مقدمة
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مقدمة
الأشخاص
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مينا فون بارنهلم
مينا فون بارنهلم
تأليف
جوتهولد إفرايم ليسنج
تقديم وترجمة
مصطفى ماهر
مقدمة
بقلم الدكتور مصطفى ماهرمدرس الآداب الألمانية بالألسن
يلاحظ مؤرخو المسرح الأوروبي أن ألمانيا تأخرت عن دول أوروبا جميعا في نهضتها المسرحية، فلم تسلك سبيلها على نحو فعال إلا في القرن الثامن عشر. كانت إسبانيا قد بلغت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر شأوا عظيما في عصر فيليب الرابع خاصة، وشهدت فطاحل المسرح الثلاثة؛ لوبه دي فيجا وتيرسو دي مولينا وكالديرون دي لا باركا
Lope de Vega, Tirso de Molina, Galderon de la Barca .
وكانت إنجلترا في العصر نفسه تقريبا (لوبه دي فيجا ولد عام 1562م، وشيكسبير عام 1564م) قد ثبتت أقدامها في ميدان المسرح وشهدت مارلو وبن جونسون وشيكسبير
Marlowe, Ben Jonson, Shakespeare
وكانت إيطاليا قد حققت - في مطلع القرن السابع عشر خاصة - تفوقا كبيرا في الفن المسرحي، وأبدعت إبداعا فريدا في نوع الكوميديا المرتجلة
commedia dell’arte
أما فرنسا فكانت قد دخلت عصرها الكلاسيكي في القرن السابع عشر وشهدت روائع كورني وراسين وموليير
Corneille, Racine, Molière
وخرجت من عصرها الكلاسيكي لتدخل عصر فولتير وماريفو وديديرو
Voltaire, Marivaux, Diderot .
أما ألمانيا فكانت في عصر لوبه دي فيجا وشيكسبير تشاهد مسرحيات شعبية تعليمية بسيطة يكتبها الشاعر الإسكاف (!) هانس زاكس
Hans Sachs (1494-1576م)، وتنتقل منها إلى مسرحيات ياكوب بيدرمن (1578-1639م)
Jakob Bidermann
ومسرحيات أندرياس جريفيوس (1616-1664م)
Andreas Gryphius «ليو أرمينيوس أو قتل الأمير» مثلا أو «كاتارينا الجيورجية أو التمسك بالأخلاق» ثم مسرحيات كاسبار فون لوهنشتاين (1635-1683م)
Kaspar v. Lohenstein
ونذكر منها «إبراهيم باشا» و«أجريبينا» و«إبراهيم سلطان» وأكثرها تعالج موضوعات تتصل بهجوم الترك على أوروبا والخوف من ظلمهم وتجبرهم وسوء خلقهم، ثم مسرحيات مدرسية تأليف كرستيان فايزه (1642-1708م)
Christian Weise
تدور حول موضوعات مأخوذة من الكتاب المقدس.
إنتاج مسرحي هزيل متعثر لا يحفل به الآن في ألمانيا إلا المتخصصون، ولا يكاد مخرج مسرحي يجرؤ على إخراجه كله أو بعضه إلى النور والجمهور، ولكنه على أي حال كان حقلا للتجريب استثار العقليات المصلحة لإصلاحه ، والعقول المبدعة للتفوق عليه.
بدأت أول محاولة لإصلاح المسرح الألماني والنهوض به إلى مستوى المسارح في البلاد الأوروبية المجاورة في عام 1624م، حين أخرج مارتن أوبيتس «كتاب الشعر الألماني» وعالج فيه مشكلات الشعر وقواعد الإنتاج الشعري الجيد، وتعرض فيه للأنواع المختلفة فحددها تحديدا، ومنع الخلط بينها، وطالب بدراسة الآداب القديمة والآداب الأوروبية المجاورة والإفادة منها، ودعا إلى إصلاح أوزان الشعر الألماني بالكف عن تقليد الأوزان الفرنسية التي تعتمد على عدد المقاطع دون نظر إلى قوة النبرة أو ضعفها، والاقتصار على الأوزان الإغريقية التي تعتمد على تفعيلات مكونة من مقاطع قوية النبرة ومقاطع ضعيفة النبرة في تركيب خاص، وحث الأدباء والشعراء على استعمال لغة ألمانية نظيفة لا تشوبها كلمات أجنبية.
على أن أقوى حركات الإصلاح المسرحي في ألمانيا كانت حركة يوهان كريستوف جوتشد (1700-1766م)
Johann Christoph Gottsched
الذي كان أستاذا للفلسفة في جامعة ليبتسج (ليبزج) وكان يجمع إلى اهتمامه بالفلسفة اهتماما كبيرا بالأدب والمسرح. نشر جوتشد عام 1730م، كتابا بعنوان «محاولة في فن الأدب النقدي» اقتفى فيه أثر بوالو، وطالب فيه بتنقية المسرح من المسرحيات الضعيفة التافهة، وخاصة من المسرحيات المرتجلة على الطريقة الإيطالية ومسرحيات البهلوانات والشخصيات الثابتة مثل شخصيات هانس فورست وبيكلهرنج وهارلكين، ثم الاعتماد على مسرحيات جادة مترجمة عن الفرنسية أو مقتبسة من مسرحيات فرنسية أو مقلدة لمسرحيات فرنسية، على أن تأتي بعد ذلك مرحلة التأليف الخالص الذي وضع له أسسا بعضها سليم وبعضها مضطرب مبالغ فيه.
وقد أدت حركة جوتشد إلى نتيجتين متوازيتين؛ تنقية المسرح من القطع التافهة وإبدالها بقطع جيدة من ناحية، ومن ناحية مضادة إلى تقييد الإبداع المسرحي القومي وإكراه النفس الألمانية على تقمص صورة النفس الفرنسية. طالب جوتشد مثلا بالتزام قانون الوحدات الثلاث (الزمن والمكان والحدث) وهذا شيء لا بأس به، على ألا يفرض على الأدباء الخلاقين كقانون سماوي لا يصح الخروج عليه إلا كفرا. وطالب بالتزام العقل والفكر في كل شيء، وهذا أيضا شيء لا بأس بأن يطالب به مصلح، ولكن من السرف أن يؤدي هذا إلى قمع الخيال وكبت العواطف والأحاسيس.
حول جوتشد مسرح الممثلة الألمانية الشهيرة «كارولينه نويبر» من مسرح يقدم قطعا مرتجلة إلى مسرح تتجسم فيه آراؤه ومطالبه. وظل حتى منتصف القرن الثامن عشر حاكما بأمره لا يقدر على هزيمته أحد، حتى انبرى له «بودمر» و«برايتنجر» يطالبان بحق الخيال وحق العواطف في التعبير المطلق على طريقة مثل طريقة شيكسبير لا مثل طريقة الكلاسيكيين الفرنسيين.
وسط هذه المعركة المحتدمة ظهر أول إنتاج لجوتهولد أفرايم لسينج يبشر بعصر جديد في تاريخ المسرح الألماني، يبشر بنهضة تزداد مع الأيام قوة ورسوخا. (1) حياة لسينج
ولد جوتهولد أفرايم لسينج
Gotthold Ephram Lessing
في 22 يناير عام 1729م، بمدينة كامينتس
Kamenz
بمنطقة أوبرلاوزيتس
Oberlausitz (في ألمانيا الشرقية الحالية) لأب قسيس بروتستانتي فقير لا يجتني من وراء حرفته هذه إلا القليل، فعاشت أسرته لا تعرف إلا ضيق الحال والضنك، ولكنه أحاط أولاده منذ نعومة أظافرهم بجو جاد، واهتم بتعليمهم اهتماما كبيرا. ويحكى أن جوتهولد كان من طفولته يحب الكتب حبا جما، وأنه كان في الخامسة من عمره يعرف الكتاب المقدس وكتاب تعليم الدين المسيحي على مذهبه وديوان الأغاني الكنسية. كان أبوه يقوم بنفسه على تعليمه تارة، ويستعين بمدرس خاص تارة أخرى، حتى بلغ الصبي السابعة من عمره، فأرسله إلى مدرسة البلدة، فظل يختلف إليها نحو خمس سنوات، حتى إذا بلغ الثانية عشرة بعث به أبوه إلى مدينة مايسن حيث التحق بالمدرسة الشهيرة «مدرسة سانت أفرا الأميرية»، وتابع الدرس والتحصيل بها أربع سنوات أظهر فيها لمعلميه قدرة ممتازة على الفهم والتعلم والتحصيل وبز أقرانه وكلهم من المتفوقين، وهل كانت مدرسة سانت أفرا الأميرية تقبل في صفوفها غير المتفوقين النابهين؟ ولم يكتف الفتى باستيعاب ما تضمنه برنامج المدرسة، بل تجاوزه إلى تعلم لغات وعلوم أخرى، فتعلم الفرنسية، وتعلم الإيطالية، وتبحر في الآداب، وتعمق في العلوم والرياضيات.
وكان التلميذ لسينج إلى جانب اهتمامه بمواد الدراسة يجرب قلمه على الأدب، فكتب القصائد على طريقة أناكريون وكتب مسرحيته الأولى «العالم الشاب».
فلما بلغ السابعة عشرة من عمره خرجته المدرسة قبل الموعد ، وقال عنه الناظر: «هذا حصان يتطلب علفا مضاعفا، ولم يعد لدى المدرسة ما تقدمه له.» فحمل عصاه ورحل إلى ليبتسج (ليبزج) عام 1746م، والتحق بجامعتها الشهيرة، وإذا باسمه يسجل في كلية اللاهوت، التي تصادف أن حصل على منحة دراسية للدراسة بها. لكن التحاقه بها كان اسميا أكثر منه فعليا، اجتذبته الحياة في «باريس ألمانيا»، واستهواه الناس والأصدقاء، وأغرم بالمسرح وبالفنون، وتعرف بفرقة كارولينه نويبر التي أشرنا إليها في حديثنا عن جوتشد.
ترك دراسة اللاهوت، وتابع أستاذين بالجامعة؛ أولهما يوهان فريدريش كريست (1700-1756م) صاحب التعليقات والشروح على الأدباء القدامى، وثانيهما الفيلسوف الرياضي إبراهام كستنر (1719-1800م)، هذا إلى جانب جوتشد الذي كان نجمه قد أشرف على الأفول، وكان أعداؤه (بودمر وبرايتنجر) يظهرون عليه، ويزيدون دواما بانضمام أقلام جديدة إليهم، منها قلم لسينج نفسه.
وشجعته صلته الجديدة بفرقة نويبر على تناول مسرحيته «العالم الشاب» بالتعديل والصقل، وتسليمها إلى فرقة نويبر التي مثلتها فلاقت نجاحا كبيرا، وأحس الجمهور بالعبقرية المسرحية الناشئة. والحق أن لسينج كان مولعا بالمسرح على نحو فريد، وكان يقول إنه لا يكاد يطوف بمخيلته خاطر حتى يتحول إلى مسرحية.
وطيرت الأخبار صورة من حياة لسينج في ليبتسج إلى والديه في كامينتس، فحزنا حزنا شديدا لعزوف الابن عن اللاهوت، وارتمائه في أحضان المسرح الذي كان في رأيهم فسقا وكفرا وضلالا، وفكر الأب في حيلة يبعد بها ابنه عن تلك البيئة الموبوءة، فكتب إليه في عام 1748م يخبره أن أمة مريضة مرضا شديدا، وأنها على قاب قوسين أو أدنى من القبر، وأنها تود أن تراه قبل أن تودع هذه الدنيا، فأسرع جوتهولد عائدا وكم كانت دهشته عندما وجد أمه بخير وعافية! وكم كانت حسرته عندما تبين أن أباه - وهو القس الوقور التقي - لا يتورع عن الكذب والمناورة. ويستطيع الإنسان أن يتصور في غير جهد أن هذه المناورة لم تمر على لسينج مروا عابرا، بل هزته هزة عظيمة اقتلعت جذورا فكرية كانت لا تزال ثابتة في حياته. منذ ذلك اليوم انفصمت علاقته بوالديه ولم تتحسن إلا قليلا فيما بعد، وتدهورت فكرته عن طبقة الكهنة الذين كثيرا ما يمثلون الدين شكلا ولا يمثلونه موضوعا، وتأكدت نزعته إلى الحرية في الحياة والفكر.
وعاد لسينج إلى ليبتسج ليبقى بها فترة قصيرة يرى فيها نهاية فرقة نويبر وغرق أفرادها في الديون والضائقات المالية. ويتدخل مرة باعتباره ضامنا لبعض الممثلين المفلسين، وما يلبث صاحب الدين أن يطالبه بما عجز المفلس عن سداده ويهدده بمقاضاته، فيترك ليبتسج في جنح الظلام كالهارب، وينتقل إلى فيتنبرج فيسجل اسمه في جامعتها طالبا بكلية الطب، لكنه لا يبقى بفيتنبرج طويلا ويتحول إلى برلين.
ظل لسينج في برلين سبع سنوات، من 1748م إلى 1755م، يزاول نشاطا فكريا ضخما في حركة التنوير الكبرى
Aufklarung
التي سبقت العصر الكلاسيكي في ألمانيا، واعتمدت على أفكار الفلاسفة الإنجليز والفرنسيين خاصة فولتير، لكن عصر احتراف الأدب والفكر لم يكن قد حل بعد، وكان رجال الفكر والأدب دائما يحترفون حرفا أخرى يتكسبون منها. كذلك لسينج، كان يترجم ترجمات تجارية من الفرنسية والإنجليزية والإسبانية ويعيش على ما يربحه منها، ويحاول أن يجد فيها شيئا من الفائدة، معتبرا إياها نوعا من التمرين على تليين الأسلوب وتطويعه.
واشتغل بالصحافة، فحرر ب «الجريدة البرلينية» صفحة أدبية بعنوان «الجديد في عالم الأدب». وفي عام 1751م قطع إقامته البرلينية، وتوجه إلى فيتنبرج حيث حصل على درجة الماجستير من جامعتها. وعاد إلى برلين ليستأنف نشاطه أديبا حرا لا يفكر في وظيفة أو عمل مقيد، واتصل لسينج برسول عصر التنوير فولتير وكان فريدريش الثاني ملك بروسيا قد استدعاه وعينه في بلاطه، ولكن العلاقة بين لسينج وفولتير لم تدم طويلا؛ فقد حدث أن دفع فولتير مرة إلى لسينج ببعض مخطوطاته، فاستعمله لسينج على نحو أغضب فولتير، فما كان من فولتير إلا أن شكاه للملك مهولا الأمر مبالغا في الإساءة إلى لسينج. وقد ظل الملك - حتى بعد أن دب الشقاق بينه وبين فولتير - يسيء تقدير لسينج إساءة بالغة. ورغم هذا فقد ظل لسينج على رأيه في فولتير، يعجب به ويرى فيه عمدة حركة التنوير في أوروبا.
أما رأي لسينج في فريدريش الثاني فكان مزيجا من الموافقة والإنكار؛ أما الموافقة فكانت تنصب على آراء فريدريش التحررية التنويرية، وأما الإنكار فكان ينصب على آراء فريدريش في الحكم المطلق وفي حق الملك في القيام بالحروب الهجومية لتوسيع سلطانه. كان لسينج يحلم بفناء الحكم المطلق وبقيام نظام شعبي حر فيه ازدهار للثقافة وتقدم للإنسانية.
نشر لسينج في الفترة من 1753م إلى 1755م ستة مجلدات بعنوان «كتابات» ضمنها مؤلفات أدبية مختلفة الأنواع؛ قصائد، مقتطفات، مسرحيات، مقالات. وأهم هذه الأعمال كلها مسرحية «مس سارا سمبسون». كتب لسينج هذه المسرحية في مطلع عام 1755م، ونشرها، فلاقت نجاحا كبيرا. ويروى أنها مثلت لأول مرة في مدينة فرنكفورت/أودر فتأثر الجمهور بها أبلغ التأثر وذرف الدموع الغزار، ثم مثلت بعد ذلك في برلين فأحدثت التأثير نفسه، وظلت تنتقل من مسرح إلى مسرح تحقق النجاح يتلوه النجاح حتى وصلت إلى خارج ألمانيا، وترجمت إلى لغات أجنبية عديدة. ويكفي لتصوير أهميتها في نظر أهل زمانها أن نذكر أن ديديرو هو الذي نقلها بقلمه إلى اللغة الفرنسية. و«مس سارا سمبسون» من نوع التراجيديا البورجوازية الذي يختلف عن التراجيديا الكلاسيكية في أن الشخصيات والحدث مأخوذة من المحيط البورجوازي، لا من المحيط الأرستقراطي، وفي أن اللغة المستعملة بها لغة النثر لا لغة الشعر. واضح أن هذا النوع لقي نجاحا مؤكدا؛ لأنه كان النوع المناسب للعقلية المسيطرة على العصر، عقلية البورجوازية الصاعدة. ونحن ربما وجدنا في هذه القطعة بعض التهويل في تصوير المشاعر والعواطف ولكننا نقدرها باعتبارها رائدة النوع (التراجيديا البورجوازية) في ألمانيا، وباعتبارها محاولة ناجحة للنزول إلى الشعب والتعبير عن ذات نفسه.
في عام 1755م، انتقل لسينج من برلين إلى ليبتسج، مدينة المسرح بلا منازع، وتعرف على فرقتها المسرحية الشهيرة، فرقة كخ. وهناك سنحت له فرصة عظيمة للتجول في أوروبا؛ إذ اقترح عليه تاجر شاب غني من أهالي ليبتسج يدعى فنكلر أن يجوبا معا أقطار أوروبا، وبخاصة هولندا وإنجلترا، في رحلة تدوم سنتين أو ثلاث سنوات. وقبل لسينج الدعوة المغرية، وذهب الاثنان إلى أمستردام ليبحرا من هناك إلى إنجلترا. وفجأة وصلت الأخبار بأن ملك بروسيا يزحف على ساكسونيا وبأنه احتل ليبتسج، فخشي فنكلر على أملاكه في ليبتسج ورجع ومعه لسينج إلى هناك، حيث نزل لسينج عليه ضيفا في بيته المعروف باسم «كرة النار» (وهو البيت الذي سيأتي جوته للسكنى به بعد عشر سنوات تقريبا). وسرعان ما دب الشقاق بين لسينج وفنكلر، فترك لسينج ليبتسج وعاد إلى برلين، ليجد صديقا له يدعى نيكولاي قد تولى إدارة دار للنشر يملكها أخوه، وأصدر مجلة أسبوعية اسمها «رسائل عن الأدب الجديد»، فقام لسينج بالكتابة فيها، بل يروى أنه كان يكتب كل مادتها طوال السنتين الأوليين. أظهر لسينج في هذه الرسائل مقدرة فائقة على النقد الفني، فكان يتناول بالتعليق كل ما يصدر من أدب جديد فيفحصه فحصا دقيقا ويقدره تقديرا متزنا بغض النظر عن مكانة صاحبه أو شهرته. وأضاف لسينج إلى نشاطه في ميدان النقد نشاطا مساويا في ميدان الترجمة، فنشر ترجمات لمسرحيات من أعمال ديديرو (1760م) عرفت الجمهور الألماني به. وكان ديديرو قد سلك أيضا طريق التراجيديا البورجوازية، وأنتج فيها أعمالا طيبة، فلا غرابة أن يهتم به صاحب «مس سارا سمبسون» اهتماما خاصا.
لكن هذه الأعمال كلها لم تكن تكفي لتثبيت أركان حياة لسينج من الناحية المالية. ورأى أصحابه ما هو فيه من ضيق، فتدخلوا بنفوذهم، وبحثوا حتى وجدوا للسينج عملا ثابتا في معية أحد الكبراء. وهكذا دخل لسينج في خدمة الجنرال البروسي فون تاوتنسيين سكرتيرا له. وانتقل لممارسة مهام وظيفته إلى برسلاو (سيليزيا)، وقال للمقربين إليه إن الوقت قد حان ليملأ جيبه بالمال كما ملأ رأسه بالعلم، وليخالط الناس كما خالط الكتب. كان العمل في معية الجنرال البروسي على هوى لسينج؛ في الصباح إنجاز الأعمال الإدارية، وفي الظهر الاشتراك في اجتماعات الجنرال بمعاونيه، ومن بعد الظهر إلى اليوم التالي تحت تصرفه الخاص. وظل لسينج يمارس هذه الوظيفة أربع سنوات، كسب خلالها مالا كثيرا، صرفه كله أو جله؛ كان عليه أن يجاري الوسط الراقي الذي يخالطه في المعيشة الفاخرة وأن يشاركه في لعب القمار من ناحية، وكان ينفق الكثير ليقتني كتبا يكون بها بالتدريج مكتبة خاصة من ناحية ثانية، وكان من ناحية ثالثة يحول إلى أبيه مبالغ كبيرة ليستعين بها على الحياة وعلى الإنفاق على أبنائه العديدين.
لم تحقق السنوات البرسلاوية للسينج إذن ما كان يرجوه من ثروة، ولكنها هيأت له مادة عدد من أهم أعماله:
مينا فون بارنهلم.
لاوكون.
فن المسرح الهامبورجي.
في الوقت الذي لازم فيه لسينج الجنرال فون تاونتسيين تمكن من جمع خبرات إنسانية حية من قطاعات كثيرة، أبرزها قطاع الجيش؛ فقد صاحب لسينج الجنرال في زحفه على قلعة شفايدنيتس واستيلائه عليها، وفهم على الطبيعة معنى التحركات العسكرية، ورأى بعينه التخريب الذي تحدثه الحرب، وعلم ما لم يكن يعلم، وأحس أن الخبرات الجديدة التي اكتسبها بلغت به مرحلة النضج الحقيقي. في خريف عام 1764م، وقبل مبارحته برسلاو بقليل، كتب يقول: «ها أنا ذا أدخل في الطور الجاد من حياتي، وأصبح رجلا تغلب على البقية الباقية من حماقات الشباب.»
وانتهت السنوات البرسلاوية، وعاد لسينج إلى برلين ليعكف على ما بدأ من روائع أثناء عمله مع الجنرال فون تاونتسيين. وعادت المشكلات المالية من جديد، وتدخل الأصدقاء يبحثون له عن عمل ثابت. وتصادف أن خلا منصب مدير دار الكتب في برلين، فتوسط نفر من أصدقاء لسينج ومنهم من كان مقربا من الملك، لدى الملك فريدريش الثاني ليعينه في ذلك المنصب، فرفض الملك، وكان لا يزال يذكر شكوى فولتير - الكيدية - من لسينج، هذا بالإضافة إلى أنه كان بطبعه يعتقد أن الأجانب يفضلون الألمان، وعين في المنصب فرنسيا كان البون بينه وبين لسينج في الكفاءة شاسعا. كان رفض الملك صدمة للسينج. لكنه تحملها بشجاعة واستأنف نشاطه، فأخرج عام 1766م كتابه العظيم «لاوكون»، وعاد إلى الترجمة التجارية يتكسب منها.
ولاحت بارقة أمل. كانت مدينة هامبورج بعد الحرب الثلاثينية (1618-1648م) قد أولت المسرح عنايتها، ورصدت لازدهاره المال الكثير. وكان أحب شيء إلى الجمهور الهامبورجي المسرح الواقعي الذي وصلهم من هولندا ومن إنجلترا لتصويره حياة الناس وبخاصة حياة البورجوازيين في غير تعقيد ولا مبالغة، بعكس المسرح الفرنسي الكلاسيكي الذي كاد أن يقتصر على تصوير حياة الطبقة الأرستقراطية في أزمان غابرة، ويجعلها تتكلم ألوانا من الشعر المقيد.
وتلقى لسينج من مسرح هامبورجي يسمي نفسه «المسرح القومي» دعوة ليعمل به في وظيفة مستشار في شئون الفن المسرحي، فقبلها. وكان في الوقت نفسه يشترك مع تاجر ماهر اسمه «بوده» في إنشاء دار للنشر، ويمني نفسه بالحصول على أرباح كبيرة منها، فحزم حقائبه ليسافر إلى هامبورج، وأتم درته الفريدة «مينا فون بارنهلم» ونشرها عام 1766م، ورآها الجمهور على المسرح الهامبورجي فأعجب بها كل الإعجاب، ثم مثلتها مسارح ليبتسج وبرلين فلقيت نجاحا وحماسا رائعا.
