درس الفراعنة وقيمته لنا
السلالات البشرية والفراعنة
مصر الأصل لحضارة العالم
حضارة مصر في العراق وآسيا
الذهب والمعادن عند الفراعنة
الشعوب البدائية
التحنيط والبناء
مصر والإغريق
حضارة مصر في أفريقيا
البقرة والقمر والعجل
Página desconocida
زهرتا البردي واللوتس
إغريقيا المهد الثاني للحضارة
التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة
قصة الرب أوزوريس
حكم أمينوموب
الماء أصل الحياة
قيمة الحضارة المصرية
كتاب الغصن الذهبي
درس الفراعنة وقيمته لنا
السلالات البشرية والفراعنة
Página desconocida
مصر الأصل لحضارة العالم
حضارة مصر في العراق وآسيا
الذهب والمعادن عند الفراعنة
الشعوب البدائية
التحنيط والبناء
مصر والإغريق
حضارة مصر في أفريقيا
البقرة والقمر والعجل
زهرتا البردي واللوتس
إغريقيا المهد الثاني للحضارة
Página desconocida
التضحية البشرية قبل عهد الفراعنة
قصة الرب أوزوريس
حكم أمينوموب
الماء أصل الحياة
قيمة الحضارة المصرية
كتاب الغصن الذهبي
مصر أصل الحضارة
مصر أصل الحضارة
تأليف
سلامة موسى
Página desconocida
درس الفراعنة وقيمته لنا
إليوت سمث: صاحب النظرية القائلة بأن مصر أصل الحضارة.
كان درس الفراعنة مجهولا جهلا تاما إلى أن عرف شامبليون اللغة أو الخطوط المصرية القديمة، ولكن حتى بعد هذا الاكتشاف بقي تاريخهم مجهولا لأسباب كثيرة بعضها يرجع إلى العقائد الدينية، وهو أن الفراعنة كانوا كفارا، وما زلنا نسمي أطلال المدينة المصرية القديمة التي يأخذ الفلاحون ترابها لتسميد أرضهم بأنها «تل كفري» والمعنى المقصود هو أن هذه المدينة كان يسكنها الكفار قبل 3000 أو 4000 سنة.
ولكن روح التسامح الذي ساد أوروبا في القرن الماضي جعل الأوروبيين يتسامحون فيما كتب عن الفراعنة في التوراة، ويقبلون على دراسة آثارهم، ويخصون الكراسي في الجامعات لهذه الدراسة، بل يبعثون بالبعثات العلمية إلى مصر لكي تقوم بالتنقيب عن هذه الآثار وكشفها.
وبقينا نحن في مصر نجهل هذه الآثار، ولم تكن برامج التعليم تتناول التاريخ المصري إلا بصيغة موجزة كأنها خلاصة قد كتبها تلميذ للاستذكار فقط؛ ولذلك لم تبعث الدراسة المدرسية لتاريخ الفراعنة أي شوق بين الطلبة أو خريجي المدارس العليا للاستزادة، فلم يؤلف كتاب في تاريخ الفراعنة، ولم تتناول الجرائد أو المجلات هذا الموضوع.
وزاد على ذلك أنه لم يكن أحد من المصريين يتعلم اللغة المصرية القديمة، بل اقتصر تعلمها على الأجانب الذين كانوا يؤلفون بلغاتهم الأجنبية.
ولكن الحال ليست كذلك الآن؛ فإن النهضة الحديثة إلى الاستقلال والحرية بعثت كبرياء جديدة في نفوس الشبان، جعلتهم يعتزون بذكر الفراعنة ويفخرون بآثارهم، ووافق ذلك نجاح بعض المصرلوجيين مثل سليم حسن وسامي جبرة في كشف بعض الآثار، فوجدت الصحف موضوعا للكلام عن الفراعنة، كما أن «درامة» توت عنخ آمون قد بعثت الانتباه بل الدهشة والغبطة بين جميع أبناء الأمة، وبعد ذلك أو في أثناء ذلك حدثت تلك الزوبعة في الفنجان عن الفرعونية والعربية، فكانت أيضا على صغرها موضوعا للتنبيه العام عن قيمة الفراعنة في ثقافتنا أو في نهضتنا.
هذا التنبيه واضح حتى في تلك الأسر التي قد لا يفكر الآباء فيها في قيمة الحياة الفرعونية وهم مع ذلك يسمون أبناءهم بأسماء مصرية مثل رمسيس وأسيس وخوفو وأهمس، والمسلمون والمسيحيون سواء في ذلك. •••
ولكن مع كل ذلك لا يزال اهتمامنا بدرس الفراعنة ضئيلا إذا قيس بدرس الأوروبيين والأمريكيين له؛ فإن الكتب التي ألفت عن تاريخ جدودنا تعد بالمئات في اللغة الإنجليزية وحدها، وجميع الجامعات الأوروبية وبعض الأمريكية ينفق النفقات الكبيرة على إلقاء المحاضرات عن الفراعنة وبعث البعثات إلى مصر لدرس آثارهم، وقبل نحو أربع سنوات عرض علينا معهد روكفلر أن ينفق نحو مليوني جنيه للتنقيب، وعرض مع ذلك أن نضع نحن شروطنا لهذا التنقيب، ولكنا رفضنا، ولم يقل لنا أحد للآن لماذا رفضنا؟
واهتمام الغربيين بالآثار المصرية هو الذي يجعل مصرلوجيا عظيما مثل الأستاذ سليم حسن يؤلف كتبه عن مكتشفاته باللغة الإنجليزية دون العربية؛ لأنه يثق من وجود جمهور من القراء حين يؤلف باللغة الإنجليزية، وهو لا يثق من وجود هذا الجمهور بين أبناء بلاده.
Página desconocida
والنتيجة لهذه الحال التي يؤسف عليها أن جمهور القراء في لندن أو برلين أو نيويورك يدرون عن مكتشفات سليم حسن أكثر مما ندري نحن، مع أننا أبناء هؤلاء الفراعنة الذين هم موضوع الدرس، وهذه الحال لا تشرفنا.
إن لنا هيئات حكومية تقوم بطبع الكتب العربية القديمة، وهذه خدمة لا تنكر للأدب أو لتاريخ الأدب، فلماذا لا تقوم هذه الهيئات نفسها بترجمة الكتب التي يؤلفها المصرلوجيون عن الآثار الفرعونية وطبعها؟ •••
وفينا من يعتقد أن درس الفراعنة لا يفيدنا كثيرا؛ لأن الصلة قد انقطعت بيننا وبينهم في اللغة والدين والسياسة والاجتماع والثقافة والفنون.
ولكن هذا الاعتقاد خطأ؛ فإننا أولا لا نزال من حيث السلالة مصريون، يجري في عروقنا الدم الذي كان يجري في جدودنا قبل خمسة آلاف سنة، واللغة لم تنقطع بيننا وبين عصور الفراعنة لأنها لا تزال حية في الكنائس المصرية، وكل ما طرأ عليها أنها تكتب بحروف إغريقية على نحو ما كانت تكتب التركية بحروف عربية قبل بضع سنوات، ولو أتاح الحظ للكنيسة القبطية قسيسا وطنيا - وهو مع وطنيته عالم - لرد اللغة القبطية إلى الخط المصري.
أما السياسة والاجتماع والفنون فإنها جميعا تعود في الأصول والأسس إلى مصر القديمة؛ لأن الحضارة اختراع مصري قديم. •••
وهنا نقطة تستحق الإبراز لأهميتها؛ فإن الشائع أن الأقباط هم السلالة الخالصة للمصريين القدماء، وأن المسلمين قد اختلطت دماؤهم بالدم العربي، وأن درس الفراعنة يجب ألا يكون له عند المسلمين القيمة التي له عند الأقباط.
وقد كنت أظن أن هذا الفرض معقول من الناحية التاريخية، ولكن كان يعترضه ما نراه في اختباراتنا الريفية من عظم المشابهة بل المطابقة بين السحنة الغالبة بين الفلاحين وبين السحنة الغالبة على المصريين القدماء، وهذه الحقيقة يعترف بها إليوت سمث نفسه، وإن كان هناك بين الأقباط أفراد كأنهم التماثيل المنحوتة قد أخرجت ليومها من قبور الفراعنة.
وكنت أحار في تعليل هذه الحقيقة حتى أتاح لي ظرف حسن أن أناقش الأستاذ سعيد لطفي في هذا الموضوع، وهو رجل يمتاز فوق وطنيته المصرية بسحنة فرعونية.
ويرى الأستاذ سعيد لطفي أن المسلمين أخلص في العنصرية المصرية من الأقباط؛ لأن العرب حينما غزوا مصر كانت الطبقة الحاكمة خلاسية يجري في عروق أفرادها مزيج من الدم المصري والدم الروماني، وكان الرومان الشرقيون (أي اليونان) قد قضوا في مصر ألف سنة قبل دخول العرب فكان اختلاطهم كبيرا بالمصريين، ولكن هذا الاختلاط كان مقصورا على الطبقة الحاكمة فقط، على نحو ما كان قائما في بلادنا قبل نحو خمسين سنة؛ إذ كانت الطبقة الحاكمة من المصريين وذات السلطان الاقتصادي في البلاد خليطا من الأتراك والمصريين والشراكسة، أما الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة فكانوا عند دخول العرب مصريين أقحاحا لا تشوبهم شائبة من الدم الروماني، كما كانوا عند احتلال الإنجليز على هذه الحال أيضا لا يشوبهم شيء من الدم التركي أو الشركسي.
