Egipto en el amanecer del siglo XIX 1801-1811 (Parte I)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Géneros
زد على ذلك، أن المصلحة الذاتية وحدها هي التي جعلتهم يقبلون على مؤازرة محمد علي، عندما أغدق الباشا عليهم النعم والعطايا، وأقطعهم الأرض التي صادرها من البكوات المماليك خصوصا، ووجد كبار الضباط أنهم ينعمون في مصر بعيش لم يكن ليتسنى لهم التمتع به لو أنهم بقوا في أوطانهم أو غادروا هذه البلاد، ومع ذلك، فقد ظل جماعة منهم ينفسون على الباشا المركز الذي بلغه، ومنافسة حسن باشا طاهر الأرنئودي، وعمر بك الأرنئودي وأضرابهما له معروفة مشهورة، وقد استطاع محمد علي كبح جماح هذه المنافسة، بفضل ما أظهره من حنكة في مداراته لهم، حتى إذا تخطى بسلام العواصف التي كادت تطيح بولايته، وتدعمت أركان باشويته رويدا رويدا، تخلى هؤلاء عن أطماعهم، ورضخوا في آخر الأمر لسلطانه، بل وعاونه جماعة منهم على اجتياز الأزمات التي واجهته، ولو أن فريقا من هؤلاء الحاقدين عليه، كياسين بك الأرنئودي ورجب آغا، ظلوا يحركون الفتنة عليه، بل إن عمر بك الأرنئودي نفسه لم يلبث أن شق عصا الطاعة (في عام 1809)، وأعلن صالح آغا قوج (قوش) تمرده، ولما تمض شهور قليلة على بدء الحرب ضد الوهابيين في الحجاز، وكان تطويع الجند ضروريا، لضمان الانتصار على هؤلاء الرؤساء المتمردين.
وكان مما زاد في خطورة انتشار روح التمرد والعصيان في الجيش، تأهب العربان البدو دائما للانضمام إلى كل كبير من الضباط يخرج على سلطان محمد علي، ويجمع حوله طائفة الفارين من الجيش، والذين يعقدون آمالا عظيمة على قدرتهم على المضي في أعمال السلب والنهب على نطاق واسع تحت راية العصيان التي يرفعونها، ووجد العربان هم الآخرون في هذا العصيان فرصة مواتية لإشباع نهمهم، والمضي في أعمال السلب والنهب دون رادع، وقد تذوق العربان طعم هذه الحياة التي خلقتها الفوضى السياسية في مصر، نتيجة للتطاحن بين البكوات المماليك ومختلف الباشوات الذين تولوا الحكم في السنوات الماضية، ثم تطاحن هؤلاء الباشوات أنفسهم مع كبار ضباط الجيش وجنده، وعلى رأس كبار الضباط هؤلاء محمد علي نفسه، فامتزج العربان بالجند المتمردين، وعملت طوائف منهم تحت لواء القواد المغامرين، حتى إن قصة هؤلاء وأولاء سرعان ما صارت قصة واحدة، وتوزع العربان أنفسهم طوائف، بعضها يعمل مع الضباط العصاة، والآخر يعمل مع البكوات المماليك، والفريق الثالث يؤيد حكومة محمد علي، كل طائفة حسبما تمليه عليها مصالحها، التي لا تعدو توقع الظفر بالمغانم والأسلاب الكثيرة.