وصل لسينج هامبورج في أبريل عام 1767م، وبدأ المسرح موسمه بعد وصوله بقليل. وفي بداية الشهر التالي ظهرت بقلم لسينج أول مقالة في النقد المسرحي، أو بعبارة أخرى أول عدد من مجلة «فن المسرح الهامبورجي». كان المقرر أن تظهر هذه المجلة مرتين أسبوعيا تنشر نقدا أدبيا فنيا للقطع التي تمثل على المسرح. لكن المسرح ما لبث أن توقف في ديسمبر 1767م، وفشلت كل محاولة لبعث الحياة فيه نهائيا في نوفمبر 1768م. مات المسرح ومات معه أمل لسينج وأصدقاء المسرح في إنشاء مسرح قومي لا يعتمد إلا على الجمهور الواعي وعلى الإنتاج الفني التقدمي، وبقيت ثمرة هذه التجربة تحملها 104 مقالات في النقد المسرحي بقلم لسينج، ما لبثت أن جمعت في مجلدين بعنوان «فن المسرح الهامبورجي». فن المسرح الهامبورجي عمل هائل أثر على تطور المسرح الألماني كله تأثيرا بالغا من كل النواحي؛ التأليف، الإخراج، التمثيل ... إلخ.
كان لسينج منذ أول عهده بالمسرح في ليبتسج يرى أن المسرح المبني على قواعد جامدة - خاصة تلك المنقولة عن المسرح الفرنسي الكلاسيكي - لا يناسب الروح الألمانية، ويرفض لذلك دعوى جوتشد إلى ربط عجلة المسرح الألماني في الحصان الفرنسي. وكان يرى أن إنتاج الإنجليز الذي يدور حول حياة الناس الواقعية أقرب إلى المزاج الألماني، وما علينا إلا أن نذكر «مس سارا سمبسون» وإشارته إلى أهمية شيكسبير في رسالته الأدبية رقم 17. ولا يعني هذا أن لسينج كان ينكر قيمة المسرح الفرنسي، وإنما يعني أنه كان يرى أن كل إنتاج مقيد بظروف وزمان ومكان ظهوره، وأن على كل أمة أن تختار من الإنتاج الثقافي الأجنبي ما يتفق مع ذوقها، وأن تشق طريقها أصيلة تبدع ولا تقلد تقليدا أعمى. كل هذه الآراء وكثير غيرها مما ضمنه «فن المسرح الهامبورجي» بدأت عصرا جديدا واعيا، ومهدت لمسرح ألماني حقيقي بدأه لسينج، ووصل به العصر الكلاسي الألماني إلى القمة.
لم يحقق عمل لسينج بهامبورج ما كان يرجى منه من ربح، ولكن إقامة لسينج بهامبورج أتاحت له فرصة الاتصال بشخصيات هامة كثيرة، وعقد الصداقات الوطيدة، بالإضافة إلى توسيع خبرته بالمسرح علما وعملا، وتدريب أسلوبه النثري على ألوان الحديث المختلفة ليصبح ذلك الأسلوب النثري أسلوب الأجيال القادمة. اتصل لسينج بالقس جوتسه وبزميله «ألبرتي» وتعرف بعائلة «رايماروس»، وكان رايماروس من رجال التعليم البارزين في هامبورج، وتوطدت بين لسينج وبين «إليزه» ابنة رايماروس صداقة متينة. كذلك تعرف على عائلة «كونيج»، وكان إنجلبرت كونيج تاجرا يتجر في الحرير. وتصادف أن قرر إنجلبرت كونيج أن يقوم برحلة طويلة، فترك زوجته وأولاده الأربعة في رعاية صديقة لسينج. كذلك اتصل لسينج بفيليب إيمانويل باخ وكان يشرف على الموسيقى في كنائس هامبورج، وبالأديب الألماني «ماتياس كلاوديوس» وكان في ذلك الوقت يمارس بعض أعمال التحرير في هامبورج.
هكذا كان لسينج لا يخرج من محنة إلا ليدخل محنة جديدة، ولا تلوح له بوارق الأمل إلا لتختفي بعد حين. أقفل مسرحه القومي أبوابه، وفشل مشروع دار النشر في تحقيق الثروة المرموقة، وفكر لسينج في مخارج تنقذه من ورطته؛ فكر مثلا في الرحيل إلى فينا ليتصل بيوزف الثاني (ابن ماريا تريزيا)، الذي اشتهر بتشجيعه الأدباء والفنانين وأهل الفكر، خاصة بعد أن نجحت بعض مسرحياته على مسرح فينا وعرفه الجمهور النمساوي. وفكر في الرحيل إلى روما حيث كان منصب مدير عام الآثار قد خلا بموت فنكلمان عام 1768م، ولكنه لم يخرج مشروعاته هذه إلى حيز التنفيذ، وأخيرا توسط له بعض أصدقائه لدى ولي عهد براونشفايج ليعينه أمينا لمكتبة «فولفنبوتل» المعروفة باسم «ببليوتيكا أوجوستيا »، وهي المكتبة التي كان الفيلسوف الشهير «لايبنتس» أمينا لها، ونجحت الوساطة. وانتقل لسينج عام 1770م إلى مقر عمله الجديد، ليظل به 11 عاما من النشاط الفكري الكبير وقد انتهت مشكلاته المالية تماما.
ولم تكن مشكلاته المالية لتنتهي إلا لتفسح مكانا لمشكلات من نوع آخر، بعضها عائلية وبعضها دينية. كان لسينج قبل مبارحته هامبورج قد تلقى خبر وفاة صديقه كونيج في الخارج، فوفى بوعده الذي قطعه على نفسه برعاية الأسرة وظل يرعاها حتى مات. وقد تحولت صلته بأرملة كونيج إلى ميل متبادل ثم إلى خطبة في عام 1771م، ولم تؤد الخطبة إلى قران إلا عام 1776م؛ فقد كانت الأرملة كونيج منهمكة في إدارة تجارة زوجها الراحل، وكان العمل يضطرها إلى السفر إلى فينا، بل وإلى الإقامة بها سنوات. وأخيرا انتظمت التجارة وتم عقد القران.
كان العمل في مكتبة فولفنبوتل تحولا صعبا في حياة لسينج الذي كان ظل طول حياته - باستثناء الفترة البرسلاوية - كاتبا حرا، لا يتقيد بوظيفة بعينها، ولا يلتزم بالبقاء في مكان بعينه، فإذا به الآن يدعى ليلتزم مكانا صغيرا بمدينة صغيرة تركها أمراؤها وسكنوا بعيدا عنها، وليعيش عيشة روتينية ترسم ظروف العمل صورتها. وكان يتسلى عن ذلك بالكتب التي أغرم بها - كانت المكتبة تضم نحو 70000 مجلد - وبالرد على استفسارات العلماء ردا علميا مستندا على المراجع النادرة بالمكتبة، ثم شرع ينشر مقالات علمية متفرقة عن محتويات المكتبة، جمعها بعد ذلك في ست مجلدات تحت عنوان «في التاريخ والأدب: من كنوز المكتبة الأميرية بفولفنوبوتل». كذلك أتم مسرحية «إميليا جالوتي» التي كان قد بدأها في ليبتسج عام 1758م، وأخرجها للناس عام 1771 / 1772م، عملا فريدا يحمل بين طياته تعبيرا صامتا عن أحاسيس فنان لم يغرب الأسى عن قلبه، وظل سنين يكافح ويكافح، وأخيرا لم ينل من الدنيا سوى الوحدة والعزلة والفراق. كتاباته كلها في ذلك الوقت تدل على ألمه لبعد خطيبته عنه، حتى إنه فكر في ترك العمل بمكتبه فولفنوبوتل والانتقال إلى فينا حيث كانت الأرملة كونيج تقيم مؤقتا، وشجعه على هذا التفكير نجاح مسرحيته «إميليا جالوتي» نجاحا كبيرا في فينا عام 1775م، واهتمام ماريا تريزيا ووزيرها كاونيتس به، ولكنه ظل في فولفنبوتل، ورافق الأمير ليوبولد في رحلة إلى إيطاليا دامت بضعة شهور.
كان لسينج في معرض اهتمامه بتقصي أصول الثقافة الأوروبية، واستجلاء ما غمض منها، يهتم إلى جانب العنصر الإغريقي اللاتيني بالعنصر المسيحي، ويجتهد في فهم اللاهوت وعلوم الدين المسيحي بطريقة جديدة تتفق مع روح العصر الذي سيطرت عليه طرق البحث العلمي ومذاهب الفلسفة العقلية. وتصادف أن وجدت ابنة الأستاذ الهامبورجي «هرمن رايماروس» (توفي عام 1768م) في مخلفات أبيها مؤلفا يعالج أمور الدين، فسلمته إلى لسينج وصرحت له بنشره. وكان المعروف عن رايماروس أنه في حياته كان يبشر كفلاسفة التنوير ب «دين الفطرة» و«مذهب العقل» ولكنه لم يكن يمس المسيحية مسا مباشرا. أما كتابه الذي وقع في يد لسينج فكان فيه هجوم صريح على المسيحية بشكلها الكنسي التقليدي وعلى أصولها المختلفة، يعتمد فيه على شواهد من الفلسفة والتاريخ. واستحسن لسينج الكتاب وبدأ يجرب نشره قطعة قطعة، فنشر في الكراسة الثالثة من مقالاته عام 1774م، أول قطعة، دون الإشارة إلى اسم مؤلفها، ثم عاد بعد مضي بضع سنوات إلى نشر قطعة أخرى كان فيها هجوم على موضوعات أساسية في الدين، منها الإلمام والوحي والإعجاز، وأبرز لسينج طريقة التدليل التاريخي في صورة ناضجة، وفتح بذلك بابا جديدا هاما في ميدان الفكر.
تسبب نشر هذه القطعة في إثارة معركة كبيرة هاجمه فيها الكثيرون هجوما عنيفا، فرد على الهجوم بمقالات حاسمة منها «إثبات الروح والقوة» و«إنجيل يوحنا»، وتأججت المعركة. ووقف أمام لسينج أساسا «يوهان ملشيور جوتسه» الراعي الأول في «سانت كاتارينا». وكان لسينج قد تعرف عليه في هامبورج وشرب معه خمرا معتقة من مخزون الراعي، وتناقش معه آنئذ في موضوعات عديدة، مناقشات من نوع تبادل الآراء، فإذا به يتحول الآن إلى غريم لا يتورع في هجومه عن اللجوء إلى التشهير والافتراء، وقد رد عليه لسينج بسلسلة من المقالات بعنوان «ضد جوتسه».
لم تكن جبهة «جوتسه» هي الجبهة الوحيدة التي يقف فيها لسينج؛ فقد شاء القدر أن يمتحنه في جبهة أخرى. كانت حياة لسينج قد بدأت تستقر بزواجه من إيفا كونيج، وظن الاثنان أن سعادتهما بدأت تكتمل باقتراب مولد طفل لهما، ولكن ظنهما كان سرابا، فمات الطفل بعد مولده، وتبعته أمه. وبقي لسينج يعاني أقسى محنة مرت به، لكنه تمالك نفسه وترك الحياة تسير في بيته عادية، وظل يرعى أولاد زوجته بحنان أبوي فياض، ولكن أعراض الإعياء كانت قد بدأت تظهر عليه.
لم يتوقف لسينج عن متابعة نشر مقتطفات أخرى من كتاب رايماروس؛ ففي عام 1778م، نشر قطعة بعنوان «هدف يسوع وتلاميذه» تحتوي على تشكيك في صعود المسيح وذهاب إلى أنه من اختراع التلاميذ. واشتد الهجوم الذي كان الجمهور يتابعه بحماس بالغ. ورأى أعداء لسينج أنهم لن يغلبوه بالنقد العلمي، فلجئوا إلى القوة واستعملوا نفوذهم لدى السلطات، فصدر في 13 يوليو 1779م، قرار بوضع نشريات لسينج تحت رقابة شديدة، ومنعه من التعرض للموضوعات الدينية، وبمصادرة مؤلفات رايماروس. وعارض لسينج القرار دون جدوى، فنقل ميدان المعركة إلى هامبورج، وكان القرار الصادر ضده من سلطات براونشفايج لا يسري إلا عليها. ونشر في هامبورج مقالا بعنوان «رد ضروري على سؤال لا ضرورة له»، ثم قرر أن يعتلي منصته الحقيقية، منصة المسرح، ويوجه إلى جوتسه وغيره من المكابرين ردا بليغا، فكتب قصيدته المسرحية الخالدة «ناتان الحكيم» يدعو فيها إلى التسامح، وإلى السمو بالإنسانية فوق المهاترات. وظهرت المسرحية في شتاء 1778 / 1779م، فنفدت الطبعة فورا، وتكرر طبعها مرارا في عام واحد، فكان استقبال الجمهور لها بمثابة استفتاء شعبي صوتت فيه الأغلبية للتسامح والإنسانية، ورفضت التعصب والتزمت.
ومات جوتسه، وماتت مقالاته وتشهيراته وبقي العمل العظيم، العمل الخالد، بقي «ناتان الحكيم»، بقيت دعوة التسامح والإنسانية والتقدم ضمن مقدسات الأمة الألمانية - على حد قول جوته - بل ضمن مقدسات البشرية كلها.
كان لسينج قد وضع آخر قوته في «ناتان الحكيم»، وختم به حياته الأدبية الحافلة. وفي 15 فبراير 1781م، لفظ أنفاسه الأخيرة وله من العمر 52 عاما، على أثر نوبة قلبية لم تمهله. (1-1) أعمال لسينج (وينطق لسينغ أيضا) (أ) النقد
رسائل خاصة بالأدب الحديث (1759-1765م).
لاوكون، أو حدود التصوير والشعر (1766م).
فن المسرح الهامبورجي (1767-1769م).
كيف صور القدماء الموت (1769م). (ب) المسرح «العالم الشاب» (1748م).
مس سارا سمبسون (1755م).
فاوست (1759م) صفحات من قطعة مفقودة.
فيلوتاس (1759م).
مينا فون بارنهلم (1767م).
إميليا جالوتي (1772م).
ناتان الحكيم (1779م). (ج) منوعات
أمثلة (3 كتب) (1759م). (د) موضوعات دينية
أرنست وفالك (1780م).
تربية الجنس البشري (1780م). (2) مينا فون بارنهلم وحرب السنين السبع
كان النقاد القدماء يجمعون على فقر الأدب الألماني في نوع الكوميديا، ويضعون كل الكوميديات في جانب، ويفردون لست كوميديات جانبا عليا وهي:
مينا فون بارنهلم: لسينج.
القدر المحطم: كلايست.
ليونس ولينه: بوشنر.
فراء الجارود: هاوبتمان.
ويل لمن يكذب: جريلبارتسر.
الصحفيون: فرايتاج.
ولسنا بحاجة إلى تكذيب القدماء ولا إلى الحط من قدر حصرهم. ويكفينا أن نشير إلى أن عمليات الحصر في ميدان الإنتاج الإنساني المتجدد تؤدي إلى نتائج تعسفية، ولكن المؤكد أن الكوميديات الست التي احتفوا بها بنوع خاص، واعتبروها قمة الإنتاج في هذا النوع هي - دون حصر أو تقييد - بلا ريب كذلك.
وأحداث «مينا فون بارنهلم» كما سبقت الإشارة، تدور في أيام حرب السنين السبع (1756-1763م)؛ لذلك آثرنا أن نلخص الظروف التاريخية التي لابست حرب السنين السبع حتى نفهم القطعة في زمانها ومكانها.
وينبغي لنا أن نعود إلى الوراء، إلى جذور حرب السنين السبع، لنحسن تصورها، ولعل جذورها تبدأ من نشأة بروسيا وتحولها إلى قوة فعالة على يد الأمراء من آل هوهنتسوليرن. ويذكر التاريخ أن أسرة هوهنتسوليرن أصلها من منطقة شفابن المشهورة برجالها المجدين المثابرين الأفذاذ إلى يومنا هذا، وأنها نزحت إلى نورنبرج حيث أصبح أفراد منها بورجرافات نورنبرج. حتى إذا جاء عام 1415م قرر القيصر الألماني زيجسموند رفع البورجراف فريدريش فون هوهينتسوليرن إلى مرتبة ماركجراف لمنطقة براندنبورج (المنطقة حول برلين، ولم تكن برلين في ذلك الوقت ذات شأن)، وبهذا أصبح ضمن الأمراء الألمان الناخبين؛ أي الذين يحق لهم الاشتراك في انتخاب قيصر الدولة الألمانية الذي يجمع الإمارات والمناطق المختلفة تحت لوائه. وظل أولاد فريدريش فون هوهنتسوليرن وأحفاده يوسعون رقعة بلادهم حتى امتد ملكهم من الراين إلى الأودر (في صورة مناطق غير متصلة)، بل وشمل منطقة شرق نهر الفايكسل داخل الأراضي البولونية، علاوة على جزء من برويسنلاند كان الفرسان الألمان قد غزوه حول عام 1300م. وفي عام 1657م نجح الأمير الناخب الأكبر في الحصول على استقلال بروسيا استقلالا ذاتيا تاما، ومهد بذلك لتحويلها إلى مملكة، وخلفه ابنه فريدريش الثالث وكان كأبيه أميرا ناخبا في الرايخ ينضوي تحت لواء قيصر الرايخ. وقرر أن يتوج نفسه ملكا معتمدا على استقلال بروسيا ومتوسلا بكافة الوسائل. وتم التتويج في 18 يناير 1701م بمدينة كونجسبرج (ضمتها روسيا إلى أرضها بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الجزء الشمالي من بروسيا الشرقية)، وسمى نفسه فريدريش الأول ملك بروسيا.
كان فريدريش فيلهلم الأول ملكا حازما صارما، جنديا لا هم له إلا الجندية وتطورها، حتى لقد أطلق عليه اسم «ملك الجنود». وقد بذل جهدا كبيرا في خلق الجندي الذي يحترف الجندية ولا يمارس عملا آخر سوى الدفاع عن الوطن وخوض المعارك، ويتحرك بدافع سام هو شرف الجندية وكرامة الجندية. وهكذا تحولت بروسيا إلى دولة جنود - كما يقولون - وأصبح لها جيش من الطراز الأول سيظهر نشاطه في السنوات التالية. وكان فريدريش الأول يقسو على ابنه في التربية كل القسوة فأدخله الجيش وهو في العاشرة، ورقاه ضابطا في سن الخامسة عشرة، وكلفه بكل أعمال الدولة من أبسطها إلى أصعبها، فكان يمضي الليل واقفا لحراسة المعسكرات طول الليل كأي ديدبان في الجيش، وكان يقوم بالأعمال الكتابية والإدارية البسيطة، كأي كاتب في الحكومة. وهكذا منع فريدريش الأول ابنه عن ممارسة الأدب والموسيقى لاعتقاده أنها توهن العزم، وفرض إرادته على ابنه على نحو تعسفي حتى اضطر ابنه إلى الفرار، فقبض عليه وحكم عليه بالإعدام وأصر على تنفيذ الحكم لولا تدخل كبار الضباط، ثم عفا عن ابنه، بعد سجنه، وتصالح معه وعينه قائدا لسلاح المشاة ومنحه ضيعة وقصرا.
فلما مات فريدريش الأول عام 1740م خلفه على العرش ابنه هذا، يجمع بين خشونة العسكرية وميل إلى الآداب والفنون والأفكار التحررية الجديدة التي بثها فلاسفة عصر التنوير. وتصادف أن مات في العام نفسه كارل السادس قيصر ألمانيا وكان من آل هابسبورج ويحكم ملك الهابسبورجيين (المجر، النمسا، سيليزيا ... إلخ) الموروث، ولم يكن له ولد، فأوصى في حياته بأن ترث ابنته ماريا تريزيا حكم الأملاك الهابسبورجية، وجمع الوعود من الحكام المختلفين في أوروبا ليسهروا على تنفيذ الوصية، ولكن هذه الوعود كانت حبرا على ورق؛ فما كاد كارل يموت حتى تربصت دول أوروبية مختلفة بالأميرة الصغيرة تريد أن تلتهم أملاكها. وانتهز ملك بروسيا الجديد الفرصة وعرض على ماريا تريزيا أن تنزل عن منطقة سيليزيا ويتعهد لقاء ذلك بمساعدتها ضد المتربصين بها. واختلق أسبابا واهية وإثباتات خبيثة يدلل بها على أحقيته في المنطقة. وكان هدف فريدريش فيلهلم الثاني واضحا، كان يريد من ناحية أن يحول نهر الأودر إلى نهر بروسي يجري في أملاكه وحده، وكان من ناحية ثانية، يريد أن يوسع ملكه ويحوله إلى دولة أوروبية عظمى. ورفضت ماريا تريزيا العرض فانقض الملك البروسي على سيليزيا واستولى عليها. وتعرضت النمسا في الوقت نفسه لهجوم جيوش فرنسية وجيوش بافارية، وبذلت ماريا قصارى جهدها لصد الهجوم، وانتهى الأمر بصد الجيوش الفرنسية والبافارية وردها، وضاعت سيليزيا عليها (الحرب السيليزية الأولى والثانية 1740-1744م).
وبدأت فترة من السلام دامت 11 سنة، ثم تكهرب الموقف من جديد. كانت الأحوال في أوروبا قد تغيرت، وتغيرت بتغيرها سياسة الدول المختلفة، بروسيا تحولت إلى دولة عظمى، روسيا وفرنسا والنمسا ومعها إمارات ألمانية مختلفة تحولت إلى جبهة تخاف بروسيا بل وتناصبها العداء صراحة وتعلن في غير مواراة أنها تريد خلع تاج فريدريش الثاني وإعادته سيرته الأولى؛ ماركجرافا لبراندبورج. وهكذا اندلعت نيران حرب السنين السبع (1756-1763) التي أوشكت أن تحطم ملك فريدريش، إلا أن تدخل الحظ إلى جانب الإرادة الصلبة أنقذ فريدريش بل وأدخله في تاريخ العظماء باسم «فريدريش الأكبر».
كانت بروسيا (6 مليون نسمة تقريبا) تقف وحدها أو متحالفة مع بريطانيا العظمى في وجه النمسا وفرنسا وروسيا والرايخ الألماني (تعداد أعدائها بلغ حوالي 100 مليون نسمة). بدأت الحرب بزحف فريدريش على ساكسونيا فيما يسمى بحرب وقائية حتى يضمن محاصرة كافة الميادين التي يمكن أن يسلكها الأعداء، وأحكم قبضته على ساكسونيا. وزحفت الجيوش المعادية كلها عليه، فكان تارة يتغلب عليها وكانت تارة تقهره، حتى أوشكت أن تحيق به. وحدثت معجزة، ماتت قيصرة روسيا وتولى قيصر جديد (بطرس) كان يمت بصلة القرابة إلى فريدريش وتربطه بألمانيا البروسية وشائج عديدة منها الإعجاب الشديد بشخصية فريدريش، فتحالف معه، بعد أن كانت روسيا متحالفة ضده، واختل الميزان، فلما قتل القيصر بطرس وتولت عرش روسيا زوجته الآثمة كاتارينا آثرت أن تخرج روسيا من الحرب فلا تحارب مع فريدريش ولا ضده، وانتهت حرب السنين السبع. (3) أحداث مينا فون بارنهلم
والآن وقد أحطنا بالظروف التي خرجت فيها كوميديا مينا فون بارنهلم إلى النور، وهي في الوقت نفسه الظروف التي تصورها المسرحية في طياتها، نستعرض الأحداث ونتتبع تقدمها.
تبدأ المسرحية بتصوير الحال التي انتهى إليها الرائد فون تلهايم بعد أن أحيل إلى الاستيداع على أثر انتهاء حرب السنين السبع، وأصبح لا يمتلك من المال ما يسدد به إيجار حجرته بالفندق، ويدفع منه راتب خادمه، وينفق منه على حياته من نواحيها المختلفة. ويتجرأ صاحب الفندق، الذي لا يعرف غير المال ربا، فيخرجه من حجرته الجيدة وينقله إلى حجرة رديئة، ليؤجر الحجرة الجيدة إلى آنسة ثرية وصلت برلين لتوها آتية من ضياعها بساكسونيا. ويغضب الرائد ويثور لكرامته المجروحة ويقرر أن يترك الفندق لصاحبه الوقح، وينصرف دون أن يعرف إلى أين، ثم ما نلبث أن نتبين أن هذه الآنسة الثرية ليست سوى خطيبة الرائد فون تلهايم، وأنها أتت تبحث عنه لما انقطعت أخباره رغم انتهاء الحرب.
