Egipto en el amanecer del siglo XIX 1801-1811 (Parte I)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Géneros
وعلى ذلك، فإنه لا ندحة - في ضوء كل ما تقدم - عن التسلم بعدد من الأمور المعينة، أولها: أن الباب العالي عين أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية مصر في الوقت الذي حدث فيه انقلاب «12-13 مارس»، فلم يكن هناك فرمان في يد خورشيد باشا يخوله الحق في ملء منصب الولاية، ولم يصدر فرمان الباب العالي له إلا بعد أن جاءت الأخبار من القسطنطينية منبئة بدخوله إلى القاهرة وممارسته شئون الحكم فعلا، فأبطل الباب العالي تعيين الجزار باشا وبادر بالاعتراف بالأمر الواقع، وأقر خورشيد باشا في ولايته، وكان لذلك أسباب، منها أن الباب العالي بالرغم من رغبته في تعيين حاكم قوي لمصر يقضي على الفوضى السائدة بها والتي عزاها لسيطرة المماليك العسكرية كان متخوفا من الآثار المترتبة على اجتماع حكومتي مصر والشام في يد الجزار باشا الرجل الذي أعلن العصيان والتمرد على سلطان الباب العالي مرات كثيرة سابقة؛ ولأن الباب العالي كان مشدودا إلى عجلة سياسته العتيقة في مصر التي جعلته لضعفه وعجزه عن مواجهة الأمور؛ يرضى بمظاهر السيادة التي له من الناحية القانونية والشرعية على مصر، وإن فقد كل سلطة وسيطرة بها، بدلا من اتخاذ إجراءات حاسمة حازمة تثقل كاهله بأعباء لا يريد أن يتحملها في وقت اجتاح فيه الوهابيون الحجاز، وصار الباشوات في سائر أنحاء الإمبراطورية في شبه ثورة على سلطانه، ولا يأمن شر الدول الأوروبية الطامعة في تقسيم أملاكه.
وقد أوضح هذه الحقيقة أصحاب «تاريخ الحملة الفرنسية العلمي والعسكري في مصر، الجزء التاسع»، فقالوا: «إنه بعد ثلاثة أسابيع من دخول خورشيد باشا القاهرة عاد أحد ضباطه من القسطنطينية يحمل فرمانا سمح بمقتضاه الباب العالي بإعطاء باشوية مصر إلى سيده، ومما يستدعي الانتباه لغرابته الفريدة أن هذا الإخطار برغبات وإرادة السلطان العليا كان رابع إخطار من نوعه وصل إلى هذا الجزء من الإمبراطورية في أقل من عام واحد، والفرمان الأول الذي ثبت خسرو محمد في ممارسة سلطانه لم يصل إلى القاهرة إلا بعد سقوط دمياط بعدة أسابيع، وفي أثناء وجود خسرو في الأسر وعندما وصل الفرمان الثاني الذي يحوي تسمية طاهر باشا للولاية كان هذا الزعيم الألباني قد لقي حتفه، وأخيرا الفرمان الثالث الذي صدر لعلي الجزائرلي لم يصل إلا بعد مضي أكثر من شهر على مصرع هذا الباشا وانطراح جثته وسط رمال الصحراء.
