الفصل السادس
صفاء
«كان ذلك ممكنا في تلك الأيام السود، فأما الآن فقد يسر الله الأمور، وأتاح لنا أن نخرج من ظلمة البؤس والشقاء، إلى نور النعيم والرخاء، فلست أحب أن أخوض، ولا أن تخوضي في هذا الحديث.» وهمت حنينة أن تتكلم ولكن ابنها نصيفا أعرض عنها بوجهه، ونأى عنها بجانبه، وأشعل سيجارته في شيء من أنفة، ونهض في شيء من كبرياء ومضى أمامه، فترك الحجارة وترك الدار كأنه لم يخلف فيهما أحدا. وظلت حنينة صامتة مبهوتة، ثم كفكفت دموعا كانت تريد أن تسيل، ثم حزمت أمرها وقدرت في نفسها أنها ستراجع ابنها في هذا الحديث، ونهضت فأقبلت على أعمال الدار كأن لم يكن بينها وبين ابنها شيء.
وقد استوفيت فيما أظن ما ينبغي أن يستوفيه الكاتب حين يريد أن يستأنف قصة خطيرة أو يسيرة، فألقيت إلى القراء هذه الجملة الغامضة التي لا يذكر فيها الفاعل ولا المبتدأ إلا متأخرا، لأثير في نفوسهم هذه الغرابة التي تدعو إلى الاستطلاع، ثم ذكرت بعد هذه الجملة اسم حنينة وابنها نصيف لتزداد حاجة القراء إلى هذا الاستطلاع، ثم فرقت بين الأم وابنها على هذا النحو الغريب المريب، فبينهما حديث لا يريد الفتى أن يتصل وتحرص الأم على أن يتصل، وهذا الحديث يمس الماضي المنكر الذي خرجت منه الأسرة، ويريد الفتى أن تنساه، وتريد الأم أن تفي له وتحرص عليه، وآية ذلك أنها تكفكف الدمع وتقدر في نفسها أنها ستعود إلى الخوض فيه متى لقيت ابنها حين يقبل المساء، أو حين يسفر الصباح، وأكبر الظن أنها تؤثر أن تتحدث إلى ابنها في أول النهار حين يجلس إلى فطوره هادئ النفس، مستريح الجسم، فارغ البال، لم يتكلف من أعمال يومه الجديد شيئا، ولم يتح له بعد أن يذكر من أعمال أمسه القديمة شيئا، ذلك خير من التحدث إليه في المساء، فهي قلما تخلو إليه في المساء لأنه يروح إلى داره عجلا، فيصيب شيئا من طعام مع الأسرة كلها، ثم ينصرف عنها عجلا ليلقى أترابه وأصحابه، فيسمر معهم شطرا من الليل، ويعود وقد بسط النوم جناحيه على الأسرة كلها فأغرقها في سبات عميق.
ومن حق القارئ بعد هذا كله أن يعرف حنينة ونصيفا، وأسرة حنينة ونصيف، وهذا الماضي القاتم الذي يكره الفتى أن يستبقي منه شيئا، وتحرص الأم على أن تستبقي منه بعض الأشياء.
ولست أكره أن أؤدي للقارئ حقه في هذا إن قبل أن ينتقل معي في الزمان والمكان جميعا، وما أطلب إليه أن ينتقل معي إلى زمان مسرف في القدم، أو إلى مكان مسرف في البعد، وإنما نريد أن نعود إلى أول هذا القرن، وأن نترك القاهرة إلى مدينة من مدن الأقاليم في مصر الوسطى؛ فقد ينبغي لكل قصة أن يكون لأحداثها زمان ومكان يختارهما الكاتب أو تختارهما الأحداث نفسها. والشيء الذي أؤكده للقارئ هو أني لم أختر ولم أكن أستطيع أن أختار زمان هذه القصة ومكانها، كما أني لم أختر ولم أكن أستطيع أن أختار أشخاص هذه القصة وأحداثها، وإنما اختارت طبيعة الأشياء هؤلاء الأشخاص، وأجرت طبيعة الأشياء عليهم ما أجرت من الأحداث، وأرادت أن يكون هذا في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن، وأن أشهد القصة وأتأثر بها أشد التأثر وأعمقه، وأن أدخرها في نفسي لشيء لم أكن أعرفه حين شهدت القصة وادخرتها، وقد أخذت أعرفه الآن حين بدأت أملي هذا الحديث؛ فأنا إنما شهدت القصة وادخرتها لأتحدث بها إلى قراء هذا السفر، بعد أن مضى على أحداثها ما يقرب من نصف قرن.