ووجدت الآنسة مينا فون بارنهلم خطيبها الضابط، في حالة يرثى لها، بلا مال ولا عمل ولا كرامة؛ أما ماله فكان قد أقرضه الجيش أثناء المعارك حتى لا يتأخر الزحف انتظارا لوصول المال من الخزينة، وأما عمله فقد أخرج منه على أثر وشاية بلغت الملك وصدقها الملك، وأما كرامته فقد فقدها لتصديق الملك الوشاية المهينة التي وصلت إلى مسامعه والتي تتلخص في أن فون تلهايم زور في الأوراق وادعى أنه نقد الجيش ما لا يدفعه، وأنه كان بذلك يهدف إلى الثراء غير المشروع ويرتكب جريمة مخلة بالشرف والكرامة.
ووجد الرائد فون تلهايم خطيبته، جميلة نضرة غنية كلها أمل في أن تسعد بالزواج به والحياة معه حياة رغدة كريمة، فقرر أن يحكم عقله وإرادته وأن يرفض - وحالته على ما بينا - الزواج بمينا، زواجا أصبح غير متناسب، وأصبح هو يرى فيه إما إهانة شخصية له، اعتقادا منه بأن مينا تريد الزواج به عطفا عليه، أو جريمة منه في حق الفتاة ذات الجمال والمال والحسب والنسب، إيمانا منه بأنه انتهى إلى الأبد بالنسبة لها.
ولكن مينا، والحب الأصيل يعمر قلبها وخادمتها فرنتسيسكا تساعدها، لا تعدم الحيلة، فتظاهرت بأن أسرتها نبذتها، وبأن خالها الغني صاحب النهي والأمر قد قرر حرمانها من الميراث، فأصبحت فقيرة منبوذة تحتاج إلى العون، وهنا تحركت نخوة فون تلهايم، وقرر ألا يتخلى عنها مهما حدث.
وتنتهي المسرحية نهاية سعيدة؛ إذ يأتي رسول من الملك يبلغ فون تلهايم أن الملك تبين أن ما بلغه كان وشاية، وأنه قرر أن يعود تلهايم إلى عمله عزيزا كريما، وأن تعيد إليه الخزانة ما دفعه من مبالغ، وأكد له أن الملك يقدر بطولته وتفانيه. ومن ناحية أخرى يأتي خال مينا فون بارنهلم، ويتضح أن النبذ والحرمان من الميراث كانا محض اختلاق من قبيل الكذب في سبيل المصلحة، وتعود المياه إلى مجاريها ويجتمع الشمل. (4) الشخصيات
كان جريلبارتسر يعتبر «مينا فون بارنهلم» أحسن كوميديا ألمانية على وجه الإطلاق، ولا يكاد ناقد يخرج على الإجماع على أن القطعة من أجود ما أنتج الفن المسرحي الكوميدي في ألمانيا، لما توفر لها من مادة قوية مأخوذة من صميم الحياة كما عاشها المؤلف، ولما توفر لها من إتقان في تسيير الحوار وترتيب الأفكار، وأعظم ما فيها في رأينا تصوير الشخصيات، الرئيسية والثانوية على السواء.
الرائد فون تلهايم، يمثل الضابط البروسي بمعنى الكلمة، شجاع، مقدام، يحب زملاءه وجنوده ويعرض حياته للخطر دفاعا عنهم بغض النظر عن الرتبة أو المركز، ويحرم نفسه ليعطيهم أو ليرعى أسرهم بعد وفاتهم، لا يعرف للدنيا معنى إذا خلت من الكرامة والشرف، وهو في الحب يعرف الحدود بين القلب والعقل، فلا يدع أحدهما يغير على الآخر. لنسمع حديثه إلى مينا فون بارنهلم: «إنك تنادينني تلهايم، والاسم صحيح، لكنك تعتقدين أنني الآن ذلك التلهايم الذي كنت تعرفينه في وطنك، ذلك الرجل الباهر الطموح الممتلئ كلفا بالشهرة، ذلك الرجل المتمكن من جسمه كله ومن روحه كلها، الذي انفتحت أمامه حواجز الرفعة والسعادة، فأمل أن يزيد كل يوم جدارة بقلبك ويدك، وإن لم يكن آنئذ جديرا بك. أنا لست هذا التلهايم، تماما كما أني لست أبي. ذلك التلهايم - تماما كذلك الأب - كان وانتهى، أما أنا فتلهايم المحال إلى الاستيداع، تلهايم المشوه، الشحاذ. لقد كنت مخطوبة يا آنستي لذلك التلهايم الآخر.»
ثم يقول لها في موضع آخر: «أردت أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردون إلي شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنني أن أكون لك يا آنستي. الدنيا كلها لا تعتبرني جديرا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلا لا غبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرض موضوعه للازدراء، حب دنيء.»
ويحيط بالرائد فون تلهايم رجال أوفياء؛ رجل صلب الرأي ضيق الأفق، عنيد، ثائر، متعلق بسيده كالكلب المخلص لا يفارقه مهما حدث، ورجل شجاع، واسع الحيلة نسبيا، يحب الجندية ولا يعرف له غيرها عملا، يضحي بماله وحياته من أجل الضابط الذي عمل تحت رئاسته؛ أما الأول فهو «يوست»، وأما الثاني فهو «باول فرنر».
ولنستمع إلى يوست وهو يصور شخصيته، يقول موجها الحديث إلى سيده فون تلهايم: «قبح في ما شئت، فلن أتصور نفسي مع هذا أسوأ من كلبي؛ فقد كنت يوما في الشتاء الماضي أسير ساعة الغروب على القناة فسمعت أنينا، فنزلت واتجهت إلى مصدر الصوت، واعتقدت أنني أوشك أن أنقذ طفلا، فإذا بي أخرج من الماء كلبا صغيرا، فقلت في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع خطاي، ولست من محبي الكلاب، فطردته، لكن طردي لم يجد نفعا، فانهلت على الكلب ضربا حتى أبعده عني، فلم يجد ضربي شيئا، فلما جن الليل لم أدعه يدخل حجرتي، فظل على الباب قابعا عند العتبة. وكان كلما اقترب مني ركلته بعيدا، فيصيح وينظر إلي ملوحا بذنبه. وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقى من يدي كسرة خبز، فإنه كان لا يطيع غيري، ولا يسمح لغيري بلمسه. وكان يقفز أمامي ويعرض علي دون طلب مني أفانينه. صحيح أنه كلب قبيح ولكنه طيب جدا. ولو ظل على هذه الحال فسوف أكف عن بغض الكلاب.»
ثم يضيف قوله: «أنا لا غنى عني لك؛ إنني - دون تمجيد لذاتي، يا سيدي الرائد - خادم إذا تأزمت الأزمة فوق تأزمها يستطيع أن يتسول وأن يسرق من أجل سيده.»
باول فرنر، محارب بروسي حانق لعودة السلام لأن السلام حال بينه وبين القتال، وها هو يبحث عن ميدان جديد: «ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني في الأيام القادمة؟ الحمد لله أن الحرب ما زالت موجودة في مكان ما في الأرض، وقد طال الأمد على أملي أن تعود الحرب إلى الاشتعال هنا؛ فجنودنا يقعدون ويعالجون جلودهم. لا، لقد كنت جنديا، ولا بد أن أعود فأصبح جنديا.»
وباول فرنر لا يهدأ بالا منذ علم بمحنة الرائد، ويعمل كل ما في وسعه لمساعدته دون أن يحس الرائد أن تلك مساعدة، وقد بلغ تفاني فرنر في حب الرائد أن بدأ يبيع ما لديه ليجمع بعض المال يضعه في يد رئيسه المنكوب، لكن رئيسه يمتنع بإباء وشمم فيقول له: «لا تريد أن تكون مدينا لي؟ هذا لو لم تكن قد أصبحت مدينا لي من قبل بالفعل، يا سيدي الرائد، أولست مدينا بشيء للرجل الذي صد عنك مرة ضربة سيف كادت تشج رأسك، ومرة قطع ذراعا كانت توشك الضغط على زناد بندقية فتنطلق منها رصاصة تستقر في صدرك؟ هل هناك دين أكبر من هذا يمكن أن تكون مدينا به لهذا الرجل؟ أو هل رقبتي أقل قيمة من مالي؟»
الرائد فون تلهايم، ويوست وباول فرنر يقفون في صف، إن صح هذا التعبير، وفي صف أمامهم تقف الآنسة مينا فون بارنهلهم ووصيفتها فرنتسيسكا.
مينا بارنهلم من تورنجن في ساكسونيا حيث تمتلك الضياع الواسعة، تعرف الرائد فون تلهايم عليها أثناء عسكرته هناك، فتحولت إلى حبيبة متيمة، فلما انقطعت أخبار حبيبها ضاقت الدنيا في وجهها، وراحت تبحث عنه، حتى وجدته. وقد نجح لسينج في تصوير مشاعر مينا نجاحا كبيرا. ها هي مثلا تهلل لاستعادتها حبيبها: «لقد استعدته يا فرنتسيسكا، أترين؟ لقد استعدته. لا أعرف من فرط الفرحة أين أنا. افرحي معي يا عزيزتي فرنتسيسكا، ولكن، لماذا أنت؟ بل افرحي، عليك أن تفرحي معي. تعالي، يا عزيزتي، سأقدم لك هدية حتى تستطيعي أن تفرحي معي. تكلمي يا فرنتسيسكا، ماذا تحبين أن أقدم لك؟ ماذا يعجبك من حاجياتي، ماذا تحبين؟ خذي ما يحلو لك، المهم أن تفرحي.»
وتصل في التعبير عن فرحها إلى القمة عندما تقول: «هل هناك أحب إلى الخالق من التطلع إلى مخلوق فرحان؟»
فلما التقت بحبيبها، ابتعد عنها حتى لا يؤدي بؤسه إلى إتعاسها، ولكن قلبها العامر بالحب الخالص لم يتزعزع، ولم يخدعه تظاهر تلهايم بالتنكر، فكان حديثها إلى تلهايم: «صبرا، أنت ما زلت تحبني، هذا يكفيني. ما هذه اللغة التي وقعت فيها وأنا أحادثك؟ إنها لغة منفرة، حزينة، معدية. سأعود إلى لغتي. أي حبيبي التعس، ما زلت تحبني، وما زالت مينا لك ثم لا تزال تعسا؟! أي مخلوق موهوم، غريب الأطوار كانت حبيبتك مينا وما زالت؟ كانت تحلم، وما زالت تحلم، بأنها هي سعادتك كلها. أسرع واطرح من جعبتك ما لديك من بؤس، حتى يمكنها أن تقارن هذه السعادة بهذا البؤس أيهما يرجح. هه؟»
ومينا تجيد الحوار حتى إنها توشك أن تقنع الرائد العنيد. ها هي تضحك من مبالغته تصوير محنته وتهون عليه خطبه: «ولم لا؟ ما اعتراضك على الضحك؟ ألا يستطيع الإنسان أن يكون جادا جدا وهو يضحك؟ يا عزيزي الرائد، إن الضحك يبقي علينا عقلنا أكثر مما يفعل العبوس، والدليل ماثل بين أيدينا. صاحبتك الضاحكة تقدر الظروف خيرا منك أنت. أنت تسمي نفسك مصابا في شرفك لأنك أحلت إلى الاستيداع، وتسمي نفسك مشوها لأنك تلقيت رصاصة في ذراعك. هل هذا صحيح؟ أليست هذه مبالغة؟»
أما فرنتسيسكا فنموذج للوصيفة اللطيفة النبيهة المخلصة التي تعيش أفراح سيدتها وأحزانها، وتقف إلى جوارها بالنصيحة والدهاء والحيلة، وهي من الشخصيات القليلة في الكوميديا التي تشيع المرح حقيقة. صاحب الفندق يأخذ بيانات عن الآنسة فون بارنهلم ومرافقتها، فيسمي فرنتسيسكا «امرأة خادمة». هنا تثور فرنتسيسكا وتصحح الأمر على هواها: «إذن فاكتب يا سيدي، بدلا من امرأة خادمة، بنت خادمة؛ فقد سمعتك تقول إن الشرطة دقيقة جدا، وربما حدث سوء فهم قد يؤدي إلى مشاكل عندما أتقدم يوما بطلب عقد قراني؛ فأنا ما زلت بنتا حقا وصدقا، اسمي فرنتسيسكا واسم أبي فيلليج؛ فرنتسيسكا فيلليج. وأنا أيضا من تورنجن. كان أبي يعمل طحانا في ضيعة من ضياع الآنسة الكريمة اسمها كلاين-رامسدورف. وقد آلت الطاحونة إلى أخي، والتحقت وأنا صغيرة ببلاط الآنسة الكريمة ونشأت معها، عمرنا واحد، سنبلغ يوم زفة الشموع القادم الواحد والعشرين. لقد تعلمت كل ما تعلمته الآنسة الكريمة، وأحب أن تعرفني الشرطة جيدا.» وتنسج فرنتسيسكا مع فرنر قصة حب تنتهي بزواجهما.
وقد أبدع لسينج في تطوير شخصية صاحب الفندق وشخصية ريكو. أما صاحب الفندق فرجل لا أخلاق له، بعبد المال ويتجسس على أسرار الآخرين، ويتظاهر بأنه ليس كذلك، ويلجأ إلى الحيلة والدهاء والكذب لإظهار الأمور على غير حقيقتها ، فهو لا يتورع عن إخراج الرائد من حجرته الجيدة ونقله إلى حجرة رديئة، ولا يتورع عن الادعاء بأن الحجرة الرديئة حجرة جميلة، وأنها تمتاز بكذا وكذا من الصفات التي ليست فيها. وعندما يحس أن الرائد ما يزال يحتكم على بعض المال يقرر أن يرشو خادمه يوست بخمر معتقة حتى يبقى الرائد في فندقه إلى أن يستنزف ما بقي لديه من مال. أما فضوله وتجسسه على نزلائه فيظهر على أوضح صورة في هذا الحوار بينه وبين فرنتسيسكا:
صاحب الفندق :
لحظة واحدة فقط. ألم تأت أخبار جديدة من السيد الرائد؟ لا يمكن أن يكون ما حدث هو الوداع.
فرنتسيسكا :
ماذا؟
صاحب الفندق :
ألم تقص عليك الآنسة الكريمة ما حدث؟ عندما تركتك في المطبخ، أتيت بالمصادفة إلى هنا، إلى هذه القاعة.
فرنتسيسكا :
بالمصادفة؟! بل كنت تنوي التنصت.
صاحب الفندق :
آه بنيتي كيف تظنين بي هذا الظن؟ لا يعيب صاحب الفندق عيب أكثر من الفضول.
ويسترسل صاحب الفندق في رواية ما دار بين الرائد وبين الآنسة مينا فون بارنهلم، وكيف أنه لم يفهم المعنى الحقيقي لما رأى، ثم يقول: «إنني مستعد لدفع أي شيء - وأنا ليست فضوليا - ولكني مستعد لدفع أي شيء، إذا أمكنني الحصول على المفتاح؛ أعني الحصول على تفسير ما حدث.»
أما الشخصية الثانوية الأخيرة التي نريد التعرض لها في ختام هذه المقدمة، فشخصية ريكو. يسميه لسينج «سينيور دي بريتو فول، دي لا برانش دي برنسدور» يعني «المتأهب للسرقة، من فرع لصوص الذهب»! مغامر محتال يتظاهر بأنه صديق للأمراء والوزراء وذوي النفوذ، وأنه يدعى إلى موائدهم، ثم لا يتردد - عندما يرى بريق أموال الآنسة فون بارنهلم - في مد يده والتسول. يحكي للآنسة عن علاقته المدعاة بوزير الحربية: «تذكرت. وزير الحربية. تناولت الغذاء - وأنا أتناول غذائي عادة على مائدته - وجاءت سيرة الرائد تلهايم، فقال الوزير بيني وبينه؛ لأن سيادته من أصدقائي ولا يخفي علي شيئا؛ أقصد أن صاحب السعادة أبلغني أن قضية الرائد توشك على الانتهاء، وعلى الانتهاء إلى نهاية طيبة.»
ثم يحدث الآنسة عن نفسه: «تدهشين يا صاحبة العصمة لأني أنحدر من عائلة عظيمة، عظيمة إلى هذه الدرجة، عائلة يجري الدم الملكي في عروقها. لكن الحق ينبغي أن يقال: أنا بلا شك أكثر أبناء العائلة ارتماء في طريق المغامرة والمخاطرة.»
ثم يتحول إلى التسول: «فماذا أملك الآن؟ لنستعمل العبارة الصحيحة: لا أملك شروى نقير، وها أنا ذا اليوم خاوي الوفاض.»
فتعرض عليه الآنسة مالا فيقبله فورا ، ويشرح لها أنه سيستخدمه في لعب القمار ليكسب نظرا لأنه يعبد الغش، فتنكر عليه ذلك، فيقول: «كيف هذا يا مدموازيل؟ تسمين هذا غشا؟ إصلاح ما أفسده الحظ، التحكم في الحظ، التأكد من اللعبة، هذا ما يسميه الألمان غشا؟ غش؟ آه، يا لفقر اللغة الألمانية ويا لسذاجتها!» •••
وبعد، فهذه درة مؤلفات لسينج المسرحية نقدمها إلى القارئ العربي الكريم، ولا نجد ما نختم هذه المقدمة خيرا من رثاء جوته وشيلر للسينج: «كنا في حياتك، نمجدك كما تمجد الآلهة، وها هي روحك، في مماتك، تسود فوق الأرواح.»
مصطفى ماهر
الأشخاص
الرائد فون تلهايم، محال إلى الاستيداع
Major von Tellheim
مينا فون بارنهلم
Minna von Barnhelm
الجراف فون بروخزل، خالها
Graf von Bruchsall
فرانتسيسكا، خادمتها
Fransiska
يوست، خادم الرائد
Just
باول فرنر، رقيب سابق لدى الرائد
صاحب الفندق
امرأة في ثوب الحداد
ضابط
ريكو دي لا مارلينيير
Riccault de la Marlinière
المشهد : تارة في قاعة بالفندق وتارة في الحجرة الملاصقة.
الفصل الأول
المشهد الأول
يوست (يجلس في ركن وقد غلبه النعاس ويتحدث في المنام) :
صاحب الفندق الصعلوك! أنت تتجرأ علينا؟ اهجم عليه يا أخي! اضرب يا أخي، اضرب! (يمد يده للضرب فيستيقظ أثناء هذه الحركة)
هه! مرة أخرى! إني لا أكاد أطبق جفني حتى أتضارب معه في المنام، ليت هذه اللكمات تصيبه فعلا. لكن لأنظر هنا، لقد طلع النهار. لا بد أن أسعى للقاء سيدي المسكين بعد قليل. لقد قضت إرادتي ألا يطأ هذا البيت الملعون بقدمه مرة أخرى، يا ترى أين قضى ليلته؟
المشهد الثاني (صاحب الفندق - يوست)
صاحب الفندق :
صباح الخير يا سيد يوست، صباح الخير، آه، ها أنت ذا قد نهضت مبكرا ؟ أم هل ينبغي أن أقول ها أنت ذا قد نهضت متأخرا؟
يوست :
قل ما شئت.
صاحب الفندق :
لا أقول غير «صباح الخير»، ولا شك أن هذه التحية تستحق من السيد يوست أن يرد عليها قائلا «متشكر جدا».
يوست :
متشكر جدا.
صاحب الفندق :
إن الإنسان ليغضب إذا لم ينل قسطه من الراحة.
ما معنى هذا؟
إن السيد الرائد لم يرجع إلى الفندق بينما كنت أنت تنتظره هنا.
يوست :
ليس هناك شيء يتعذر على هذا الرجل تخمينه.
صاحب الفندق :
أنا أخمن، أنا أخمن.
يوست (يلتفت ويهم بالانصراف) :
عن إذنك.
صاحب الفندق (يوقفه) :
ليس بعد، يا سيد يوست.
يوست :
طيب، إذن دون إذنك.
صاحب الفندق :
آه يا سيد يوست! أنا لا أريد أن أتوقع، يا سيد يوست، أنك ما زلت غاضبا منذ الأمس. من ذا الذي يستطيع الاحتفاظ بغضبه طول الليل؟
يوست :
أنا، وأستطيع الاحتفاظ به طوال الليالي التالية.
صاحب الفندق :
وهل هذا مما يتفق والمسيحية؟
يوست :
يتفق والمسيحية بقدر ما ترضى المسيحية عن طرد رجل شريف من الفندق والقذف به إلى الشارع لأنه لا يستطيع الدفع فورا.
صاحب الفندق :
أف، ومن ذا الذي يصل به الجحود إلى هذا الحد؟
يوست :
صاحب فندق مسيحي. طرد سيدي أنا! طرد رجلا كالذي وصفته! طرد ضابطا!
صاحب الفندق :
أتريد أن تقول إنني طردته من فندقي؟ إنني قذفت به إلى الشارع؟ لا، إنما يمنعني من فعل ذلك احترام كبير، كبير جدا، أكنه للضابط، وشفقة كبيرة، كبيرة جدا، أكنها لشخص محال إلى الاستيداع، ولكن الضرورة اضطرتني إلى نقله إلى حجرة أخرى. لا تفكر في هذا بعد الآن، يا سيد يوست (ينادي موجها نداءه إلى الداخل) . يا ولد، أريد أن أصلح الأمر بطريقة أخرى (غلام يدخل)
أحضر شيئا من الشراب، السيد يوست يريد شيئا منه، ومن صنف جيد.
يوست :
لا تكلف نفسك هذا الجهد يا سيدي. ولتتحول إلى قسم كل قطرة منه .. ولكن لا حاجة بي إلى القسم، ثم إني لم أتناول طعاما حتى الآن.
صاحب الفندق (للغلام الذي أحضر زجاجة من الخمر وكأسا) :
هات، انصرف أنت. هه يا سيد يوست، صنف ممتاز، قوي، لطيف، مفيد للصحة (يصب منه في الكأس ويقدمها إليه) ، كأس تصلح معدة أضناها السهر.
يوست :
كدت أقول لا يحق لي، ولكن لم أحمل صحتي تبعة وقاحتك؟ (يتناول الكأس ويشرب.)
صاحب الفندق :
هنيئا يا سيد يوست.
يوست (وهو يعيد الكأس) :
لا بأس، ولكنك مع ذلك وقح.
صاحب الفندق :
لا تقل هذا، لا تقل هذا. وسارع بتناول كأس آخر، لا يمكن الوقوف على ساق واحدة.
1
يوست (بعد أن يشرب) :
لا بد أن أقول إنها خمر عظيمة، عظيمة جدا. أهي من صنعك؟
صاحب الفندق :
لا قدر الله. إنها من خمر دانتسج الأصلية.
يوست :
لو أنني كنت أستطيع التملق، لتملقتك من أجل شيء كهذا، ولكني لا أستطيع التملق، لا أستطيع إلا أن أخرج ما في قلبي. إنك برغم هذا وقح يا سيدي.
صاحب الفندق :
هذا ما لم يقله لي إنسان قط طيلة حياتي. كأس ثالثة يا سيد يوست؛ فالطيبات دائما ثلاثيات.
يوست :
لا بأس (يشرب) . صنف عظيم، صنف عظيم حقا، ولكن الحقيقة هي الأخرى شيء عظيم. إنك وقح يا سيدي.
صاحب الفندق :
هل كنت أسمعك بهذا الهدوء لو كنت فعلا كذلك؟
يوست :
نعم؛ فنادرا ما يغضب الوقح ويثور.
صاحب الفندق :
هل لك في كأس أخرى يا سيد يوست؟ فالحبل إذا طوي أربع طيات زاد متانة.
يوست :
لا، الإفراط هو الإفراط. وماذا يفيدك هذا؟ سأظل على رأيي حتى آخر نقطة في الزجاجة. أف لك يا صاحب الفندق، عندك خمر عظيمة بالغة العظمة، وأخلاق رديئة بالغة الرداءة. تفعل هذه الفعلة برجل كسيدي، أقام عندك أياما وسنين، وربحت منه تالرات
2
كثيرة، ولم يستدن منك في حياتك هيلرا واحدا، تخرج أمتعته من حجرته في غيبته لأنه لم يعد في سعة كما كان دائما، وتأخر في دفع أجر أشهر قليلة على الفور.
