجل من بني سعيد بن العاص ميتا ...»
وكان النبي - صلوات الله عليه - يتحرى في اختيار الولاة أن يندبهم للولاية حيث يتيسر لهم العمل بموافقة الرعية، فاختار عمرو بن سعيد بن العاص واليا لتيماء وخيبر وتبوك وفدك، وكلها على طريق التجارة الأموية، وسار أبو بكر على هذه السنة، فاختار يزيد بن أبي سفيان قائدا لجيش من جيوش الحملة على الشام، وولاه بعض أقاليمها بقية حياته، وكانت وفاته في عهد الفاروق، فجرى على هذه السنة وعهد بالولاية إلى أخيه معاوية حيث بقي إلى ما بعد خلافة الفاروق، وكان يعمل برئاسة أخيه قبل موته ويحمل اللواء بين يديه.
ومن بني أمية من كاد يصرح بالطمع في الملك بعد رسول الله على عهد الصديق؛ إذ كان من أبناء عمرو بن سعيد بن العاص خلف على الولاية التي ولاها إياه النبي - صلوات الله عليه، فلما بويع أبو بكر بالخلافة أنفوا أن يعملوا له، وقالوا: «نحن أبناء بني أحيحة لا نعمل لأحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أبدا ...»
ولا يقول هذا القول إلا من يطلب الرئاسة لنفسه، ولا يقر بالرئاسة لغير ذي نبوة أو رسالة إلهية، وينظر إلى الخلافة نظرة دنيوية لا تفاضل فيها بصفة من صفات الدين، وسابقة من سوابق الهداية.
Página desconocida
وكان الفاروق قد ولى معاوية ولاية من الشام، فضم إليه عثمان سائر الشام وألحق به أقاليمها من الجزيرة إلى شواطئ بحر الروم، فلما قتل عثمان كان قد مضى لمعاوية في ولاية الشام عشرون سنة، لم يبق فيها من ينازعه أو يعصيه، ولم يكن من عمالها وحكامها المرءوسين له أحد من غير صنائعه وأشياعه والمستقرين في كنفه؛ لأنه حرص في ولايته على استبقاء من يواليه، وإقصاء من يشغب عليه، وجعل همه الأكبر أن يخرج أهل الفتنة من الشام، ولا يبالي بعد ذلك ما صنعوا في سائر الولايات، فتفرقوا كلهم بين الكوفة ومصر والحجاز.
كان عثمان يسمع الأقاويل عن ولاية الشام، ويتلقى الشكايات ممن يطلبون منه عزل ولاته وأولهم معاوية، فيعتذر لهؤلاء الشاكين بعذره المعهود، ويقول لهم: إنه إنما ولى على الشام من ارتضاه قبله عمر بن الخطاب ... وقال ذلك مرة لعلي بن أبي طالب، فقال له علي: «نعم، ولكن معاوية كان أطوع لعمر من غلامه يرفأ.» وصدق الإمام فيما قال.
فقد كان معاوية يصطنع الأبهة في إمارته، ويقتصد فيها جهده بعيدا عن أعين الفاروق، فإذا لامه الفاروق على شيء منها رآه بعينه اعتذر له بمقامه بين أعداء ألفوا الأبهة، واتخذوها آية من آيات القوة والمنعة، وكان يؤدي حساب ولايته لعمر كلما سأله الحساب، ويقنع منها برزقه من بيت المال ألف دينار في العام، وأنفال
1
مما يجمعه من تجارة أهله أو مما وراء الحساب.
فلما بويع عثمان بالخلافة تركه في مكانه، وضم إليه سائر الشام كما تقدم، وطلب منه معاوية أن يرخص له في زرع الأرض التي تركها أصحابها وهاجروا إلى بلاد الروم فأجابه إلى طلبه، ووضع معاوية يديه على موارد من المال تقوم بأعباء دولة، ولم يكن يخشى عليها من الحساب ما كان يخشاه على عهد عمر بن الخطاب، وأوشكت الشام أن تقوم وحدها مملكة مستقلة يتولاها ملك مستقل، فيما عدا الأوامر التي كانت تأتيه من المدينة بتحصين الثغور، وإمداد الغزاة، وتسيير الجيوش إلى الأطراف بقيادة الأعلام من الصحابة.
