Historia de Egipto en la era del Jedive Ismael Bajá
تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا
Géneros
مرددا في ذلك صدى قول وارد في التوراة - فإن نوبار كان آخر إنسان يطاوعه ضميره على المساعدة في اقترافها، ناهيك بأنه لم يكن كثير الاختلاط (بإسماعيل)، ولا من ذوي القبول عند (سعيد)، ولو أنه كان مسيطرا بتفوقه العقلي على هذا الأمير، ولم يكن يجهل حقيقة شعور (سعيد) نحوه، فإنه قد اتفق له يوما وهو ذاهب إلى السراي أن خيل عربته جمحت، فألقت بالحوذي على الأرض وقلبت العربة، وما نجا نوبار إلا بمشقة، فقال له أحد رجال البلاط حينما انتشر فيه خبر الحادثة: «ما ألطف نعمة الله بنا جميعا بأن حفظك سالما سليما!» فأجابه نوبار على الفور: «لا تقل بنا جميعا! فإني أعرف واحدا هنا كان يفضل أن يراني مكان حوذيي، فيما لو كان مقدرا له أن يموت من جراحه.»
5
وفي الواقع فإن نوبار بطباعه الجدية وأخلاقه المتطلبة العمل لم يكن ليعجب أميرا مغرما باللهو وخلو البال والتنكيت (كسعيد)، ومع أنه لم يكن ليتعب في إيجاد الكلمة اللطيفة التي تضحك، والتعبير الدقيق الذي يطرب، فإنه ما كان مثل كوشيلسكي (سيفر باشا) ميالا للتنكيت والمجون في كل لحظة، ولا راغبا في تفتيق ذهنه لهزار وفصول، ورواية حكايات ملحة توقظ روح الوالي إلى الجذل والسرور كلما ساورته السآمة وصارعه الضجر، فبينما (سيفر باشا) أصاب من مقدرته على النكات والأقوال المجونية ثروة طائلة، لم ينل نوبار غير المحافظة على مركزه وشيء من نفوذه.
وفي سنة 1862 أرسله (سعيد) إلى أوروبا لعقد القرض الوحيد الذي أقدم على اقتراضه في حياته، ويقرب قدره من ثلاثة ملايين من الجنيهات، ففضل نوبار عقده بواسطة مصرف تجاري فرنساوي على عقده بواسطة مصرف إنجليزي؛ لما في ذلك من المصلحة لمصر، ولكن حساده أشاعوا عنه أنه إنما أقبل على ذلك التفضيل لأن ما قدمه له البيت المالي الفرنساوي من جعل لوساطته فاق ما قدمه المحل المالي الإنجليزي، ولو أن مندوب (سعيد) فضل المصرف الإنجليزي على الفرنساوي لعكس عذاله الآية.
ولم يمض على عقد ذلك القرض قليل حتى توارى (سعيد) عن عالم الوجود، وخلفه (إسماعيل)، فتمسك بنوبار في بادئ أمره أيما تمسك، وقد رأينا أنه أوفده لحل المعضلات من مهماته، وأن نوبار تمكن من قضائها كلها، فاتخذ أعداؤه ذلك ذريعة للطعن عليه طعنا مرا. وأهم ما سلقه لأجله الفرنساويون منهم بألسنة حداد موقفه في مسألة ترعة السويس، ومقاومته مشروع إنشائها، وفات ثالبيه أن الوزير المصري إنما كان يجب عليه أن ينظر إلى ذلك العمل من وجهة ما فيه من خير عائد إلى مصر، لا من وجهة ما فيه لمصالح الغربيين من الفائدة. وإن فكرة إنشاء الترعة إنما جادت بها في النصف الأول من القرن التاسع عشر قريحة الأب إنفنتين، المعلوم عنها ميلها إلى إبراز أحلام إلى الوجود يصعب تحقيقها، وإن الرأي القائل بعدم إمكان تحقيق تلك الفكرة لم يكن رأي اللورد پلمرستن، والمهندس الإنجليزي ستيفنس وحدهما، بل كان يشاركهما فيه الكثيرون من أرباب الخبرة والفن، ومنهم المسيو دي منتو المهندس الفرنساوي الذي باشر البدء في الأعمال، وكان في سنة 1860 ذاتها يقول: «كل هذا لن يؤدي إلى نتيجة، لأنه يستحيل حفظ منسوب المياه الكافي في الترعة لتتمكن المراكب من السير فيها، فلسوف تضيع على المساهمين رءوس أموالهم، ويضطر المسيو دي لسبس في قهره وخجله من خيبته في مشروعه إلى الانتحار!» وإن هذا المهندس لم يطاوعه ضميره على البقاء في تأدية عمل كان يعتقد خيبته، فقدم استقالته منه بالرغم من أنه كان مثابا عليه بأجر جزيل، وإن المسيو دي لسبس نفسه كان يقول: «لو كنت مهندسا لما تجاسرت مطلقا على مباشرة حفر الترعة، ولو باشرت ذلك لوقفت في الطريق أمام صعوبات الأول.» وإن (إسماعيل) القائل: «لولا رغبتي في المحافظة على شرف إمضاء سلفي لألغيت الامتياز الممنوح منه للمسيو دي لسبس ولباشرت حفر الترعة بنفسي، فما كان ذلك ليكلف مصر أكثر مما كلفها، ولعادت فوائد الترعة عليها وحدها .» كان يهمه أن يتخلى المسيو دي لسبس عن العمل لتتولاه الحكومة المصرية، فكان من أوجب واجبات وزير مصري أن يساعده على تحقيق أمنيته.