صاحب الفندق :
ذلك لأنني احتجت إلى الحجرة حاجة ماسة؟ لأنني توقعت أن السيد الرائد كان سيخلي الحجرة عن طيب خاطر. لو استطعنا انتظار عودته، انتظارا كان سيطول، أكان يصح لي أن أرد سيدة كريمة غريبة أتت إلى باب داري؟ أكان ينبغي لي أن أدفع طائعا بلقمة سائغة كهذه إلى حلقوم صاحب فندق آخر؟ ثم إنني كنت أعتقد أنها لن تجد لها مكانا في فندق آخر؛ لأن الفنادق كلها الآن مزدحمة غاية الازدحام. أكان يصح أن أترك سيدة شابة جميلة ظريفة كهذه على قارعة الطريق؟ إن سيدك رجل رقيق مهذب ولا يسمح بذلك، ثم ماذا فقد؟ ألم أعد له حجرة أخرى؟
يوست :
في مؤخرة الدار بجوار برج الحمام، تطل على منظر يتكون من حيطان الجيران ...
صاحب الفندق :
لقد كان المنظر الذي يطل عليه جميلا قبل أن يسده الجار المرتاب بجدار، لكن الحجرة نفسها ظريفة وحيطانها محلاة بورق مزخرف ...
يوست :
كانت كذلك في الماضي.
صاحب الفندق :
لا، ما زال أحد حيطانها محلى بالورق المزخرف. وغرفتك المجاورة لها، يا سيد يوست، ما عيبها؟ بها مدفأة، نعم إنها تبعث ببعض الدخان في الشتاء، ولكن ...
يوست :
ولكن شكلها في الصيف جميل جدا. إنني أعتقد، يا سيدي، أنك علاوة على ما حدث، تعمل على إهانتنا؟
صاحب الفندق :
هه، هه يا سيد يوست، يا سيد يوست ...
يوست :
لا تثر الحمية في رأس السيد يوست وإلا ...
صاحب الفندق :
أأنا الذي أثير فيه الحمية؟ إن الذي يثير فيه الحمية هو خمر دانتسج.
يوست :
ضابط كسيدي! أتظن أن ضابطا محالا إلى الاستيداع لا يعتبر ضابطا في مقدوره أن يقطع رقبتك؟ لماذا كنتم يا أصحاب الفنادق مهذبين أثناء الحرب؟ لماذا كان كل ضابط في ذلك الوقت رجلا كريما في نظركم، وكان كل جندي شابا مخلصا شجاعا؟ والآن هل أصابتكم تلك الكسرة الصغيرة من السلام بالغرور إلى هذه الدرجة؟
صاحب الفندق :
ولم تثور الآن يا سيد يوست؟
يوست :
أريد أن أثور.
المشهد الثالث (فون تلهايم - صاحب الفندق - يوست)
فون تلهايم (وهو داخل) :
يوست.
يوست (يعتقد أن المنادي هو صاحب الفندق) :
يوست! هل أصبحنا أصدقاء إلى هذه الدرجة؟
3
فون تلهايم :
يوست.
يوست :
أعتقد أن اسمي بالنسبة إليك هو السيد يوست.
صاحب الفندق (وقد لاحظ مقدم الرائد) :
هس! هس! يا سيد، يا سيد، يا سيد يوست، التفت، إنه سيدك ...
فون تلهايم :
يوست، أعتقد أنك تتشاجر! بماذا أمرتك؟
صاحب الفندق :
آه يا صاحب العزة! تشاجر، حاشا لله! هل يمكن أن يسمح عبدكم المطيع لنفسه بالتشاجر مع شخص حظي بنعمة الانتماء إليكم؟
يوست :
لو كان لي أن أضربه على ظهره هذا الذي قوسه التملق حتى أصبح كظهر القطة!
صاحب الفندق :
إن السيد يوست يدافع عن سيده، وفي شيء من الحدة، ولكنه على حق. إن ذلك ليزيد من قدره في نظري، من أجل ذلك أراني أحبه.
يوست :
لو كان لي أن أطأ أسنانه بقدمي!
صاحب الفندق :
ولكن من الخسارة أنه يثور بلا جدوى؛ لأنني متأكد أنكم يا صاحب العزة، لن تحلوا بي غضبكم؛ إذ إنني - الضرورة - اضطررت.
فون تلهايم :
كثير ما قلت يا سيدي. إنني مدين لك. لقد أخرجت متاعي من الحجرة في غيابي، وإن لك إيجارا لا بد أن تحصل عليه. وعلي أن أبحث لي عن مكان آخر. هذا شيء طبيعي جدا.
صاحب الفندق :
مكان آخر؟ سيادتكم تريدون الخروج من هنا؟ ما أتعسني إذن! ما أشقاني! كلا، أبدا، بل على السيدة أن تخلي الحجرة؛ لأن السيد الرائد لا يستطيع ولا يريد أن يترك لها حجرته؛ فالحجرة حجرته هو، وعليها هي أن ترحل؛ فلا طاقة لي بمساعدتها. سأذهب، يا صاحب العزة ...
فون تلهايم :
لا، أيها الصديق، لا يصح أن يبدل فعل أحمق بفعلين أحمقين. لا بد أن تبقى الحجرة للسيدة.
صاحب الفندق :
وأنتم، يا صاحب العزة، أتعتقدون أنني بسبب عدم الثقة أو الخوف على مستحقاتي؟ كما لو كنت لا أعرف، يا صاحب العزة، أنكم تستطيعون نقدي حسابي إن أردتم. إن الكيس المختوم - الكيس المكتوب عليه خمسمائة تالر صورة الملك، ذلك الكيس الذي تضعونه في المكتب - موجود في الحفظ والصون.
فون تلهايم :
هذا ما آمله. كما آمل أيضا أن تكون الأشياء الأخرى كذلك في الحفظ والصون. وسوف يتسلمها يوست منك بعد تسديد الحساب.
صاحب الفندق :
حقا، لقد تملكني الفزع فعلا حين وجدت الكيس. وقد كنت دائما أعتبركم، يا صاحب العزة، رجلا منظما حريصا، لا يقدم أبدا على صرف كل ماله، ولكن مع ذلك لو أنني توقعت وجود أموال نقدية لك في المكتب ...
فون تلهايم :
لتصرفت معي تصرفا أكثر أدبا. أنا أفهمك جيدا. انصرف الآن، يا سيدي، ودعني؛ فإني أريد أن أتحدث مع خادمي.
صاحب الفندق :
لكن يا سيدي ...
فون تلهايم :
تعال، يا يوست، سيادته لا يود أن يسمح لي بأن أقول لك، نحن في داره، ما عليك أن تفعله.
صاحب الفندق :
لا، يا سيدي، ها أنا ذا أنصرف. بيتي كله في خدمتكم.
المشهد الرابع (فون تلهايم - يوست)
يوست (يضرب الأرض بقدمه ويبصق وراء صاحب الفندق) :
أف!
فون تلهايم :
ماذا بك؟
يوست :
إني أختنق من الغضب.
فون تلهايم :
أيرجع هذا إلى ثوران في دمك؟
يوست :
وأنت لم أعد أعرفك، إنني أصبحت أوقن كل اليقين أنك الملاك الحارس لهذا الوغد الفظ. هناك مشانق وسيف للإعدام وعجلة تعذيب، ولكني أتمنى أن أخنقه بيدي هذه، وأن أمزقه إربا إربا بأسناني تلك.
فون تلهايم :
أيها الحيوان المتوحش!
يوست :
الحيوان المتوحش أفضل من إنسان على هذا النحو.
فون تلهايم :
ولكن ماذا تريد؟
يوست :
أريد منك أن تقدر عظيم الإهانة التي لحقت بك.
فون تلهايم :
ثم ماذا؟
يوست :
ثم تنتقم. لا، هذا لا يليق؛ فإن ذلك الوغد وضيع الشأن بالنسبة لك.
فون تلهايم :
أو أن أكلفك أنت بالانتقام لي؟ لقد طرأت لي هذه الفكرة من أول الأمر، طرأ لي أنه لا يصح أن يراني بعينيه مرة أخرى وأن يتلقى أجره من يديك أنت؛ فأنا أعرف أنك تستطيع أن تقذف إليه بحفنة من المال ووجهك يعبر عن الاحتقار له.
يوست :
هكذا؟ انتقام رائع!
فون تلهايم :
ولكن ما زال علينا أن نؤجل هذا الانتقام بعض الوقت؛ فلم يعد لدي هيلر واحد نقدا، ولا أعرف سبيلا للحصول على أي مال.
يوست :
أليس عندك مال سائل؟ ما هذا الكيس ذو الخمسمائة تالر الذي وجده صاحب الفندق في مكتبك؟
فون تلهايم :
مبلغ أعطي لي لأحفظه أمانة عندي.
يوست :
عسى ألا يكون هذا المبلغ هو المائة بستولة
4
التي أحضرها إليك حارسك القديم منذ أربعة أسابيع أو خمسة؟
فون تلهايم :
بل هو ذلك المبلغ بعينه، ذلك الذي أحضره باول فرنر. ولم لا؟
يوست :
ولكن ألم تستخدمه إلى الآن يا سيدي، لا شك أن لك أن تفعل بها ما شئت، على مسئوليتي أنا.
فون تلهايم :
حقا؟
يوست :
نعم، لقد سمع فرنر مني كيف يماطلك المماطلون في خزينة الدولة فيما تقدمت به إليها من طلبات، سمع ...
فون تلهايم :
أنني سأصبح بكل تأكيد شحاذا، إن لم أكن قد أصبحت شحاذا بالفعل. شكرا لك، يا يوست؛ فإن هذا الخبر قد جعل فرنر يقتسم معي نصيبه من الفقر. لكم يسرني أنني اكتشفت ذلك عن طريق التخمين. اسمع يا يوست، قدم لي كشفا بحسابك حالا؛ فلا بد أن نفترق.
يوست :
كيف ذلك؟ ماذا تقول؟
فون تلهايم :
اسكت. هناك شخص قادم.
المشهد الخامس (سيدة في ملابس الحداد - فون تلهايم - يوست)
السيدة :
معذرة، يا سيدي.
فون تلهايم :
عمن تبحثين يا سيدتي؟
السيدة :
أبحث عن الرجل الكريم الذي أتشرف بالتكلم معه، ألم تعد تعرفني؟ أنا أرملة نقيب الفرسان السابق الذي كان تحت إمرتك.
فون تلهايم :
رباه، سيدتي، لكم تغيرت!
السيدة :
لقد قمت لتوي من فراش المرض الذي رماني فيه حزني على فقد زوجي. لا بد أنني سأثقل عليك في هذا الوقت المبكر. أنا الآن مسافرة إلى الريف لآوي إلى أول من عرض علي مكانا ألوذ به، إلى صديقة لي، طيبة القلب وإن كانت مثلي سيئة الحظ.
فون تلهايم (إلى يوست) :
اذهب أنت، دعنا وحدنا.
المشهد السادس (السيدة - فون تلهايم)
فون تلهايم :
تحدثي على حريتك يا سيدتي الكريمة، ولا تخجلي أمامي من محنتك. هل يمكنني أن أقدم لك أية خدمة؟
السيدة :
سيدي الرائد ...
فون تلهايم :
إني أرثي لك، يا سيدتي الكريمة. هل يمكنني أن أقدم لك خدمة؟ إنك تعلمين أن زوجك كان صديقي. أقول كان صديقي، وقد كنت دائما ضنينا في منح هذه الصفة.
السيدة :
ومن يعلم خيرا مني أنك كنت خليقا بصداقته، وأنه كان هو أيضا خليقا بصداقتك؟ ولا شك أنك كنت ستصبح آخر فكرة طرأت على خاطره، وكان اسمك سيصبح آخر نبرة تنطق بها شفتاه المحتضرتان، لو لم تمنح الطبيعة القوية ذلك الامتياز الحزين لابنه التعس وزوجته التعسة.
فون تلهايم :
كفى يا سيدتي. كم كنت أحب أن أشاركك البكاء اليوم! ولكن لم تعد لدي دموع، خففي الوطء علي فإنك قد التقيت بي في ساعة يسهل فيها دفعي إلى الثورة على العناية. أي مارلوف! أي صديقي المخلص! عجلي سيدتي، بم تأمرين؟ لو كنت أستطيع أن أخدمك، لو كنت ...
السيدة :
ليس لي أن أرحل قبل أن أنفذ آخر وصية أوصى بها إلي. لقد تذكر قبل موته بقليل أن عليه دينا لك، وأنه يموت ولا يسدده، وقد توسل إلي أن أسدد هذا الدين من أول مبلغ أتلقاه نقدا. وقد بعت عربته وأتيت الآن لكي أسدد الصك الذي عليه.
فون تلهايم :
ماذا يا سيدتي الكريمة، أمن أجل هذا قدمت؟
السيدة :
نعم من أجل هذا، فاسمح لي أن أعيد لك المبلغ.
فون تلهايم :
لا تفعلي، يا سيدتي. مالروف مدين؟ هذا غير ممكن، دعيني أراجع دفتري (يخرج دفترا من جيبه ويبحث)
لا أجد شيئا.
السيدة :
لا بد أنك وضعت الصك في مكان ما ثم نسيته، ولكن الصك في حد ذاته لا يقدم ولا يؤخر. اسمح لي ...
فون تلهايم :
لا يا سيدتي، ليس من عادتي أن أنسى مكان مثل هذه الأشياء، فإن كنت لا أجد الصك، فمعنى هذا أنه لم يكن لدي صك أبدا أو أن الصك قد سدد؛ ولذا أعدته إلى صاحبه.
السيدة :
سيدي الرائد ...
فون تلهايم :
بكل تأكيد، يا سيدتي الكريمة، ليس في ذمة مارلوف أي دين لي. ولا يمكنني أن أتذكر مطلقا أنه قد استدان مني شيئا ما. على العكس يا سيدتي، لقد تركني مدينا له؛ فإنني لم أستطع أن أفعل شيئا أؤدي به حق رجل شاركني الشقاء والسعادة، شاركني الشرف والخطر ست سنوات. لكني لن أنسى أنه ترك وراءه ابنا، سيكون ابنه ابنا لي عندما يمكنني أن أصير له بمثابة الأب. إنما الاضطراب الذي انتهيت إليه الآن هو ...
السيدة :
أيها الرجل الكريم النفس، لا تحط من شأني. خذ المبلغ يا سيدي الرائد، حتى يستريح بالي على الأقل.
فون تلهايم :
وماذا تطلبين لراحة بالك أكثر من تأكيدي أن هذا المبلغ ليس من حقي؟ أم لعلك تريدين مني أن أسرق مال ابن صديقي اليتيم وهو لم يبلغ أشده بعد. إنها سرقة يا سيدتي، سيكون أخذ هذا المال سرقة بالمعنى الحقيقي للكلمة. المال ماله، فاستثمريه من أجله.
السيدة :
إنني أفهمك، وأرجو أن تعذرني فإنني لا أعرف كيف أتقبل المكارم. لكن من أين لك أن تعرف أنت أيضا أن الأم تصنع من أجل ابنها أكثر مما تصنع من أجل نفسها؟ سأذهب الآن ...
فون تلهايم :
اذهبي يا سيدتي، اذهبي. رافقتك السلامة والسعادة. ولست أرجوك أن تبعثي إلي بأخبارك؛ فإن أخبارك قد تصلني في وقت لا يمكنني فيه الاستفادة منها، ولكن هناك أمر آخر، لقد أوشكت أن أنسى أهم شيء يتعلق بك، إن لمارلوف الحق في مطالبة خزينة كتيبتنا السابقة بمستحقاته، ومستحقاته قانونية مثل مستحقاتي تماما، فإن صرفت لي مستحقاتي، تعين عليها صرف مستحقاته أيضا، وأنا ضامن لذلك.
السيدة :
آه! سيدي، لا، الأفضل أن أسكت، إن عقد النية على فعل حسنات مستقبلة يساوي في نظر السماء القيام بها بالفعل، فتقبل أجرك من السماء ومن دموعي (تخرج) .
المشهد السابع (فون تلهايم)
فون تلهايم :
أيتها المرأة الشجاعة المسكينة! لا ينبغي لي أن أنسى تمزيق الورقة (يخرج من دفتره الصغير أوراقا يمزقها)
فمن يضمن لي أن ضعفي لن يسول لي يوما استخدامها؟
المشهد الثامن (يوست - فون تلهايم)
فون تلهايم :
أأنت هنا؟
يوست (وهو يجفف عينيه) :
نعم.
فون تلهايم :
هل بكيت؟
يوست :
كنت أسجل حسابي في المطبخ، وكان المطبخ مليئا بالدخان. ها هو ذا حسابي يا سيدي.
فون تلهايم :
هاته.
يوست :
ترفق بي يا سيدي ، وإن كنت أعلم أن الناس لا يترفقون بك، لكن ...
فون تلهايم :
ماذا تريد؟
يوست :
إن توقعي أن أموت أهون علي من توقعي فراقك.
فون تلهايم :
لم يعد في استطاعتي أن أستخدمك؛ فقد أصبح علي أن أتعلم قضاء أموري بنفسي دون خدم (ينشر قائمة الحساب ويقرأ) «ما على السيد الرائد لي؛ مرتب ثلاثة شهور ونصف شهر، ومرتب الشهر الواحد ستة تالرات، فيكون المجموع واحدا وعشرين تالرا، مصروفات نثرية من أول هذا الشهر تالر واحد وسبعة جروشنات وتسعة فنكات»، حسن، أوافق على دفع راتب الشهر الجاري كاملا.
يوست :
الصفحة الثانية يا سيدي الرائد ...
فون تلهايم :
أهناك شيء آخر؟ (يقرأ) «ما أدين به للسيد الرائد: دفع للطبيب الجراح من أجلي خمسة وعشرين تالرا، ودفع تسعة وثلاثين تالرا لعلاجي ورعايتي أثناء استشفائي، ودفع بناء على رجائي مبلغ خمسين تالرا إلى أبي الذي حرقت ممتلكاته ونهبت، علاوة على حصانين أهداهما إليه من الغنيمة، فيكون المجموع الكلي مائة وأربعة عشر تالرا، يخصم منها اثنان وعشرون تالرا وسبعة جروشنات وتسعة فنكات، فيبقى علي للسيد الرائد واحد وتسعون تالرا وستة عشر جروشنا وثلاثة فنكات». إنك مجنون!
يوست :
بل إنني أعتقد أنني مدين لك بأكثر من ذلك، ولكن ذكري لديوني كلها لا معنى له إلا تضييع المداد هباء؛ إذ لا قدرة لي على سدادها، فإذا أردت الآن أن تخلع عني حلة الخدمة، تلك التي لم أحصل عليها هي الأخرى بكسبي، فخير لي أن أتمنى لو تركتني أموت في المستشفى.
فون تلهايم :
ماذا تظن في؟ إنك لا تدين لي بشيء، وسوف أوصي بك أحد معارفي، وستصير حالك عنده خيرا مما عندي.
يوست :
أترى أني لا أدين لك بشيء ومع ذلك تريد أن تنبذني؟
فون تلهايم :
لأنني لا أريد أن أصير مدينا لك بأي شيء.
يوست :
لهذا؟ لهذا فقط؟ من المؤكد أنني لست مدينا لك بشيء، ومن المؤكد أيضا أنه لا يمكن أن تصير مدينا لي بشيء، وكذلك لا بد أن يكون من المؤكد أنك لن تنبذني. افعل ما شئت يا سيدي الرائد، سأبقى عندك، لا بد أن أبقى عندك.
فون تلهايم :
وصلابة رأيك وعنادك وطبيعتك الثائرة العنيفة تجاه كل إنسان، أتعتقد أن كل ذلك لا يعني شيئا بالنسبة إليك. وفرحك اللئيم لما يصيب الآخرين من أذى، وحبك للانتقام؟
يوست :
قبح في ما شئت، فلن أتصور نفسي مع هذا أسوأ من كلبي؛ فقد كنت يوما في الشتاء الماضي أسير ساعة الغروب على القناة وسمعت أنينا ، فنزلت واتجهت إلى مصدر الصوت، واعتقدت أنني أوشك أن أنقذ طفلا، فإذا بي أخرج من الماء جروا، فقلت في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع خطاي ولست من محبي الكلاب، فطردته، لكن طردي لم يجد نفعا، فانهلت على الكلب ضربا حتى أبعده عني، فلم يجد ضربي شيئا، فلما جن الليل لم أدعه يدخل حجرتي، فظل على الباب قابعا عند العتبة. وكان كلما اقترب مني ركلته بعيدا، فيصيح وينظر إلي ملوحا بذنبه. وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقى من يدي كسرة خبز، فإنه كان لا يطيع غيري ولا يسمح إلا لي بلمسه. وكان يتنطط أمامي ويعرض علي دون طلب مني أفانينه. صحيح أنه كلب قبيح، ولكنه كلب طيب جدا. ولو ظل على هذه الحال فسوف أكف عن بغضي للكلاب.
فون تلهايم (على جانب) :
كما سأكف أنا عن كرهه! لا، لا وجود لبشر مجردين تماما من الإنسانية! يوست، سنظل معا.
يوست :
بكل تأكيد! وكنت تريد أن تقضي أمورك دون خدم؟ إنك تنسى جراحك، وتنسى أنك لا تستطيع الاعتماد إلا على ذراع واحدة. إنك لا تستطيع ارتداء ملابسك بمفردك؛ فأنا لا غنى عني لك، إنني - دون تمجيد لذاتي، يا سيدي الرائد - خادم إذا تأزمت الأزمة فوق تأزمها، خادم يستطيع أن يتسول وأن يسرق من أجل سيده.
فون تلهايم :
يوست، سنبقى معا.
يوست :
حسن!
المشهد التاسع (خادم - فون تلهايم - يوست)
الخادم :
هس! أيها الزميل!
يوست :
ماذا هنالك؟
الخادم :
هل يمكنك أن تدلني على الضابط الذي كان حتى أمس يقيم في هذه الحجرة؟ (يشير إلى الناحية التي أتى منها .)
يوست :
هذا أمر يسير بلا شك، بماذا أتيت له؟
الخادم :
بما نأتي به عادة عندما لا نأتي بشيء، بتحية؛ فقد سمعت سيدتي أنه أكره بسببها على ترك الحجرة، وسيدتي تعرف ما يصح وما لا يصح من أمور الحياة، لهذا أرسلتني لأقدم له المعذرة.
يوست :
إذن فقدم له المعذرة. ها هو ذا.
الخادم :
من هو؟ وبأي لقب ينادى؟
فون تلهايم :
يا صديقي، لقد سمعت ما أتيت من أجله. إن ذلك من سيدتك أدب زائد عن الحد، أقدره قدره، بلغها تحياتي. ما اسمها؟
الخادم :
اسمها؟ ينادونها الآنسة الكريمة.
فون تلهايم :
واسم عائلتها؟
الخادم :
لم أسمعه حتى الآن، ولم أسأل عنه؛ فهذا ليس من شأني. وأنا قد رتبت أمري على الانتقال من سيد إلى سيد كل ستة أسابيع على الأكثر، فلا حاجة بي إلى معرفة أسمائهم.
يوست :
أحسنت، يا زميلي!
الخادم :
وقد دخلت خدمة هذه السيدة منذ بضعة أيام في دريسدن. وهي هنا، على ما أعتقد، للبحث عن خطيبها.
فون تلهايم :
كفى يا صديقي، أردت أن أعرف اسم سيدتك، ولم أطلب معرفة أسرارها. انصرف!
الخادم :
أيها الزميل، إن سيدك هذا لا يصلح سيدا لي!
المشهد العاشر (فون تلهايم - يوست)
فون تلهايم :
اعمل يا يوست ما في وسعك لكي نخرج من هذا البيت. إن أدب هذه السيدة يؤرقني أكثر مما تثيرني وقاحة صاحب الفندق. خذ هذا الخاتم، آخر قطعة نفيسة بقيت لي، وما كانت أتوقع أبدا أني سأستخدمها على هذا النحو! ارهنه، خذ فيه ثمانين جنيها ذهبا صورة الملك فريدريش، ولن يزيد حساب صاحب الفندق عن ثلاثين. ادفع له حسابه وانقل متاعي. نعم، إلى أين؟ إلى حيث تريد، وخير الفنادق أرخصها، ثم قابلني في المقهى المجاور. سأذهب أنا الآن، أما أنت فعليك أن تحسن قضاء هذه المهمة.
يوست :
لا تقلق يا سيدي الرائد!
فون تلهايم (يعود) :
وبوجه خاص لا تنس مسدساتي المعلقة خلف السرير.
يوست :
لن أنسى شيئا.
