وكان في تلك الليلة يمضي أمامه، تؤنس قلبه هذه الآية التي تتردد فيه، فلما رأى ما رأى، وسمع ما سمع، لم يخف شيئا، ولم يذكر شيئا، وإنما كف عن التلاوة، وسأل نفسه مسرعا: أيمضي إلى النهر أمامه، أم يرجع إلى المسجد وراءه حتى إذا أدى الصلاة مضى إلى النهر، فاستخرج منه ما يسوقه الله إليه من رزق؟ ولم يشك طويلا حين ألقى على نفسه هذا السؤال، وإنما استدار إلى المسجد فأدى صلاته لم يكلم أحدا ولم يكلمه أحد، ثم استأنف سعيه إلى النهر هادئا مطمئنا وحيدا، لا يذكر شيئا، ولا يكاد يفكر في شيء، وإنما هو قطعة جامدة قد صورت في صورة إنسان تمضي أمامها في أناة ومهل، لا تنظر في السماء ولا تنظر في الأرض، ولا تلتفت إلى يمين ولا إلى شمال، ولا تحس جلال الليل المنهزم، ولا جمال الصبح المنتصر، وإنما خرجت من ذلك البيت الحقير، وسعت إلى ذلك النهر العظيم، تلتمس فيه ما ساقه الله لها من رزق، فلم يكن قاسم شاعرا ولا راوية شعر، ولا محبا لجلال الليل وجمال النهار، بل لم يخطر له قط أن لليل جلالا، وأن للنهار جمالا. فلم يكن قاسم إلا رجلا جاهلا بائسا مريضا، يلتمس في النهر ما يستعين به على أن يقيم أوده، ويقوت امرأته «أمونة»، وابنته «سكينة» في بيته ذلك الحقير، ولولا أن قاسما كان يردد في صدره هذه الآية، ويؤدي صلاة الفجر إن أدركته وهو في طريقه إلى النهر، ويفكر أيسر التفكير وأهونه في بيع ما يخرج له من سمك النهر ليقوت نفسه وأهله، لولا ذلك لكان سعيه بين بيته وبين النهر شيئا غريزيا خالصا يشبه سعي النمل والنحل إلى أرزاقها.
وقد كان قاسم عليلا قد نهكه المرض، وكاد يسل جسمه سلا، ومن أجل ذلك لم يكن يجد ولا يكد، ولا يضطرب في شئون الحياة كما يضطرب غيره من الناس، وإنما كان ينفق أيسر الجهد ليمسك الحياة على نفسه وعلى أسرته الصغيرة. يسعى إلى النهر بين حين وحين، فإن ساق الله إلى شبكته شيئا من السمك باعه في غير مشقة ولا مساومة، ثم عاد بما يغل ذلك عليه من نقد فاشترى في كثير من الفتور والسأم ما يصلح أمره وأمر زوجه وابنته، ثم يعود بذلك كله إلى البيت فيلقيه بين يدي أمونة إلقاء، ويسعى متخاذلا متهالكا إلى حصير بال رث قد ألقي في ناحية من نواحي البيت، فيمتد عليه ضئيلا نحيلا يكاد السقم يفنيه إفناء. وما يزال على حصيره ذاك لا ينطق كلمة، ولا يفكر في شيء حتى تهيئ امرأته ما يمكن أن تهيئ من الطعام، فتضعه بين يديه ويصيب ثلاثتهم منه ما يصيبون. وما أكثر الليالي التي لم يكن قاسم ينهض فيها للصيد! يقعد به الداء، وتثقل عليه العلة، فيستقر في مكانه مثبتا لا يأتي حركة، ولا ينطق بكلمة، وفي نفسه ما فيها من حسرة وألم إن استطاعت نفسه أن تحس حسرة أو ألما، وربما كلف نفسه فوق ما تطيق، وحمل جسمه أكثر مما يحتمل، ونهض وهو لا يقدر على النهوض، وسعى وهو لا يقدر على السعي، وبلغ النهر فوجده كريما بالقياس إلى غيره من الناس، بخيلا بالقياس إليه، فعاد إلى بيته مكدودا محزونا، صفر اليدين، وألقى إلى امرأته نظرة حزينة مريضة، ومضى إلى حصيره فامتد عليه لا يقول شيئا ولا يصنع شيئا.