وهؤلاء الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة دخلوا في الإسلام، أما الطبقة الحاكمة أو ذات السلطان الاقتصادي فقد اعتزت بمركزها وامتنعت بمقامها وأملت الآمال بخروج العرب، وهذه الطبقة هي التي ينتسب إليها الأقباط الآن وهي كما قلنا لم تكن خالصة الدم.
Página desconocida
وعندي أن هذا المنطق معقول، وهو يثبت أن المسلمين المصريين أخلص دما وأوثق رابطة بالفراعنة من الأقباط الذين كثيرا ما نجد بينهم السحنة الرومانية. •••
وقد كان قاسم أمين فرعوني النزعة قبل أن نغرم نحن بهذا الهوى الجديد، وكان يرى أن دعوى الاختلاط بالعرب لا تنهض على أساس صحيح، وكان يقول إنه يكفي أن نضع عربيا قحا إلى جنب مصري لكي نرى الفرق العظيم بين السحنتين.
وكل من قرأ تاريخ مصر العربي يعرف كيف كان الملوك يتخلصون من العرب ويرشونهم لكي يرحلوا عن البلاد، وهم بالطبع لم يكن في ميسورهم أن يرحلوا لو كانوا قد اختلطوا بالسكان، وكل هذا يدلنا على أن المصريين - إلا الطبقات العالية - احتفظوا بدمهم الفرعوني. وفي بلادنا الآن عرب لا يختلطون بالفلاحين، وكلنا يعرفهم في الصعيد والفيوم والبحيرة والشرقية، حيث يمارسون من تجارة الإبل والغنم ورعايتها ما يخالف مألوف الفلاحين مخالفة الرحلة والانتجاع للإقامة والفلاحة. •••
وكما لكل فرد شخصيته التي تتألف من تراثه البيولوجي والاجتماعي،، كذلك لكل أمة شخصيتها التي تتألف من تاريخها وتراثها الثقافي والاجتماعي؛ ولذلك لا يمكننا أن ننظر للأمة إلا باعتبار ما لها من وحدة التاريخ. فدرسنا للتاريخ المصري هو درس للشخصية المصرية وللأخلاق المصرية، وللأثر الذي تخلفه البيئة الطبيعية لوادي النيل في سياسة الدولة ونزوات الحاكمين.
وهنا تحضرني ملاحظة أدلى بها المصرلوجي ويجال الذي مات في العام الماضي، فقد نظر إلى التاريخ المصري في مدى ستة آلاف سنة ماضية فقال - على ما أذكر - إن مصر بموقعها الجغرافي يجب أن تكون إمبراطورية إذا أرادت الاستقلال؛ فإن حدودها مفتحة الأبواب للعدو الذي يبغي غزوها سواء من الغرب أم من الجنوب أم من الشرق، وإن تاريخها أيام الفراعنة أو أيام الحكم العربي يدل على أنها كانت كذلك أو كانت العكس، فإما أن نملك السودان أو يملكنا، وإما أن نملك طرابلس أو تغزونا قبائلها، وإما أن نملك فلسطين وما والاها من الأقطار أو تملكنا هذه الأقطار، وهذا هو الذي حدث أيام الفراعنة في الدول القوية، وهذا هو الذي حدث أيام الإمبراطورية الفاطمية، أما حين لم نكن أقوياء فإن هذه الأمم المحيطة بنا غزتنا وحكمتنا. والمغزى أن مصر لا يمكنها أن تقف موقف الحياد والسلام للأمم المجاورة لها لأن حدودها لا تحميها، فهي إما أن تغزو هذه الأمم وإما أن تغزوها هذه الأمم، أو هذا على الأقل هو ما ينطق به تاريخها وموقعها الجغرافي.
والمستر ويجال يريد بالطبع مغزى آخر يتفق ونزعاته الإمبراطورية، ولكن هذا لا ينقص من قيمة هذا المنطق التاريخي الذي اعتمد عليه، وهو أننا لكي نفهم العوامل السياسية التي تتحكم في شئوننا يجب أن ندرس تاريخنا كله، ولا نقتصر منه على الحديث بل نرجع إلى أربعة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي. •••
ولكن إذا كان واجبا على كل إنسان أن يدرس تاريخ بلاده فإنه يجب على المصري أن يدرس تاريخ مصر لا لأنه تاريخ مصر فقط بل لأنه تاريخ الدنيا، تاريخ الحضارة القديمة التي أخرجت الإنسان من العصر الحجري وجمع الطعام والرحلة في الغابات والبراري إلى عصر الزراعة واستنتاج الطعام والإقامة في المنازل وإنشاء الحكومة والأسرة.
فإن مصر هي - باعتراف طائفة كبيرة من المؤرخين - التي اخترعت الحضارة الأولى ، ونحن حين ندرس تاريخها القديم ندرس علما آخر هو الأنثروبولوجية ونعرف كيف نشأ الطب وما العلاقة بين تحنيط الجثة وبين توبلة الطعام، ولماذا أجمعت الأمم على الإكبار من شأن الذهب، وما علاقة هذا المعدن المشئوم بالأزمة الحاضرة، وكيف نشأت الملوكية وطبقات الأشراف، وكيف عرفت الراية للحرب والرنك للأسرة الشريفة، وما الذي بعث على التجارة بين الأمم، ولماذا تسمى الكيمياء الآن باسم مصر القديم، ولماذا أخذ الأوروبيون التقويم المصري، بل لماذا تقدس البقرة في الهند الآن.
كل هذا نستطيع أن ندرسه عندما ندرس تاريخ مصر؛ لأن الحضارة الأولى التي اخترعها جدودنا نقشت في العالم ولها آثار ليست في بلادنا فقط بل في جميع الأقطار في الصين وإنجلترا وأمريكا وأفريقيا الوسطى وإيطاليا وجزيرة العرب.
ونحن حين ندرس تاريخنا نقف منه على الأساليب التي يتخذها الذهن البشري في الابتكار والاختراع، كما نقف على السيكلوجية التي تتفشى بها العقيدة، فدراستنا لتاريخ جدودنا هي دراسة أيضا للتاريخ العالمي والفلسفة والأنثربولوجية والسيكلوجية.
Página desconocida
لدرس الفراعنة يجب أن تؤلف اللجان في كل مدينة كبيرة أو صغيرة لكي تشترى الكتب التي كثيرا ما تتجاوز أثمانها طاقة الأفراد، وهذه اللجان تشتريها بالتعاون ثم يتوزعها أفرادها فيما بينهم لدرسها كما يجتمعون للمناقشة فيها، وهذه الكتب - كما قلت - تعد الآن بالمئات في اللغات الأوروبية وخاصة اللغة الإنجليزية.
كما يجب أن تصنع الأفلام التاريخية عن الفراعنة بإشراف أحد المصرلوجيين لعرض الحياة المصرية القديمة، فقد رأينا فلما يؤلف عن كليوبطرة فيجب أن نرى أفلاما أخرى تؤلف عن أخناتون وتحتمس ورمسيس، وهذه الأسماء ليست مألوفة في العالم الغربي الذي ألف اسم كليوبطرة؛ ولذلك قد لا ينشط مؤلفوهم إلى التأليف عنها، وإذن يجب علينا نحن أن نقوم بهذا العمل لتنوير الأذهان وإيناس القلوب بذكري الجدود.
كما يجب أن تؤلف الكتب باللغة العربية في تراجم هؤلاء الفراعنة؛ فقد استطاع ويجال أن يضع كتابا عن أخناتون لا يقل عن 300 صفحة كبيرة، وكان يجب أن يكون لهذا الملك الصالح كتاب بل كتب في العربية توضح لنا جهاده الروحاني، كما كان يجب أن نجد كتابا آخر في الجهاد الحربي الذي قام به رمسيس وعشرات أخرى من الكتب في الحضارة المصرية القديمة.
كما يجب على المدارس أن تتوسع في تدريس التاريخ الفرعوني. •••
ومدينة كبيرة مثل القاهرة هي عاصمة القطر ومحج السائحين، يجب أن تأخذ بنصيب من الفن الفرعوني، هذا الفن الذي يبعث الهيبة والوقار والفخامة كما نراه في ضريح سعد الذي نرجو أن يعود جثمانه الشريف إليه قريبا.