ومنذ حادث المناداة بولاية محمد علي، وعزل أحمد خورشيد من الولاية، كتب الشيخ الجبرتي في حوادث شهر أغسطس من عام 1805، عن الدلاة الذين استقدمهم خورشيد للاستعانة بهم على غريمه، ثم خذلوه، أن «هؤلاء كانوا إذا وردوا قرية نهبوها، وأخذوا ما وجدوه فيها، فأخذوا الأولاد والبنات وارتحلوا.» ثم يستطرد الشيخ من ذلك إلى ذكر دور العربان، فيقول: إنه لا يلبث أن يأتي العرب الناهبون خلفهم، فيطلبون الكلف والعليق، وينهبون أيضا ما أمكنهم، ثم يرتحلون أيضا خلفهم. ولكنه ما إن يرتحل هؤلاء وأولئك، حتى يأتي جند الحكومة أو التجريدة فيفعلون أقبح من الفريقين من النهب والسلب، حتى ثياب النساء. وتكرر عدوان العربان على الأهلين أثناء نضال الألفي وسائر البكوات، فقد انتهز عربان أولاد علي فرصة حضور جماعة من الألفية إلى الجيزة، وجمعهم الكلف من أهلها، فأغاروا بدورهم على هذا الإقليم من ناحية البحيرة في ديسمبر 1805 وعاثوا بأراضي الجيزة، حتى إن محمد علي عين لتعقبهم محمد طاهر باشا الذي كان يتهيأ وقتئذ للخروج إلى الحجاز ولم يخرج - على نحو ما عرفنا - ثم إن العربان التحموا كذلك مع جند الباشا في المعركة التي دارت رحاها في 12 ديسمبر من العام نفسه، في جهة مصر القديمة، وأسفرت عن ذهاب جماعة من الأرنئود إلى الأخصام والانضمام إليهم، وقد سبق ذكر هذه المعركة. وفي مارس من العام التالي (1806)، انضم طائفة من العربان إلى مماليك شاهين الألفي للإغارة على إقليم الجيزة، وأخذ الكلف من أهله، واضطر محمد علي إلى الخروج إلى ناحية بولاق وعدى طاهر باشا إلى بر إنبابة وبصحبته عساكر كثيرة لمطاردتهم.
وفي عام 1806 تعددت حوادث عصيان الجند من جهة، واشتراك العربان مع البكوات المماليك في الإغارة على مختلف الأقاليم من جهة أخرى، فمن الحوادث البارزة، اتحاد العربان مع أجناد المماليك في أبريل، في الإغارة على جزيرة السبكية، وحضور عمر بك الأرنئودي إلى القاهرة (في 18 أبريل) من بني سويف يخبر بعصيان رجب آغا وفريق من الجند خامروا عليه وانضموا إلى الأمراء القبليين، وبلغ عدد هؤلاء العصاة نحو الستمائة، وتمرد الجند الذين كانوا مع حسن باشا طاهر الأرنئودي وأخيه عابدين بك، بسبب تأخر مرتباتهم، ومنع الباشا دخول طائفة منهم وصلوا إلى بولاق ومصر القديمة، من الدخول إلى القاهرة، واستعان الباشا بالعربان لإخماد حركتهم، فجمع من عربان الحويطات والعائد وغيرهم أعدادا كثيرة، وأقام هؤلاء بناحية شبرا ومنية السيرج، واستمروا يحتشدون في هذين المكانين أربعة أيام بتمامها، وكانوا جملة كبيرة، وطلب محمد علي من رؤساء الجند المتمردين مغادرة البلاد، ولكن هؤلاء أبوا حتى يقبضوا المنكسر لهم من مرتباتهم، ولكن الباشا استطاع أن يبذر بذور التفرقة بينهم، فدس إلى أصاغرهم من خدعهم واستمالهم، حتى تفرقوا في خدمة المستوطنين، ولم يبق مع كبارهم المعاندين إلا القليل، فلم يسعهم بعد ذلك إلا الامتثال وارتحلوا في 18 مايو 1806 من بولاق، وسافر معهم «حسن آغا الشماشرجي» ومن بصحبته من المصريين وحولهم العربان، وساروا على طريق دمياط (وكانوا اثنين وخمسين شخصا من كبار طائفة الأرنئود)، وعلق الشيخ الجبرتي على حادث الاستعانة بالعربان في إخراجهم بقوله: إنه قد «حصل من العرب في مدة تجمعهم ما لا خير فيه، وكذلك في مدة إقامتهم من الخطف والتعرية، وقطع الطريق على المسافرين.»
وأما رجب آغا وياسين بك، فقد انضما بمن معهما من الجند المتمردين إلى البكوات المتحصنين بالمنيا، وأنشأا المتاريس في جهة المنيا البحرية ليحولا دون وصول مراكب الذخيرة إليها، وأنقذ المنيا وصول محو بك بالذخيرة إلى بني سويف ؛ حيث اصطحب منها حسن باشا طاهر وعابدين بك، وهزموا ثلاثتهم رجب آغا وياسين بك، واقتحم جيشهم المتاريس، ودخلوا البلدة.