ولكن من الواجب أن نذكر أنه في كل مرة جاء فيها رسول السلطان يحمل واحدا من هذه الأوامر كان يستقبل بإطلاق المدافع من القلعة ومن الحصون الأخرى؛ تحية له، وتذهب الوفود إلى بولاق لتأتي به، فيدخل القاهرة في احتفال رائع، ثم يؤخذ إلى الجامع الرئيسي؛ حيث يقرأ القاضي هذه الأوامر العليا في حضور المشايخ ورؤساء الجند وأعيان السكان الذين يدعون رسميا لهذا الاجتماع، ولكنه كثيرا جدا ما كان يحدث، وكما يتبين بعد ذلك أنه لا سبيل لتنفيذ الفرمان الذي قرئ إذ إنه قد بقي من غير تنفيذ، ولا يثير ذلك أقل اهتمام من جانب أولئك الذين لهم الغلبة والسلطة في القاهرة، ولقد كان إمضاء السلطان موضع كل احترام وتقديس طأطأت له الرءوس وخر الناس له سجودا، ولم يغفل أي دقيق من دقائق الاحتفال الواجب في مثل هذه المناسبات، أفلا يكفي ذلك؟ وماذا يطلب المرء بعد هذا كله؟»
وأما ما يؤخذ ثانيا من الحقائق التي ذكرناها فهو وجود تفاهم سابق بين خورشيد ومحمد علي بشأن إسناد الولاية إلى خورشيد باشا، حقيقة ظاهر محمد علي خسرو باشا ووقف إلى جانب الإنكشارية أيام الانقلاب وكان الرؤساء الأرنئود هم الذين صمموا على إنهاء ولاية «خسرو» الكذابة، وهم الذين اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم ثم قر رأيهم على تنصيب خورشيد، وبعثوا إليه بالرسل يبلغونه قرارهم، كما وضع جماعة من الجند الأرنئود أنفسهم تحت تصرفه وذهبوا إلى الإسكندرية ليصحبوه منها إلى القاهرة ، ولكن كل هذا النشاط ما كان يمكن أن يحدث دون رضائه وموافقته.
ومن الثابت أنه تركهم يفعلون ما يريدون، وقد تقدم كيف اعتبر المراقبون من الوكلاء الأجانب أن اتحاد محمد علي مع الإنكشارية كان عملا شاذا ومناقضا لطبيعة الأشياء ذاتها، فلم يكن مبعث اتحاده معهم - وهم مع قلتهم وضعفهم النسبي بالقياس إلى كثرة أعداد الأرنئود أصحاب السيطرة على القلعة والذين كانوا قوة ذات وزن في كل ما يحدث من أمور، قد اعتبروا أنفسهم دائما «فخد السلطنة» وعمادها - سوى الرغبة في جذب هذه الطائفة واستمالتها إلى تأييده، أو على الأقل إلى وقوفها على الحياد أثناء الاصطدام مع البكوات المماليك.
وقد كان «مسيت» الوكيل الإنجليزي دائب النصح للبكوات المماليك بأن يقربوا منهم الإنكشارية وأن لا يستعدوهم عليهم حتى يتقووا بهم على الأرنئود، وكان لا مناص من أن يعمل محمد علي لاستلال سخيمتهم بعد أن اشترك في تدبير إقصاء «باشتهم» خسرو من الحكم، وأرغم على مغادرة البلاد أحمد باشا الرجل الذي التفوا حوله للمحافظة على كيانهم بعد مقتل طاهر باشا، وذلك إذا شاء أن يقنعهم بأنه ما كان يبغي في كل ما فعله سوى تمكين السلطان العثماني من فرض سيطرته الشرعية على البلاد - وقد كان محمد علي يبذل ما وسعه من جهد وحيلة عند إنهائه حكومة البكوات لإقامة الدليل على تشبثه بالولاء الصحيح للباب العالي، وإذا شاء أيضا أن يؤلف معهم جبهة متحدة يواجه بها خورشيد باشا نفسه إذا تبين أن هذا الأخير يبغي الاستئثار بالحكم والتخلص من الرجل الذي برهنت الحوادث الأخيرة على أنه صار يصنع بيديه الولاة، وفي وسعه أن يحطمهم - وقد كان محمد علي مطمئنا إلى قدرته على الاحتفاظ بطاعة جنده الأرنئود وولائهم له، عندما لم يكن هناك أي أمل بسبب خلو الخزينة من المال دائما في أن يدفع باشا القاهرة مرتبات الأرنئود، فلن يتسنى حينئذ أن يظفر بودهم أو أن يصرفهم عن زعمائهم، ثم كان في قدرة محمد علي أن يتخذ من مسألة المرتبات المتأخرة في أي وقت يشاء وسيلة لتأليب الأرنئود وتحريكهم للثورة على باشا القاهرة.
