أما أم تمام فلم يرها أحد قط إلا ملتفة في شقتها السوداء تتدحرج على الأرض حين تشرق الشمس ساعية إلى الطريق العامة، وتتدحرج على الأرض حين يترفع الضحى أو ينتصف النهار، حاملة ما جمعت من روث، وربما رآها الراءون متبذلة على سقف بيتها تقطع الروث وتسويه، فرأوا منظرا بشعا وشكلا مخيفا.
ويقبل الوباء ولما يبلغ هذا القرن من عمره سنتين، ويلم الوباء بالقرية فيما يلم به من المدن والقرى، ويفجع الناس في أنفسهم وأبنائهم وذوي قرابتهم ومحبتهم، وتكون أم تمام في طليعة الذين يفجعهم الوباء، فهو يختطف ابنيها في أقل من خمسة أيام، وهي مع ذلك هادئة ساكنة مطرقة بجسمها كله إلى الأرض، لا يرتفع لها صوت بالإعوال، ولا ينخفض لها صوت بالنحيب، وإنما هي مقيمة في بيتها، وقد آوت إليها ابنتها كأنما تنتظران أن يلم الوباء بهما ويختطفهما كما اختطف الغلامين. ولكن الوباء قد أرضى حاجته من هذا البيت فهو لا يعود إليه ، فإذا طال انتظار أم تمام له في غير طائل، نظر الناس فإذا أطوارها قد تغيرت من جميع جوانبها، وإذا حياتها قد بدلت تبديلا، فهي لا تألف بيتها ولا تحب الاستقرار فيه، وإنما تمسك فيه الصبية وتحرج عليها أن تخرج منه، وتنطلق هي مع الشمس المشرقة لتعود إلى بيتها وابنتها حين ينشر الليل ظلمته على الأرض، ويسعى الموت والمرض مستخفين إلى البيوت.
كانت أم تمام تخرج من بيتها حين تشرق الشمس ملففة في شقتها السوداء، مطرقة بجسمها كلها إلى الأرض، فتقف أمام بيتها وقفة قصيرة تستقبل الغرب، وترفع رأسها في تكلف شديد إلى السماء، وتمد بصرها أمامها، ثم تلتفت إلى يمين وإلى شمال تجذب الهواء بأنفها جذبا، كأنما تحاول أن تتنسم رائحة خفية ضئيلة، وقد كانت بالفعل تتنسم رائحة الموت تندفع إلى يمين أو إلى شمال، ثم لا يراها الناس أثناء النهار كله إلا في دار من هذه الدور التي ألم بها الموت وقام فيها المأتم يندبن ويبكين، وكانت أم تمام تصل إلى هذه الدار أو تلك فلا تقول لأحد شيئا ولا تلقي إلى أحد سمعا، وإنما تقصد المأتم الباكيات، وتجلس حين ينتهي بها المجلس، لا ترفع صوتا بإعوال، ولا تخفض صوتا بنحيب، لا تلطم وجهها، ولا تخمش صدرها، ولا تصنع صنيع أحد من هؤلاء النساء، وإنما تجلس ساكنة منعطفة على نفسها، كأنها قطعة من صخر قد سويت على عجل ونحتت في غير نظام، وفاض من عينيها دمع غزيز غير منقطع، كأنه بعض تلك الينابيع الضئيلة التي يتفجر عنها الصخر في الجبال، حتى إذا بلغت حاجتها من البكاء في هذه الدار تركتها إلى دار أخرى، ثم إلى دار ثالثة، وما تزال كذلك حتى ينقضي النهار، لا تكلم أحدا ولا يكاد يكلمها أحد، ولا ترد على الذين كانوا يكلمونها رجع الحديث.
أكانت تبكي ابنيها؟ أم كانت تبكي أبناء تلك الأسرة التي كانت تلم بها؟ أم كانت تبكي صرعى الوباء جميعا؟ أم كانت تبكي نفسها وابنتها بين الذين لم يصرعهم الوباء؟ وكيف كانت تعيش؟ وكيف كانت تتيح لابنتها الصبية أن تعيش؟ لم يستطع أحد قط أن يعرف من ذلك قليلا ولا كثيرا، لم يحاول أحد أن يعينها، ولم تحاول هي أن تستعين بأحد، وإنما أنفقت أيام الوباء تتنسم ريح الموت حين يسفر الصبح، وتسفح دموعها في منازل الموت أثناء النهار، وتعود إلى بيتها وابنتها حين يقبل الليل. وتنجلي غمرة الوباء، وتخرج أم تمام من بيتها مع الصبح أياما وأياما، فتستقبل بوجهها الغرب تتنسم ريح الموت، فلا يحملها إليها النسيم، فترجع أدراجها وتدخل بيتها وتغلق من دونها الباب، ولا يراها النهار إلا حين تخرج مع الصبح لتتنسم ريح الموت.
