وفي أواخر شوال من السنة التالية، ثارت عليه الجيوش، واجتمعوا في برج السيد «أحمد البدوي» تحالفوا ألا يوافقوه على إلغاء الضرائب غير العادلة التي كانت مضروبة على القطر إلى ذلك العهد. ثم اختاروا من بينهم رئيسا ولوه عليهم سلطانا، وتقاسموا مصر إلى أقسام، تولى كل واحد منهم إثارة الشغب والنهب في قسم منها. فانتشرت تعدياتهم في جميع الدلتا. فلما علم «محمد باشا» بذلك جمع السناجق «الجاوشية المتفرقة»، وسار بهم تحت قيادته لردع العصاة في 9 ذي الحجة سنة 1017ه، وأخذ معه ستة مدافع، وانضم إليه كثير من مشائخ العرب. وفي الليلة التالية، عسكر الجميع في بركة الحج.
وفي الصباح، هاجموا العصاة في الخانقاه. فضيقوا عليهم بالنيران، فاضطر أولئك إلى التسليم، فأخذ الباشا عهودا، أولها أن يسلموا إليه سلطانهم وكبار رؤسائهم، ووعدهم بالتأمين على حياتهم، فقبلوا وسلموا الرؤساء وعددهم نحو 77، فأمر بقتلهم حالا. ثم جرد الباقين من سلاحهم، فتفرقوا، فتعقبهم رجال الباشا، وقتلوا من ظفروا به منهم.
فلما رأى قاضي العسكر «محمد أفندي» الملقب «ببختي زاده» ما كان يحصل من أمثال هذه المذابح يوميا، نصح للباشا أن ينفي كل من يقبض عليه منهم إلى اليمن، ففعل، وكانت النتيجة حسنة، وبطلت التعديات.
ولما ارتاح «محمد باشا» من تلك الثورات، أخذ في إصلاح الإدارة المالية، فتفحص بنفسه النفقات التي كانت تدفع من الخزينة، واقتصد منها كل ما لم يكن ضروريا. ثم نظر إلى الضرائب، فأبطل طريقة المماليك الشراكسة فيها، واتبع القوانين التي صدرت سنة 932ه في زمن السلطان «سليمان القانوني» ثم نظم المكوس وعدلها، ولم يكن يكلف نفسا إلا وسعها، فإذا رأى أرضا لا تقوى على القيام بما فرض عليها من المكوس، تنازل لها عنه وساعدها في إحياء مواتها.
ولما برح مصر، نال من المكافآت والإنعامات ما لم ينله أحد من أسلافه في مصر.
وتولى بعده «محمد باشا» الملقب «بالصوفي» وكان يحب العلماء ورجال الفضيلة. وكان ورعا، حليما، عفيفا، لم يقبل رشوة، ولم يأت ظلما، إلا أنه كان ملوما لزيادة ضعفه بما يتعلق بمحبوبه يوسف الذي كثيرا ما تعدى حده.
وفي سنة 1022ه، أرسل الصدر الأعظم عشرة آلاف جندي إلى اليمن، لإخماد ما كان ثائرا من الشغب هناك، وأرسلت الفرقة المذكورة عن طريق مصر ومعها أمر سام إلى الباشا بدفع النقود اللازمة لها، وتشييع الحملة إلى اليمن.
فلما وصلت الجيوش إلى مصر، وعلموا بما ورد من الأوامر بشأنهم، ادعوا أنهم جاءوا ليقيموا في مصر، ولم يذعنوا لأوامر الباشا بالسفر، فاتخذوا لهم منازل في مخازن باب النصر، وطردوا بعض أصحابها منها، فاجتهد الباشا أن يحملهم على التسليم بالأوامر الواردة إليه بشأنهم، فذهب سعيه باطلا. وأقاموا المتاريس في أبواب الحارة، وأقفلوا باب النصر، ونصبوا المدافع في برجيه. فاضطر الباشا إلى محاصرتهم بكل ما لديه من الوجاقات والمدافع. فتمكن الأمير «عابدين بك» من الدخول إلى حصنهم من باب في المدرسة المدعوة بالجنبلاطية، فخاف العصاة وسلموا، ففرق فيهم الباشا ثمانين كيسا وسافروا.
وبعد يسير أقيل «محمد باشا» الصوفي فاعتزل في قبة العدلية، ولم يبرحها إلا بعد أن علم بوصول خلفه «أحمد باشا» دفتردار مصر سابقا إلى الإسكندرية، ثم جاء القاهرة ودخلها بموكب حافل وبينما هو بموكبه في المدينة، رماه بعض الناس بحجر من سطح بعض البيوت، فكسر الهلال الذي كان فوق عمامته، ولم يؤذه، فأمسك الفاعل، فاعترف بذنبه، فقتل في ذلك المكان.
وفي محرم سنة 1025، ورد إلى الباشا المذكور أمر من الآستانة أن يرسل ألفا من جنود مصر لتنضم إلى الجيش العثماني الذاهب لمحاربة الفرس، فأرسلهم تحت قيادة «صالح بك» أمير الحج، فساروا على أتم نظام، ومروا بالمديريات، ولم يشعر الأهالي بمرورهم لما كان لهذا الباشا من النفوذ، وما أقامهم في مصر من النظام مع إعطائه الجيوش حقهم من المرتبات. ولم يكن يتيسر قبل ذلك مرور مائة رجل بمقاطعة واحدة، ما لم ينهبوها. فالتقت هذه الفرقة بالجيش العثماني في الخانقاه، وانضمت إليه، ولما ودع الباشا عساكره، فرق فيهم المال، وأصاب الواحد 20 دينارا على الأقل.
Página desconocida