السرادق مكتظ بالخلق، ساحة المولد كيوم الحشر، والصواريخ تنطلق في الفضاء. انشق النور وانعدم الظلام لمولد أحمد. وتهادت الرولزرويس حتى وقفت أمام السرادق. هبط منها طلبة مرزوق فخف لاستقباله أقوام وأقوام من السادة الدمرداشية؛ طريقة الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي. ولمحني صاحب الرولزرويس فأعرض عني في كبرياء. وقيل ليلتها إنك جئت ثملا كما جئتني الليلة. ودعي سيد المطربين إلى وسط السرادق فأنشد «يا سماء ما عليك سماء.» وفي الهزيع الأخير من الليل غنى «أحب أشوفك» فأطاح بعقول المريدين. متى كانت تلك الليلة العجيبة؟ على التحديد لا أذكر ولكنها حتما سبقت وفاة الرجل الجليل وإلا ما صفا لي الطرب. •••
كنت أجلس في المدخل ولا أحد معي في البنسيون عندما دق الجرس. فتحت الشراعة على طريقة المدام فرأيت أمامي وجها انشرح لمرآه صدري. من النظرة الأولى انشرح له صدري. وجه أسمر لفلاحة مطوقة الرأس والوجه بطرحة سوداء، أصيلة الملامح، مؤثرة جدا بنظرة عينيها الحلوة المترقبة: من أنت؟ - أنا زهرة!
قالتها ببراءة وثقة كأنما تنطق باسم علم من الأعلام. سألتها وأنا أبتسم: ماذا تريدين يا زهرة؟ - الست ماريانا.
فتحت لها الباب فدخلت حاملة بقجة صغيرة. نظرت فيما حولها ثم سألت: أين الست؟ - ستجيء بعد قليل. اجلسي.
جلست على مقعد واضعة البقجة على حجرها فعدت إلى مجلسي في نشاط جديد. جعلت أنظر إليها، إلى تكوينها القوي الرشيق، وملاحتها الفائقة، وشبابها الغض، وأنا في غاية من الارتياح. واستسلمت لرغبة في محادثتها فقلت: قلت إن اسمك زهرة؟ - زهرة سلامة. - من أين يا زهرة؟ - من الزيادية بحيرة. - على ميعاد مع المدام؟ - لا. - إذن؟ - جئت لأقابلها. - تعرفك طبعا؟ - نعم.
تمليت جمالها وشبابها بارتياح لم أشعر بمثله من دهر، ثم عدت أسألها: هل تعيشين في الإسكندرية من زمن طويل؟ - لم أعش في الإسكندرية، ولكن زرتها مرارا مع المرحوم أبي. - وكيف عرفت المدام؟ - كان أبي يجيئها بالجبن والزبد السمن والدجاج، وكنت أجيء معه أحيانا. - فهمت، تنوين يا زهرة أن تحلي محل أبيك. - لا.
حولت عينيها إلى البارفان كأنما لتتفادى من المزيد، فاحترمت سرها وازددت لها حبا. وبكل حنان دعوت لها في سري أن يحفظها الله. •••
قلت وأنا أقبل يدها المعروقة المدبوغة: «ببركة دعواتك أصبحت رجلا ولا كل الرجال، هلمي معي إلى القاهرة.» فقالت وهي تتطلع نحوي بحنان: «فليزدك الله من خيره وبركاته، أما أنا فلن أغادر البيت، إنه حياتي وعمري.»
بيت نحيل، مقشر الجدران، تلطمه الرياح وتستقر أملاح البحر على أحجاره، وتلفحه روائح السمك المكدس على شاطئ الأنفوشي.
قلت: «لكنك تعيشين هنا وحدك.»
Página desconocida