ويراها بعض أهل القرية ذات يوم قد خرجت قبل أن يرتفع الضحى، وأخذت بيد ابنتها، وجعلتا تسعيان في بطء نحو الغرب، فيقول بعضهم لبعض: هذه أم تمام قد ملت البطالة، وسئمت السكون وشق عليها وعلى ابنتها الجوع، فخرجتا تلتمسان الرزق وتبتغيان من فضل الله. ولكن النهار لا يكاد ينتصف حتى يأتي نفر من الفلاحين يحملون جثة قد شاع فيها الموت، وجثة أخرى تمتنع على الموت امتناعا، قد رأوا أم تمام تغرق نفسها وابنتها في القناة الإبراهيمية، فأسرعوا إلى استنقاذهما، ولكن الموت سبقهم إلى الشيخة، وسبقوه هم إلى الصبية، وقد دفن أهل الخير أم تمام، وآووا سعدى في هذه الدار أياما وفي تلك الدار أياما، ولكن سعدى خرجت من الماء بلهاء ليس لها حظ من عقل ولا نصيب من صواب، فهي ثقيلة على الذين يئوونها، بغيضة إلى الذين يضيفونها، وما هي إلا أسابيع حتى تلفظها الدور والبيوت، وإذا هي مشردة تسعى ما استطاعت السعي، وتسكن حين تضطر إلى السكون، تراها في هذا الشارع من شوارع القرية مصبحة، وفي هذا الزقاق من أزقتها ممسية، وتراها بين ذلك في الطريق العامة تسعى سعيا رفيقا كأنها السلحفاة، أو تعدو عدوا سريعا كأنها الأرنب. وقد تراها أحيانا جالسة على شاطئ القناة تنظر إلى الماء كأنها تريد أن تغوص فيه، أو تنظر إلى السماء كأنها تريد أن ترقى إليها. وعرف الناس سعدى البلهاء، ونسي الناس أم تمام، وجعل الناس ينظرون إلى سعدى البلهاء كما ينظر أهل الريف إلى أمثالها؛ يعطفون عليها حينا ويضحكون منها أحيانا، يرثون لها مرة ويقسون عليها مرات.
وسعدى البلهاء على ذلك تعيش وتشب، ويستدير جسمها، ويستقيم قدها، ويسخر البؤس منها فيلقي على وجهها مسحة من جمال، وهي على ذلك حمقاء خرقاء لا تحسن أن تعمل، ولا تحسن أن تقول، ولا تستقر في مكان، وإنما هي متنقلة بين القرى، ترى في هذه القرية يوما وفي تلك القرية يوما آخر، وقد ترى في هذه القرية مصبحة، وفي القرية المجاورة من قرب أو من بعد ممسية، ولكن أهل القرية يرونها ذات يوم فيرون منظرا عجبا من شأنه أن يمزق القلوب حزنا ويفرق النفوس حسرة وأذى، يرون هذا المنظر المؤذي البشع البغيض، فلا يثير في نفوسهم رحمة ولا يجري ألسنتهم بكلمة رثاء، وإنما ينظرون ثم يتضاحكون ثم يتبادلون هذه الألفاظ الغليظة التي تصور سخرية أهل الريف؛ لأنهم يرون سعدى البلهاء تسعى وبطنها يسعى بين يديها، قد عبث بها غول من أغوال الطريق فوضع في أحشائها جنينا، وهي بلهاء لا تفرق بين الغول والرجل، ولا بين الملك والشيطان، ولا تعرف ما يراد بها، ولا تعرف ما تريد إن كان لمثلها أن تريد.
أين مضت سعدى بهذا الجنين الذي كانت تحمله في أحشائها؟ أأتيح لهذا الجنين أن يرى النور أم لم يتح له أن يراه؟ ما خطبه وما خطب أمه؟ لن أحدثك من أمرهما بشيء لأني لم أعرف من أمرهما شيئا، وإنما حدثتك بما وقف عنده علمي، فقد ارتحلت عن القرية قبل أن تبلغني أنباء الجنين وأمه البلهاء، ثم شغلت عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأنسيت أم تمام وابنيها، وتقلبت فيما شاء الله أن أتقلب فيه من شئون الحياة خمسة وأربعين عاما. ثم أعود إلى مصر بعد غيبة عنها قصيرة أو طويلة، فأجد فيها الوباء، وما هي إلا أن أذكر أم تمام وابنتها سعدى البلهاء، وما هي إلا أن أسأل نفسي أيمكن أن يجد الوباء الحديث ما وجد الوباء القديم من حال أم تمام وأشباه أم تمام؟
يقال إن شئون مصر قد تغيرت، وإن حياة مصر قد صلحت فيما يقرب من نصف قرن، ولكن شئون مصر التي تغيرت، وحياة مصر التي صلحت، لم تمنع الوباء من أن يجدد عهده بزيارة مصر، فمن يدري! لعل تغير الشئون وصلاح الأحوال ورقي النظام الاجتماعي والسياسي، لا يمنع من أن توجد في قرية من قرى مصر العليا أو من قرى مصر السفلى، أو قريبا جدا من القاهرة، أسرة معتزلة كأسرة تمام.
الفصل الخامس
رفيق
Página desconocida