وقتل عثمان فانقسمت الرقعة الإسلامية قسمين: أحدهما لا خلاف فيه وهو الشام «حصة معاوية»، والآخر لا وفاق فيه وهو حصة علي من الحجاز والعراق، وقد تدخل مصر فيها حينا، وتخرج منها أكثر الأحايين.
وتولى معاوية بلادا لا ينازعه فيها منازع، ولا يود أحد فيها أن تخرج من يديه وتئول إلى غيره.
وتولى علي بلادا كلها نزاع من أمر الخلافة إلى أصغر الأمور، فنازعه الخلافة طلحة والزبير، وأحاط به رهط من المتزمتين المتفقهين يسألونه عن الكبيرة والصغيرة، ويجتهدون اجتهادهم في كل شأن من شئون السياسة.
وهذا إلى الفارق بين وفرة المال من جانب وندرته من الجانب الآخر.
Página desconocida
وهذا إلى فارق آخر أكبر وأعسر وأعضل على الحل والمحاولة، وهو الفارق بين الملك والخلافة، وقد افترقت طريقاهما منذ سنين، وتم افتراقهما بعد أيام عثمان.
فكانت أعباء الخلافة كلها على علي، وكانت أحوال الملك كلها على معاوية مواتية له محيطة به فيما يريد وفيما لا يريد.
كان الناس مع علي ينظرون إلى سنة النبي، وسنة الصديق، والفاروق من بعده، وكان الناس مع معاوية ينظرون إلى هرقل وكسرى، ولا يسومونه
2
أن يحكم كما حكم النبي، أو كما حكم من بعده الخليفتان الأولان ...
وكان لا بد لعلي - كما قلنا في عبقرية الإمام - من ملك أو خلافة ... ولن يكون ملكا بأدوات خليفة، ولا خليفة بأدوات ملك، ولن تبلغ به الحيلة أن يحارب رجلا يريد العصر والعصر يريده؛ لأنه عصر ملك تهيأت له دواعيه الاجتماعية، وتهيأ له الرجل بخلائقه ونياته ومعاونة أمثاله، ولم يكن معاوية زاهدا في الخلافة على عهد أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكن الخلافة كانت زاهدة فيه، فلما جاء عصر الملك طلب الملك والملك يطلبه.
وهذه حالة لم تطرأ دفعة واحدة في أيام النزاع بين علي ومعاوية، بل ظهرت بوادرها في أيام الصديق، وازدادت ظهورا في أيام الفاروق، وحدث كما أجملنا ذلك في كتاب ذي النورين أن الصديق «اتخذ الحيطة للفتنة، واستبقى عنده كبار الصحابة؛ ليجمع بين معونتهم له في الرأي وبين تجنيبهم الفتنة ومآزق الولاية، وكان يتذمر من ترخص
3
بعض الصحابة في أمور تؤذن بما بعدها، فقال لعبد الرحمن بن عوف وهو على سرير الموت: ما لقيت منكم أيها المهاجرون ... رأيتم الدنيا قد أقبلت ولم تقبل، وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وحتى يألم أحدكم بالاضطجاع على الصوف الأذربي،
4
Página desconocida
كما يألم أحدكم إذا نام على حسك السعدان.»
5
وانقضى عهد الصديق ثم انقضى عهد الفاروق «والمجتمع الإسلامي مجتمعان: أحدهما ماض ولما يمض بأجمعه، والآخر مقبل ولما يقبل بأجمعه، وأوشك عمر على قوته أن يحار في تدبيره، وقال الشعبي: إنه قضى وأوشكت قريش أن تمله لشدته ووقوفه لها، بحيث وقف حائلا بينها وبين نزعاتها ومطامحها في دنياها الجديدة.» •••
وتتابعت السنون على أيام عثمان، وهذان المجتمعان يلجان في الافتراق حتى افترقا غاية افتراقهما في النزاع بين علي ومعاوية، فكان علي يكبح تيارا جارفا لا حيلة له في السير معه ولا في دفعه، وكان معاوية يركب ذلك التيار رخاء سخاء بغير مدافعة وغير حيرة، ويركبه معه من لا يدافعه ولا يحار فيه ...
