لم يتوال على العرش العثماني في أثناء هذا الدور إلا سلطانان، مدة حكمهما جميعا 25 سنة، والحال متضعضعة كما سترى. (1) سلطنة عبد الحميد الأول
من سنة 1187-1203ه ومن 1774-1789م
هو ابن السلطان أحمد، تولى العرش العثماني وسنه خمسون سنة، وكان قد قضى مدة حكم أخيه مصطفى محجورا عليه في قصره - كما جرت العادة - ولم يستطع توزيع المال على الجند حسب العادة، لنضوب الخزينة في الحروب الماضية وكانت قد عادت ظافرة منها، فأخذت روسيا تستعد لاسترجاع ما فقدته من الشهرة.
ففي تلك السنة، زحفت جنودها على نهر الطونة واجتازته، فاعترضهم العثمانيون وهزموهم، وعادوا فتناوشوا وتحاربوا، وانتهت الحرب بمعاهدة في يوليو سنة 1774 كانت روسيا فيها الرابحة، لكن العثمانيين تفرغوا لإصلاح داخليتهم والتأهب للمستقبل، فرمموا الأسطول، واشتغلوا بالإصلاح، وتعدت روسيا على القرم وضمتها إلى أملاكها، ولم يحرك العثمانيون ساكنا.
أما حال مصر، فبعد وفاة «علي بك» عاد وادي النيل إلى ما كان عليه قبله تابعا لأملاك الدولة العلية، وعادت أحكامه إلى مشايخ البلد والكشاف الذين جعلوا تلك المناصب وسيلة لاختلاس أموال الناس، وحقوق الدولة. وكان «علي بك» قد جعل لهذه المظالم حدا، وأصلح الشئون حتى علقت الآمال باعتزاز مصر ورفع شأنها، فلم تبق المنية عليه.
نعم إن مصر بعد وفاته عادت إلى كنف الدولة العثمانية لكنها بالحقيقة لم تفدها شيئا؛ لأنها كانت في الحالة الأولى طعمة لرجل محب للإصلاح، مخلص بمقاصده، وإن كانت بمعزل عن سيادة الدولة فأصبحت في الثانية طعمة لثلاثين رجلا كل منهم يسعى في ابتلاعها، لا يتفقون إلا على كره الدولة التي هم تحت حمايتها.
أما السلطان عبد الحميد، فلم يكن يرسل إليها من الولاة إلا من كان اسما بلا مسمى، كما كان شأنهم قبل ظهور «علي» فكان الباشا من هؤلاء آلة يديرها البكوات كيف شاءوا، ولم يكن لديه من الأعمال إلا مخابرة القسطنطينية سرا بما كان يقع بين هؤلاء البكوات من الخلاف، وما كانوا يتداعون إليه من الخصام، وواجباته المهمة أن يستلم الجزية من الحكومة المصرية ، ويرسلها إلى الآستانة إذا تمكن من قبضها. (1-1) أبو طبق وعزل الباشوات
فكانت ولاية مصر منصبا يستحي العقلاء من قبوله لأنهم كانوا يعتبرونها منفى استحقه الباشا أو الوزير الذي يرسل إليها. وكان يعلم قبل خروجه من الآستانة أنه إذا لم يكن راضيا بما يرضاه شيخ البلد لا يلبث أن يصله منه رسالة ينقلها ناقل يقال لها: الأوطة باشي، وفيها الأمر بعزله أمر لا مرد له ولا مجال للمدافعة بعده. وكيفية ذلك أن شيخ البلد ورجاله إذا رأوا في تصرف الباشا ما يوجب الشك اجتمعوا اجتماعا عموميا في الديوان وقرروا عزله، وكتبوا بذلك أمرا يسلمونه إلى الأوطي باشي ليوصله إلى الباشا، فيحمله ويسير على حمار - لأن القانون لا يسمح له بركوب الخيل أو البغال - وبين يديه فرمان العزل. فإذا مر بالأسواق على هذه الصورة، علم الناس أنه ساع في أمر هام فيه عزل فيهرولون وراءه، ولا يزال سائرا في عرض الطريق قائدا لتلك الجماهير نحو القلعة، ومن واجبات أي جندي لقيه في تلك الحال أن يرافقه اتقاء ما يخشى حدوثه عند وصوله القلعة.
فإذا وصل القلعة يدخل على الباشا، ثم يجثو أمامه باحترام ووقار، وعندما ينهض يطوي السجادة التي كان جاثيا عليها وينادي بأعلى صوته: «انزل يا باشا» وعند طي السجادة، والتلفظ بهذه العبارة تسقط كل حقوق الباشا، ولا يبقى له أقل سلطة على الجنود التي كانت قبل بضع دقائق تحت أمره، وتصير تحت أمر الأوطة باشي. وكانوا يسمونه «أبو طبق»؛ لأنه كان يلبس على رأسه قبعة مثل الطبق، والباشا يقف ممتثلا يسمع تلاوة الفرمان سواء كان منطوقه بعزله أو بقتله، فلا يسعه إلا الطاعة التامة، على مثل ذلك كانت معاملة باشوات مصر.
لما مات «علي بك»، اختلف أعداؤه في القاهرة على الاجتزاء من انتصاراتهم، فكان كل منهم يظن لنفسه الحق بالتمتع بأثمار انتصاره كغيره أو أكثر ، فاختلفت الأحزاب من بينهم. أما من بقي من رجال «علي بك» فلم يجدوا مكانا فيه راحة لهم، وكانوا في «عكا» عند الشيخ ضاهر - على ما تقدم - فتقهقر «أبو الذهب» لأنه كان يحب الانتقام حبا يفوق التصديق، وقد آلى على نفسه ألا يبقي على أحد من رجال «علي».
Página desconocida