وفي كل من باريس ولندن وواشنطون وإستانبول مسلات مصرية، ولست أقترح أن تنقل إلى أحد الميادين في القاهرة مسلة مصرية، ولكني أظن أنه يمكن إقامة بعض التماثيل الفرعونية في مياديننا في القاهرة، وقد كان اللورد كتشنر يبغي نقل تمثال رمسيس إلى ميدان باب الحديد، ولكن قيل في ذلك الوقت إن جسر قصر النيل لا يتحمل نقله، وقد هدم هذا الجسر وأقيم مكانه آخر يمتاز بمتانته وسعته، فلم لا نعود فنفكر في نقل هذا التمثال العظيم إلى هذا الميدان؛ لكي يستقبل كل قادم إلى العاصمة ويذكره بالفراعنة؟
وليس تمثال رمسيس هو الوحيد الذي يمكن نقله، ولا ميدان باب الحديد هو الوحيد بين الميادين الذي يمكن إقامة التماثيل فيه؛ فإن تماثيل الفراعنة كثيرة ويمكن أن يقام منها عدد كبير في العاصمة لكي تكتسب المدينة منها مسحة فرعونية تنبه الذهن وتحيي القلب. •••
إن درس الفراعنة هو في النهاية الدعاية للفراعنة، ونحن نريد هذه الدعاية لأنها تتمم شخصيتنا التاريخية وتزيد كرامتنا القومية، وتنير أذهاننا عن الأصول والأسس التي قامت عليها حضارتنا أي حضارة العالم.
السلالات البشرية والفراعنة
مما يذكره إليوت سمث أنه كان ذات مرة يفحص عن القحوف البشرية في إنجلترا، وكان أمامه قحف لرأس مصري من عهد الفراعنة فوضعه مصادفة إلى جنب قحف لرأس إنجليزي حديث الوفاة، فما راعه إلا المشابهة بل المطابقة بين الاثنين.
Página desconocida
قبطي حديث من الصعيد رسم مدام بهمان.
والواقع أننا عندما نجرد الرءوس من اللون لا نكاد نجد فرقا بين المصري القديم «أو الحديث» وبين بعض السكان في إنجلترا؛ فإن الشعب المصري ينتمي إلى السلالة الميديترانية، هذه السلالة التي تعزى إلى اسم البحر المتوسط «ميديتران» والتي تنتشر الشعوب المنتمية إليها في إيطاليا وإسبانيا وأفريقيا الشمالية ومصر والحبشة وجزيرة العرب والعراق القديم وفرنسا الجنوبية وبعض أنحاء إنجلترا. وخاصة ويلس، وتمتاز الرءوس في جميع هذه الشعوب بالاستطالة مع بروز القمحدوة من الخلف وبالشعر المتموج والوجه الطويل وقلة الشعر سواء في الجسم أو الوجه ونحافة الجسم وتوسط القامة، وهذه السلالة هي التي سكنت مصر وشرعت في اختراع الحضارة بعد أن علمها النيل مبادئ الزراعة، ومن مصر تفشت إلى الأمم الأخرى حول البحر المتوسط.
الوجه المصري في تمثال لإخناتون.
ويرى إليوت سمث أن السلالات البشرية هي الآن ست فقط، وأنها ترجع إلى أصل واحد أو أصلين أو ثلاثة يمكن أن يجد الإنسان فيها ما يذكر بالقردة العليا؛ فإن الشبه مثلا كبير جدا بين المغول وبين القرد أورانج أوتان، وكذلك هناك سمات تربطنا نحن أبناء السلالة الميديترانية بالشمبنزي، كما أن القرابة بين الزنجي والغوريلا واضحة في ملامح وتقاسيم عديدة، ولكن إذا صح هذا الفرض وهو أن للسلالات البشرية عدة أصول؛ فإن هذه الأصول كانت شديدة القرابة بدليل أنه ليس بين البشر الآن «بغال» لأن التلاقح ينجح بين جميع أفراد السلالات الحاضرة.
الوجه المصري في تمثال أمينمهعت الثالث.
ولنذكر هذه السلالات الست كما يراها إليوت سمث، وهو هنا يخالف بعض الآراء التي كانت شائعة في القرن الماضي، فهو لا يري معنى للقول بأن هناك سلالة آرية لأنه يرى أن وصف الآرية ينطبق على اللغة دون السلالة، وكذلك لا يرى معنى للكلمة القديمة «السلالة القوقازية». (1)
وأحط السلالات هي السلالة الأسترالية التي لا يزال عدد قليل من أفرادها باقيا يعيش في وادي أستراليا، وكان عددهم كبيرا ولكن البيض المهاجرين ألحوا في قتلهم، وهم شعرانيون لا يعرفون الزراعة أو بناء المنزل أو نسج القماش، ولكنهم يعرفون تحنيط الموتى ولهم عقائد تذكر بالمصريين القدماء مما يدل على أن الثقافة القليلة التي يعرفونها قد وصلت إليهم على أيدي أناس أشربوا الثقافة المصرية القديمة ثم انبتت هذه الثقافة فلم ترتق بل تقهقرت.
الوجه المصري في تمثال آخر لأخناتون
زخرف مصري فرعوني. (2)
أما السلالة الثانية فهي الزنوج الذين ينتشرون في أفريقيا الوسطى والجنوبية وآسيا الجنوبية، وهم يمتازون بالشعر المفلفل والجسم الذي يكاد يكون أملط وانفطاس الأنف وغلظ الشفة، وبين الزنوج أطول الناس قامة مثل الشيلوك، وأقصرهم قامة مثل الأقزام في الأقاليم الشرقية من الكونجو، وقد اختلط الزنوج بالسلالة الميديترانية كما ترى في النوبيين وعرب السودان، ولكن الملامح عند هؤلاء لا تزال ميديترانية وليست زنجية.
Página desconocida
الوجه المصري في تمثال من الأسرة الرابعة
وفي زنوج البوشمان خاصة لا تعرف في السلالات البشرية الأخرى هي وفرة الشحم في الأليتين بحيث تبرزان بروزا كبيرا عن استواء القامة، وأقزام الزنوج لا يزالون بدائيين لا يعرفون شيئا من الحضارة، ولكن معظم الزنوج متوحشون، وتوحشهم قد اكتسبوه بالثقافة القليلة التي تسربت إليهم من مصر ثم لم تطرد في التقدم بل وقفت وأحيانا تقهقرت. (3)
السلالة الثالثة هي الميديترانية التي يعزى إليها الشعب المصري. (4)
السلالة الرابعة هي ما يسميه الإتنولوجيون الآن بالسلالة الألبية نسبة إلى جبال الألب حيث يكثر أفرادها، وهم يمتازون باستدارة الرءوس وانتفاء القمحدوة، وشعوب هذه السلالة يملأون أوروبا الوسطى وينتشرون إلى حدود الصين الغربية تقريبا، ومنهم الأرمن والأتراك والسوريون، وجميع هؤلاء يتشابهون من الخلف إذ ليس لواحد منهم قمحدوة بازرة، وهم كثيرو الشعر، كما هو واضح من السوريين المقيمين بيننا حيث نجد شعرا غزيرا على أجسامهم ووجوههم، ومعظم الفرنسيين ألبيون، وكذلك الحال في سويسرا وإيطاليا الشمالية وهنغاريا ومقدونيا.
وهناك وهم ساد مدة طويلة هو القول بأن الأتراك مغول، والذي بعث هذا الوهم هو أن لغتهم مغولية، ولكن اللغة لا تدل على السلالة؛ فإن وجوههم ألبية مثل السوريين أو الفرنسيين أو الحيثيين القدماء، ومن ميزات هذه السلالة عظم الأنف، فإن المصريين القدماء رسموا أنوف الحيثين كأنوف الأرمن أو الأتراك الآن بارزة قنياء. (5)
أما السلالة الخامسة فهي النوردية التي تنتشر في أوروبا الشمالية أي ألمانيا وإنجلترا ودنمركا وأسوج ونروج، وهي تمتاز بطول القامة وخفة اللون مع بروز خفيف في عظم الوجنتين، وهذه السلالة هي التي أغارت على الهند وإيران حوالي سنة 1300 أو 1200 قبل الميلاد، وفي هذا الوقت نفسه يذكر المصريون غارة الإفريقيين من الغرب أي اللوبيين ويرسمونهم بما يتفق وصفات النورديين. (6)
أما السلالة السادسة فهي المغولية التي ينتمي إليها الصينيون والتتار، وهم مستديرو الرءوس ولكنهم يختلفون من الألبيين من حيث إن لهم قماحد أي بروز في خلف الرأس، وشعرهم مستقيم لا يتموج أبدا، وهم قليلو الشعر جدا بخلاف الألبيين غزار الشعر.
والأنف مفرطح عند المغولي بارز عند الألبي، وشعوب الأمرنديين أي سكان أمريكا القدماء مغول أيضا، وكذلك الإسكيماويون الذين يقطنون أمريكا الشمالية.
هذه هي سلالات النوع البشري، ولكن يجب ألا يبرح من أذهاننا أن التقاليد اللغوية والدينية والاجتماعية التي تتوارثها إحدى الأمم تنتهي بعد مرور ألف أو ألفين من السنين إلى إيجاد ميزات خاصة للأمة، تجعلها كأنها سلالة قائمة برأسها حتى لنستطيع أن نتبين اليمني من المصري مع أن كليهما ميديتراني الأصل في السلالة، ونميز السوري من السويسري مع أنهما ينتميان إلى السلالة الألبية.