فون تلهايم (يعود ثانيا) :
شيء آخر، خذ لي معك كلبك أيضا، أسمعت، يا يوست!
المشهد الحادي عشر
يوست :
الكلب نفسه لن يرغب في البقاء هنا، وسيتبعنا من تلقاء ذاته. هيه! هذا الخاتم الثمين أيضا كان لا يزال في حوزة سيده؟ كان يضعه في جيبه بدلا من إصبعه؟ يا صاحب الفندق الطيب، إننا لسنا من الفقر على نحو ما نبدو. وأنت أيها الخاتم العزيز الجميل سأرهنك لديه، لديه هو! وأنا أعرف أنه سيغتاظ لأنك لن تستهلك عن آخرك في داره! آه !
المشهد الثاني عشر (باول فرنر - يوست)
يوست :
هذا أنت يا فرنر! مرحبا بك يا فرنر! أهلا بك في هذه المدينة!
فرنر :
القرية الملعونة! لا يمكنني أن آلفها ثانية، شيء مفرح، يا أولاد، شيء مفرح، معي أموال طازجة! أين الرائد؟
يوست :
لا بد أن يكون قد قابلك؛ فإنه نزل السلم لتوه.
فرنر :
لقد أتيت من السلم الخلفي. هه، كيف حاله؟ أردت أن أحضر إلى هنا في الأسبوع الماضي، ولكن ...
يوست :
هه؟ فماذا أقعدك إذن؟
فرنر :
يوست، هل سمعت بالأمير هيراقليوس؟
يوست :
هيراقليوس؟ لا علم لي به.
فرنر :
ألا تعرف بطل الشرق العظيم؟
يوست :
أعرف حكماء الشرق الذين يدورون مع النجم في رأس السنة.
فرنر :
يا ابن آدم، يخيل لي أنك لا تقرأ الأخبار ولا الكتاب المقدس؟ ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني خلال الأيام القادمة؟ نحمد الله على أن الحرب ما زالت موجودة في مكان ما من الأرض. وقد طال الأمد على أملي في أن تعود الحرب إلى الاشتعال هنا، ولكن ها هم أولاء يجلسون ويعالجون جراح جلودهم. لا، لقد كنت جنديا، ولا بد أن أصبح جنديا من جديد! باختصار (وهو يتلفت خجلا بحثا عما إذا كان هناك من يسترق السمع)
بيني وبينك، يا يوست، سأرحل إلى فارس لأشترك في بضع معارك ضد الترك، تحت لواء صاحب السمو الأمير هيراقليوس.
يوست :
أنت؟
فرنر :
أنا، أنا كما تراني أمامك! لقد حارب أجدادنا الأتراك بهمة، وعلينا، إن كنا حقا مسيحيين مخلصين، أن نفعل مثلما فعلوا. طبعا أنا أعرف أن معركة ضد الترك لا يمكن أن يكون لها من المتعة نصف ما لمعركة ضد الفرنسيين، ولكنها أعظم أجرا في الدنيا والآخرة، لقد رصع لك الترك سيوفهم بالجواهر.
يوست :
لا، لا يمكن أن أسير ميلا واحدا لكي تقطع رأسي بسيف من هذا القبيل. وأنت لست من الجنون بحيث تترك مكانك في محكمة العمدية الجميلة.
فرنر :
سآخذها معي. هل لاحظت شيئا؟ لقد بيعت المزرعة الصغيرة.
يوست :
بيعت ؟
فرنر :
هس! هذه مائة دوكات تلقيتها بالأمس من الصفقة، وها أنا ذا أحضرها إلى الرائد.
يوست :
وما عساه يفعل بها؟
فرنر :
ما عساه يفعل بها؟ يأكلها، يلعب بها، يشرب بها، يصرفها كما يشاء. لا بد أن يحصل الرجل على مال، وكفاه أنهم يؤذونه في ماله، ولكني لو كنت مكانه لعرفت ما أفعل، لقلت في نفسي: ليأخذ الجلاد جميع من هنا، ولأذهب مع باول فرنر إلى فارس! بسرعة البرق! ولا بد أن الأمير هيراقليوس قد سمع بالرائد تلهايم، وإن كان لم يسمع بحارسه القديم باول فرنر.
أما موضوع بيوت القطط ...
يوست :
هل أحكيه لك؟
فرنر :
أنت الذي تحكيه لي؟ إني ألاحظ أن تغيرا لطيفا قد مس عقلك، فلست أريد أن ألقي بلآلئي إلى الخنازير. خذ هذه المائة دوكات، وأعطها للرائد. قل له أن يحفظها لي عنده. وسأذهب الآن إلى السوق؛ فقد أرسلت إليها بالتين من الشوفان، وسأعطي الرائد ما سأحصل عليه ثمنا لهما.
يوست :
فرنر، إن ما نويت فعله هو الخير تقوم به عن طيب خاطر، لكنا لا نريد مالك، فاحتفظ بدوكاتك، أما بستولاتك المائة فيمكنك أن تستعيدها كاملة متى شئت.
فرنر :
هكذا؟ أما زال عند الرائد مال؟
يوست :
لا.
فرنر :
هل اقترض من البعض مالا؟
يوست :
لا.
فرنر :
ومم يعيش إذن؟
يوست :
نطلب ممن نتعامل معهم أن يعطونا على الحساب، وعندما يرفضون ويقذفون بنا خارج الدار، نرهن ما بقي عندنا، ونستأنف عيشنا. اسمع يا باول، لا بد أن نوقع صاحب الفندق في شرك.
فرنر :
هل وضع في طريق الرائد شيئا؟ أنا معك هنا.
يوست :
ما رأيك لو ترصدنا له ليلا عند عودته من الحانة فأمسكنا به وضربناه ضربا مبرحا؟
فرنر :
ليلا؟ ترصدنا له؟ اثنان أمام واحد؟ ليس هذا بالأمر المقبول.
يوست :
أو لو حرقنا داره على رأسه؟
فرنر :
تخريب وحرق؟ يا رجل، من يسمعك يظن أنك كنت حمالا لا جنديا، أف!
يوست :
أو لو جعلنا ابنته عاهرة؟ وإن كانت دميمة شديدة الدمامة.
فرنر :
أوه، لا بد أنها كذلك منذ وقت طويل، ومهما يكن فلست بحاجة لإتمام هذا الأمر إلى مساعد، ولكن ماذا بك؟ ماذا حدث؟
يوست :
تعال، ستسمع عجبا؟
فرنر :
لا شك أن الشيطان قد عمل عمله معك.
يوست :
تماما، تعال.
فرنر :
الأحسن! أن تذهب إلى فارس، إلى فارس!
الفصل الثاني
المشهد الأول (مينا فون بارنهلم - فرنتسيسكا) (المنظر في حجرة الآنسة.)
الآنسة (في ملابس البيت تنظر إلى ساعتها) :
فرنتسيسكا، لقد بكرنا في النهوض من الفراش، وسيكون الوقت طويلا علينا.
فرنتسيسكا :
ومن يستطيع النوم في المدن الكبيرة اليائسة؟ العربات، حراس الليل، الطبول، القطط، الرقباء؛ كل أولئك لا يكفون عن الصخب والصياح والنقر والمواء والسباب، كما لو كانت الراحة آخر ما خلق الليل من أجله. قدحا من الشاي يا آنستي الكريمة؟
الآنسة :
لم يعد للشاي طعم في فمي.
فرنتسيسكا :
إذن أطلب منهم أن يعدوا شيئا من الكاكاو الذي أحضرناه معنا.
الآنسة :
دعيهم يعدوه لك أنت!
فرنتسيسكا :
لي؟ لست أحب أن أشرب وحدي، كما لا أحب أن أكلم نفسي. ولكن بهذه الطريقة سنعاني من طول الوقت. علينا إذن لكي نتغلب على الملل، أن نضع زينتنا ونجرب الرداء الذي نريد أن نقوم فيه بهجومنا الأول.
الآنسة :
ما هذا الحديث عن الهجوم؟ أنا إنما أتيت هنا لأطالب برفع راية التسليم.
فرنتسيسكا :
وسيادة الضابط الذي أخرجناه من حجرته وأرسلنا إليه نعتذر عن ذلك، لا شك أنه لا يتصف بأرق أساليب المعاملة، وإلا لبعث بمن يرجو له الحصول على شرف زيارتنا.
الآنسة :
ليس كل الضباط مثل تلهايم، والحق أنني أرسلت إليه بالتحية لأهيئ لنفسي فرصة الاستعلام عنه. فرنتسيسكا، إن قلبي يقول لي إن رحلتي ستكون سعيدة وإنني سأعثر عليه.
فرنتسيسكا :
القلب، يا آنستي الكريمة؟ لا يصح للإنسان أن يفرط في الثقة بقلبه؛ فإن القلب يحب أعظم الحب أن يحدثنا بما يجري به اللسان. ولو كان اللسان على نفس هذا الميل إلى الحديث بما يجري في القلب، لظهرت منذ وقت طويل موضة وضع الأقفال على الفم.
الآنسة :
ها! ها! يا لك ولحديثك عن الأفواه والأقفال! مثل هذه الموضة كانت تناسبني!
فرنتسيسكا :
الأفضل ألا تظهر الأسنان البديعة؛ لأن كل نظرات القلب تنطبع فوقها!
الآنسة :
ماذا؟ أأنت متحفظة لهذه الدرجة؟
فرنتسيسكا :
لا، يا آنستي الكريمة، ولكني وددت لو كنت أكثر تحفظا؛ فقليلا ما يتكلم المرء عما يتحلى به من فضائل، وكثيرا ما يتكلم عن تلك التي تعوزه.
الآنسة :
أترين يا فرنتسيسكا؟ لقد أبديت ملاحظة عظيمة جدا.
فرنتسيسكا :
أبديت؟ هذا مجرد خاطر طرأ ببالي، هل هذا إبداء؟
الآنسة :
أتعرفين لماذا تعجبني هذه الملاحظة؟ لأنها تنطبق كثيرا على حبيبي تلهايم.
فرنتسيسكا :
وأي شيء عندك لا ينطبق عليه؟
الآنسة :
العدو والحبيب يشهدان أنه أشجع رجل في الدنيا، ولكن من من الناس سمعه يتكلم عن الشجاعة؟ وقلبه أخلص قلب، ولكن الإخلاص والنبل كلمتان لا تجريان على لسانه قط.
فرنتسيسكا :
فعن أي الفضائل يتكلم إذن؟
الآنسة :
لا يتكلم عن أية فضيلة؛ فليست هناك فضيلة تنقصه.
فرنتسيسكا :
هذا ما أردت أن أسمعه.
الآنسة :
مهلا، يا فرنتسيسكا، تذكرت، إنه يتكلم كثيرا عن الاقتصاد، وبيني بينك يا فرنتسيسكا، أعتقد أن الرجل مبذر.
فرنتسيسكا :
وثمة شيء آخر يا آنستي الكريمة. لقد سمعته كثيرا يذكر إخلاصه لك وتمسكه بك. كيف ذلك؟ أيمكن أن يكون هذا السيد أيضا متملقا؟
الآنسة :
يا لك من منحوسة! أأنت جادة فيما تقولين يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
منذ متى توقف عن الكتابة إليك؟
الآنسة :
آخ! لم يكتب إلي منذ عاد السلام إلا مرة واحدة.
فرنتسيسكا :
وهذه زفرة أخرى ضد السلام. عظيم. كان المفروض أن يصلح السلام الشر الذي أحدثته الحرب، وها هو السلام يقتلع الخير الذي زرعته عدوته الحرب من باب الصدفة. ما كان للسلام أن يعاند هذا العناد. منذ متى عاد إلينا السلام؟ إن الوقت ليلوح للإنسان طويلا مسرفا في الطول إذ لم يحدث فيه إلا القليل المسرف في القلة من الأحداث. لا فائدة في عودة البريد إلى حالته الطبيعية؛ فليس هناك من يكتب لأنه ليس هناك من لديه شيء يكتب.
الآنسة :
كتب إلي: «لقد عاد السلام، وأنا أقترب من تحقيق آمالي.» أما أنه يكتب إلي بهذا مرة واحدة فقط ...
فرنتسيسكا :
إنه يضطرنا إلى أن نسرع نحن لنصل إلى تحقيق هذه الآمال. إذا وجدناه فسيكون عليه أن يدفع ثمن ذلك، ولكن ماذا لو كان الرجل قد حقق آماله في تلك الأثناء؟ وبلغنا هنا أنه ...
الآنسة (خائفة وثائرة) :
أنه مات؟
فرنتسيسكا :
مات بالنسبة إليك، يا آنستي الكريمة، بين ذراعي امرأة أخرى.
الآنسة :
إنك تعذبينني. انتظري يا فرنتسيسكا؛ فإنه سوف لا ينسى لك هذا. لا، بل ثرثري، وإلا غلبنا النعاس مرة ثانية. لقد تمزقت أوصال كتيبته تمزقا بعد عودة السلام. ومن يعلم في أي حيرة من أمر الحسابات والإثباتات قد وقع من جراء ذلك؟ من يعلم إلى كتيبة أخرى أو إلى إقليم ناء نقلوه؟ من يعلم أي ظروف؟ هناك من يقرع الباب.
فرنتسيسكا :
ادخل!
المشهد الثاني (صاحب الفندق - السابقتان)
صاحب الفندق (يطل برأسه من الباب) :
أتسمحين، يا صاحبة العصمة؟
فرنتسيسكا :
السيد صاحب الفندق؟ ادخل إذن.
صاحب الفندق (يعلق ريشة خلف أذنه ويمسك ورقة وأدوات كتابة في يده) :
أتيت، يا آنستي الكريمة، لأتمنى لك صباحا طيبا يتأكد فيه خضوعي (إلى فرنتسيسكا)
ولك كذلك يا بنيتي الجميلة.
فرنتسيسكا :
رجل مهذب!
الآنسة :
نشكرك.
فرنتسيسكا :
ونتمنى لك أيضا صباحا طيبا.
صاحب الفندق :
هل أسمح لنفسي بالسؤال، كيف أمضت الآنسة الكريمة الليلة الأولى تحت سقفي الرديء؟
فرنتسيسكا :
ليس السقف على ما تقول من الرداءة، لكن الأسرة كان ينبغي أن تكون أحسن.
صاحب الفندق :
ماذا أسمع؟ ألم تستريحا؟ ربما كان التعب الشديد من السفر.
الآنسة :
ربما.
صاحب الفندق :
مؤكد! مؤكد! وإلا فإن على أية حال إن كان أي شيء على نحو لا يتفق وما تحب الآنسة الكريمة، فأرجو أن تتفضلا بالأمر.
فرنتسيسكا :
حسنا! حسنا! نحن لسنا أغبياء، والفنادق أولى الأماكن التي لا يصح أن يكون الإنسان فيها غبيا، إنما كان تعبيرنا عما كنا نتمنى لو وجد.
صاحب الفندق :
ثم ننتقل الآن إلى (وهو يسحب الريشة من وراء أذنه) .
فرنتسيسكا :
إلى ماذا؟
صاحب الفندق :
لا شك أنكم، يا صاحبة العصمة، تعلمون بأوامر الشرطة الحكيمة عندنا .
الآنسة :
لا نعرف منها شيئا قط.
صاحب الفندق :
علينا نحن أصحاب الفنادق ألا نؤوي إنسانا مهما كان حسبه أو نسبه 24 ساعة دون أن نبلغ الجهة المختصة كتابة باسمه وموطنه وأخلاقه وأعماله هنا ومدة إقامته المتوقعة.
الآنسة :
عظيم جدا.
صاحب الفندق :
إذن فصاحبة العصمة سوف تتكرم (يتقدم إلى مائدة ويتهيأ للكتابة) .
الآنسة :
حبا وكرامة. اسمي ...
صاحب الفندق :
لحظة، صبرا (يكتب)
إنه في يوم 22 من أغسطس من العام الحالي، قد حلت بفندق «ملك إسبانيا»، اسمكم يا صاحبة العصمة؟
الآنسة :
الآنسة فون بارنهلم.
صاحب الفندق (يكتب) : «فون بارنهلم» قادمة من أين، يا صاحبة العصمة؟
الآنسة :
من ضياعي في ساكسونيا.
صاحب الفندق (يكتب) : «ضياعي في ساكسونيا»، من ساكسونيا، تقولين من ساكسونيا، يا صاحبة العصمة؟ من ساكسونيا؟
فرنتسيسكا :
هه؟ ولم؟ لعله ليس ذنبا في هذه الأرض أن يكون الإنسان قادما من ساكسونيا؟
صاحب الفندق :
ذنب؟ لا قدر الله، إذن لكان ذنبا جديدا كل الجدة؟ من ساكسونيا إذن؟ تقولين من ساكسونيا؟ من ساكسونيا الحبيبة، ولكن ساكسونيا، على حسب ما أعرف يا آنستي الكريمة، ليست صغيرة، بل فيها الكثير من ... ما اسم هذه؟ الكثير من المراكز والأقاليم؛ فإن شرطتنا دقيقة جدا يا آنستي الكريمة.
الآنسة :
فهمت، من ضياعي في تورنجن إذن.
صاحب الفندق :
من تورنجن، هذا أفضل، يا آنستي الكريمة، هذا أدق (يكتب ثم يقرأ) «الآنسة فون بارنهلم، قادمة من ضياعها في تورنجن، ومعها امرأة خادمة ورجلان خادمان.»
فرنتسيسكا :
امرأة خادمة؟ تعنيني أنا؟
صاحب الفندق :
نعم، يا بنيتي الجميلة.
فرنتسيسكا :
إذن فاكتب، يا سيدي، بدلا من امرأة خادمة، بنت خادمة؛ فقد سمعتك تقول أن الشرطة دقيقة جدا، وربما حدث سوء فهم قد يؤدي إلى مشاكل عندما أتقدم بطلب عقد قراني؛ فأنا ما زلت بنتا حقا وصدقا، اسمي فرنتسيسكا واسم أبي فيلليج؛ فرنتسيسكا فيلليج، وأنا أيضا من تورنجن. كان أبي يعمل طحانا في ضيعة من ضياع الآنسة الكريمة اسمها كلاين-رامسدورف، وقد آلت الطاحونة إلى أخي، والتحقت أنا صغيرة ببلاط الآنسة الكريمة ونشأت معها، عمرنا واحد، سنبلغ في يوم زفة الشموع القادم الواحد والعشرين، لقد تعلمت كل ما تعلمته الآنسة الكريمة، وأحب أن تعرفني الشرطة جيدا.
صاحب الفندق :
حسنا يا بنيتي الجميلة، سأثبت ذلك عندي لأبلغه إذا وجهت الشرطة أسئلة أخرى. والآن، يا آنستي الكريمة، أعمالكم هنا؟
الآنسة :
أعمالي؟
صاحب الفندق :
هل تلتمسون، يا صاحبة العصمة، شيئا لدى صاحب الجلالة الملك؟
الآنسة :
آه، لا!
صاحب الفندق :
أو لدى وزارة العدل العلية عندنا؟
الآنسة :
لا.
صاحب الفندق :
أو ...
الآنسة :
لا، لا. إنما أتيت لأمور خاصة بي.
صاحب الفندق :
حسنا، يا آنستي الكريمة، وما هي هذه الأمور الخاصة؟
الآنسة :
ما هي ... فرنتسيسكا، يلوح لي أن هذا محضر تحقيق.
فرنتسيسكا :
يا سيدي، لا شك أن الشرطة لا تطلب معرفة أسرار السيدات!
صاحب الفندق :
بلى، يا بنيتي الجميلة، الشرطة تريد معرفة كل شيء، وخاصة الأسرار.
فرنتسيسكا :
والآن، يا آنستي الكريمة، ما العمل؟ اسمع يا سيدي، لكن بشرط أن يبقى ما سأقوله لك سرا بيننا وبين الشرطة.
الآنسة :
ماذا ستقول له المجنونة؟
فرنتسيسكا :
أتينا لنخطف من الملك أحد ضباطه.
صاحب الفندق :
كيف؟ ماذا؟ بنيتي! بنيتي!
فرنتسيسكا :
أو لنجعل أحد الضباط يخطفنا. يستويان.
الآنسة :
فرنتسيسكا، هل جننت؟ يا سيدي، هذه الشقية تمزح معك.
صاحب الفندق :
هذا ما لا أرجوه. يمكنها أن تمزح مع شخصي المتواضع ما شاءت، ولكن ليس لها أن تفعل ذلك مع شرطتنا الموقرة.
الآنسة :
اسمع يا سيدي، إنني لا أفهم شيئا في معالجة هذه الشئون؛ لذلك فكرت أن تؤجل هذه الكتابة حتى يأتي خالي. وقد قلت لك بالأمس السبب الذي أخره عن الحضور معنا، وهو أن حادثة حدثت لعربته على مسيرة ميلين من هنا. وقد أتيت مسبقة؛ لأنه لم يرد أن يكون الحادث سببا في تعطيلي ليلة أخرى، وسيصل هو على أكثر تقدير بعدي بأربع وعشرين ساعة.
صاحب الفندق :
طيب يا آنستي الكريمة، لننتظره.
الآنسة :
سيكون في إمكانه الإجابة على أسئلتك خيرا مني؛ فهو يعرف لمن يكشف نفسه وإلى أي حد، ويعرف ما يصح أن يبين من أموره وما ينبغي أن يستر منها.
صاحب الفندق :
عظيم. طبعا، طبعا؛ فالإنسان لا يصح أن يطلب من فتاة شابة (ينظر إلى فرنتسيسكا نظرة معبرة)
أن تعالج جادة موضوعا جادا مع أناس جادين.
الآنسة :
والحجرات الخاصة به قد جهزت يا سيدي؟
صاحب الفندق :
تماما يا آنستي الكريمة، تماما، إلا حجرة واحدة.
فرنتسيسكا :
حجرة لا بد أنك ستطرد منها رجلا كريما؟
صاحب الفندق :
يبدو أن الخادمات الساكسونيات، يا آنستي الكريمة، رحيمات القلب؟
الآنسة :
صحيح، يا سيدي؛ فإنك لم تحسن صنعا، كان الأفضل ألا تقبلنا.
صاحب الفندق :
لماذا، يا آنستي الكريمة، لماذا؟
الآنسة :
لقد سمعت أن الضابط الذي أخرج من الحجرة من أجلنا ...
صاحب الفندق :
إنه لا يعدو أن يكون ضابطا محالا إلى الاستيداع، يا آنستي الكريمة.
الآنسة :
ولو.
صاحب الفندق :
ومشرفا على الإفلاس.
الآنسة :
هذا يضاعف السوء. يقال إنه رجل ذو قيمة.
صاحب الفندق :
قلت لتوي إنه محال إلى الاستيداع.
الآنسة :
الملك لا يمكن أن يعرف كل الرجال ذوي القيمة.
صاحب الفندق :
بل يعرفهم، بكل تأكيد، يعرفهم جميعا.
الآنسة :
لذا فلا يستطيع أن يكافئهم جميعا.
صاحب الفندق :
لو كانوا عاشوا على نحو يجلب المكافأة لنالوا المكافأة جميعا. لكن السادة عاشوا أثناء الحرب كما لو كانت الحرب ستدوم أبدا، كما لو كان «مالك» و«مالي» قد انتهى إلى الأبد. والآن تغص بهم الفنادق والمطاعم، وعلى أصحاب الفنادق أن يأخذوا حذرهم منهم. أما أنا فقد خلصت بحقي من هذا الرجل على نحو طيب. صحيح أنه لم يعد لديه مال، ولكنه ما زال يملك أشياء لها قيمة مالية، وهذا يجعلني أبقيه عندي وأنا مطمئن شهرين أو ثلاثة. وإنما الأفضل هو الأفضل دائما. على فكرة، يا آنستي الكريمة، هل تفهمين في الجواهر؟
الآنسة :
فهما لا يجاوز الفهم العادي.
صاحب الفنادق :
هل يستعصي شيء على فهم صاحبة العصمة؟ أريد أن أريك خاتما، خاتما ثمينا. وأنت تتختمين بخاتم جميل جدا، كلما تأملته زاد عجبي فإنه يشبه خاتمي شبها كاملا. آه، انظري، انظري (وهو يخرجه من الكيس ويقدمه إلى الآنسة) ، يشع نارا، الماسة الوسطى تزيد على خمسة قراريط.
الآنسة (تتأمله) :
أين أنا؟ ماذا أرى؟ هذا الخاتم ...