وفي أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، أراد الألفي - وصلته الوثيقة بالعربان معروفة - استثارة هؤلاء ضد حكومة محمد علي واستنهاضهم لمعاونته في إقصاء الباشا من الولاية، فبعث بالكتب إلى مشايخ الحويطات والعائد، وإلى شيخ الجزيرة وسائر رؤسائهم، ولكن هؤلاء - كما عرفنا - آثروا إطلاع الباشا على هذه الكتب، منذ أن توطدت علاقاته معهم أثناء حادث إبعاد كبار الأرنئود المتمردين، فأحضر ابن شديد وابن شعير هذه الكتب التي أتتهم من الألفي إلى محمد علي، ثم إن الباشا عند تصميمه في يوليو 1806، على الخروج لمناجزة الألفي، لم يلبث أن أرسل أوراقا لتجمع العربان، وعين لذلك حسن آغا محرم، وعلي كاشف الشرقية، وفي 24 يوليو وصل كثيرون من عرب الحويطات ونصف حرام من ناحية شبرا إلى بولاق، وأطلقت المدافع احتفاء بقدومهم، وقد تقدم كيف أن جيش الألفي كان يضم عدة آلاف من عربان أولاد علي وغيرهم.
ولقد كان وجه الخطورة بعد ذلك، أن يجنح الجند إلى العصيان، إبان حملة «فريزر»، أو يقبل العربان على معاونة البريطانيين، فيسدون حاجة هؤلاء إلى الفرسان، وقد انتظر الإنجليز دون طائل أن يسد المماليك هذا النقص في جيشهم، ولكن الباشا الذي أرضى الجند بدفع مرتباتهم إليهم، استطاع أن يجهز الجيش الذي أوقع بالإنجليز الهزيمة الساحقة في معركة الحماد المعروفة، ثم إن العربان امتنعوا عن نجدة الإنجليز أثناء العمليات العسكرية، ولم يستطع «فريزر» والوكلاء الإنجليز استمالة العربان إلى تموين الإسكندرية، إلا بعد انسحابهم إليها وتحصنهم بها. على أن متاعب الباشا من ناحية الجند والعربان سرعان ما تجددت به جلاء الإنجليز عن الإسكندرية. (2) عصيان 26 أكتوبر سنة 1807
فقد ظهرت بوادر عصيان الجند عقب رحيل جيش «فريزر» من الإسكندرية، وأثناء وجود الباشا بها، وقد سبق الحديث عن أسباب هذا العصيان، ثم نجاح الباشا في إخماد هذه الحركة، ولكن روح التمرد التي سرت في الجيش بأسره وقتئذ، لم تلبث أن ظهرت آثارها كذلك في القاهرة، وكان مبعث جنوح الجند إلى التمرد في هذه المرة، الغرور الذي ملأ نفوسهم نتيجة لانتصارهم على البريطانيين، ولاعتقادهم أنهم أصحاب الفضل في إجلاء هؤلاء عن البلاد، وتوهمهم أنه قد صار من حقهم لذلك أن يقتضوا من أهل البلاد ثمنا لتخليصهم من شرور الاحتلال الأجنبي، لا سيما وقد خيل لهم أن المصريين كانوا يتمنون هزيمتهم والخلاص منهم على يد الغزاة الأجانب، ووجدوا على كل حال في هذا الاعتقاد، سواء أكان صحيحا أم وهما وخيالا، ذريعة لإطلاق العنان لنزواتهم، والاعتداء على الأهلين دون رقيب أو وازع.