مصر الأصل لحضارة العالم
Página desconocida
قبل 35 سنة كان في «مدرسة» الطب بقصر العيني معلم إنجليزي يدعى الدكتور إليوت سمث، وكانت حرفته التي يعيش منها ويؤديها على الوجه الكامل هي تعليم الطلبة مبادئ الطب، ولكن يحدث أحيانا كثيرة أنه يكون إلى جانب عملنا الرسمي شيء نهواه ونمارسه للذة، فلا تكون له علاقة بالحرفة أو الكسب، وكان هذا الهوى عند إليوت سمث درس الفراعنة.
وكما هو الشأن في الهوى، كان درس الفراعنة يستغرق فراغه بل يستهلك كسبه، فكان كلما سنحت له الفرصة يرحل إلى الصعيد لدرس الآثار وجمع الجماجم والمومياءات، وكان إذا خلا إلى نفسه في قصر العيني أو في بيته يقعد إلى هذه الجماجم يقيسها أو يحلل قسما من جسم المومياء أو يقرأ واحدا من مئات الكتب التي جمعها عن ثقافة الفراعنة، وكان يقرأ ويقابل وينتقد.
عالم في الطب والأنثربولوجية يبحث في التاريخ، قد ملئت نفسي بروح النزاهة العلمية، وقد نضج ذهنه بدرس الأساطير وعادات المتوحشين وأصول المدنية الحديثة في القارات الخمس، فكانت دهشته عظيمة كلما وجد عادة من العادات التي تخالف المنطق، بل التي قد تكون مضرة بمن يمارسونها في الصين أو أمريكا الجنوبية أو عند سكان أوغندا، إذا هو حاول تفسيرها بظروف البيئة التي نبتت فيها لم يستطع، ولكن هذا التفسير ممكن إذا هو ردها إلى مصر أيام الفراعنة.
وعندئذ انبسط أمامه العالم القديم، فرأي أن هذا العالم إنما كان أمة واحدة هي مصر اخترعت المدنية الأولى ثم تفشت هذه المدنية في أنحاء العالم، وإنه إلى الآن نستطيع أن نرجع بعادات العالم في نظام الحكومة والقضاء والزواج والنقد وتقاليد الموت والدفن بل في قصص الأطفال إلى الفراعنة. •••
ولو أن عالما مصريا هو الذي ارتأى هذا الرأي لاتهم فيه لوطنيته، ولكن إليوت سمث إنجليزي، وهو ليس أديبا افتتن بجمال الأدب الإغريقي مثلا فدافع عنه وقال بسموه على سائر الآداب، وإنما هو عالم قد اعتاد التمحيص والشك؛ ولذلك لا نجد في كتبه لفظة حماسية أو عبارة إعجاب، وإنما نجد أسلوب العالم النزيه الذي يقرر الحقائق ويخشى من التورط في الاستنتاج فيتراجع عن كل ما يوهم المبالغة أو الإسراف.
وقد أقيمت المقارنة بين تشارلس داروين وإليوت سمث؛ فإن الأول عزا نشوء الأحياء إلى أصل أو أصول قليلة، والثاني يعزو نشوء المدنية إلى أصل واحد هو مصر.
والمقارنة صحيحة والشبه واضح، فقد كان الاعتقاد السائد قبل داروين أن كل نوع من الحيوان قد نشأ على حدة لا يضم الأنواع أصل مشترك، وكان الاعتقاد قبل إليوت سمث أن المدنيات القديمة نشأت مستقلة في أنحاء مختلفة في العالم، وقد جعلت الشواهد التي حشدها إليوت سمث المؤرخين يؤمنون بنظريته. •••
والآن ما هي هذه النظرية؟
هي أن الإنسان كان يعيش قبل نحو عشرة آلاف سنة وهو لا يعرف الزراعة، فلم يكن يستنتج الطعام بالزراعة وإنما كان يجمعه بالصيد واقتلاع الجذور وجني الأثمار البرية.
وفرق عظيم بين جمع الطعام وبين استنتاجه.
Página desconocida
ففي الحال الأولى يبقى الإنسان بدويا راحلا ينتقل كل يوم، لا يعرف نظام الحكومة أو بناء المسكن، وفي الحال الثانية يعرف الزراعة، ومتى عرفها استقر في مكان وبنى المسكن ورضي بالخضوع للحكومة، ثم يدرك من الزراعة أشياء عديدة كاستئناس الحيوان والهندسة والفلك وعندئذ تنشأ المدنية.
ولكن لماذا اختص المصريون باستنباط المدنية الأولى حين جهلها سائر الناس؟
الجواب على ذلك أن المصريين لم يكونوا عبقريين، فقد كانوا مثل سائر الشعوب التي تحيط بالبحر المتوسط على ذكاء عظيم حقا، ولكن استنباطهم للمدنية لم يكن ثمرة العبقرية بمقدار ما كان ثمرة للوسط المصري؛ وذلك أن النيل بفيضانه السنوي الذي كان ينساح كل عام في الوادي كان يعلمهم على الرغم منهم أصول الزراعة، وفي العالم أنهار كثيرة ولكنها لا تنتظم في فيضاناتها لا من حيث المقدار ولا من حيث الميعاد، فهي تسيء إلى تعليم الإنساني البدائي الذي يعيش في واديها، وتربك ذهنه باختلاف مواعيدها ومقاديرها، أما النيل فكان ولا يزال منتظما؛ ولذلك كان جدودنا قبل 10000 سنة يلقون الصعاب في جمع الطعام من الصيد واقتلاع الجذور، بل كانوا يجوعون وأحيانا يموتون، وهم في ذلك وإذا بماء الفيضان ينساح ثم ينحسر فتكتسي الأرض خضرة زاهية وتنبت الجذور المختفية فيعم الفرح، ثم تكرر هذا الفيضان سنة بعد أخرى، فتعلم منه جدودنا أن الماء ضروري للنبات وأنه يمكن الاستكثار من الزراعة بالجذور أو البذور، وأنه خير لهم أن يزرعوا ويستنتجوا الطعام بالزراعة من أن يجمعوه من الغابات والنباتات البرية.
ونشأت الزراعة فسكن كل منهم في مكان لا يبرحه، وأصبحوا فلاحين لهم بيوت بعد أن كانوا بدوا يرحلون، وعندئذ ظهرت الحكومة في صورة «شيخ» يرجع إليه في المنازعات، ثم بتوالي الزمن وتوافر التجارب ظهر المهندسون الذين أدركوا كيف يمكن تدبير الماء بالحياض، وكيف ينظم التقويم على نظام فلكي يتفق ومواعيد الزراعة، ولعل هذا المهندس الأول أو الفلكي الأول هو أول الفراعنة.
ولكن هذا الفرعون الأول الذي هدى البلاد إلى خيرات الزراعة وأنشأ لهم الحياض ونظم التقويم، قضي عليه كما يقضى على كل حي بالموت، فاحتفظ جدودنا بجسمه وهم في سذاجتهم يحسبون أن الاحتفاظ بالجسم يؤدي إلى الاحتفاظ بالحياة، فعرفوا الدفن والتحنيط، ثم كانوا يستشيرونه بعد موته كما كانوا يفعلون في حياته، فنشأت الأديان الأولى وعرف المعبد.
زراعة وديانة وملك وعبادة وهندسة وتقويم وبناء للمنزل واستئناس للماشية، فماذا يبقى بعد ذلك لتكوين المدنية الأولى؟
لم يبق شيء سوى التدرج؛ فإن جميع المبادئ قد وضعت، والزيادة بعد ذلك هي توافر التجارب وتنوع الفنون التي تنشأ من هذه المبادئ أي مبادئ الزراعة؛ لأن الزراعة هي الأصل لفكرة المدنية، وقد نرى في أيامنا مدنية صناعية ولكن المدنية الأولى كانت بالطبع مدنية زراعية.
هذه المدنية الأولى هي التي اخترعت القيمة الاجتماعية للذهب وعرفت التحنيط وجمعت المعارف الأولى للكيمياء، وإلى الآن يعرف العالم المتمدن هذه اللفظة «كيمياء» ولكن قل من يدري أصلها.
إن أصلها خيما بمعنى مصر؛ لأن الإغريق سموا هذا «العلم المصري» لاختصاص جدودنا به. •••
والآن كيف نحقق هذه النظرية؟
Página desconocida
عندنا طرق كثيرة للتحقيق:
فأولا:
نحن نعرف أن الأساطير الحديثة ترجع إلى قصص قديمة، وكذلك الأساطير القديمة ترجع إلى قصص أقدم منها، وهذا مثلا هو حال الإلياذة، فقد كتب الأستاذ عبد القادر حمزة بضع مقالات أثبت فيها أن جميع الأساطير التي ذكرها هوميروس في ملحمته ترجع إلى قصص مصرية قديمة نقلها الإغريق عن مصر، وواضح أن الإغريق لم يختصوا بنقل هذه القصص إذ إن أمما أخرى نقلتها بنصها أو حرفتها لكي تلائم البيئة الجديدة، فإذا قلنا إن الإلياذة أساس الأدب الإغريقي جاز لنا أن نقول إن هذا الأدب يقوم على أصل مصري.
