يغلب علي الظن أنك أنت العاقر، إنه أمر مؤسف إذ إننا لم نوجد إلا لكي ننجب. •••
ذلك البيت الكبير الذي تحول مع الأيام إلى فندق، يراه السائر في خان جعفر كقلعة صغيرة، وحوشه القديم الذي شق فيه طريق إلى خان الخليلي، قد نقش في قلبي هو وما يكتنفه من بيوت قديمة والكلوب العتيق، صورة تذكارية لنشوة الحب المشبوب المرتطم بخيبة الأمة. العمامة واللحية البيضاء وقسوة الشفتين وهما تلفظان «لا» فتقضي في تعصب أعمى على الحب الذي هبط إلى الدنيا قبل الأديان بمليون سنة. - مولاي، إني أنشد القرب منكم على سنة الله ورسوله.
صمت وبيننا فنجان قهوة لم يمس، فقلت: إني صحفي، ذو مال، وابن شيخ كان خادما لمسجد سيدي أبي العباس المرسي.
قال: رحمه الله، كان من التقاة المؤمنين.
وقبض على المسبحة ثم استطرد: يا بني، كنت منا، جاورت الأزهر زمنا.
ذاك التاريخ متى ينسى! قال: ثم طردت من الأزهر، أنت تذكر ...؟ - مولاي، ذلك تاريخ قد انقضى، لأتفه الأسباب كان يحق الطرد، شاب هزه الشباب فاشترك في تخت مطرب ذات ليلة، أو طرح بعض أسئلة ببراءة.
قال بامتعاض: قضى عليه قوم عقلاء بتهمة شنيعة. - مولاي من ذا يستطيع أن يقضي على إنسان بتهمة كالإلحاد، ولا مطلع على الفؤاد إلا الله؟ - يستطيع ذلك من يسترشد بالله.
اللعنة! من ذا يزعم أنه عرف الإيمان! قد تجلى الله للأنبياء ونحن أحوج منهم إلى ذاك التجلي. وعندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم فلن يصيبنا إلا الدوار. •••
لنحذر الكسل. لا بأس من تجربة المشي في الصباح المشمس. ما أحلى أيام الدفء في البالما والبجعة. ولو وجدت نفسك وحيدا بين أسر تعمر بالأجيال. الأب يطالع جريدة والأم تطرز رقعة، والأبناء يلعبون. لو يخترع المخترعون للمعتزلين جهازا يبادلهم الحديث والسمر، أو شخصا إلكترونيا يلاعبهم النرد، أو يركب لهم عينا جديدة تولع مرة أخرى بنبات الأرض وألوان السماء.
وقد عشنا دهرا طويلا حافلا بالأحداث والأفكار، نوينا أكثر من مرة أن نسجله في مذكرات - كما فعل الصديق القديم أحمد شفيق باشا - ولكن لم تصدق النية ثم تبددت بين إمهال وإرجاء. اليوم لم يبق من النية القديمة إلا الحسرة بعد أن وهنت اليد وضعفت الذاكرة واضمحلت القوة. ففي ذمة الله ذكريات الأزهر، وصحبة الشيخ علي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش، حزب الأمة ما أعجبني فيه وما نفرني منه، الحزب الوطني بحماساته وحماقاته، الوفد بثورته العالمية الخالدة، الخلافات الحزبية التي قوقعتني في حياد بارد لا معنى له، الإخوان الذين لم أحبهم، الشيوعيون الذين لم أفهمهم، الثورة ومغزاها وامتصاصها للتيارات السابقة، غرامياتي وشارع محمد علي، موقفي العنيد من الزواج. لو قيض لذكرياتي أن تكتب لكانت عجبا حقا.
Página desconocida