ولقد سبقت الإشارة إلى الفعال المنكرة التي صار يرتكبها الأرنئود في القاهرة بمجرد عودتهم إليها بعد انقضاء معارك رشيد والحماد، وكان أهم ما عني به هؤلاء الاستيلاء قسرا على بيوت الناس وطرد أصحابها منها بعد سلب فرشهم وأمتعتهم، بدعوى أن متاعهم قد استهلك منهم في السفر والجهاد ودفع الكفار عنهم؛ أي القاهريين، بينما هؤلاء مستريحون في بيوتهم وعند حريمهم؛ ولأن القاهريين ليسوا بمسلمين؛ لأنهم كانوا يتمنون تملك النصارى لبلادهم، ويقولون إنهم خير من الأرنئود، ولم يكن في مقدور الباشا أو كتخداه كبح جماح هؤلاء البغاة، وهم إلى جانب انغراس الميل إلى السلب والنهب في طباعهم، لا يزالون منتشين بخمرة النصر، فحرص كلاهما على تهدئة خواطر القاهريين وتسكينهم خوفا من وقوع الاصطدام بين هؤلاء وبين الجند، وعزز الكتخذا بك دعاوى الجند، فراح يقول: «أناس جاهدوا وقاتلوا أشهرا وأياما، وقاسوا ما قاسوه في الحر والبرد والطل، حتى طردوا عنكم الكفار وأجلوهم عن بلادكم، أفلا تسعونهم في السكنى، ونحو ذلك من القول»، وهكذا أفحش الجند في التعدي على الناس وغصب البيوت من أصحابها، ثم إنهم تعدوا إلى الحارات والنواحي التي لم يتقدم لهم السكنى بها قبل ذلك، مثل نواحي المشهد الحسيني، وقلعة الجامع المؤيدي، والخرنفش والجمالية، حتى ضاقت المساكن بالناس لقلتها، وصار بعض المحتشمين إذا سكن بجواره عسكر يرتحل من داره ولو كانت ملكه، بعدا من جوارهم، وخوفا من شرهم، ولم يستثنوا بيوت المشايخ، بل وأهانوا من احتج منهم على فعالهم إهانات بالغة.
على أن هذا العصيان سرعان ما استفحل شره حتى صار خطرا على الباشا نفسه وعلى حكومته، وظهرت بوادر هذه الخطورة في محاولة قام بها بعض الجند السكارى والمجانين للاعتداء على حياة محمد علي، فقد عمد الباشا منذ عودته من الإسكندرية إلى القاهرة، إلى الطواف في شوارع القاهرة، يبذل قصارى جهده لوقف اعتداءات الجند على الأهلين، وتوطيد الأمن وقطع دابر الفوضى التي اتضح أنها بلغت غايتها في العاصمة أثناء غيابه عنها، فحدث (يوم 16 أكتوبر) أثناء مروره في ناحية سوق (أو سويقة) العزى، سائرا إلى ناحية بلغيا أن صادف في أحد الشوارع حفنة من الراقصات، منهمكات في تسلية بعض الجند الأرنئود، لم يمنعهن عن الرقص مرور الباشا، بل ضاعفن نشاطهن، وصارت (لصاجاتهن) فرقعة كبيرة، فأراد بعض حاشيته، إلزامهن بالسكوت، احتراما لموكب الباشا، فعز على بعض الجند من المخمورين، أن يسلبهم الباشا متعتهم، فانتحى منهم اثنان جانبا، وطلعا إلى مكتب فوق سبيل كان قائما بين الطريقين تجاه من يأتي من تلك الناحية - سوق العزى - يرصدان الباشا في مروره، فحينما أتى الباشا مقبلا لذلك المكتب أطلقا في وجهه بارودتين، فأخطأتاه، وأصابت إحدى الرصاصتين فرس فارس من الملازمين حوله، فسقط، ونزل الباشا عن جواده على مصطبة حانوت مغلوقة، وأمر الخدم بإحضار الكامنين بذلك المكتب، فطلعوا إليهما، وقبضوا عليهما، واستبد الغضب بالباشا وأمر بإحراق المكتب، وتدخل سكان الحي جميعهم، يلتمسون العفو، ثم حضر كبير هؤلاء الجند من دار قريبة من ذلك المكان، واعتذر إلى الباشا بأنهما مجنونان وسكرانان، فعدل عن حرق المكتب، وأمر كبير الجند بإخراجهما وسفرهما من مصر، وركب الباشا وذهب إلى داره.
Página desconocida