صاحب الفندق :
يساوي ألفا وخمسمائة تالر، بيننا كإخوان.
الآنسة :
فرنتسيسكا، انظري.
صاحب الفندق :
لم أتردد لحظة في إقراض ثمانين بستولة برهانه.
الآنسة :
ألا تتعرفين عليه يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
هو بعينه. من أين لك هذا الخاتم يا سيدي؟
صاحب الفندق :
هه يا بنيتي؟ عسى ألا يكون لها حق فيه؟
فرنتسيسكا :
لا حق لنا فيه؟ لا بد أن اسم الآنسة محفور على علبته من الداخل. تأكدي يا آنسة.
الآنسة :
إنه هو؛ إنه هو. كيف وصلت إلى هذا الخاتم يا سيدي؟
صاحب الفندق :
أنا؟ بأكثر الطرق في الدنيا أمانة. يا صاحبة العصمة، عسى ألا تفكري في الزج بي إلى الخسارة والشقاء؟ فمن أين لي أن أعرف المصدر الحقيقي الذي انحدر منه الخاتم؟ لقد غيرت أشياء كثيرة، في أثناء الحرب، ملاكها مرارا، تارة بمعرفة صاحبها وتارة بغير معرفته. كانت الحرب حربا. ولا بد أن خواتم كثيرة قد عبرت الحدود الساكسونية. رديه إلي، يا آنسة، أعيديه إلي.
فرنتسيسكا :
أجب أولا، ممن أخذت الخاتم؟
صاحب الفندق :
من رجل، لا أتوقع أنه يرتكب مثل هذه الأفعال، من رجل طيب.
الآنسة :
من خير رجل تحت الشمس، إن كنت تلقيته من صاحبه. إيتني بالرجل فورا؛ فإما أنه هو هو، أو هو على الأقل يعرفه.
صاحب الفندق :
من هذا؟ آتي بمن يا صاحبة العصمة؟
فرنتسيسكا :
ألا تسمع؟ الرائد الذي نبحث عنه.
صاحب الفندق :
الرائد؟ صحيح، إنه رائد، ذلك الذي كان يسكن في الحجرة قبلكم، وأخذت منه هذا الخاتم.
الآنسة :
الرائد فون تلهايم؟
صاحب الفندق :
فون تلهايم، نعم. أتعرفينه؟
الآنسة :
أأعرفه؟ هل هو هنا؟ تلهايم هنا؟ هو، هو كان يسكن في هذه الحجرة، هو هو رهن هذا الخاتم لديك؟ كيف انتهى الرجل إلى هذا الحال؟ أين هو؟ هل هو مديون لك؟ فرنتسيسكا، إلي بصندوق المال، افتحي (فرنتسيسكا تضع صندوق المال على المنضدة وتفتحه)
كم يبلغ دينه؟ هل هو مدين لآخرين؟ هات بدائنيه جميعا. هنا مال. هنا صكوك. كل هذا ملكه.
صاحب الفندق :
ماذا أسمع؟
الآنسة :
أين هو؟ أين هو؟
صاحب الفندق :
كان هنا قبل ساعة.
الآنسة :
أيها الرجل القبيح، كيف أمكنك أن تكون معه خشنا، غليظا، فظا إلى هذا الحد؟
صاحب الفندق :
سامحيني، يا صاحبة العصمة.
الآنسة :
أسرع، إيتني به فورا.
صاحب الفندق :
ربما ما زال خادمه هنا. أتريدين يا صاحبة العصمة أن يقوم بالبحث عنه؟
الآنسة :
أريد؟ أسرع، اجر، سأنسى لك، لقاء هذه الخدمة، مسلكك القبيح معه.
فرنتسيسكا :
أسرع، يا سيدي، عجل، اخرج (تدفعه إلى الخارج ).
المشهد الثالث (الآنسة - فرنتسيسكا)
الآنسة :
لقد استعدته يا فرنتسيسكا. أترين؟ لقد استعدته. لا أعرف من فرط الفرحة أين أنا. افرحي معي يا عزيزتي فرنتسيسكا، ولكن، لماذا أنت؟ بل افرحي، عليك أن تفرحي معي. تكلمي يا فرنتسيسكا، ماذا تحبين أن أقدم لك؟ ماذا يعجبك من حاجياتي، ماذا تحبين؟ خذي ما يحلو لك، المهم أن تفرحي. إنني أعرف أنك سوف لا تأخذين شيئا. انتظري (تمد يدها في الصندوق)
هنا يا عزيزتي فرنتسيسكا (تعطيها مالا) ، اشتري لك ما تحبين، واطلبي زيادة إن لم يكف المبلغ. المهم أن تفرحي معي؛ فمن المحزن أن يفرح المرء وحده. هه، خذي أقول.
فرنتسيسكا :
أخذه الآن سرقة يا آنستي الكريمة؛ فأنت سكرانة من الفرح، سكرانة.
الآنسة :
يا بنت، أنا في نشوة شريرة، خذي وإلا (تدس المبلغ في يدها عنوة)
ألا تشكرين؟ انتظري، حسن أنني تذكرت (تدس يدها في الصندوق مرة ثانية)
هذا المبلغ يا عزيزتي فرنتسيسكا ضعيه جانبا لنعطيه لأول جندي جريح يفاتحنا بالكلام.
المشهد الرابع (صاحب الفندق - الآنسة - فرنتسيسكا)
الآنسة :
هه؟ هل هو قادم ؟
صاحب الفندق :
الرجل العنيد الجلف.
الآنسة :
من؟
صاحب الفندق :
خادمه. إنه يرفض الذهاب إليه.
فرنتسيسكا :
هات هذا الصعلوك إلى هنا؛ فأنا أعرف خدم الرائد كلهم، يا ترى من يكون هذا؟
الآنسة :
إيتني به بسرعة؛ فإنه عندما يرانا سيذهب إليه (صاحب الفندق يخرج) .
المشهد الخامس (الآنسة - فرنتسيسكا)
الآنسة :
لا أقوى على انتظار حلول تلك اللحظة. أما أنت، يا فرنتسيسكا، فباردة، لا يبدو عليك أي تأثر ؟ ألا تريدين أن تفرحي معي؟
فرنتسيسكا :
كنت أود ذلك من كل قلبي، لو ...
الآنسة :
لو؟
فرنتسيسكا :
لقد وجدنا الرجل، ولكن في أية حالة؟ إن صح ما سمعناه، فلا بد أن سوءا أصابه، لا بد أنه تعس، وهذا ما يؤلمني.
الآنسة :
يؤلمك؟ دعيني أعانقك على هذا يا حبيبتي ورفيقة طفولتي. سوف لا أنسى لك هذا. أنا متيمة، أما أنت فطيبة القلب.
المشهد السادس (صاحب الفندق - يوست - الآنسة - فرنتسيسكا)
صاحب الفندق :
أتيت به بشق الأنفس.
فرنتسيسكا :
وجه غريب، لا أعرفه.
الآنسة :
يا صديقي، هل أنت عند الرائد فون تلهايم؟
يوست :
نعم.
الآنسة :
أين سيدك؟
يوست :
ليس هنا.
الآنسة :
لكنك تعرف أين تجده؟
يوست :
نعم.
الآنسة :
ألا تريد أن تأتي به بسرعة؟
يوست :
لا.
الآنسة :
إنك عندما تأتي به إلي تسدي إلي جميلا.
يوست :
آي.
الآنسة :
وتسدي إلى سيدك جميلا.
يوست :
ربما لا يكون كذلك.
الآنسة :
ولم تتوقع ذلك؟
يوست :
ألست السيدة الغريبة التي بعثت إليه هذا الصباح بالتحية؟
الآنسة :
بلى.
يوست :
إذن فقد أصبت.
الآنسة :
هل يعرف سيدك اسمي؟
يوست :
لا، ولكنه لا يحتمل السيدات المفرطات في التأدب، كما لا يحتمل أصحاب الفنادق المفرطين في الوقاحة.
صاحب الفندق :
لا بد أنك تعنيني؟
يوست :
نعم.
صاحب الفندق :
لا تحمل الآنسة وزر ذلك وأحضره لها بسرعة.
الآنسة (لفرنتسيسكا) :
فرنتسيسكا، أعطيه شيئا.
فرنتسيسكا (تدس ليوست مالا في يده) :
لسنا نطلب منه خدمة مجانا.
يوست :
وأنا لا أطلب مالا دون تأدية خدمة.
فرنتسيسكا :
شيء لقاء شيء.
يوست :
ولكني لا أستطيع؛ فقد أمرني سيدي بنقل المتاع إلى مكان آخر، هذا هو ما أفعله الآن وأرجو ألا تعوقوني عن عملي. وعندما أفرغ، سأقول له أن يأتي إلى هنا. وهو يجلس الآن في المقهى المجاور، ولعله يأتي إن لم يجد هناك شيئا أفضل يفعله (يهم بالذهاب) .
فرنتسيسكا :
انتظر. الآنسة الكريمة هي أخت السيد الرائد.
الآنسة :
نعم، نعم، أخته.
يوست :
ولكني أعرف جيدا أن الرائد ليست له أخت. وقد أرسلني مرتين خلال ستة أشهر إلى أسرته في كورلاند. طبعا هناك أنواع مختلفة في الأخوات.
فرنتسيسكا :
قليل الحياء.
يوست :
ألا يجوز أن يقل الإنسان حياءه حتى يدعه الآخرون ينصرف؟ (ينصرف) .
فرنتسيسكا :
إنه صعلوك.
صاحب الفندق :
ألم أقل ذلك من قبل، لكن دعوه؛ فقد عرفت أين سيده وسأحضره أنا توا، ولكني أتوسل إليك يا صاحبة العصمة أن تجعلي الرائد يسامحني على ما أصابني من نحس حملني على التصرف، ضد إرادتي، حيال رجل رفيع القيمة.
الآنسة :
اذهب الآن بسرعة، سأصلح كل هذا يا سيدي (صاحب الفندق يخرج)
فرنتسيسكا، الحقي به وقولي له ألا يبلغ الرائد اسمي (فرنتسيسكا تخرج للحاق بصاحب الفندق) .
المشهد السابع (الآنسة - ثم تأتي فرنتسيسكا)
الآنسة :
لقد استعدته. هل أنا وحدي؟ فلأستغل انفرادي (تضم يديها للصلاة)
أنا لست وحدي (ترفع بصرها إلى أعلى) ، إن فكرة حمد واحدة يرفعها الإنسان إلى السماء لهي أكمل صلاة. لقد استعدته، لقد استعدته (تبسط ذراعيها)
أنا سعيدة، فرحانة. هل هناك أحب إلى الخالق من التطلع إلى مخلوق فرحان؟ (فرنتسيسكا تأتي) . عدت يا فرنتسيسكا؟ قلت إنك تتألمين من أجله؟ أما أنا فلا أتألم له، حتى الشقاء يطيب لي. ربما جردته السماء من كل شيء، لتمنحه في كل شيء.
فرنتسيسكا :
سيأتي بين لحظة وأخرى. وما زلت، يا آنستي الكريمة، بملابس البيت، فما رأيك أن تغيري ملابسك بسرعة؟
الآنسة :
اذهبي، من فضلك؛ فسوف يراني من الآن فصاعدا على هذا النحو أكثر من رؤيته إياي في زينتي.
فرنتسيسكا :
أوه، إنكما تعرفان بعضكما البعض، يا آنستي.
الآنسة (بعد بعض التفكير) :
حقا، لقد أصبت.
فرنتسيسكا :
عندما نكون جميلات أصلا، فإننا نبدو أكثر جمالا عندما نتخلى عن أدوات الزينة .
الآنسة :
هل لا بد أن نكون جميلات؟ لا، ربما كان ألزم أن نتصور أننا جميلات. لا، المهم أن أكون في نظره، في نظره هو جميلة. فرنتسيسكا، لو كانت البنات جميعا مثلي تحس بما يعتمل في نفسي هذه الساعة، فمعنى هذا أننا مخلوقات عجيبة رقيقة ومتكبرة، فاضلة وباطلة، شهوية وتقية. لا شك أنك لن تفهميني، حتى أنا لا أفهم نفسي. الفرحة تسبب لي الترنح والدوار .
فرنتسيسكا :
تمالكي نفسك، يا آنستي، أسمع خطى قادم.
الآنسة :
أتمالك نفسي؟ أينبغي أن ألقاه هادئة؟
المشهد الثامن (فون تلهايم - صاحب الفندق - الآنسة - فرنتسيسكا)
فون تلهايم (يدخل وما إن يراها حتى يندفع نحوها) :
آه، حبيبتي مينا.
الآنسة (مندفعة نحوه) :
آه، حبيبي تلهايم.
فون تلهايم (يقف فجأة ثم يتراجع) :
سامحيني يا آنستي الكريمة. أأجد الآنسة فون بارنهلم هنا؟
الآنسة :
لا يمكن أن تفاجأ بشيء أكثر من هذا (تقترب منه فيبتعد عنها) أنا أسامحك على مناداتي «حبيبتي مينا»؟ بل لتسامحك السماء على مناداتك إياي الآنسة فون بارنهلم.
فون تلهايم :
آنستي الكريمة (ينظر جامدا إلى صاحب الفندق ثم يهز كتفيه) .
الآنسة (ترى صاحب الفندق فتشير إلى فرنتسيسكا إشارة) :
سيدي.
فون تلهايم :
إذا لم نكن قد أخطأنا كلانا.
فرنتسيسكا (لصاحب الفندق) :
هه، من هذا الذي أتيت به يا سيدي؟ تعال، أسرع، حتى نبحث عمن نطلبه.
صاحب الفندق :
أليس هذا من تطالبون؟ هه، بلى، إنه هو.
فرنتسيسكا :
لا، هيا، أسرع، لم أقل للآنسة ابنتك صباح الخير بعد.
صاحب الفندق :
آه، هذا شرف كبير (دون أن يتحرك من مكانه) .
فرنتسيسكا (تمسك به) :
تعال، لنعد قائمة الأطعمة. أرني ما سنأكل اليوم.
صاحب الفندق :
سنقدم لكم، أولا ...
فرنتسيسكا :
اسكت، اسكت؛ فإن الآنسة إذا عرفت الآن ما سنأكل في الغذاء، راحت شهيتها، تعال، قل لي وحدي (تخرجه بالقوة) .
المشهد التاسع (فون تلهايم - الآنسة)
الآنسة :
هه؟ أما زلنا نخطئ الواحد الآخر؟
فون تلهايم :
لقد أرادت السماء هذا، ولكن ليس هناك غير واحدة، وأنت هي.
الآنسة :
يا لها من ظروف! ما نتبادله من حديث يصح أن يسمعه كل إنسان.
فون تلهايم :
أنت هنا؟ عم تبحثين هنا يا صاحبة العصمة؟
الآنسة :
لا أبحث عن أكثر من هذا (تندفع نحوه فاتحة ذراعيها) ، لقد وجدت كل ما كنت أبحث عنه.
فون تلهايم (مبتعدا) :
لقد كنت تبحثين عن رجل سعيد، عن رجل جدير بحبك. وها أنت ذي تجدين رجلا بائسا.
الآنسة :
ألم تعد تحبني؟ أتحب أخرى؟
فون تلهايم :
آه! ما أحبك يا آنستي من استطاع أن يحب غيرك بعدك.
الآنسة :
لقد نزعت من روحي شوكة واحدة من الأشواك التي تعذبها. وما الفرق عندي إن ضاع مني قلبك، إن بين عدم اكتراثك بي واستفزازك لي؟ فأنت لا تحبني ولا تحب غيري؟ ما أبأسك من رجل إن لم تكن تحب شيئا!
فون تلهايم :
أصبت، يا آنستي الكريمة. ليس للرجل البائس أن يحب شيئا. وهو يستحق بؤسه، إذا لم يتمكن من التغلب على نفسه غلبة يعرف كيف يبقيها إبقاء، إنه يستحق بؤسه إذا قبل راضيا أن يكون لمن يحب نصيب في بؤسه. يا لصعوبة هذا التغلب على النفس! منذ أمرني العقل وألزمتني الضرورة بأن أنسى مينا فون بارنهلم، بذلت جهدا، يا له من جهد! وأوشكت منذ قليل أن أداعب أمل نجاح جهدي، وأن أعتقد أنه لم يكن جهدا ضاع إلى الأبد هباء، ثم إذا بك تظهرين، يا آنستي.
الآنسة :
أصحيح ما أفهم؟ قف يا سيدي. دعني أرى أين نحن قبل أن نستمر في الخطأ. هلا أجبت عن سؤال واحد؟
فون تلهايم :
أجيب على كل سؤال يا آنستي.
الآنسة :
تجيبني دون تحوير أو تدوير؟ تجيبني واضحا بلا أو نعم؟
فون تلهايم :
أفعل إن استطعت.
الآنسة :
ستستطيع. حسنا، بغض النظر عن الجهد الذي تبذله لتنساني، هل ما زلت تحبني يا تلهايم؟
فون تلهايم :
يا آنستي، هذا السؤال ...
الآنسة :
لقد وعدتني ألا تجيب بغير نعم أو لا.
فون تلهايم :
وأضفت: إن استطعت.
الآنسة :
أنت تستطيع. لا بد أن تعرف ما يدور بقلبك. أما زلت تحبني يا تلهايم؟ نعم أو لا؟
فون تلهايم :
إذا كان قلبي ...
الآنسة :
نعم أم لا؟
فون تلهايم :
نعم.
الآنسة :
نعم؟
فون تلهايم :
نعم، نعم، لكن ...
الآنسة :
صبرا. أنت ما زلت تحبني، هذا يكفيني. ما هذه اللغة التي وقعت فيها وأنا أحادثك؟ إنها لغة منفرة، حزينة، معدية. سأعود إلى لغتي. أي حبيبي التعس! كيف تكون تعسا وأنت تحبني وتعرف أن مينا لك؟ اسمع الآن، أي مخلوق موهوم غريب الأطوار كانت، وما زالت، حبيبتك مينا؟ كانت تحلم، وما زلت تحلم ، بأنها هي سعادتك كلها. أسرع وأخرج من جعبتك ما لديك من بؤس، حتى يمكنها أن تقارن هذه السعادة بذلك البؤس أيهما يرجح، هه؟
فون تلهايم :
أنا لم أعتد الشكوى، يا آنستي.
الآنسة :
حسنا؛ فليس هناك من شيء يسوءني في الجندي، بعد المبالغة، أكثر من الشكوى، ولكن هناك طريقة هادئة حليمة يصح أن يتحدث بها الجندي عن إقدامه وعن شكواه.
فون تلهايم :
طريقة هي في أساسها المبالغة والشكوى.
الآنسة :
إذن ما كان لك، أيها المتمسك بالحق، أن تسمي نفسك تعسا. إما سكوت كامل أو تصريح كامل. قلت إن العقل والضرورة أمليا عليك أن تنساني؟ وأنا ممن يعشقون العقل وللضرورة عندي احترام كبير، فخبرني كيف كان هذا العقل معقولا وكيف كانت هذه الضرورة ضرورية.
فون تلهايم :
حسنا. إذن فاسمعي يا آنستي. إنك تنادينني تلهايم، والاسم صحيح. لكنك تعتقدين أنني ذلك التلهايم الذي كنت تعرفينه في وطنك، ذلك الرجل الباهر الطموح الممتلئ كلفا بالشهرة، ذلك الرجل المتمكن من جسمه كله وروحه كلها، الذي انفتحت أمامه حواجز الرفعة والسعادة، فأمل أن يزيد كل يوم جدارة بقلبك ويدك، وإن لم يكن آنئذ جديرا بك. أنا لست هذا التلهايم تماما كما أني لست أبي. ذلك التلهايم تماما كذلك الأب كان وانتهى. أما أنا فتلهايم المحال إلى الاستيداع، تلهايم المشوه، الشحاذ. لقد كنت مخطوبة يا آنستي لذلك التلهايم الآخر. أتريدين أن تبقى خطبتك لهذا التلهايم الحالي؟
الآنسة :
هذا أمر يلوح تراجيديا، ولكن، يا سيدي، حتى أجد التلهايم الأول - وإني لمتيمة إلى درجة الجنون بالاثنين جميعا - سيخرجني هذا التلهايم من محنتي. هات يدك، يا حبيبي الشحاذ (تمسكه من يده) .
فون تلهايم (يضع يده الأخرى بالقبعة على وجهه ويتحول عنها) :
هذا كثير، أين أنا؟ دعيني يا آنسة، طيبتك تعذبني. دعيني.
الآنسة :
ماذا بك؟ إلى أين تنصرف؟
فون تلهايم :
أنصرف عنك.
الآنسة (تجذب يده إلى صدرها) :
أنت في حلم.
فون تلهايم :
اليأس سيرميني إلى قدميك جثة هامدة.
الآنسة :
تنصرف عني؟
فون تلهايم :
عنك. على ألا أعود لرؤياك ثانية، أبدا، أبدا . أو أصمم، أصمم تصميما، على ألا أرتكب دناءة. ولا أدعك ترتكبين فعلا أحمق. مينا، دعيني (يفلت منها عنوة) .
الآنسة (وراءه) :
مينا تتركك؟ تلهايم. تلهايم.
الفصل الثالث
المشهد الأول
المنظر: القاعة
يوست (يمسك في يده خطابا) :
هكذا أضطر إلى العودة إلى الدار اللعينة. خطاب صغير من سيدي إلى الآنسة الكريمة، التي تدعي أنها أخته. لا شك أن هناك أمرا يدور في الخفاء؛ فإن نقل الخطابات لا ينتهي إلى نهاية. كم وددت لو تخلصت من هذا الخطاب الصغير، لكني لا أحب أن أدخل الحجرة. إن تلك المخلوقة المتعبة تسأل كثيرا وأنا أجيب كارها كل الكره. ها هو ذا الباب ينفتح، تماما كما تمنيت، وتخرج منه قطيطة الحجرة.
المشهد الثاني (فرنتسيسكا - يوست)
فرنتسيسكا (تعود فتطل داخل الباب الذي خرجت منه) :
لا تهتمي. سألتفت إلى ذلك. هه (ترى يوست)
ها أنا ذي أصطدم بشيء الآن. لكن لا فائدة مع هذا البهيم.
يوست :
خدامك.
فرنتسيسكا :
لا أحب أن يكون لي مثل هذا الخادم.
يوست :
هكذا، هكذا، إذن فسامحيني على كلمتي. معي خطاب صغير من سيدي إلى سيدتك الآنسة الكريمة، الأخت. ألم تكن كذلك؟ أخته.
فرنتسيسكا :
هات (تنتزع الخطاب من يده) .
يوست :
عسى أن تتكرمي - وهذا رجاء من سيدي - بتوصيله، ثم بعد ذلك، عسى أن تتكرمي، وهذا رجاء من سيدي، وأكرر حتى لا تظني أن الرجاء مني.
فرنتسيسكا :
ماذا إذن؟
يوست :
سيدي يفهم هذا الأمور المعقدة. إنه يعرف أن الطريق إلى الآنسات هو الخادمات؛ هذا ظني أنا. وعسى أن تتكرم البنت - وهذا أيضا رجاء من سيدي - فتبلغه إن كان من الممكن أن يحظى بمتعة التحدث إليها نحو ربع ساعة.
فرنتسيسكا :
أنا؟
يوست :
سامحيني على مناداتك بلقب غير لائق لك. نعم، أقصدك أنت. ربع ساعة فقط، ولكن على انفراد، سرا، وحدكما؛ فإن لديه شيئا هاما يريد أن يخبرك به.
فرنتسيسكا :
حسنا. وأنا كذلك لدي الكثير أريد أن أفضي به إليه. يمكنه أن يأتي وسأكون تحت أمره.
يوست :
ولكن، متى يأتي؟ ما أنسب وقت لديك؟ في ساعة الغروب ؟
فرنتسيسكا :
ماذا تقول؟ لسيدك أن يأتي متى شاء. هيا انصرف إذن.
يوست (يهم بالانصراف) :
بكل سرور.
فرنتسيسكا :
لكن اسمع. كلمة واحدة. أين خدم الرائد الآخرون؟
يوست :
الآخرون؟ هنا وهناك وفي كل مكان.
فرنتسيسكا :
أين فيلهلم؟
يوست :
الخادم الخاص؟ تركه الرائد يرحل.
فرنتسيسكا :
هكذا؟ وفيليب، أين هو؟
يوست :
الصياد؟ استودعه الرائد بعض معارفه.