بل أكاد أقطع بأني لم أختر، ولم أكن أستطيع أن أختار، أن أتخذ هذه القصة موضوعا لهذا الحديث، وإنما هي التي اختارتني لتصل من طريقي إلى القراء، ولست أستطيع أن أبين لذلك سببا؛ لأني لا أستطيع - والقارئ نفسه لا يستطيع - أن أسأل القصة عن السبب الذي من أجله اختارت أن تذاع في هذه الأيام، والذي من أجله اختارت أن تذاع من طريقي أنا، ومن طريق هذه المجلة التي أكتب فيها.
وإنما أرى أني قد فرغت أياما وأياما، لموضوع من موضوعات الأدب الفرنسي، وجعلت أدرسه وأستقصيه لأتخذه موضوعا لهذا الحديث، وبلغت من ذلك أكثر ما كنت أريد، إن لم أكن بلغت كل ما كنت أريد، وجلست إلى صاحبي لأملي عليه ما قدرت إملاءه، ولكن صاحبي لا يسمع مني حديثا عن شيء يتصل بالأدب الفرنسي من قريب أو بعيد، وإنما يسمع مني بدء هذا الحديث، ويهم أن يراجعني، كما همت حنينة أن تراجع نصيفا. ولكني أعرض عنه بوجهي، وأنأى عنه بجانبي، أشعل سيجارتي في شيء من حزم، وأمضي في الإملاء، فيمضي هو في الكتابة، ويظهر أمامي أشخاص هذه القصة مزدحمين أشد الازدحام، ملحين أعظم الإلحاح، كلهم يريد أن يسبق إلى مكانه من هذا الحديث، كأنما طال عليهم النوم حتى سئموه، وثقل عليهم النسيان حتى ضاقوا به، فهم يريدون أن يستيقظوا، وهم يريدون أن أذكرهم أنا، وأن يذكرهم القراء، وأن يستردوا بذلك شيئا من حياة، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لأهون وأشقى من أن يفكر فيها أصحابها، ومن أن يحرصوا على أن يستردوا منها نصيبا قليلا أو كثيرا.
وهؤلاء الأشخاص كثيرون بعض الكثرة، فلا بد من أن أصطنع شيئا من النظام الحازم لأردهم إلى بعض القصد، ولأظهرهم في أماكنهم المقسومة لهم من هذا الحديث. وأماكنهم هذه لم أقسمها أنا لهم، وإنما قسمتها لهم حياتهم الأولى نفسها، فهم يؤلفون أسرتين قبطيتين من أسر الريف، كانتا تعيشان متجاورتين قد أنشأ الجوار بينهما ما ينشئ عادة بين الجيران من المودة والألفة، ومن العشرة المتصلة والاختلاط الدائم في غير تكليف ولا عناء، ومن هذا الاشتراك في لذات الحياة وآلامها، وفي مسرات الحياة ومساءاتها، وفي هذه الأحداث التي تحدث، والخطوب التي تلم، والنوائب التي تنوب.
وكانت أسرة المقدس ميخائيل تادرس في دار ليست بالمسرفة في السعة، وليست بالمسرفة في الضيق، وإنما هي دار متوسطة، تألفت من حجرات قليلة، لا يظهر عليها الثراء، ولا يظهر عليها الضر، ولا يظهر عليها ما يلفت إليها أحدا. كانت دارا متواضعة وإن لم تكن حقيرة، وكانت تقوم في أول الشارع مما يلي القناة على نحو منحدر يسير يكلف الساعي إليها قليلا من الجهد، فينحدر إليها إن جاء من هذه الناحية، ويصعد إليها إن جاء من تلك الناحية، ولا يسعى إليها سعيا هينا على كل حال، وكان المقدس ميخائيل صاحب تجارة يسيرة هينة قد اتخذ له حانوتا يبعد عن داره بعض البعد، يبيع فيه سقط المتاع من هذا الخرز الذي يتخذ الفقراء منه عقودا يتحلى بها النساء والفتيات، ومن هذا الزجاج الملون الذي يتخذ النساء منه أساور أو دوائر مفرغة يدخلن فيها سواعدهن، أو يدخلنها في سواعدهن، ويبهرن أنفسهن كما يبهرن الرجال بألوانها الزاهية ورنينها الحلو، وشيئا من الأقمشة الرخيصة التي يتخذ منها نساء الريف ثيابهن حين يتفضلن، وزينتهن حين يتبرجن.
Página desconocida