وثانيا:
أثبت الأستاذ برستد الذي لا يمكن أن يطعن في نزاهته أو علمه أن الفن الإغريقي القديم إنما نهض على الأسس التي وضعها المصريون القدماء، وحسب الإنسان أن ينظر إلى الصور التي وضعها للمقابلة بين العمود المصري والعمود الإغريقي، وبين التمثال الإغريقي الأول وتماثيل المصريين القدماء لكي يعترف بأن الفن الإغريقي القديم مقترض من مصر.
وبدهي أن الإغريق الذين نقلوا قصص مصر وفنونها قد نقلوا أيضا أشياء أخرى في الدين والأسرة والزواج والزراعة والحكومة.
وثالثا:
في العادات الحديثة بين الأمم الشرقية المتمدنة والمتوحشة ما يدل على أن الثقافة الفاشية ترجع إلى أصل مصري، مثل عبادة البقرة عند الهنود، فإن هذه البقرة هي معبودتنا القديمة «هاتور» التي يعرف اسمها كل فلاح مصري، وكذلك في حفلة التتويج لإمبراطور اليابان وفي وصفه بأن سليل الآلهة ما يشبه بل يكاد يطابق حفلة التتويج عند الفراعنة، بل راية الحرب هي التي اخترعها المصريون لأغراض سحرية لأنه كان يرسم عليها الصقر الذي يحمي حامله من الموت ويهيئ له الغلبة على العدو، أو كان يرسم عليها التمساح لهذا الغرض عينه، بل الذهب الذي تختزنه بعض الأمم وتخرج عن قاعدته بعض الدول إنما منح هذه القيمة الاجتماعية من المصريين القدماء، وتقويمنا الإفرنجي الآن هو تقويمنا الفرعوني القديم أخذه يوليوس قيصر من الإسكندرية، والتحنيط الذي اخترعه جدودنا لتخليد الجثة لا يزال يمارس بين المتوحشين على الطريقة المصرية القديمة، بل تتويج الملك في بعض أنحاء أفريقيا الوسطى يومئ أكثر من إيماءة إلى تتويج الفراعنة، وبناء السفن هو صناعة مصرية قديمة قد نقحت ولكن أصولها المصرية لا تزال واضحة، والعالم كله أو معظمه يدفن موتاه ويكفنهم ويبني لهم القبور على العقائد المصرية، حتى الروح يجب أن تطرد من البيت على الطريقة المصرية القديمة، وجدودنا هم الذين زرعوا القمح حتى شاع في العصور القديمة باسمه المصري.
ويمكننا أن نزيد في تعديد الأشياء التي استنبطها جدودنا ثم عمت العالم، وكان الأصل فيها اهتداؤهم إلى الزراعة عن طريق النيل. •••
الآن عرفنا أن مصر هي التي اخترعت المدنية الأولى فكيف تفشت هذه المدنية وما هي العوامل التي جعلتها تخرج من مصر حتى نرى أثرها في أمريكا الجنوبية مثلا كما تدل على ذلك عادة التحنيط؟
Página desconocida
العامل الوحيد في تفشي هذه المدنية المصرية القديمة هو العقيدة السحرية أو الدينية التي جعلت جدودنا يبحثون عن الذهب والجواهر، ثم جعلتهم أيضا يطوفون الأقطار النائية لكي يحصلوا على الطيوب التي يحتاج إليها التحنيط والأخشاب المقدسة، وليس عجيبا أن يكون الذهب رائد الاكتشاف فقد كان كذلك عندما قصد الأوروبيون إلى القارة الجديدة في القرن الخامس عشرة، وهو السبب لاستثمار أفريقيا الجنوبية في العصر الحديث.
إن الذهب يبهر العين بجماله فكيف به إذا أضيف إلى هذا الجمال خاصة أخرى هي أنه يطيل العمر ويمنع الموت؟
هذه هي العقيدة الأولى التي آمن بها المصريون القدماء عن الذهب، وهذا هو السبب في وضعه في توابيت الملوك؛ لأنه يجب علينا ألا ننسى أن الملك في تابوته ليس ميتا وإنما هو في حال أخرى من الحياة يحتاج فيها إلى الذهب لكي تطول، وكان الذهب يجمع من الأقطار البعيدة ويحمل إلى خزانة فرعون، وهي في ذلك الوقت خزانة الدولة؛ ومن هنا صار الذهب نقدا للتعامل.
ولم يكن الذهب وحيدا في هذه الخاصة أي إطالة العمر؛ فإن الجواهر الأخرى كالمرجان واللؤلؤ كانت كذلك، وإلى وقت قريب كان بعض العامة يأكلون الذهب والجواهر باعتقاد إنهما يطيلان العمر.
ولفظة «النوبة» تعني بلاد الذهب، وفي هذا المعنى ما يدل على الباعث الأصلي الذي جعل المصريين القدماء يستعمرونها. •••
وفي هجرة المصريين للبحث عن الذهب والجواهر يجب أن نلاحظ شيئين: الأول أنهم كانوا حين يهتدون إلى منجم يقيمون حوله، ولم تكن المواصلات سهلة إذ لم يكونوا قد عرفوا بعد الجمل أو الفرس، فكان المنجم نواة للاستعمار ينتقل إليه المصريون فيزرعون ما حوله ويبنون قريتهم ويقيمون حكومتهم على النحو الذي ألفوه في مصر قبل أن يغادروها، وكانوا ينظرون إلى من حولهم من البشر كأنهم متوحشون، وكان هؤلاء ينجذبون إليهم إما طوعا لأن خيرات الزراعة تغريهم وإما كرها بالقتال والأسر، وكان بعض المصريين بالطبع يعود إلى مصر محملا بالذهب والجواهر والأسرى، ولكن كثيرين منهم كانوا يلبثون حيث هم يتناسلون ويتزوجون مع القبائل المتوحشة التي حولهم.
والشيء الثاني الذي يجب أن نلاحظه أن انتقال الثقافة المصرية من النوبة إلى الحبشة مثلا لا يشترط له هجرة المصريين الأقحاح، بل يكفي أن ينتقل النوبيون الذين امتزجوا بالدم المصري أو تثقفوا بالثقافة المصرية إلى الحبشة، ثم تستقر هذه الثقافة في الحبشة أو تتفشى الأنظمة المصرية ومعها العقائد التي تتعلق بالذهب والجواهر فتنتقل من الحبشة إلى الصومال وهلم جرا.
فإذا قيل إن ثقافة مصر انتقلت إلى أمريكا، فليس المعني المقصود أن المصريين نقلوها إذ قد تكون هذه الثقافة قد مرت على أيدي شعوب مختلفة تأثرت بها وسلمتها كما تسلمتها أو بعد تنقيحات اقتضتها البيئة. •••
إننا نجد في أمريكا أهراما كالأهرام التي في مصر، ونجد فيها طريقة التحنيط وعبادة الشمس والثعبان، ونجد في طريقة التحنيط تفاصيل غير لازمة ولكنها تؤدي لأنها حفظت بالتقاليد، فهي تجري في أمريكا كما كانت تجري في مصر لأنها تلتصق بشعائر دينية في مصر.
زخارف فرعونية.
Página desconocida
ثم نجد عبادة الشمس مقرونة إلى عبادة الثعبان في أمريكا، فلا نفهم لهذا الاشتراك مغزى إلا إذا رجعنا به وعرفنا الظروف التي جمعتهما في مدينتي إدفو وعين شمس.
وقد نتساءل هنا: لماذا نجد أهراما وتحنيطا في أمريكا النائية ولا نجدهما في الهند أو إيران القريبتين؟
فالجواب على ذلك أنه حين تجد الأمة عوامل التقدم قوية فإنها تنقح تقاليدها أو تلغيها، أما إذا ركدت وجمدت فإنها تستبقي تقاليدها، وقد طرأ على الهند وفارس ما جعلهما يكونان لأنفسهما مدنية هندسية خاصة أو فارسية خاصة فذهبت معالم الثقافة المصرية القديمة، ولكن حيث يسود الجمود في الأقاليم الجنوبية من الهند أو سيلان ما زلنا نجد التحنيط، وكذلك الحال في بعض الأقاليم النائية في إندونسيا. •••
إن أساطير الإغريق تثبت الأصل المصري الذي نشأت منه، وكذلك فنونهم وعلومهم، بل كذلك آثار المتوحشين في أفريقيا وآسيا وأمريكا، ودرسنا للحضارة المصرية الأولى هو في حقيقته درس سام للفلسفة التاريخية كما هو غذاء لوطنيتنا الفرعونية.
إن الفراعنة ليسوا آباءنا فقط بل هم آباء العالم الذي تعلم منهم كيف يترك حياة البداوة إلى حياة الزراعة والحضارة، وهم لذلك جديرون بدرسنا وفخارنا.