على أن أعضل المعضلات التي كلف (إسماعيل) وزيره الكبير بحلها إنما كانت - كما رأينا - معضلة وضع حد معقول لتجاوزات الامتيازات الأجنبية، بإجراء إصلاح قضائي يضمن توزيع العدالة بين الأهالي والأجانب على السواء، فبذل نوبار - على ما سبق لنا شرحه - جهودا عظيمة مدة ثماني سنوات متوالية للبلوغ إلى تحقيق تلك الأمنية دون أن تثبط همته العراقيل المتتابعة بلا انقطاع، والمتجددة في كل حين، دون أن يعتريه ملل من اضطراره مائة مرة بدل المرة الواحدة إلى دحض الاعتراضات البيزنطية التي ما فتئ الرجال المعاكسون لمشروعه يهاجمونه بها مهاجمة تدعوه إلى تفتيق ذهنه بحجج وبراهين جديدة يكون وقعها على تلك الاعتراضات أقضى من سابقاتها، حتى تمكن بثباته المدهش من التغلب على نفور الباب العالي، وعلى سوء إرادة المتمسكين بدرع تلك الامتيازات الجائرة من رجال الحكومات الأجنبية، وعلى الدسائس القائمة حوله في السراي الخديوية ذاتها، بفعل الرجعيين الذين لم يكونوا يرون في مجهودات نوبار باشا السياسية والاجتماعية على العموم، وفي الإصلاح القضائي الجديد المرغوب فيه على الأخص، شططا عن الدين والعادات فحسب، بل بدعة منقوما عليها، ومؤدية إلى ضياع البلاد والدين، لولا أن العاهل كان (إسماعيل) المتنور الشغف بكل رقي، والمقتنع بوجوب إجراء الإصلاح اقتناع وزيره الأكبر، لخسفوا الأرض تحت قدميه، وقضوا على كل آماله وجهوده؛ فلا (كانن) في جهاده الطيب لتحرير كاثوليك إرلندا من النير الذي ألقاه على عواهنهم الفتح البروتستانتي، ولا (كوبدن) في سعيه المبرور لحمل البرلمان الإنجليزي على إلغاء القوانين الخاصة بالغلال لأجل تخفيض أثمان الخبز في المملكة المتحدة، ولا (بسمرك) في عمله على إدراك الوحدة الألمانية، وتأسيس الإمبراطورية الجرمانية على أنقاض الدانمرك والنمسا وفرنسا الملطخة بدم الألوف، أظهروا من الهمة والثبات أكثر مما أبدى نوبار منهما في القيام بحل معضلة إبدال النظام القضائي الامتيازي المضطرب المشوش الأركان في مصر بقضاء غيره يتمشى أكثر منه بكثير مع روح الحضارة والعمران العصريين. وإنا إذا التفتنا إلى أن الرأي العام في بلاد (كانن) و(كوبدن) و(بسمرك) كان يعضد هؤلاء الرجال في مساعيهم، ويشد أزرهم، ويقويهم، ويحضهم على الثبات والعمل، وأن نوبار الشرقي لم يكن يعضده في جهاده سوى (إسماعيل) وزمرة قليلة من ذوي الحصافة والنظر الصحيح، وأن الرأي العام كان ضده بمصر وفي الخارج على السواء، يسفه أحلامه، ويحط من كرامته ويصغر من قدره، ما تأخرنا عن الحكم بأن فضل نوبار يفوق فضل أولئك الرجال بقدر ما يفوق عمله في صعوبته وخشونته وفائدته الأدبية - بالرغم من صغر مقياسه - عملهم المشهور!
