Egipto en dos terceras partes de un siglo
مصر في ثلثي قرن
Géneros
مصر التي لم تجهل هذه الصفحة من تاريخها الحديث لا تقذف إلى الضعة والهوان إلا أرجعتها خصائصها إلى الرفعة والشرف؛ فإن بينها وبينهما ذمة مرعية ونسبا محفوظا.
جوهرة الأكوان، مصر التي على شاطئ البحر الأبيض، التي عشقها الفرس والرومان والعرب، لم تزل دار الغريب وملجأه لا يجد في الدنيا غيرها بديلا من وطنه، ولا يجد في الأقطار صدرا رحبا، وحضانة بارة كصدرها وحضانتها، مصر هذه تعلم أن لها هذه المنزلة عند الناس فتعلم أن تربتها ذهبية، ونيلها نمير، وأفقها صحو، وشمسها مترفقة. تعلم أن في هوائها شفاء السقم، وفي أخلاقها عزاء الغريب، وأن الذكاء والألفة والثبات والصبر صفات مخلوقة في أبنائها مكسوبة في غيرهم، وقد جعلتها هذه الخصال وطنا يلوذ به من لا وطن له، وكانت كذلك منذ أقدم أيام التاريخ، أفلا تكتسب مصر من جيرانها ومن الوافدين عليها قدرة على تناول الحسن من آرائهم وفعالهم.
نهض «محمد علي» بمصر منذ قرن وربع قرن، ويوم تحرك بنهضتها استقدم العلماء من أوربا مستعينا بهم على ما يبغي، ولم يبن محمد علي لهؤلاء العلماء الذين استقدمهم بروجا يعيشون فيها، ولكنه خلطهم بالأمة، وهم كانوا أوعية علم وخزائن فضل وأمثلة لمحاسن الأخلاق، فهل كان المصريون يومئذ مخلوقين بغير أعين تبصر وآذان تسمع وقلوب تعي؟ أو كانت لهم أعين وآذان وقلوب فانتفعوا بسيرة أولئك الرجال وأضافوا جديد منفعتهم إلى قديم المجد الذي ورثوه عن آبائهم؟ على أن هؤلاء الرجال كانوا بين الأمة أساتذة معلمين، فيكف لا تصقل روحها بصقال العلم الذي أفاضوه عليها، والعمل الذي دربوها عليه؟ وما زال شأن الولاة بعد ذلك كشأن محمد علي، وكان إلى جانب هؤلاء العلماء أهل النشاط والفضل من الأجناس الوافدة على مصر، تتكاتف وإياها على خدمة الوطن الذي تناسل فيه المصريون، والذي رحب صدره لغيرهم فكان لكل غريب وطنا ثانيا أعز عليه من وطنه الأول.
رأت مصر هؤلاء جميعا، ووقفت على ما عندهم من الرأي في الحياة والعمل للسعادة، ونظرت في كتب العلماء وتاريخ الأمم ونهضات الشعوب، وأدركت ما لها من أسباب وعلل، ثم عادت تقارن ذلك بماضيها فإذا هو صورة منه، فلما شرعت تقارنه بحاضرها هالها بعد المسافة بينهما، على حين أن صفاتها خليقة باتحاد الصورتين، ومنزلتها من الرقي حرية أن تكون بين منازل الأعزاء.
رزقت الأمة روحا سليم التكوين رفيع المكانة كامل الخلق، فكان لها حصنا يرد عنها عادية الزمن، وقوة تصرع الأيام كلما أغارت عليها فترجع مخذولة خزيانة، فروح الأمة المصرية هو الذي أبقاها إلى اليوم فلم تنل منها حيل الأيام شيئا، وهو الذي صان وحدتها فلم تصل إليها يد التمزيق، هو الذي أيقظ فؤادها فلم تنصب لها حبالة إلا تبينت موضعها وقطعت خيوطها.
أكان ينتظر من أمة استأثرت بالذكر الأسمى من جميل ما أسدى المصريون والعرب للمدنية فضربت بسهم وافر فيما أخرجت للعالم مدنية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أن تحمل بين جنبيها روحا متخاذلا، لا يثبت به موقفها أمام الأعاصير والزعازع؟
يؤثر عن «إدمون دي مولان» قوله: «إن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها هي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد».
وقد شهد الله أن الأمة المصرية إحدى هذه الأمم؛ فإن مبلغ همة إنسانها أن غالب الأيام فغلبها وصادم الحوادث فصدمها على كثرة إلحاحها ودوام انصبابها، ومن سوى هذه الأمة خليق أن يكون ملجأ الحياة الصحيحة؟ وهل يضيرها أن أصابتها المدنية السياسية برشاش الفساد؟ هبها كذلك، ففي الباطن جوهر نقي طاهر.
إن الله شهيد، لئن لم يسلم الناس أن هذه الأمة كذلك فلا كانت كذلك أمة أخرى، وإنها إذن لبدعة تستحق النظر فهل من متعظ؟
الفصل الخامس
Página desconocida