هنالك كانت أمونة تخرج متباطئة، فتلم بهذه الدار أو تلك تعين أهلها من أمرهم على بعض ما يصنعون، وتعود حين ينتصف النهار، وقد حملت ما يمسك عليها وعلى زوجها وابنتها الحياة، ويرد عنهم الجوع.
في ذلك الصباح خرج قاسم من المسجد بعد أن أدى الصلاة، فسعى إلى النهر مطمئن القلب، هادئ النفس، على ثغره ابتسامة ضئيلة شاحبة تريد أن تصور الراحة والرضا، فلا تستطيع أن تصور إلا حزنا هادئا فيه شيء من أمل يسير، وقد صادف النهر كريما في ذلك اليوم، وساق الله إليه رزقا حسنا، فخرجت له شبكته بسمكة عظيمة لم يكد يحس ثقلها، ولم يكد يرى طولها وعرضها حتى اضطرب في قلبه فرح ضئيل، اتسعت له الابتسامة التي كانت مرتسمة على ثغره، وذهب عنها ما كان يظهر فيها من شحوب، ولمع في عينيه الصغيرتين نور متهالك ضئيل، ثم أحس أنه لن يستطيع أن يحمل صيده إلى أمد بعيد، فأقام أمامه ينظر إليه حينا وإلى النهر حينا، ويتلفت من حوله حينا، ويرفع رأسه إلى السماء بالشكر حينا، وينتظر أن يمر به بعض الأصحاء من شباب المدينة فيحمل له هذا الصيد إلى بيت العمدة؛ فقد استقر في نفسه منذ رأى هذا الصيد الرائع الجميل أنه لا ينبغي أن يباع في السوق، وإنما ينبغي أن يحمل إلى بيت العمدة، هذا الرجل الموسر الذي يرفق به ويعطف عليه، ويوصيه بين حين وحين بأن يحمل إلى داره ما قد يتاح له من صيد حسن.
وكانت فتاة من فتيات الدار قد نهضت مع الصبح قبل أن تستيقظ الأسرة من نومها، فبدأت بما تعودت أن تبدأ به مع الصباح من كل يوم، وأخذت تكنس فناء الدار وترده إلى هيئته التي ينبغي أن يكون عليها، فتصفف الكراسي في أماكنها، وتنفض التراب عن تلك الدكة الطويلة التي كانت تمتد في صدر الفناء، وتهيئها لمجلس سيدنا حين يقبل مطلع الشمس ليقرأ السورة ويشرب القهوة، ويتحدث إليها حديثا يطوله حينا ويقصره حينا حسب ما يكون عليه من عجلة أو ريث. وإن الفتاة لفي ذلك وإذا بالباب يطرق طرقا خفيفا، فإذا فتحته رأت قاسما حزينا تظهر على وجهه الشاحب آية الرضا والأمل، ومن ورائه غلام يحمل عنه عبأه، فحيا قاسم وحيا معه الغلام، ثم دخل الرجلان صامتين ووضعا صيدهما العظيم على هذه الدكة في صدر الفناء، وقال قاسم في صوته الخافت المريض: ما أشك في أن السيدة ستسر بهذا الصيد. وهم صاحبه أن ينصرف، ولكن الفتاة ألقت في يده شيئا فقبله راضيا وولى محبورا، وهم قاسم أن ينصرف، ولكن الفتاة أشارت إليه أن أقم، ثم غابت عنه لحظة وعادت إليه بقليل مما يؤكل، وبقدح من القهوة فأكل وشرب ودعا.