وقد وصف هو نفسه في بضع صفحات نشرها في باريس سنة 1881 ما نجم عن عمله هذا من فوائد، فقال: «إن المحاكم المختلطة، ولو أن بلاطي الأستانة ومصر حالا دون أن يتناول اختصاصها كل المنازعات القضائية على العموم، سواء أكانت قائمة بين الأهالي والأجانب، أم بين الأهالي والأهالي، أم بين الأجانب والأجانب، عملت عملا عاد على مصر بالخير والإحسان؛ فإنها هذبت أخلاق الجاليات الأجنبية تهذيبا أدبيا، والدليل على ذلك أن الحكومة المهاجمة فيما مضى بدعاوى كانت تؤدي دائما إلى مطالبات من قبل رجال الهيئات الرسمية، تنتهي بتغريم الحكومة الملايين المقنطرة من الفرنكات، لم تعد تطالب بشيء من ذلك، ولم تعد عرضة لأية مهاجمة في هذا الصدد من لدن الهيئات الرسمية.
وكانت الأشغال العامة قبل تأسيس هذه المحاكم، وكل الأشغال الأخرى الخاصة بالحكومة تعمل بواسطة السخرة، ولم يكن في الاستطاعة الاستعاضة عن طريقة الشغل هذه، المخربة للبلاد والمفقدة سكانها كرامتهم، إلا بالآلات والعلوم الأدبية، ولكن قلة الضمانات، وانعدام الطمأنينة في صدر الحكومة من جهة الأجانب كانا يحولان دون إقدام الحكومة على استدعاء رءوس الأموال الأوروبية والمهندسين الغربيين. فأما وقد أوجدت المحاكم تلك الضمانات والطمأنينة فإن السخرة أخذت تزول شيئا فشيئا أمام علم أوروبا الميكانيكي ورءوس أموالها.
وبالإيجاز، فإن تلك المحاكم فتحت لمصر عهدا جديدا، وأدخلت إلى عقلية الشرق فكرا لم يألفه في السابق، ألا وهو إمكان قيام قضاء مستقل، يطبق قانونا تسنه الحكومة، وتكون هي عينها أول الخاضعين له، وأدت إلى تكوين أول حكومة منظمة رآها الشرق، لأنها علمته أن الحكم لا يكون طبقا لهوى الحاكم وعلى كيفه، وأن الحكومة ليس لها حقوق فحسب، بل عليها بجانب حقوقها واجبات أيضا لا بد لها من القيام بها. ويمكن للإنسان من الوجهة الأدبية أن يقول بكل جسارة: إن تنظيم القضاء المختلط قد أدى إلى ثورة حقيقية في العقول، لأن الأهالي رأوا لأول مرة في حياتهم هيئة منظمة، لديها من القوة ما يكفي لمقاومة أعمال الحكام الاستبدادية ورأوها تقاومها في الواقع، ثم رأوا الأمير عينه - على ما لديه من حول وطول - مرغما على احترام قراراتها، وملزما بإعادة الأملاك التي حكمت عليه تلك الهيئة بإعادتها، كما أنهم رأوا الحكومة مجبرة على تنفيذ تلك الأحكام ضد نفسها، ودفع المحكوم به عليها لحامليها. وهناك منظر آخر تمثل أيضا أمام أعين الأهالي، ولو أن وقعه على نفوسهم كان أخف من السابق، فالفرنج المنتشرون في الريف قبل تأسيس المحاكم المختلطة ورجال القنصليات من جريك وغيرهم، كانوا يرهقون المصريين عادة، ويستغلونهم استغلالا فاحشا، دون أن يجد المصريون من العدالة سوى أبواب موصدة. فذلك الإرهاق وهذا الاستغلال بطلا تماما منذ تشكيل المحاكم المذكورة، ليس هذا فقط، بل إن عددا غفيرا من الأهالي تحصلوا ضد أولئك الفرنج الأقوياء وتجارهم العتاة، وضد رجال القنصليات عينهم على أحكام قاضية بتعويضات جمة! وقد أدى ذلك طبعا بالأهالي إلى التفكر بأنه مذ أصبحت الشرائع والمحاكم تحميهم من الذين كانوا يستغلونهم في الماضي، فليس هناك ما يمنعها من حمايتهم من الحكومة أيضا، وعلى الأخص من تصرفات موظفيها الجائرة.
وهذه الفكرة أنجبت فيما بعد المحاكم الأهلية، وكانت هي أيضا مختلطة في بدء نشأتها. والمحاكم الأهلية، بتطبيقها تشريعا مدنيا بحتا غير التشريع السابق، فتحت لأول مرة في تاريخ مصر أمام أعين المصريين أبواب مضمار المدنية العصرية واسعة، بل وخولتها قوة الدخول فيه، والتماس كل إصلاح توجبه الظروف والأيام.»
Página desconocida