حضارة مصر في العراق وآسيا
من المسائل التي كثر فيها الجدال مسألة الحضارة الأولى هي نشأت في العراق أم في مصر؟
والأغلبية الساحقة من الآثاريين هي الآن في صف مصر، تقول إنها هي الأصل والمنبت الذي نبتت فيه الحضارة الأولى ولكن هناك أقلية يتزعمها ليوناردو ولي تقول بأن العراق هو الأصل، وليوناردو ولي هذا هو صاحب المكتشفات العظيمة في أور.
وهم عندما يقولون إن الحضارة نشأت في العراق يعنون أن سومر تلك المملكة القديمة البائدة هي التي اخترعت الحضارة الأولى، والسومريون شعب ينتهي إلى سلالة غير معروفة، وهم يبدون من نفوسهم أنهم كانوا يحلقون رءوسهم ويرسلون لحاهم، وهم أصحاب الخط الأسفيني أو المسماري الذي كانوا يكتبونه على الطين بالحفر فيجف ويقرأ، وهؤلاء السومريون هم الذين جعلوا وحدة العد 60، وهذه الوحدة هي التي ما زلنا نعمل بها في قياس الساعة، وهم أصحاب برج بابل.
وهؤلاء السومريون لم يكنوا ساميين، وما يعرف عنهم قليل، ولكن من الحقائق الفاشية أنهم تعلموا الزراعة من مصر، فإن برستد يقول هنا: «وكان قد جاءهم من مصر الشعير ونوع من الحنطة الذي تنشق حبوبه؛ ولذلك دعوه باسمه المصري».
Página desconocida
والزراعة حوالي سنة 4000 قبل الميلاد لم تكن شيئا آخر غير القمح والشعير؛ لأنها كانت زراعة يد الحبة قامت على اكتشاف هذين النباتين، فإذا قلنا إن مصر علمت السومريين زراعة القمح والشعير ومنحتهما الاسم المصري، فإن هذا يعني أن مصر علمت السومريين الزراعة، والزراعة هي أول مراحل الحضارة.
وعند السومريين تقاليد قديمة تقول إن الذي علمهم رجل هبط عليهم من خليج فارس، ونحن لا نعرف شيئا عنهم قبل سنة 3000 قبل الميلاد مع أننا نعرف أن مصر كانت متحضرة تعرف الزراعة وملاحة النهر والبحر حوالي سنة 4000 قبل عهد الفراعنة، فإذا صدقنا هذه التقاليد السومرية لم نجد مفرا من اعتقاد أن هذا الرجل الذي علم السومريين الزراعة وأعطاهم الاسم المصري للقمح هو رجل مصري خرج للبحث عن الذهب والعقاقير والجواهر التي تطيل الحياة، ونقل إلى العراق مبادئ الزراعة. •••
وأور التي يعمل ليونارد ولي في التنقيب عن آثارها ليست لها المكانة التاريخية التي يمكن أن يقارنها الإنسان بمكانة مصر من حيث اختراع الحضارة، ولكن هناك مدينة أثرية أخرى هي سوسة مدينة العيلاميين التي تبعث الدهشة بآثارها القديمة؛ وذلك لأن هذه الآثار تشبه كل الشبه الآثار المصرية القديمة قبل عهد الأسر الفرعونية، فقد وجد فيها منجل حجري لا يشابه بل يطابق المنجل الذي استعمل في مصر قبل الأسر، ووجدت بها آثار منازل مستطيلة وطوب أخضر وفئوس من الحجر ورءوس للسهام وأشياء أخرى تطابق ما كان يصنع في مصر قبل عهد الأسر الفرعونية. وقد قال المسيو إدمون بوتييه سنة 1912 «عندما نفحص عن الآثار المصرية قبل عهد التاريخ وفي العصور الأولى للأسر الفرعونية، ندهش لمواضع الشبه العديدة بينها وبين آثار العلاميين، وفي مصر نجد في الأشكال والأشياء والتفاصيل وصنعة ما يذكرنا بآثار سوسة». في أور وفي سوسة آثار قديمة تدل أيضا على حضارة بدائية.
والشبه كبير بين حضارة أوروبا وحضارة مصر، وهو أكبر بين حضارة سوسة وبين حضارة مصر، فإذا لم نغتصب الاستنتاج المنطقي وإذا لم نتبع هذا الزعم القائل بأن الطبيعة البشرية تتشابه في كل مكان، وهي لذلك قادرة على الاختراع في كل مكان، إذا لم نقل ذلك فلا مفر من أن نقول إن أور وسوسة قد علما مصر أو أن مصر هي التي علمتهما مبادئ الحضارة.
ولكن مصر كتاب كامل الصفحات يبدأ بالعصر الحجري ثم يتدرج إلى عصر الزراعة الأولى، وقد أثبت الدكتور ريزنر أن هذا الاستمرار لا ينقطع في تاريخنا القديم فإن أطوار العصر الحجري تتدرج وتندغم في أطوار الحضارة الزراعية الأولى، وعندنا في مصر ما يسمى الآن «عصر البداري» وهو يقع حوالي سنة 12000 قبل الميلاد، وليس له شبه في سوسة أو أور أو أي بقعة أخرى في العالم، وهو عصر بدأت فيه مصر بشيء من الحضارة البدائية. وأساس الحضارة في مصر هو الزراعة، وأساس الزراعة في مصر هو النيل الذي علم المصريين مبادئها بانتظامه ومواظبة فيضانه عاما بعد آخر حتى أدرك الإنسان القديم أن الماء أصل كل شيء حي، وهذا الأساس لم يعرف في العراق لأن الفرات ودجلة نهران لا ينتظم فيضانهما الانتظام الذي نراه في النيل، وهما لذلك لا يفتقان الذهن أو يبعثان على التفكير كما حدث في مصر، ثم نحن لا نجد في أور أو سوسة هذا التدرج الذي لا ينقطع بين العصر الحجري وبين الحضارة الأولى كما نراه في مصر، ثم حضارة أور أو سوسة لا ترجع إلى أبعد من سنة 3100 قبل الميلاد في تقدير المستر ولي في حين هي تمتد في مصر إلى أبعد من ذلك بكثير قبل عهد الأسر. •••
وفي ضوء التاريخ المصري القديم وبالمقابلة بينه وبين تاريخ العراق نستطيع أن نقول إنه في عصر قديم سبق الدولة الأولى في مصر خرجت السفن المصرية من النيل تقصد إلى الشرق وتنشد هذه المواد التي تطيل الحياة كالجواهر والمعادن والعقاقير، فقطعت البحر الأحمر ثم جازت السواحل العربية إلى أن دخلت فارس والعراق، وهناك كانت النواة للحضارة المصرية الأولى، فحضارة سوسة هي حضارة مصرية أجنبية ولذلك سرعان ما انحطت لأن الذين أقاموها انقرضوا أو اندغموا فيمن حولهم من الشعوب فتنوسيت الثقافة التي جلبوها من مصر، ولو كانت حضارة سوسة أصلية فيها لوجدناها ترتقي بدلا من أن تنحط.
ثم انتقلت حضارة السومريين «أور» والعيلاميين «سوسة» إلى الشرق لنفس البواعث التي بعثت المصريين على الهجرة، فإن العقائد التي تتصل بإطالة الحياة بعثت هؤلاء على الهجرة في طلب الذهب والجواهر إلى السند؛ ولذلك نجد السر مارشال يتحدث عن «حضارة سومرية هندية» في موهنجو دارو.
ثم تنتقل هذه الحضارة إلى الهند والصين وتتبع في طريقها مناجم الذهب وتحمل معها الثقافة الزراعية الأولى من القمح والشعير، وهذه الثقافة الأولى هي التي جلبت مع الآلهة المصرية القديمة التي تختص بالزراعة حتى يقول الرب: «أنا أوزوريس وأنا أعيش كالآلهة وأنا أعيش كالحب وأنمو كالحب، وأنا الشعير».
وكما انتقلت حضارة سومر إلى السند، وانتقلت حضارة السند إلى الهند، كذلك انتقلت حضارة الهند إلى سيام والجزر الملاوية، ثم انتقلت بعد ذلك حضارة الجزر الملاوية إلى القارة الأمريكية، وقد رأينا أن الاسم المصري للقمح قد استعمل في العراق، والآن نجد اسم بعض الآلات الزراعية في الجزر الملاوية قد انتقل إلى أمريكا الجنوبية، ويرى هذا قبل أن يعرف كولمبس هذه القارة بآلاف السنين. •••
وربما يكون من المفيد أن ننقل هذه الكلمة التالية للأستاذ إليوت سمث عن حضارة السومريين. «من المألوف أن يقال إن حضارة السومريين قد أثرت في مصر في بداية عصر الأسر الفرعونية، ولكن النظر في التاريخ يوضح لنا استحالة ذلك، وذلك أن الفحص عن عادات الدفن في المدافن الأولى في أور قد ألقى ضوءا على هذا الموضوع؛ فإن المستر ولي وجد عادات مختلفة كانت تتبع في القبور الأولى، فقد كانت الجثة تلفف في حصير وتوضع في نعش بيضوي من الطين أو في نعش مستطيل من الخشب، وكانت القبور تبنى لها سقوف مقنطرة أو مرفوعة من الحجر، وهذه العادات تظهر في سومر مرة واحدة مفاجئة بلا تدرج، ولسنا نجد في عيلام «سوسة» أو في سومر «أور» أي أثر يدل على التدرج لهذه السلسلة من العادات المعقدة في الدفن، ووجود هذه الأشكال العديدة لمعالجة الدفن يدل على تاريخ معقد وراء هذه الثقافة لسكان أور الأولين، فإذا وجدنا في قطر آخر ما يكشف لنا عن التطور في هذه العادات كان لنا الحق في أن نزعم أن هذا القطر هو الأصل لهذه العادات، وقد شرح لنا المستر بري التاريخ الكامل في مصر لهذا التطور في عادات الدفن، وأنها كلها عرفت ومورست عند نهاية الأسرة الثانية في حكم بيرابسن وخاسنحموتي.