وثمة حقيقة ثالثة، هي رضاء محمد علي بأن يعتمد تلك الصورة التي بعث بها خورشيد إليه من الإسكندرية على أنها صورة الفرمان المزعوم الذي وصله من الباب العالي، مما ينهض دليلا آخر على تدبير أمر الولاية بين خورشيد ومحمد علي؛ فقد أبرز محمد علي هذه الصورة في منتصف أو بعد منتصف ليل 12 مارس؛ أي في نفس الوقت الذي كان جنده يحاصرون فيه البرديسي وإبراهيم، مما يدل قطعا على أن صورة هذا الفرمان وصلت «محمد علي» قبل أن يخلع القناع بمدة، ربما كانت طويلة أو قصيرة، ولكنها على كل الأحوال كانت كافية لإعطائه الفرصة للتثبت من صحة هذه الوثيقة التي لا شأن للباب العالي بها ولم تصدر عنه.
ولم يكن محمد علي بالرجل الذي تجوز عليه الغفلة، وبخاصة في أثناء هذه الأزمة العصيبة التي صنعها بنفسه، بل إن مسلك محمد علي بعد أن أبرز صورة الفرمان المزعوم ليدل دلالة واضحة على أنه ما كان يعتقد بصحته؛ فلو كانت تلك في نظر محمد علي وتقديره إرادة الباب العالي الحقة لما وجد ما يدعو لرفع خسرو باشا إلى منصب الولاية؛ لأن جلب رضى الباب العالي وإعلان الولاء له - مقصد محمد علي الأعظم أهمية من خطوته هذه إنما يكون عندئذ بإطاعة أوامره مباشرة ودون التواء، ولم يكن في وسع الإنكشارية على أي حال مخالفة إرادة السلطان أو الظهور بمظهر العصاة الخارجين على أوامر الباب العالي.
أضف إلى هذا أن الرؤساء الأرنئود الذين اجتمعوا وتشاوروا واختاروا خورشيد للولاية إنما فعلوا ذلك بعد أن ذاع أمر الفرمان بين الناس، كما كان ذهاب الجند الأرنئود إلى الإسكندرية ليضعوا أنفسهم تحت تصرف خورشيد، وليكونوا حرسا له في أثناء سفره إلى القاهرة، بعد ذيوع أمره، فقد غادر هؤلاء القاهرة إلى الإسكندرية بقيادة أحمد بك في 21 مارس، وعلى ذلك فقد كانت مسألة الفرمان من تدبير خورشيد، واشترك محمد علي معه في تدبيرها.
وأما الحقيقة الرابعة فهي: أنه كان من طبيعة هذا التدبير ذاته - ولأن «محمد علي» قد أسهم فيه بنصيب وافر فضلا عن أنه قد ظل يمارس سلطة فعلية في عهد حكومة البكوات المماليك، ولو أنه ترك مقاليد الأمور في الظاهر في يد البرديسي وإبراهيم - أن ينتفي أي انسجام بين خورشيد ومحمد علي وأن تتكدر العلاقات بينهما؛ لأنه لم يكن هناك مفر من أن يشعر خورشيد بأنه مدين بمنصبه للأرنئود وزعيمهم، ولا ندحة عن إدخاله قوة هذا الزعيم في حسابه، وهو لا يزال في حاجة إلى جنده الأرنئود لمطاردة البكوات، هدف ولايته الأولى، كما لم يكن في وسع محمد علي أن يتخلى عن سلطاته وهو - كذلك - يشعر بأنه القوة التي في وسعها وحدها مطاردة المماليك، بل لقد كان إلى جانب ذلك من طبيعة النجاح الذي أدركه في رفع خورشيد إلى الولاية، وبعد أن تمرس في صناعة إقامة الحكومات وهدمها ما يجعله هو أيضا يصبو إلى منصب الولاية، أما وقد أرجع البلاد إلى حظيرة الدولة بعد أن أنهى حكم البكوات في القاهرة، ونال بفضل ذلك رضاء السلطان العثماني؛ فسوف لا يكلفه الظفر بموافقة الباب العالي وتقريره في النهاية للأمر الواقع سوى اصطناع التريث والأناة عندما يشرع في تدبير انقلابه الذي سوف يمكنه من الولاية.
Página desconocida