وكأنما بقيت من التيسير هنا والتعسير هناك، فجاءت حصة علي حيث جاء الموالي
6
من كل جنس يطلبون الحق الذي يطلبه كل مسلم ممن لا ينكر على أحد حقا من الحقوق، وخلت الحصة الأخرى من هؤلاء الموالي، وخلصت للعرب يوم كان العرب وحدهم قوام الدولة في دمشق بين القرشيين واليمانيين.
أحاط الموالي بالإمام حتى قال له بعض أنصاره من العرب: «لقد غلبتنا هذه الحمراء عليك»، وسار الإمام في العدل بينهم وبين العرب سيرة من يعلم أنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.
أما في الشام فقد كان معاوية لا يباليهم؛ لأنهم قلة هناك لا يحسب لها حساب، ومرضاة العرب أولى من مرضاة الموالي في دمشق حيث قامت الدولة الأموية، وحيث هان خطبهم بعد ذلك حتى قيل إنه هم بقتلهم والبطش بهم على غير عادته، وقال لهم غير مرة: إنكم عجم وعلوج!
وما كان من قبيل المصادفات أن الدولة الأموية قامت في دمشق، وأن الدولة التي قوضتها - وهي دولة بني العباس - قامت في بغداد، فإن دمشق ما كانت لتصلح مقاما للدولة بعد اتساعها للعرب والفرس والترك والديلم، وموالي الأمم من كل قبيل.
Página desconocida
وقد كانت العصبية العربية قوة للدولة الأموية في نشأتها، وكان اختلاط الموالي ضعفا للدولة القائمة في الجزيرة؛ لأنهم أشتات متفرقون لم يكن منهم أحد يقبض على زمام من أزمتها ...
ونجمت ناجمة الخوارج فلم تكن لها جرثومة في الشام ينجمون منها، ولكنهم أصبحوا شعبة جديدة من شعب الشقاق بين الموالي والشيعة من العرب، وأصحاب التزمت والزهد من أدعياء الاجتهاد، وأدعياء الحق في محاسبة ولي الأمر على ما شرعه الكتاب ... •••
ثم قتل علي دون صاحبيه المقصودين بالقتل معه: معاوية وابن العاص؛ فانتفع معاوية بعمله في حياته كأنه أعفاه من جهاد منافسيه بالحجاز والعراق، وانتفع بعده بالشقاق بين الشيعة والخوارج والموالي والعرب في رقعة الجزيرة، فإذا هم يضرب بعضهم بعضا، ويغلبهم جميعا بأيديهم كلما تفرقوا وتقاتلوا، وما كان في وسعهم أن يتفقوا أو يكفوا عن القتال.
وإن القدرة التي خلصت بها الخلافة لمعاوية بين هذه الحوادث لتوزن بميزانها الصادق إذا شاء المؤرخ أن يخالف بين الكفتين ... فماذا كان معاوية صانعا لو أنه بويع بالخلافة في المدينة، ولم تكن له سابقة ولاية على الشام؟ وماذا كان صانعا لو كان على الشام يومئذ منافس يسوسها على سنة الملك، ويرتكن فيها إلى قواعد راسخة من عهد الفاروق وقواعد راسخة من قبل الإسلام؟
ثم انفرد معاوية بالخلافة، ولزمته تبعة الدفاع عن الدولة في وجه أعدائها، فوضع المؤرخون في كفته هذه المأثرة غير مقدورة ولا محدودة، ولا منظور فيها إلى التمهيدات التي من قبيل ما قدمناه أو تربى عليها.