Página desconocida
وقد سبق أن رأينا كيف أن المصريين قبل عهد الأسر كانوا يلفون موتاهم في الجلد أو الحصير لكي يحموهم من التراب، وكيف أن هذه العادة أرشدتهم إلى صنع النعوش المختلفة، وكان الفقراء لا يزالون في عهد الدولة القديمة يلفون موتاهم في الحصير مدة طويلة بعد الأسرة الثانية، وكانت القبور تصفح جدرانها بالخشب قبل عهد الأسر، ثم صنع بعد ذلك صندوق من الخشب يمكن حمله هو أول نعش في العالم، ولا شك في أنه صنع أولا للأغنياء، ثم صار الفقراء يقلدون هذا النعش ويصنعونه من الطين أو الفخار، وكانوا يصنعونه بيضويا في نهاية الأسرة الثانية أو بداية الأسرة الثالثة. وهذا الشكل البيضوي أسهل صنعا في الطين والفخار من الشكل المستطيل.
ومن المهم أن نلاحظ أن المستر ولي دهش حين وجد في أور أن النعوش المصنوعة من الطين هي للفقراء، أما المصنوعة من الخشب فكانت كما هي في مصر للأغنياء، وفي كل من مصر وأور وجدت النعوش الخشبية ولها طاقات مصفحة بالخشب.
وعند بداية الأسرة الأولى تجد عادات الدفن في مصر بلغت الطور الذي بلغته في أور، ولكن البناء بالحجر والسقف القبوي لم يكن قد ظهر بعد في مصر إذ هو اخترع بعد ذلك وقد بدئ في مصر في البناء بالحجر للقبور في الأسرة الأولى، ولكن أول قبر كبير من الحجر هو قبر خاسخموي في الأسرة الثانية، وفي أواخر هذه الأسرة عرف السقف القبوي المرفرف لقبور النبلاء.
وعلى هذا نقول إن المجموعة المختلفة التي نجدها في أور عند السومريين إنما نمت في مصر بتراكم المخترعات التي بدأت قبل عصر الأسرة إلى أن تمت في نهاية الأسرة الثانية، وكذلك يمكن أن نقول بملء الثقة إن الحضارة الأولى في سومر كانت تعاصر الجزء الأخير من عصر الأسرة الثانية في مصر «حوالي 3000 ق.م.».
إن الحضارة كانت اختراعا مصريا، ولم تكن عيلام وسومر سوى مستعمرات مصرية نقل إليها المصريون خميرة الثقافة، ولكن ما نقل لم يكن كل الحضارة لأن قسما فقط من هذه الثقافة تأصل ونبت ونما وثمت لذلك عناصر مميزة أخرى».
الذهب والمعادن عند الفراعنة
كلنا يعرف أن هجرة الأوروبيين إلى القارة الأمريكية تعود إلى رغبتهم في الذهب، وأن استعمار الأمريكيين للولايات المتحدة نفسها كان يسير على الدوام في أثر الذهب، فحيثما يكون المنجم يهرع إليه السكان، وأفريقيا الجنوبية لم تستعمر إلا من أجل الذهب.
وكذلك الحال عندما القدماء؛ فإن الكتب السنسكريتية تذكر أن هجرة الهنود إلى الهند كانت تتخذ على الدوام تلك الطرق التي تؤدي إلى مناجم الذهب، ولكن الهنود القدماء مثل المصريين القدماء لم يكونوا يطلبون الذهب من أجل الزينة والنقد كما يطلب الآن، بل كانوا يعزون إليه صفات قيمة أكبر عندهم وألصق بحياتهم من قيمته عندنا.
كان القدماء من الهنود يصفون الذهب في كتبهم التي لا تزال تقرأ في اللغة السنسكريتية المنقرضة بأنه خالد وأنه متولد من النار وأنه يعيد الشباب ويطيل الحياة ويكثر النسل، وهو النار والنور والخلود معا.
وهذه والصفات لم يخترعها الآريون المهاجرون إلى الهند، وإنما هم أخذوها عن الفراعنة؛ فإن تقديس الذهب عقيدة فرعونية، فهم كانوا أبناء الشمس أي أبناء رع، وكان يجري في عروقهم سائل الذهب الذي ورثوه عن رع.
Página desconocida
وقد دهشنا قبل سنوات عندما اكتشف قبر توتنخ آمون، ورأينا مقدارا عظيما من الذهب، ولكن هذا الفرعون لم يكن شاذا في وفرة الذهب فإن جميع الفراعنة منذ الأسرة الأولى بل جميع النبلاء كانوا يضعون الذهب في القبور لأنه الوسيلة إلى الخلود.
وهذه القداسة التي نسبت إلى الذهب أيام الفراعنة قد انحدرت إلى الأمم القديمة، بل بقيت منها أثارة حتى في القرون الوسطى حين اختلط البحث عن إكسير الحياة بالبحث عن إحالة المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة والذهب بالطبع في رأسها، وهذا الاختلاط يؤيد قدم العقيدة في قداسة الذهب وأنه معدن الآلهة والسبيل إلى الخلود. •••
وكيف وصل الذهب إلى هذه المنزلة؟
للجواب على هذا السؤال نقول إننا نجد في المتحف المصري ودعا مصنوعا من الذهب، وهو يعزى إلى الأسرة الأولى، وليس في العالم الآن صائغ يصوغ الذهب في هيئة الودع، ونعنى هذا الودع الذي ما زلنا نجده عند العرافين الذين يخبروننا عن طالعنا بضربه فوق الرمل.
هذا الودع كان له أثر كبير جدا في عقائد الإنسان البدائي في العصر الحجري، حتى لقد كان سببا في انتقال الثقافة الأولى بين البشر كما أوضح ذلك المستر ولفرد جاكسون في كتابه «الأصداف ودلالتها على الهجرة الثقافية».
فإن الإنسان في العصر الحجري كان من السذاجة بحيث كان يعتقد أن الأم هي العامل الوحيد للولادة، وكان يجهل الأبوة بمعناها البيولوجي؛ ولذلك نظر إلى الودعة نظرة خاصة لما بينها وبين عضو التناسل في المرأة من مشابهة ، فقدسها لهذا السبب وصار يتجشم المشاق لجلبها من البقاع النائية لكي يحملها وهو يتوهم أنها ما دامت هي الأصل في الحياة فإنها قادرة على أن تحفظه في صحة دائمة وتقيه من الأمراض وتطيل عمره حتى بعد الموت؛ وذلك لأن الموت عنده كان حياة أخرى تحتاج أيضا إلى ما يحفظها ويطيلها.
ولكن الودعة بطبيعتها صدفة هشة تنكسر لأقل مصادمة، وهي مع ذلك كانت تجلب من البقاع النائية؛ ولذلك فكر الإنسان البدائي في أن يصنع ودعا من الحجر، وظل الإيمان بالودعة مدة طويلة حتى بعد أن اهتدى المصريون إلى الزراعة وأسسوا الحضارة، وكانوا يصنعونها من الحجر والذهب.
ويرى إليوت سمث أن اكتشفاهم للذهب كان مصادفة حين كانوا يبعثون بعثاتهم إلى سواحل البحر الأحمر لجمع الودع، فإن هذا الودع لا يوجد في سواحلنا الشمالية وإنما يوجد كثيرا في البحر الأحمر، وهناك عثروا على مناجم الذهب فاستحسنوا لونه وخفته ومرونته ونصاعته، فصاروا يصنعون منه تماثيل صغيرة للودع بدلا من أن يصنعوها من الحجر، وشاع بعد ذلك استعمال الذهب لهذه الغاية، ثم بتوالي السنين أو القرون انتقلت ميزات الودعة إلى الذهب حتى أصبح المعدن نفسه يضفي على من يحمله أو يتحلى به صفات الصحة والخلود أو طول البقاء. •••
الودعة والبقرة والذهب: هذه الأشياء الثلاثة كانت تمثل في أذهان جدودنا الفراعنة معاني الصحة وطول العمر والخلود، ولا بد أن الودعة فقدت قيمتها عندما عمت الحضارة البدائية الأولى وشرع الناس يفكرون في وظيفة الرجل البيولوجية في التناسل، ولكن الذهب كان قد احتل من نفوسهم مكانا كبيرا يلابس عواطفهم فبقيت مكانته، أما البقرة فكانت حاضرة على الدوام في أذهانهم وهي أعم من الذهب؛ لأن هذه المعادن كانت حيازته تقتصر على الأغنياء وأما البقرة فكانت عامة في الريف يملكها الزارعون، وكانت رمزا للأمومة ترضع الناس لبنها فيقوم عند الطفل مقام اللبن الذي يرضعه من أمه؛ ومن هنا أصبحت البقرة - التي لا تزال تقدس في الهند - الربة هاتور.