فرنتسيسكا :
لأنه لا يصطاد الآن، بلا شك. لكن مارتن؟
يوست :
الحوذي؟ انصرف.
فرنتسيسكا :
وفريتس؟
يوست :
الساعي؟ ترقى.
فرنتسيسكا :
وأين كنت أنت عندما كان الرائد عندنا في تورنجن في المقر الشتوي؟ أظنك لم تكن معه؟
يوست :
كنت أعمل لديه سايسا، ولكني كنت في المستشفى.
فرنتسيسكا :
سايس؟ وماذا أنت الآن؟
يوست :
الكل في الكل، خادم خاص وصياد وساع وسايس.
فرنتسيسكا :
لا بد أن أعترف لك بدهشتي. أيبعد الإنسان هؤلاء الرجال الطيبين المجدين ولا يستبقي إلا أردأهم؟ كم أريد أن أعرف ما يجده فيك سيدك!
يوست :
ربما يجد أنني رجل مخلص.
فرنتسيسكا :
آه، ليس هناك أقل من أن يكون الإنسان مخلصا فقط. كان فيلهلم إنسانا من نوع آخر. سيدك تركه يرحل؟
يوست :
نعم، تركه؛ إذ إنه لم يستطع أن يعيده.
فرنتسيسكا :
كيف؟
يوست :
أوه، لا بد أن فيلهلم يظهر في رحلاته الآن بمظهر العظماء؛ فإن ملابس الرائد كلها معه.
فرنتسيسكا :
ماذا؟ ألم يمر بها؟
يوست :
لا يمكن أن نقول إنه لم يمر بها، ولكن عندما خرجنا من نورنبرج لم يلحق بنا.
فرنتسيسكا :
أوه، اللص.
يوست :
لقد كان إنسانا كاملا. كان يحسن تصفيف الشعر وحلاقة الذقن والحديث بالفرنسية، ومغازلة البنات. أليس كذلك؟
فرنتسيسكا :
ثم إنني لو كنت مكان الرائد لما تركت الصياد ينصرف، فإن لم يكن يريد استخدامه صيادا، فهو على أي حال شاب نشيط مجتهد. استودعه من؟
يوست :
قائد شبانداو.
فرنتسيسكا :
القلعة؟ ولكن الصيد عند الأسوار هناك لا يمكن أن يكون عظيما.
يوست :
أوه، فيليب لا يصطاد هناك.
فرنتسيسكا :
فماذا يعمل إذن؟
يوست :
ينقل حجرا.
فرنتسيسكا :
ينقل حجرا؟
يوست :
حكم عليه بنقل الحجر والأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات فقط؛ لأنه كان يحيك مؤامرة بين صفوف قوات الرائد، وأراد أن ينفذ بستة رجال من خلال الصفوف الأمامية.
فرنتسيسكا :
عجبا، يا له من شرير!
يوست :
أوه، الشاب النشيط المجتهد. صياد يعرف كل الدروب والمسالك في الغابات والأدغال في دائرة عرضها خمسون ميلا. كما يجيد إطلاق النار.
فرنتسيسكا :
حسن أنه احتفظ على الأقل بالحوذي الشجاع.
يوست :
هل احتفظ به فعلا؟
فرنتسيسكا :
ظننت ذلك فقد قلت إنه انطلق. ولا بد أنه عاد.
يوست :
تعتقدين ذلك؟
فرنتسيسكا :
إلى أين انطلق؟
يوست :
مضى على ذلك الآن عشرة أسابيع. يومها ركب حصان الرائد، حصانه الوحيد والأخير، وانطلق به إلى حيث تستحم الخيل.
فرنتسيسكا :
ولم يعد للآن؟ يا له من خبيث!
يوست :
لا بد أن بركة الخيل أغرقته إغراقا وهو الحوذي الشجاع. لقد كان حوذيا بارعا، تعلم في فينا عشر سنوات ولن يحصل السيد الرائد على مثيله، كان عندما تعدو الخيول عدوا يقول لها: «برررر»، فتقف من فورها كأنها الأسوار، كذلك كان واسع العلم في طب الخيول.
فرنتسيسكا :
بعد هذا كله أخشى أن أسأل عن ترقي الساعي.
يوست :
لا، لا، ترقيه فيه جانب من الصحة، لقد أصبح طبالا في كتيبة مرابطة.
فرنتسيسكا :
توقعت هذا.
يوست :
لقد تعلق فريتس بشخص سيئ الأخلاق، فكان لا يعود إلى البيت بالليل، وكان يستدين أموالا في كل مكان باسم السيد الرائد، ويرتكب آلاف الأفعال المخزية. باختصار، رأى السيد الرائد أنه يريد أن يعلو بالقوة (يأتي بحركة بانتوميمية تمثل المشنقة)
فوجهه الوجهة المؤدية إلى غرضه.
فرنتسيسكا :
أوه، يا له من وغد!
يوست :
ولكنه كان ساعيا ممتازا، لا شك في هذا. كان السيد إذا كلفه بأن يسبقه قدر خمسين خطوة، لم يستطع أن يلحق به ولو ركب أسرع فرس له، ولكني أراهن بحياتي على أن المشنقة لن تفلته حتى لو كان بينه وبينها ألف خطوة. هؤلاء أصدقاؤك الطيبون جميعا؛ فيلهلم وفيليب ومارتن وفريتس. والآن، يستأذن يوست (يخرج) .
المشهد الثالث (فرنتسيسكا - ثم صاحب الفندق)
فرنتسيسكا (تنظر وراء يوست نظرة جادة) :
استحق هذه الوخزة. شكرا لك يا يوست . لقد كنت أحط من قيمة الإخلاص، أما الآن فلن أنسى هذا الدرس. آه، الرجل التعس (تلتفت وتهم بالاتجاه إلى حجرة الآنسة فيأتي صاحب الفندق في اللحظة نفسها) .
صاحب الفندق :
انتظري يا بنيتي الجميلة.
فرنتسيسكا :
لا وقت عندي الآن يا سيدي.
صاحب الفندق :
لحظة واحدة فقط. ألم تأت أخبار جديدة من السيد الرائد؟ لا يمكن أن يكون ما حدث هو الوداع.
فرنتسيسكا :
ماذا؟
صاحب الفندق :
ألم تقص عليك الآنسة الكريمة ما حدث؟ عندما تركتك في المطبخ يا بنيتي أتيت بالمصادفة إلى هنا، إلى هذه القاعة.
فرنتسيسكا :
بالمصادفة! بل كنت تنوي التنصت.
صاحب الفندق :
آه بنيتي، كيف تظنين بي هذا الظن؟ لا يعيب صاحب الفندق عيب أكثر من الفضول. لم يطل وقوفي هنا حتى انشق باب الآنسة الكريمة واندفع الرائد خارجا منه والآنسة وراءه. كانا الاثنان في ثورة ينظران نظرات غريبة ويتصرفان تصرفات غريبة، على قدر ما أمكنني أن أرى، ثم أمسكت به الآنسة، فتخلص منها، فعادت إلى الإمساك به، «تلهايم». «يا آنسة، دعيني». «إلى أين؟» وهكذا جرها إلى السلم جرا، حتى خشيت أن تهوي من الجر على السلم، وأخيرا أفلت منها. وبقيت الآنسة واقفة على الدرجة العليا تتابعه بنظرها وتناديه وتعقد يديها. وفجأة التفتت وجرت إلى النافذة ثم عادت من النافذة إلى السلم ثم إلى القاعة، وظلت هكذا تروح وتجيء. كنت أقف هنا ومرت بي ثلاث مرات، دون أن تراني. وأخيرا بدا عليها كما لو كانت لمحتني، لكن الله سلم. أعتقد أنها ظنت أنني أنت، يا بنيتي؛ لأنها صاحت في «فرنتسيسكا»، وثبتت عينيها علي سائلة: «هل أنت سعيدة الآن؟» ثم نظرت إلى السقف جامدة وعادت تسأل: «هل أنا سعيدة الآن؟» ثم مسحت دموعها مما فيها وابتسمت وعادت تسأل: «فرنتسيسكا، هل أنا سعيدة الآن؟» الحقيقة أنني لم أعرف في أي حال كنت، ثم جرت إلى الباب وما لبثت أن عادت ثانية إلي وقالت: «تعالي يا فرنتسيسكا. من يحزنك هكذا الآن؟» ودخلت.
فرنتسيسكا :
أوه، لقد حلمت هذا كله.
صاحب الفندق :
حلمت؟ لا، يا بنيتي الجميلة. لا يحلم الإنسان أشياء معقدة كهذه. هيه، إنني مستعد لدفع أي شيء، رغم أنني لست فضوليا، ولكني مستعد لدفع أي شيء، إذا أمكنني الحصول على المفتاح.
فرنتسيسكا :
المفتاح؟ مفتاح بابنا؟ إنه في الباب من الداخل؛ فقد أدخلناه بالليل لأننا نخاف.
صاحب الفندق :
لا، ليس هذا المفتاح. أعني، يا بنيتي الجميلة، المفتاح؛ أي تفسير ما حدث؛ أي المعنى الحقيقي لما رأيت.
فرنتسيسكا :
آه، هكذا. وداعا يا سيدي. هل سنأكل بعد قليل؟
صاحب الفندق :
كدت أنسى يا بنيتي الجميلة ما أتيت من أجله.
فرنتسيسكا :
قل. لكن أوجز.
صاحب الفندق :
الآنسة الكريمة ما زالت تحتفظ بخاتمي، أقول خاتمي.
فرنتسيسكا :
لن يضيع عليك.
صاحب الفندق :
لم يساورني أي شك في ذلك، ولكنني أردت أن أذكرها، بل أكثر من هذا أنا لا أريد أن أستعيده؛ فقد فهمت بمنتهى السهولة كيف تعرفت عليه ولماذا يشابه خاتمها هذه المشابهة. وهو في يدها في الحفظ والصون، ولها أن تحتفظ به، وسوف أضيف مبلغ المائة بستولة التي أعطيتها برهانه، إلى حساب الآنسة الكريمة. تمام يا بنيتي الجميلة؟
المشهد الرابع (باول فرنر - صاحب الفندق - فرنتسيسكا)
فرنر :
ها هو.
فرنتسيسكا :
تقول مائة بستولة؟ أظن أن المبلغ كان ثمانين فقط.
صاحب الفندق :
بالضبط، كان تسعين فقط، تسعين فقط. وهذا ما سأضيفه يا بنيتي الجميلة، هذا ما سأضيفه.
فرنتسيسكا :
كل هذا ممكن الوصول إليه.
فرنر (وكان يتقدم نحوهما من الخلف، ثم وضع يده فجأة على كتف فرنتسيسكا) :
يا بنت، يا بنت.
فرنتسيسكا (منزعجة) :
هه.
فرنر :
لا تنزعجي. رأيت أنك جميلة، ولا بد أنك غريبة تماما في هذا المكان. ولا بد من تحذير الجميلات الغريبات. يا بنيتي، خذي حذرك من هذا الرجل (يشير إلى صاحب الفندق) .
صاحب الفندق :
هه، أصدقاء لم أتوقع حضورهم، يا سيد باول فرنر. ومرحبا بك عندنا، مرحبا بك. ما زال هو فرنر الظريف المخلص المليح النكتة. قلت إن عليها أن تأخذ حذرها مني، ها! ها!
فرنر :
ابتعدي عن طريقه حيثما كان.
صاحب الفندق :
طريقي، طريقي. هل أنا خطير إلى هذا الحد؟ ها، ها، ها. سمعت يا بنيتي الجميلة، كيف تجدين هذه النكتة؟
فرنر :
أمثالك يؤولون الكلام على أنه نكتة، إذا كان ما يقوله لهم الإنسان هو الحقيقة.
صاحب الفندق :
الحقيقة، ها، ها، ها. أليس كذلك، يا بنيتي الجميلة، هذه نكتة أحسن. إن الرجل ليجيد النكتة. أنا خطير؟ أنا؟ قبل عشرين عاما كنت كما يقول. نعم، نعم، يا بنيتي الجميلة، كنت خطيرا، وكان يمكن الحديث عن خطورتي، أما الآن ...
فرنر :
فمجنون عجوز.
صاحب الفندق :
هنا مربط الفرس. عندما يصبح الواحد منا عجوزا تنتهي خطورته. وليس ما أحدث بك السن يا سيد فرنر خيرا مما أحدث بي.
فرنر :
رجل وقح لا حد لوقاحته. يا بنيتي، لا شك أنك تجدين في فهما جديرا بثقتك يكفيني مؤنة الحديث عن ذلك الخطر. لقد انصرف عنه شيطان واحد فتملكه سبعة شياطين.
صاحب الفندق :
أوه، أتسمعين، أتسمعين، كيف يعرف في تحوير الكلام وتدويره، ويلقي النكتة تلو النكتة، ويأتي كل مرة بجديد؟ آه، إنه رجل ممتاز هذا السيد باول فرنر. (لفرنتسيسكا؛ كأنه يهمس في أذنها) ، رجل موسر، لم يتزوج بعد، وله على مسيرة ثلاثة أميال من هنا عمله الجميل في محكمة العمدية، واغتنم أثناء الحرب غنائم كثيرة. وكان قبل ذلك حارسا لدى السيد الرائد. أوه، إنه صديق السيد الرائد، صديق، يدفع بنفسه من أجله إلى الموت.
فرنر :
نعم، وهذا صديق سيدي الرائد، صديق. كان ينبغي على السيد الرائد أن يأمر به أن يقتل.
صاحب الفندق :
كيف؟ ماذا؟ لا، يا سيد فرنر، ليست هذه بالنكت الجيدة. أنا لست صديقا للرائد؟ لا، أنا لا أفهم هذه النكتة.
فرنر :
لقد حكى لي يوست أشياء جميلة.
صاحب الفندق :
يوست؟ لقد خطر ببالي أن يوست يتكلم من خلالك. يوست هذا رجل شرير قبيح، ولكن هنا بنت جميلة، معنا، يمكنها أن تتكلم، يمكنها أن تقول هل أنا صديق للسيد الرائد أم لا. هل أديت له خدمات أم لم أفعل. ثم ما الذي يمنع من أكون صديقه؟ أليس هو رجلا رفيع القيمة؟ صحيح أنه لسوء الحظ أحيل إلى الاستيداع، ولكن علام يدل هذا؟ إن الملك لا يعرف جميع الرجال ذوي القيمة، وهو حتى لو عرفهم، لن يمكنه أن يجزيهم جميعا.
فرنر :
أجرى الله هذا الكلام على لسانك. لكن يوست ... حقيقة أن يوست لا يتميز بميزات خاصة ولكنه ليس كذابا، لو صح ما حكاه لي.
صاحب الفندق :
لا أريد أن أسمع عن يوست شيئا. قلت لتوي: البنت الجميلة هنا ويمكنها أن تتكلم (يهمس في أذنها) ، تعرفين يا بنيتي، الخاتم، هه. قصي ذلك على السيد فرنر، حتى يعرفني معرفة أفضل. وحتى لا يبدو الأمر كما لو كنت تتكلمين مرضاة لي، سأترك لكما المكان؛ لن أبقى معكما، سأذهب. وأنت يا سيد فرنر، عليك عندئذ أن تقول لي ما إذا كان يوست دساسا لئيما أم لا.
المشهد الخامس (باول فرنر - فرنتسيسكا)
فرنر :
أتعرفين سيدي الرائد، يا بنية؟
فرنتسيسكا :
الرائد فون تلهايم؟ نعم أعرف الرجل الشهم.
فرنر :
أليس رجلا شهما؟ أتميلين له؟
فرنتسيسكا :
من أعماق قلبي.
فرنر :
حقا؟ أترين يا بنية، الآن تلوحين لي جميلة جمالا مزدوجا، ولكن ما هي هذه الخدمات التي يقول صاحب الفندق إنه أداها للسيد الرائد؟
فرنتسيسكا :
لا أعرف بالضبط. ربما أراد أن ينسب إلى نفسه الطيبة التي نشأت وحدها لمصادفة سعيدة من تصرف خبيث تصرفه.
فرنر :
على هذا يكون ما قاله لي يوست صحيحا (ناظرا ناحية الجهة التي خرج منها صاحب الفندق) ، من حسن حظك أنك انصرفت. هل أخرجه فعلا من حجرته؟ يلعب مع مثل هذا الرجل لعبة كهذه؛ لأن مخه، شبيه مخ الحمار، تخيل أن الرجل لم يعد يحتكم على مال. الرائد ليس عنده مال؟
فرنتسيسكا :
هكذا؟ هل لدى الرائد مال؟
فرنر :
مال كثير. لا تعرفين ما عنده من مال لكثرته. إنه هو نفسه لا يعرف المدينين له. أنا نفسي مدين له وأحضر له اليوم جزءا من بقية دين، أترين يا بنية؟ هنا في هذا الكيس (يخرج كيسا من جيبه)
مائة جنيه ذهبا، وفي هذه الصرة (يخرج صرة من جيبه الآخر)
مائة دوكات. كل هذا المال ماله.
فرنتسيسكا :
حقا؟ ولكن لماذا يرهن الرائد أشياءه؟ لقد رهن خاتما.
فرنر :
لا تصدقي هذا الكلام، ربما أراد أن يتخلص من شيء تافه.
فرنتسيسكا :
ليس شيئا تافها، بل هو خاتم ثمين، وعلاوة على ذلك كان قد تلقاه من يد حبيبة.
فرنر :
يصح .. من يد حبيبة. نعم، نعم. مثل هذه الأشياء تذكر الإنسان بما لا يحب أن يتذكر؛ لهذا يتخلص منها ويبعدها بعيدا عن عينه.
فرنتسيسكا :
كيف هذا؟
فرنر :
إن ما يجري للضابط في أماكن المرابطة الشتوية عجب حقا؛ فهو لا يعمل شيئا وهو يعتني بمظهره وهيئته ثم يعقد الصلات بالآنسات، هربا من الملل، ولا يقصد أن تدوم هذه الصلات أكثر من الشتاء، وإن كان قلب من تعقد معهن الصلات يريدها للعمر بطوله. وفي لمح البصر يكتشف أن خاتما قد ركب في إصبعه، دون أن يعلم هو نفسه من أين أتى ذلك الخاتم فاستقر في إصبعه. ولا يندر أن يفضل الضابط أحيانا أن يقطع إصبعه بالخاتم، إن كان ذلك القطع يخلصه منه.
فرنتسيسكا :
آه! وهذا حدث أيضا للرائد؟
فرنر :
بلا شك. خاصة في ساكسونيا. لو كان له في كل يد عشرة أصابع لامتلأت يداه بأصابعها العشرين خواتم.
فرنتسيسكا (جانبا) :
هذا كلام فريد يستحق أن يفحص. وأنت تحب أن تنادى بحضرة حكم العمدية أو بحضرة الرقيب؟
فرنر :
يا بنية، إن لم يسؤك ذلك، فضلت أن أنادى بحضرة الرقيب.
فرنتسيسكا :
إذن، يا حضرة الرقيب، هذا خطاب من السيد الرائد إلى سيدتي، سأحمله إليها بسرعة وأعود إلى هنا توا، هلا تكرمت فانتظرت حتى أعود؟ فإنني أحب أن أتكلم معك.
فرنر :
تحبين الكلام، يا بنية؟ لا مانع لدي. اذهبي. وأنا كذلك أحب الكلام، سأنتظر.
فرنتسيسكا :
انتظر، هه (تخرج) .
المشهد السادس (باول فرنر)
فرنر :
هذه بنت لا يصعب الحصول عليها، ولكن ما كان ينبغي أن أعدها بالانتظار؛ فإنني أتيت لأمر أهم وهو البحث عن السيد الرائد. إنه لا يريد مالا مني ويفضل رهن ما عنده؟ هذه صفة يعرف بها. لقد خطر ببالي الآن خاطر مفاجئ. عندما كنت في المدينة منذ أربعة عشر يوما زرت زوجة نقيب الفرسان مارلوف، فوجدت السيدة المسكينة راقدة في فراش المرض تبكي وتنوح لأن زوجها مات وعليه دين للسيد الرائد يبلغ أربعمائة تالر ولا تعرف سبيلا لرده إليه. واليوم أردت أن أزورها، أردت أن أقول لها إنني سأقرضها خمسمائة تالر عندما أبيع مزرعتي الصغيرة وأتلقى ثمنها؛ لأنني لا بد أن أضع جزءا من المبلغ في يد أمينة عندما أرحل إلى بلاد فارس، فوجدتها في أحسن حال. ولا شك أنها لم تتمكن من دفع شيء إلى السيد الرائد. هذا ما أريد أن أفعله! وكلما عجلت كان أفضل، وعلى البنية ألا تغضب مني؛ فلا طاقة لي على الانتظار (يمشي غارقا في أفكاره فيوشك أن يصطدم بالرائد الذي أقبل ناحيته ).
المشهد السابع (فون تلهايم - باول فرنر)
فون تلهايم :
هكذا غارق في الأفكار يا فرنر؟
فرنر :
هذا أنت يا سيدي؟ كنت على وشك الانصراف لأذهب إليك وأزورك في مسكنك الجديد، يا سيدي الرائد.
فون تلهايم :
لتملأ أذني سبا ولعنا في صاحب الفندق القديم. لا تذكرني به.
فرنر :
كنت سأفعل ذلك أيضا، ولكن الأمر الأساسي الذي أتيت له هو رغبتي في توجيه الشكر إليك على تكرمك بصيانة مبلغ المائة جنيه ذهبا. وقد أعادها يوست إلي. وكم أحب لو تفضلت فصنتها لي مدة أطول، ولكنك يا سيدي انتقلت إلى مسكن جديد لا تعرفه أنت ولا أعرفه أنا ولا يعرف أمره على وجه اليقين أحد، فربما سرقت منك فاضطررت إلى تعويضي بدلها، فلا تنفع في هذا شفاعة؛ لذلك لا يمكنني أن ألتمس منك أمرا كهذا.
فون تلهايم (يبتسم) :
منذ متى تتصرف بهذه الحيطة يا فرنر؟
فرنر :
هذا شيء يتعلمه الإنسان يا سيدي. ولا يمكن لإنسان أن يحتاط بما فيه الكفاية في أمر أمواله، ثم هناك أمر آخر كلفت بتبليغه إليك من السيدة حرم نقيب الفرسان مارلوف، وقد أتيت لتوي من عندها، تعلم أن زوجها توفي وعليه لك دين مقداره أربعمائة تالر، هذه مائة دوكات ترسلها إليك مبدئيا وسترسل إليك الباقي في الأسبوع القادم. وأنا السبب الذي من أجله استعصى عليها إرسال المبلغ كله .. على ما فهمت. وقد كانت مدينة لي أيضا بتالر وثمانين جروشنا، فلما ذهبت إليها ظنت أنني أتيت لأذكرها بالدين - وكان ما ظنته صوابا - فأعطتني المبلغ، أعطتني إياه من الصرة التي كانت قد أعدتها لك من قبل. ولا شك أنك تحتاج إلى مبلغ المائة تالر أكثر من احتياجي إلى جروشناتي القليلة. ها هي، خذ (يقدم إليه صرة الدوكات) .
فون تلهايم :
فرنر!
فرنر :
نعم، لماذا تحدق في هكذا؟ خذ هذه يا سيدي الرائد.
فون تلهايم :
فرنر!
فرنر :
ماذا بك؟ ماذا يغضبك؟
فون تلهايم (غاضبا، يخبط جبهته ويضرب برجله الأرض) :
لأن الأربعمائة تالر لم تصل كلها.
فرنر :
سيدي الرائد، ألم تفهمني؟
فون تلهايم :
كلا، الأمر كله يرجع إلى أنني لم أفهمك. هكذا يعذبني اليوم خير الناس.
فرنر :
ماذا تقول؟
فون تلهايم :
لا يخصك هذا الكلام إلا نصفا. اذهب يا فرنر، (يرد يد فرنر التي تقدم الدوكات) .
فرنر :
سأذهب عندما أخلص من هذه.
فون تلهايم :
فرنر، وما تقول لو أخبرتك أن أرملة مارلوف كانت هنا في الصباح الباكر؟
فرنر :
هكذا؟
فون تلهايم :
وأنها لم تعد مدينة لي بشيء؟
فرنر :
حقا؟
فون تلهايم :
وأنها ردت ما عليها فلم يبق منه قليل أو كثير. ماذا تقول إذن؟
فرنر (يفكر لحظة) :
أقول إنني كذبت، وإن الكذب شيء أحمق لأن الإنسان يكتشف أمره وهو ينطق به.