وهو في ذلك وإذا سيدنا الضرير يقبل كما تعود أن يقبل في كل صباح، متكلفا شيئا من العنف في دفع الباب أمامه، رافعا صوته بدعاء ربه الستار، يريد أن ينبئ الأسرة بمقدمه، حتى إذا أغلق الباب وراءه في غير رفق سعى إلى دكته في صدر الفناء، ولكنه لم يكد يجلس حتى وثب مرتاعا وجلا، قد تملكه ذعر ضرير مثله لم يعرف كيف يظهر، ولا في أي عضو من أعضائه يظهر، فوجهه يضطرب، وجسمه يرتعد، ويداه تذهبان وتجيئان في الهواء، وفمه مفتوح عن أسنان متحطمة، وصوته يتردد في حشرجة بين جوفه وشفتيه. ويرى قاسم وترى الفتاة معه هذا المنظر، ويشهدان هذا الذعر، فيدفعان إلى ضحك عال متصل. ويثوب سيدنا إلى نفسه وقد أمن بعد خوف، وظن أن فتيان الدار وفتياتها قد كادوا له الكيد، حتى إذا علم آخر الأمر أن أحدا من أهل الدار لم يهيئ له كيدا، وإنما أخطأ قاسم فوضع هذه السمكة في غير موضعها، وشغلت الفتاة بالصيد والصائد عن مقدم سيدنا، فلم تهيئ له مجلسه، تضاحك الشيخ الضرير من نفسه ومن قاسم ومن الفتاة، ثم جلس على كرسي وأبى أن يقرأ السورة حتى يشرب قهوة قبل القراءة، لا تغني عن قهوته تلك التي تعود أن يشربها متى فرغ من الترتيب، وقد شرب القهوتين، ولكنه قال وهو ينهض للانصراف: إن حكمة الله بالغة، لقد ضحكتما مني وأضحكتماني من نفسي، ولكن الله قد أراد بي خيرا؛ فلن أتكلف لأهلي طعاما منذ اليوم، أنبئي السيدة يا ابنتي بأن هذه السمكة قد ملأت قلبي رعبا، وبأني أنتظر منها نصيبي حين يتقدم النهار، وما أشك في أنكم ستتخذون منها ألوانا مختلفة، وما أرضى أن ترسلوا لي لونا واحدا، وإنما يجب أن أصيب من هذه الألوان جميعا. وانصرف الشيخ الضرير راضيا عن نفسه، مستبشرا بهذا اليوم الذي يسر الله فيه رزقه حسنا دون أن يسعى إليه. والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد استيقظت الأسرة كلها على ذعر الشيخ الضرير وعلى تضاحك الصائد والفتاة، وعلى قراءة القرآن، فأخذت تستقبل النهار كما تعودت أن تستقبله، يعمل بعضها ويكسل بعضها، والصائد في مكانه لا يبرحه لعله نسي نفسه، أو لعله ينتظر ثمن صيده، أو لعله قد أنس إلى الدار لما أكل فيها وما شرب، وما وجد من تسلية عن همه وسقمه. ومهما يكن من شيء فقد رآه صاحب الدار، فقال له قولا حسنا، ووضع في يده قروشا، وخرج الصائد راضيا مغتبطا، ولكنه لم يمض إلى داره وإنما استدار وذهب إلى السوق.