ولا شك أن رأس الدولة الأموية قد عمل على حمايتها، ولا بد له من العمل على هذه الحماية، ولسنا نعني هنا أنه حمى الدولة ليحمي ملكه ويحمي نفسه، فهذا قد يدخل في بيان النيات ولا يدخل في بيان القدرة التي أعانته على عمله، ولكننا نعني أننا لا نزن هذه القدرة بميزانها الصحيح إلا إذا عرفنا ما اضطلعت به، وكان لها يد فيه وعرفنا ما جرى في مجراه بحكم الحوادث، وليست فيه لها يد عاملة أو تدبير مقصود.
فالفتح الإسلامي قد ضعضع دولة الروم الشرقية وفت في أعضادها، وترك فيها رجال الدين والدنيا معا يائسين من رجعة الشام إلى حوزتها، مؤمنين بتأييد الله للعرب الفاتحين عقابا للرعاة والرعية على خطاياهم وخطاياها ...
وقد سمع هرقل صيحة الوعاظ بهذا النكير بأذنيه في مؤتمر أنطاكية، وغادر سورية وهو يودعها ذلك الوداع الذي كاد الرواة أن يحفظوه بكلماته اللاتينية، كما يحفظون كلمات سليمان الحكيم عن باطل الأباطيل.
فقبل أن يفارق الأرض السورية صاح كأنه ينشج بالبكاء: «الوداع يا سورية، الوداع الأخير»
Vale Syria et ultimatum vale .
Página desconocida
ورسخت هذه العقيدة في قلوب خلفائه، فلم تغن فيها وفرة العدة وكثرة الجند، وأسلحة البر والبحر التي كانوا يجمعونها، ولا تكاد تجتمع حتى تتفرق لأول صدمة أو تتفرق قبل اللقاء من أجل منام أو عيافة
7
أوهام، وقد روى جيبون أن حفيد هرقل خنع للتسليم؛ لأنه رأى في المنام أنه في سالونيكا، وهي كلمة تجانسها كلمة باليونانية معناها: «أعط النصر لغيرك!»
وفي تاريخ ميخائيل السوري: «إن المنتقم الجبار أتى بأبناء إسماعيل من الصحراء؛ ليخرجوا الأمم من ربقة الروم.»
وقد روى ابن الأثير من حوادث سنة خمس وعشرين هجرية: «إن معاوية غزا الروم فبلغ عمورية، فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرطوس خالية، فجعل عندها جماعة كثيرة من أهل الشام والجزيرة.»
ولم ييأس العواهل الضعفاء من سورية وما جاورها من آسيا الصغرى، بل يئسوا من القسطنطينية نفسها وهموا مرات بنقل العاصمة منها إلى صقلية، وتركها العاهل قنستانز فعلا (سنة 668م)؛ ليقيم له عاصمة في صقلية، فأوشك أن يقيمها لولا أنه قتل في سرقسطة!
واقترنت بهزيمة الروم في سورية هزائم شتى وشواغل متفرقة أيأستهم من الغلبة على الدولة الإسلامية، ومن هذه الشواغل حرب الشعوب السلافية ومحالفتهم للمسلمين في بعض الوقائع بآسيا الصغرى، ومنها الشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، ومنها انقسام الأسطول بين قيادتين إحداهما للعاصمة والأخرى للولايات المتفرقة.
وربما كان اسم الدولة الإسلامية في إبان الفتح حماية لها تقوم في ترويع خصومها مقام العدد والحصون، ولا أدل على ذلك من سلامة هذه الدولة في عهد معاوية الثاني الذي اعتزل الحكومة، ولزم داره كما جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي «أربعين يوما، وقيل: شهرين، وقيل: ثلاثة أشهر ...»
قال السيوطي: «ولم يخرج إلى الباب ولا فعل شيئا من الأمور ولا صلى بالناس.» ولما خلع نفسه قال: «أيها الناس ضعفت عن أمركم فاختاروا من أحببتم، ثم احتضر وهو في نحو العشرين فسألوه أن يستخلف أخاه خالدا، فقال: ما أصبت من حلاوتها فلم أتحمل مرارتها؟»
ولم يتفق المسلمون على خليفة بعد معاوية الثاني حتى قام عبد الملك بن مروان بالأمر سنة ثلاث وسبعين ... أي: بعد تسع سنين.
Página desconocida