ذهلت حقا. نظرت إلى معرضه المكتظ بالكتب والجرائد والمجلات، هل مكنه حقا من ادخار ما يبتاع به مطعم بنايوتي؟ وسألته: ماذا تريد مني وأنا لا أعرف عن الطعام إلا أنه يؤكل؟ - أن تساعدني في الحسابات.
وعدته خيرا، ثم خطر لي أن أبيع الأفدنة وأشاركه، فسألته: لعلك تحتاج إلى شريك؟
فأجاب بنفور واضح: كلا، لا أحب الشركة، ولا أريد للمطعم أن يكبر فيلفت نظر الحكومة. •••
ذهبت إلى المقر العام للاتحاد الاشتراكي، فاستمعت إلى محاضرة عن السوق السوداء، أعقبتها مناقشة عامة. ولما انفض الاجتماع سمعت صوتا يناديني وأنا ماض نحو الباب الخارجي. توقفت في تيار الزحام وأنا أتلفت فرأيت رأفت أمين مقبلا نحوي. لم أكن رأيته منذ عهد الدراسة بالجامعة فتصافحنا بحرارة، وسرنا في الزحام حتى خرجنا إلى الطريق. أخبرني بأنه حضر الاجتماع باعتباره - مثلي - عضوا في الوحدة الأساسية لشركة المعادن المتحدة. واتجهنا نحو الكورنيش بإغراء من لطافة الجو، ولما خلونا إلى أنفسنا أو كدنا أغرقنا في الضحك معا. ضحكنا بلا مناسبة ظاهرة، ولكن بدافع من ذكريات مشتركة لم يكن في الإمكان نسيانها أو تجاهلها. ذكريات اجتماعية مماثلة، شهدناها جنبا لجنب، فصفقنا معا وهتفنا معا. حدث ذلك عندما كنا عضوين في لجنة الطلبة الوفديين بالكلية. أتذكر؟ طبعا، من ذا ينسى؟ كنا وقتذاك أعداء الدولة. أجل .. أما اليوم فنحن الدولة. وجرى الحديث هكذا بين الماضي والحاضر حتى قلت له: لا أصدق أنك - أنت بالذات - تبرأت من وفديتك؟ فعاوده الضحك وهو يقول: وأنت لم تكن وفديا مخلصا، واحدة بواحدة والبادي أظلم .. ثم لكزني بكوعه متسائلا: ولكن أأنت اشتراكي مخلص؟ - طبعا. - لم من فضلك؟ - للثورة أعمال لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها. - والبصير؟
فقلت بجدية: إني أعني ما أقول. - إذن فأنت ثوري اشتراكي؟ - بلا أدنى شك. - مبارك، خبرني الآن أين نقضي ليلتنا؟
فدعوته إلى الجنفواز. سهرنا حتى منتصف الليل. أردت أن أنتظر صفية، ولكنها أخبرتني بأنها مدعوة للذهاب مع زبون ليبي. •••
كنت خارجا من سينما ستراند عندما رأيت الفلاحة الحلوة. كانت قادمة من شارع صفية زغلول بصحبة عجوز يونانية. رائقة السمرة، ساحرة النظرة، ريانة الشباب. كان الطوار مكتظا بالخلق، والهواء يهب منعشا حاملا رائحة البحر، وهالة ضخمة من القطن المندوف تغشى القبة فتضفي على الجو لونا أبيض ناعسا ناعما كبهجة الرضا. مضتا تشقان طريقهما وسط الزحام فتراجعت خطوة موسعا وأنا أحيي بإغماضة من عيني. ابتسمت بحذر، أجل .. استجابت باسمة في حذر. وقلت لنفسي إن الصنارة قد نشبت. وشاع في نفسي سرور كالسائل العذب الذي يخالط الريق بعد مضغ الفول الأخضر البكر الطازج المقطوف لتوه من الأرض الخضراء. •••
اختلست من وجهها نظرة وأنا أحتسي قهوة الأصيل. كانت عيناها منتفختين محمرتين من أثر النوم العميق، وشفتاها الغليظتان منفرجتين، في أقبح أحوالها كالعادة، وغافلة تماما عما دبرت لها. فقلت بلهجة أسيفة مصطنعة: صفية!
رمقتني مستطلعة فقلت: جدت ظروف سخيفة ولكن علينا أن نتوافق معها.
فاستقرت في عينيها نظرة حذرة، وهزت رأسها داعية إياي إلى الإفصاح، فقلت: سنضطر إلى تغيير نظام حياتنا، أعني الإقامة في شقة واحدة. قطبت فتجمع الغضب في حاجبيها كما يتجمع ماء المطر في نقرة مطينة وتحفزت للنضال، فقلت: إنها كارثة، كارثة تماما بالنظر إلى أزمة المساكن، ولكن زميلا في الشركة لمح لي، أجل، حدثتك مرة عن الرقابة الإدارية، ولا شك أن مستقبلك يهمك كما يهمني.
Página desconocida