والقارئ يستطيع أن يلاحظ أننا قد انتهينا إلى مفرق من مفارق الطرق في هذا الحديث، فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق التي ذهب إليها قاسم الصياد، وأنا أستطيع أن أذهب إلى هذه الدور، التي يلم بها سيدنا كل صباح ليقرأ القرآن، ويشرب فيها القهوة، ويجاذب أهلها أطراف الحديث، لا يضعف صوته، ولا يضيق جوفه بما يلقى فيه من أقداح القهوة المرة، ثم أذهب معه إلى الكتاب الذي سينتهي إليه سيدنا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول. وأنا أستطيع أن أترك قاسما يشتري في السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور وينتهي إلى الكتاب، وأن أقيم في الدار لا أبرحها، وإنما أتبع السمكة إلى حيث نقلت من الفناء واستقرت في مكانها من المطبخ بين الفرن وهذا الصف الطويل من الكوانين التي تختلف سعة وضيقا وارتفاعا وانخفاضا، وأشهد إقبال النساء على هذه السمكة العظيمة، ينظفنها ويقطعنها ويهيئنها لما يراد أن يتخذ منها من ألوان الطعام، ولكني لن أقيم في الدار، ولن أتبع قاسما، ولن أتبع سيدنا، وإنما سأخرج من الدار، وسأنحرف إلى الشمال فأسعى حينا، ثم أنحرف إلى الشمال مرة أخرى فأسعى قليلا، ثم أنحرف إلى يمين فأمضي أمامي خطوات، ثم أجد في أقصى هذه الحارة الحقيرة حجرة حقيرة قد اتخذت من الطين، لا من الحجارة ولا من الطوب الأحمر ولا من اللبن، وإنما اتخذت من الطين الذي سويت قطع منه تسوية ما، وخلط بها شيء من القش والتبن، ورص بعضها إلى بعض حتى ارتفعت في الجو ارتفاعا ما، وأحاطت بقطعة متضائلة من الأرض، ثم ألقي عليها شيء من سعف النخل فأصبح لها سقفا، ثم نصب في فرجتها لوح ضيق قليل الطول من خشب رقيق فأصبح لها بابا، فهذا البيت هو الذي أوثره على السوق وما يعرض فيها من السلع، وما يدار فيها من التجارة، وعلى الدور وما يكون فيها من حديث، وعلى الكتاب وما يكون فيه من جد ولعب، ومن سذاجة ومكر.
أوثر هذا البيت الحقير لأني أحب أن أجد فيه أمونة وابنتها سكينة، وقد استقبلتا النهار بائستين كما استقبلتا الليل بائستين، أحستا قاسما وهو ينهض متثاقلا يجر قدميه، ويغلق الباب الضئيل من ورائه، وينغمس انغماسا رفيقا مستأنيا في ظلمة الليل يرجو أن يبلغ النهر، وأن يجد فيه رزقه ورزقهما، أحستا نهوضه في جوف الليل، فلم تنهضا معه ولم تقولا له شيئا. ولم تنهضان؟ وما عسى أن تفعلا؟ ولم تقولان؟ وما عسى أن تقولا؟ مضى قاسم وأقامتا، واشتملهما الليل ساكنتين نائمتين كما اشتمله يقظان ساعيا، وأسفر الصباح لهما ساكنتين قائمتين كما أسفر له ساعيا إلى الرزق. فأما هما فقد نهضتا من نومهما حين أشرقت الشمس، فجلست كل واحدة منهما في مكانها واجمة لا تدري ما تصنع، ولا تعرف ما تقول، وظلتا تنتظران قاسما لعله يعود إليهما بشيء من خير. وقد جرت العادة إذا طال عليهما الانتظار أن تصيبا شيئا من خبز جاف تبعدان به الجوع عن نفسيهما، أو تبعدان به نفسيهما عن الجوع، وربما خرجتا من البيت فتحدثتا إلى الجارات.
وسكينة فتاة في السابعة عشرة من عمرها، فيها دعة ولين، وفيها سذاجة تشبه الغفلة، وعلى وجهها مسحة من جمال توشك أن تروق الناظرين لولا ما يبدو على الفتاة من الضر، وفي جسمها تناسق وفي قدها اعتدال يظهران للناظر دون أن يتكلف التماسا، فالفتاة عارية أو كالعارية، لا تستر جسمها إلا أسمال تتكشف هنا وهناك عن حسن أليم.
Página desconocida