ولكن الودعة والبقرة والذهب اختلطت لأنها جميعها تؤدي مهمة واحدة، وهذا القول هو الذي تثبته الشواهد التاريخية؛ ولذلك ترى الكلمة الهيروغليفية لهاتور تعني الذهب، وهي توصف بأنها «هاتور الذهبية».
Página desconocida
ومن هنا عناية القدماء بالذهب الذي كانوا يبعثون البعثات إلى الأقطار النائية لجلبة واحتفالهم به ودفنه مع الموتى. •••
وكان الذهب بذلك وسيلة لنقل الحضارة - حضارة أبناء الشمس - في عصر الفراعنة من مصر إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا بل إلى أمريكا، والآن يطوف السائح المنقب فيجد في تاريخ الأمم التي ينزل فيها أو في تقاليدها الباقية قصصا عن أبناء الآلهة الذين نزلوا فيها واكتشفوا الذهب.
وأبناء الآلهة هم أبناء الشمس أي رع، هم المصريون الذين أقاموا حيث كان الذهب وزرعوا وعملوا من حولهم التقويم الشمسي وتحنيط الموتى وبناء الهرم، ونقلوا الإنسان من العصر الحجري إلى الحضارة.
ولم تقف مهمة الذهب عند إفشاء الثقافة، فإن المصريين افتتحوا به عصر المعادن، واستخرجوا الناس واستعملوه أولا كما يستعمل الذهب للشبه الكبير بينهما، ثم وجدوا من صلابته ما يجعله صالحا للآلات فصاغوا منه الخناجر على هيئة الأسلحة الحجرية القديمة، ثم صنعوا السيف وهو خنجر طويل، ووجدوا في الرماد المتخلف من صهر النحاس مواد لصنع المينا التي يطلى بها الفخار، ثم ارتقوا من ذلك إلى صنع الزجاج.
وهكذا نجد سلسلة متعددة الحلقات من ألوان الرقي البشري نشأت جميعها على أسطورة قديمة هي أن الذهب يطيل العمر. •••
في هذا العام 1935 يبلغ السر جيمس فريزر الحادية والثمانين من عمره، وهذا العالم العظيم قد عرف وذاع صيته بكتاب يدعى «الغصن الذهبي» تعد صفحاته بالألوف، وهو مجموعة وافية من العادات والعبادات والشعائر وألوان السحر والعرافة والعقائد التي تتمشى في أنحاء العالم المتحضر والمتوحش، ولهذا الكتاب موجز تبلغ صفحاته 756.
والقارئ لهذا الكتاب يعجب بهمة المؤلف وجلده وإحاطته، وسيبقى هذا الكتاب خالدا بين الكتب التي تعد مراجع غالية وإن كان أساسه كله خطأ؛ فإن الحقائق المدونة فيه لها فائدتها التي يمكن كل قارئ أن ينتفع بها، أما استنتاجات المؤلف منها فقد ثبت خطأها ولا قيمة لها الآن.
فإن المؤلف يفرض أن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان، وأنها تستجيب للظواهر الطبيعية بعقائد متشابهة؛ ولذلك إذا عرفنا أن التحنيط معروف في بيرو في أمريكا السفلى وفي الجزر الملاوية في جنوبي أسيا وفي مصر وفي الكونجو، فإننا يجب أن نعرف أن الظروف تشابهت فاستجاب لها الإنسان في جميع هذه الأقطار استجابات متشابهة، فليس هناك إذن ما يدعونا إلى أن نفرض أن الثقافة انتقلت في مسألة التحنيط من قطر إلى آخر، وكذلك الشأن في اختراع الزراعة والاهتداء إلى المعادن ونظام الحكومة والكهانة والزواج إلى غير ذلك.
ولكن هل هذا هو الواقع الذي نستطيع أن ندعمه بشهادة الحياة التي يعيشها البشر أو قبائلهم أو أممهم المختلفة؟
إن الواقع يثبت أن الأمم أو القبائل أحيانا تتجاور ومع ذلك تعيش كل منها في حدود ثقافتها الموروثة، فهذه قبيلة تمارس الزراعة وأخرى تجاورها، ولكنها لا تزال تجمع الطعام جمعا ولا تستنتجه استنتاجا، وهذه طائفة تمارس عادات الزواج أو تحريم بعض الطعام فتخالف الطوائف الأخرى المحيطة بها، ولو أن الجميع يتجاورون ويختلطون. وكل ذلك لأن لكل منها تراثا ثقافيا يجعلها تحب وتكره ما لا يحبه غيرها أو يكرهه.
Página desconocida
والإنسان بطبيعته جامد لا يقبل على العادة الجديدة وليس هو بالمفكر النشيط الذي يدأب في الاختراع والاكتشاف، فإذا فرضنا أن إحدى الأمم اهتدت إلى اكتشاف أو اختراع فإن من المبالغة الكبيرة في حسن الظن بالذهن البشري أن نعتقد أن سائر الأمم ستخترع مثلها، وقصارى ما يحدث أنها تنقل عنها في بطء وفتور، وانتشار الأديان الحديثة يدل على أن انتقال الثقافة من قطر إلى آخر في العصور القديمة كان مألوفا، ولما كانت الحضارة المصرية القديمة تتصل بالدين وتمس العقائد التي تتعلق بالصحة وطول العمر والخلود والتناسل؛ كانت تجد قبولا بل تلهفا أينما حلت لأن الإنسان مهموم بهذه الأشياء، كما يدل على ذلك مثلا هذه المعارف الجديدة عن الفيتامينات التي فشت بين الناس هذه الأيام وبولغ فيها مبالغات كثيرة خرجت بها عن حدودها العلمية؛ فإن الناس لشوقهم إلى ما يطيل العمر ويقوي الصحة يكثرون من قراءة هذه الموضوعات ، كما أن الكتاب الذين عرفوا هذا الشغف قد أصبحوا يبالغون في فائدة الفيتامينات.
وهكذا الحال في العصور القديمة فإن الوهم الذي أشاعه المصريون عن فائدة الذهب والتحنيط جعل الأمم البدائية الأخرى تعتنق مذهبهم وتقبل حضارتهم وترتقي بها إلى الاكتشافات والاختراعات الأخرى. •••
ويجب عندما نبحث انتقال الثقافة المصرية إلى أقطار العالم أن نميز بين إنسانين أحدهما الإنسان البدائي والآخر الإنسان المتوحش.
فإن الإنسان البدائي لا يعرف الزراعة وليس عنده تراث كثير أو قليل من التقاليد، فهو يعيش عيشة ساذجة يجهل فيها اللباس والمسكن والغزو والسبي.
أما الإنسان المتوحش فيعرف طائفة عظيمة من العقائد يمارسها، منها السحر والقتال ونظام الحكم وأحيانا يعرف الزراعة، وهذا الإنسان هو الذي جمع السر جيمس فريزر عاداته من جميع الأقطار وعرضها في كتابه لكي يثبت المشابهة في استجابة الذهن البشري للبيئة إذا اتفقت الظروف.
ولكن مدرسة كمبردج التي تقول بأن مصر هي أصل الحضارة التي تفشت منها إلى سائر الأقطار تفسر هذا التوحش عند المتوحشين بأن الثقافة المصرية القديمة وصلت إليهم فركدت ولم ترتق أو هي انحطت على أيديهم وانمسخت.
وهذا التفسير يبرره الاستقراء؛ لأننا نجد في عادات المتوحشين الحاضرة بذور الثقافة المصرية القديمة.
الشعوب البدائية
يجب أن نميز بين الشعب البدائي والشعب المتوحش؛ فإن الإنسان في العصر الحجري كان بدائيا لا يدري شيئا من فنون الحضارة، أما الشعب المتوحش فله نظم اجتماعية تدل على أنه لقن شيئا من ثقافة المتمدنين ولكنه مارسها مع انحطاط في الفهم أو عجز عن الترقية، فهو يمارس الزراعة ويعرف الملوكية والدين ولكنه مع ذلك يمارس التضحية البشرية والرق إلى غير ذلك.
ولا يكاد يكون في العالم الآن شعب بدائي؛ لأن الحضارة قد انسلت إلى أنأى الأقاليم ورشحت إلى جميع الطبقات، حتى الإسكيماويون الذين يبنون بيوتهم بجدران من الثلج في شمال كندا صاروا يشترون الأقمشة ويأكلون الأطعمة المحفوظة في العلب، ولكن يمكن من وقت لآخر أن يقع السائح على فرد أو أسرة قد انقطعت عن العالم في غابة أو على ذروة جبل حيث تعيش عيشا ضنينا لا يطمع فيها إحدى القبائل أو الجماعات، فتبقى وهي تعيش عيشا بدائيا ساذجا.
Página desconocida