فون تلهايم :
فهل تخجل؟
فرنر :
وما شأن من يضطرني إلى الكذب؟ ألا يخجل هو الآخر؟ اسمع يا سيدي الرائد، لو لم أقل لك إن تصرفك يغيظني، لكان ذلك عودة مني إلى الكذب، ولست أريد العودة إلى الكذب.
فون تلهايم :
لا تغضب يا فرنر. أنا أعرف قلبك وحبك لي، ولكني لا أحتاج إلى مالك.
فرنر :
لا تحتاج إليه؟ وتفضل البيع وتفضل الرهن وتفضل أن تصير مضغة في أفواه الناس؟
فون تلهايم :
للناس أن يعرفوا أنني لم أعد أملك شيئا؛ فليس للإنسان أن يظهر أغنى مما هو.
فرنر :
ولماذا يظهر أفقر؟ إننا نملك ما دام صديقنا يملك.
فون تلهايم :
لا يليق أن أكون مدينا لك.
فرنر :
لا يليق؟ ألم تأت مرة إلي قائلا: «فرنر هل لديك شيء أشربه؟» في ذلك اليوم الحار الذي تعرفه، اليوم الحار الذي ألهبته الشمس وألهبه العدو، عندما تاه سايسك ومعه الطعام والشراب؟ ثم ألم أقدم إليك زمزميتي فأخذتها وشربت منها؟ أكان هذا يليق؟ والله إن شربة من الماء العطن في ذلك الوقت لتزيد قيمة عن هذا المتاع التافه كله (عندئذ يخرج كيس الجنيهات الذهبية أيضا ويقدمه إليه مع الصرة) . خذ هذه، يا سيدي الحبيب، تخيلها ماء؛ فقد خلق الله هذه أيضا لكل الناس كالماء.
فون تلهايم :
أنت تعذبني، لقد سمعت أنني لا أريد أن أكون مدينا لك.
فرنر :
لقد قلت أولا إن هذا لا يليق، ثم ها أنت ذا الآن تقول إنك لا تريد؟ نعم هذا شيء آخر (غاضبا بعض الشيء) ، لا تريد أن تكون مدينا لي؟ هذا لو لم تكن قد أصبحت مدينا لي من قبل، يا سيدي الرائد. أولست مدينا بشيء للرجل الذي صد عنك مرة ضربة سيف كادت تشج رأسك، ومرة قطع ذراعا كانت توشك الضغط على زناد بندقية فتنطلق منها رصاصة تستقر في صدرك؟ هل هناك دين أكبر من هذا يمكن أن تكون مدينا به لهذا الرجل؟ أو هل رقبتي أقل قيمة من مالي؟ إذا كنت تفكر هكذا بدافع الرفعة فإنني أقسم لك إن هذا التفكير لا طعم له البتة.
فون تلهايم :
مع من تتحدث هكذا يا فرنر؟ نحن هنا وحدنا ويمكنني أن أتكلم كلاما لو كان ثالث معنا لاعتبره مبالغة ونفجا. أنا يسرني أن أعترف لك أني مدين لك مرتين بحياتي، ولكن يا صديقي، هل كان لدي ما يمنع من أن أفعل من أجلك نفس الشيء الذي فعلته من أجلي؟ هه.
فرنر :
لم تعرض فرصة لذلك. ومن يشك في استماتتك من أجل رجالك يا سيدي الرائد؟ ألم أر مائة مرة كيف كنت تركب الصعب وتعرض حياتك للخطر من أجل أبسط الجنود؟
فون تلهايم :
فيم حديثك إذن؟
فرنر :
لكن ...
فون تلهايم :
لكن لماذا لا تفهمني كما ينبغي؟ أقول: لا يليق أن أكون مدينا لك ولا أريد أن أكون مدينا لك. وعلى وجه التحديد في الظروف التي أنا فيها الآن.
فرنر :
هكذا! هكذا! تريد إذن أن تؤجل ذلك إلى أوقات أحسن. تريد أن تستدين مني مالا عندما لا تكون بحاجة إلى مال، عندما يكون عندك مال وربما لا يكون عندي.
فون تلهايم :
لا يصح أن يستدين الإنسان إذا لم يكن يعرف كيف يرد الدين.
فرنر :
لا يمكن أن يظل رجل مثلك إلى الأبد بغير مال.
فون تلهايم :
أنت تعرف الدنيا. وآخر من يصح أن يستدين منه الإنسان رجل يحتاج هو نفسه إلى ماله.
فرنر :
أي نعم، أنا كذلك، فما حاجتي إلى المال؟ عندما يحتاج البعض إلى حارس برتبة رقيب فإنه يعطيه راتبا يعيش منه.
فون تلهايم :
أنت بحاجة إلى أن تترقى ولا تبقى على الدوام رقيبا، بحاجة إلى التقدم في طريق يتأخر فيه ذو القيمة إذا افتقر إلى المال.
فرنر :
أترقى فأزيد على رقيب؟ هذا ما لم يخطر لي على بال؛ فأنا رقيب مجد ولا شك أنني إذا ترقيت أصبحت نقيب فرسان رديئا ولواء أردأ، الخبرة تؤكد ذلك.
فون تلهايم :
لا تفعل يا فرنر ما يضطرني لأن أنكر تقديرك؛ فقد حكى لي يوست كلاما سمعته كارها، قال إنك بعت مزرعتك وتنوي أن تضرب في الأرض وتهيم على وجهك مرة ثانية. لا تجعلني أعتقد أنك تحب هذه المهنة وتحب معها طريقة الحياة الغاشمة الفظة التي ارتبطت لسوء الحظ بها. إنما ينبغي أن يكون الإنسان جنديا من أجل وطنه أو حبا في قضية يكافح الناس من أجلها، أما أن يحارب الرجل هنا تارة وهناك تارة أخرى، فلا يزيد عندي على أن يعني أن الرجل تحول إلى صبي جزار متجول.
فرنر :
أصبت يا سيدي الرائد، سأتبع نصيحتك؛ فإنك تحسن معرفة ما يليق وما لا يليق. سأبقى معك، ولكن يا سيدي العزيز ، تقبل هذا المال، وسوف يحكم لصالحك في القضية وتنال مالا كثيرا، فترد إلي مالي وعليه الفائدة؛ فأنا إنما أقدم لك المال الذي أقدم لأحصل على الفائدة.
فون تلهايم :
لا تقل هذا.
فرنر :
أقسم لك أنني أفعل ذلك من أجل الفائدة. كنت أحيانا أفكر في نفسي: ماذا ستفعل إذا تقدمت بك السن؟ إذا لحقت بك مصيبة؟ إذا افتقدت ما عندك فلم يبق لديك شيء؟ إذا اضطررت إلى مد اليد والتسول؟ فلا ألبث أن أقول في نفسي: لا، لن تمد يدك فتتسول، بل ستذهب إلى الرائد تلهايم، فسيقتسم وإياك ماله إلى آخر فنك، وسيطعمك حتى يحين موتك، فتموت عنده رجلا شريفا كريما.
فون تلهايم (يمسك فرنر بذراعه) :
ألم تعد ترى هذا الرأي الآن، يا زميلي؟
فرنر :
لا، لم أعد أرى هذا الرأي؛ فإن من يرفض الأخذ مني وهو يحتاج وأنا أملك لن يعطيني شيئا عندما أحتاج وهو يملك. انتهينا (يهم بالانصراف) .
فون تلهايم :
لا تجنني يا رجل، إلى أين تذهب؟ (يوقفه) . إذا أكدت لك بشرفي أنني ما زلت ذا مال، ووعدتك بشرفي أن أخبرك إذا راح ما عندي من مال، وأن تكون أول من أقترض منه، والوحيد الذي أقترض منه، هل ترتاح؟
فرنر :
هلا أرتاح؟ هات يدك يا سيدي الرائد.
فون تلهايم :
اتفقنا، يا باول. لكن دعنا من هذا الآن، فقد أتيت لأتكلم مع إحدى البنات.
المشهد الثامن (فرنتسيسكا (تخرج من حجرة الآنسة) - فون تلهايم - باول فرنر)
فرنتسيسكا (وهي خارجة) :
أما زلت هنا يا سيدي الرقيب؟ (تبصر تلهايم)
وأنت كذلك هنا، يا سيدي الرائد؟ سأكون تحت تصرفك حالا (تعود مسرعة إلى الحجرة) .
المشهد التاسع (فون تلهايم - باول فرنر)
فون تلهايم :
هذه هي. مما سمعت أفهم أنك تعرفها يا فرنر؟
فرنر :
نعم، أعرف البنية.
فون تلهايم :
ولكنك على ما أذكر لم تكن عندي أيام كنت في المقر الشتوي؟
فرنر :
كنت وقتها في ليبتسج أسعى للحصول على صور بعض المستندات.
فون تلهايم :
فكيف تعرفت عليها إذن؟
فرنر :
معرفتنا بنت الساعة، بدأت اليوم، ولكن التعارف إذا كان حديث العهد كان حارا.
فون تلهايم :
ولعلك رأيت سيدتها الآنسة أيضا؟
فرنر :
هل سيدتها آنسة؟ قالت لي، إنك تعرف سيدتها.
فون تلهايم :
ألم تفهم؟ من أيام تورنجن.
فرنر :
هل الآنسة شابة؟
فون تلهايم :
نعم.
فرنر :
جميلة؟
فون تلهايم :
جميلة جدا.
فرنر :
غنية؟
فون تلهايم :
غنية جدا.
فرنر :
هل الآنسة تميل إليك كميل البنت؟ إذن فهذا أمر عظيم.
فون تلهايم :
ماذا تعني؟
المشهد العاشر (فرنتسيسكا (تخرج من الحجرة ثانية ومعها خطاب) - فون تلهايم - باول فرنر)
فرنتسيسكا :
سيدي الرائد.
فون تلهايم :
فرنتسيسكا العزيزة، لم أتمكن من تحيتك حتى الآن.
فرنتسيسكا :
لا شك أنك حييتني فعلا في فكرك؛ فإنني أعرف أنك تميل إلي، وأنا أيضا أميل إليك، وليس من الخير أن يغضب الإنسان من يميلون إليه.
فرنر (لنفسه) :
ها، بدأت ألحظ، صحيح.
فون تلهايم :
مصيري، يا فرنتسيسكا. هل أوصلت الخطاب؟
فرنتسيسكا :
نعم وها أنا أسلمك (تسلمه خطابا) .
فون تلهايم :
الرد؟
فرنتسيسكا :
لا، خطابك نفسه، أرده إليك.
فون تلهايم :
ماذا؟ ألم تشأ أن تقرأه؟
فرنتسيسكا :
ربما شاءت ولكن نحن لا نقوى على قراءة المكتوب.
فون تلهايم :
يا ماكرة.
فرنتسيسكا :
والرأي عندنا أن كتابة الخطابات لم تبتدع لأولئك الذين يستطيعون تبادل الحديث متى شاءوا.
فون تلهايم :
يا له من عذر! لا بد أن تقرأه. إنه يحتوي على تبرير تصرفي، على كل الأسباب والدوافع.
فرنتسيسكا :
تريد الآنسة أن تسمعها منك نفسك، لا أن تقرأها.
فون تلهايم :
مني أنا؟ حتى تربكني كل كلمة من كلماتها، وكل لمحة من لمحاتها، وحتى أحس في كل نظرة من نظراتها بعظم مصابي؟
فرنتسيسكا :
وبلا رحمة . خذ (تعطيه الخطاب) . الآنسة تنتظرك في الساعة الثالثة، تريد أن تخرج لتتفرج على المدينة، وأن تكون معها في العربة.
فون تلهايم :
معها في العربة؟
فرنتسيسكا :
وماذا تعطيني إذا تركتما تسيران بالعربة وحدكما؟ سأبقى في البيت.
فون تلهايم :
وحدنا؟
فرنتسيسكا :
في عربة جميلة مقفلة.
فون تلهايم :
لا يمكن.
فرنتسيسكا :
بلى. سيواجه السيد الرائد الهجوم في عربة مقفلة، حتى لا يفلت منا. الخطة وضعت لهذا الغرض . باختصار، ستأتي يا سيدي الرائد، وفي تمام الساعة الثالثة. كنت تريد أن تكلمني على انفراد، فما خطبك؟ آه، لسنا على انفراد (تنظر إلى فرنر) .
فون تلهايم :
بلى، يا فرنتسيسكا، على انفراد، ولكن نظرا لأن الآنسة لم تقرأ الخطاب فليس لدي ما أقوله لك.
فرنتسيسكا :
هكذا؟ على انفراد؟ ألا تخفي أسرارك على السيد الرقيب؟
فون تلهايم :
لا، مطلقا.
فرنتسيسكا :
بل يلوح لي، أنه ينبغي أن تحبس عنه بعض أسرارك.
فون تلهايم :
كيف ذلك؟
فرنر :
لماذا يا بنيتي؟
فرنتسيسكا :
خاصة أسرارا من نوع معين. بأصابعه العشرين، يا سيادة الرقيب! (وهي ترفع يديها إلى أعلى وقد انفرجت أصابعها.)
فرنر :
هست، هست، يا بنية، يا بنية.
فون تلهايم :
ما معنى هذا؟
فرنتسيسكا :
في لمح البصر يكتشف أن خاتما قد ركب في إصبعه، يا سيادة الرقيب. (كأنما تلبس خاتما بسرعة.)
فون تلهايم :
ماذا دهاكما؟
فرنر :
يا بنية، يا بنية، لا شك أنك تفهمين المزاح؟
فون تلهايم :
لعلك لم تنس ما قلته لك مرارا من أن هناك نقطة لا يصح أن تمزح فيها مع البنت؟
فرنر :
أقسم، إنني لا بد قد نسيت ذلك. يا بنية، أرجوك.
فرنتسيسكا :
لو كان مزاحا، سامحتك هذه المرة.
فون تلهايم :
إذا كان لا بد من أن آتي، فافعلي ما في استطاعتك حتى تقرأ الآنسة الخطاب قبل مقدمي، حتى أوفر على نفسي عذاب التفكير في أشياء معينة والتعبير عنها مرة ثانية، وكم أود أن أنساها نسيانا، ها هو الخطاب سلميه إليها (يقلب الخطاب ويمده إليها فيلحظ أن الخطاب قد فض)
أصحيح ما أرى؟ الخطاب قد فض، يا فرنتسيسكا .
فرنتسيسكا :
ربما (تنظر إليه) ، صحيح، لقد فضه أحد. يا ترى من فضه؟ ولكننا لم نقرأه، فعلا، يا سيدي الرائد، فعلا. ولسنا نريد أيضا أن نقرأه لأن كاتبه سيأتي بنفسه. أنت ستأتي، أليس كذلك؟ وهناك شيء آخر يا سيدي الرائد، لا تأت هكذا بهيئتك هذه، تلبس أحذية برقبة وشعرك لم يصفف، عذرك معك طبعا لأنك لم تتوقع مقابلتنا. لكن تعال لابسا حذاء مدنيا، مصففا شعرك ؛ فإنك كما أنت الآن، تبدو مسرف الشجاعة، مفرط الفروسية.
فون تلهايم :
شكرا لك على ذلك، يا فرنتسيسكا.
فرنتسيسكا :
إنك تبدو كما لو كنت قد قضيت الليلة الماضية في المعسكر.
فون تلهايم :
صدقت.
فرنتسيسكا :
ونحن نريد الآن أن نأخذ زينتنا ثم نأكل. ولكم وددنا أن نستبقيك لتشاركنا المائدة، ولكن وجودك قد يعوقنا عن الطعام، وها أنت ذا ترى أننا لسنا غارقين في الغرام إلى الدرجة التي نجوع معها.
فون تلهايم :
سأذهب، يا فرنتسيسكا. وأعديها في هذه الأثناء بعض الشيء حتى لا ألوح لها ولا ألوح لنفسي مهينا. تعال يا فرنر، ستأكل معي.
فرنر :
على مائدة صاحب الفندق هنا؟ لن يكون للطعام إذن في فمي طعم.
فون تلهايم :
عندي، في حجرتي.
فرنر :
إذا كان الأمر كذلك فسأتبعك بعد قليل، سأقول للبنية كلمة واحدة ثم آتي.
فون تلهايم :
هذا شيء يسرني (يخرج) .
المشهد الحادي عشر (باول فرنر - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا :
نعم، يا حضرة الرقيب؟
فرنر :
يا بنيتي، وأنا عندما أعود، هل لا بد أن أكون وسيما أنيقا أيضا؟
فرنتسيسكا :
تعال كما تريد يا حضرة الرقيب؛ فلن تنكر عيناي من أمرك شيئا، ولكن أذني ستضاعفان من انتباههما إليك. عشرون إصبعا تملؤها الخواتم. آه، آه يا حضرة الرقيب!
فرنر :
يا بنيتي، هذا هو بالضبط ما كنت أريد أن أقوله لك. لقد جرى هذا الكلام على لساني شططا، وليس فيه شيء من حقيقة؛ فإن خاتما واحدا فيه كل الكفاية، وقد سمعت الرائد مئات المرات يقول يؤكد: «إن الجندي الذي يغرر بفتاة لا يزيد عن أن يكون شخصا دنيئا.» وهذا أيضا ما أراه أنا ، يا بنيتي. ثقي بهذا كل الثقة. ولأمد الخطى الآن حتى ألحق به. كلي، بالهناء والشفاء، يا بنيتي (يخرج) .
فرنتسيسكا :
بالهناء والشفاء، يا حضرة الرقيب. أعتقد أن الرجل يعجبني (تتأهب للدخول فإذا الآنسة خارجة) .
المشهد الثاني عشر (الآنسة - فرنتسيسكا)
الآنسة :
هل انصرف الرائد؟ فرنتسيسكا، أعتقد أنني الآن من هدوء النفس بحيث كان يمكنني أن أستبقيه هنا.
فرنتسيسكا :
وأنا أريد أن أزيدك هدوءا.
الآنسة :
خيرا، آه لخطابه! يا له من خطاب! كل سطر من سطوره يدل على الرجل الشريف الكريم، كل تمنع منه عن امتلاكي يؤكد حبه لي تأكيدا. لا بد أنه لاحظ أننا قرأنا الخطاب. لا يهم أن يكون قد لاحظ ذلك، ما دام سيأتي. لا شك أنه سيأتي، ولكني أجد في تصرفه يا فرنتسيسكا شيئا من الكبرياء المفرطة؛ لأن عدم الرغبة في الاعتراف للحبيبة بفضلها في سعادة الحبيب، كبرياء، كبرياء لا طاقة لإنسان بالصفح عنها. وماذا يا فرنتسيسكا، لو أثقل علي بهذه الكبرياء؟
فرنتسيسكا :
أتريدين أن تتمنعي إذن؟
الآنسة :
آي، يا هذه. ألا تتألمين له، كما كنت تتألمين له من قبل؟ لا، أيتها المجنونة الحبيبة، لا تتمنع الواحدة منا إذا أخطأ الرجل خطأ واحدا فقط. لا، وقد خطرت لي خطة، لأعذبه من أجل كبريائه بكبرياء مثلها.
فرنتسيسكا :
صحيح، لا بد أنك قد هدأت بالا فعلا، إذا كان قد خطر لك مثل هذا الخاطر.
الآنسة :
نعم لقد هدأت حقا. تعالي، ستلعبين في هذا الفصل دورك. (تدخلان.)
الفصل الرابع
المشهد الأول
المنظر: حجرة الآنسة (الآنسة ترتدي ملابس فاخرة كاملة حسنة الذوق - فرنتسيسكا، تنهضان من المائدة وخادم يرفع ما عليها)
فرنتسيسكا :
لا يمكن أن تكوني قد شبعت يا آنستي الكريمة.
الآنسة :
تظنين ذلك يا فرنتسيسكا؟ ربما؛ لأني لم أكن جائعة عندما جلست إلى المائدة.
فرنتسيسكا :
كان الاتفاق بيننا ألا نذكره أثناء الطعام بكلمة، وكان الأصح أن ننوي ألا نتمثله في بالنا.
الآنسة :
لم أفكر إلا فيه.
فرنتسيسكا :
وهذا ما لاحظته، بدأت مائة مرة أحدثك عن أشياء وكنت في كل مرة تجيبينني بما لا يتفق مع السؤال (خادم آخر يحضر قهوة)
ها هو المشروب الذي يحرك به الإنسان أشجانه، القهوة الحزينة الحبيبة.
الآنسة :
أشجان؟ ليس لدي أشجان. إنما أفكر في الدرس الذي أريد أن ألقنه إياه. أتفهمينني، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
آه، طبعا. ويا ليته وفر علينا هذا.
الآنسة :
سترين أنني أعرفه خير المعرفة. هذا الرجل الذي يرفضني الآن بكل ما لدي من أموال سيصارع الدنيا كلها من أجلي عندما يعرف أنني تعيسة مهجورة.
فرنتسيسكا (جادة) :
وهذا من شأنه أن يهز إلى أقصى حد أرق كرامة.
الآنسة :
أيتها القاضية الأخلاقية! هيا انظري! لقد فاجأتني من قبل في أمر الغرور، وها هو الأمر يتحول الآن من الغرور إلى الكرامة. والآن دعيني، يا فرنتسيسكا، وافعلي مع صاحبك الرقيب ما تشائين.
فرنتسيسكا :
صاحبي الرقيب؟
الآنسة :
نعم، وإذا كنت تكذبين، فهذا دلالة على صحة حكمي. أنا لم أره بعد، ولكن كل كلمة قلتها لي عنه تمكنني من التنبؤ بأنه الرجل الذي يناسبك.
المشهد الثاني (ريكو دي لا مارلينيير
1 - الآنسة - فرنتسيسكا)
ريكو (وما زال بالمشهد) :
أتسمح يا حضرة الرائد؟
فرنتسيسكا :
ما هذا؟ أيريد مقابلتنا؟ (تذهب إلى الباب) .
ريكو :
يا ساتر. لقد أخطأت. لكن، لا. لم أخطئ. هذه حجرته.
فرنتسيسكا :
ليس هناك أدنى شك، يا آنستي الكريمة، في أن هذا الرجل يعتقد أن الرائد فون تلهايم ما زال يسكن هنا.
ريكو :
هو ذاك. الرائد فون تلهايم، بالضبط يا بنيتي الجميلة. أبحث عنه. أين هو؟
فرنتسيسكا :
لم يعد يسكن هنا.
ريكو :
كيف هذا؟ كان هنا منذ أربعة وعشرين ساعة، والآن ليس هنا؟ فأين مسكنه إذن؟
الآنسة (تقبل ناحيته) :
سيدي ...
ريكو :
آه، مدام. مدموازيل. يا صاحبة العصمة، عفوا.
الآنسة :
سيدي خطؤك مرفوع ودهشتك طبيعية جدا. لقد تكرم السيد الرائد فترك لي حجرته نظرا لأني غريبة عن هذا المكان ولا أجد حجرة أبيت فيها.
ريكو :
آه، هذا شيء من أدبه. الرائد رجل ظريف مهذب.
الآنسة :
أما إلى أين ذهب في هذه الأثناء، فهذا ما لا أعرفه، وذلك مما يخجلني حقا.
ريكو :
صاحبة العصمة لا تعرف عنوانه؟ خسارة. إن هذا ليسوءني.
الآنسة :
كان ينبغي علي أن أسأل عن عنوانه؛ لأنه من الطبيعي أن يأتي أصدقاؤه إليه هنا.
ريكو :
أنا من أعز أصدقائه يا صاحبة العصمة.
الآنسة :
ألا تعرفين عنوانه يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
لا، يا آنستي الكريمة.
ريكو :
أردت أن أكلمه في أمر هام. ومعي له خبر سيفرح له جدا.
الآنسة :
هذا مما يزيد أسفي، ولكني أتوقع أن أقابله، ربما قريبا، فإذا كان يستوي عندك أن يسمع الخبر بغض النظر عن اللسان الذي يبلغه إياه، فأرجو يا سيدي ...
ريكو :
فهمت. هل تتكلمين الفرنسية يا مدموازيل؟ طبعا؛ بلا شك؛ هذا واضح. لم يكن سؤالي عن ذلك من الأدب. عفوا، يا مدموازيل.
الآنسة :
سيدي ...
ريكو :
لا؟ لا تتكلمين الفرنسية، يا صاحب العصمة؟
الآنسة :
سيدي، لو كنت في فرنسا لحاولت أن أتكلم الفرنسية، ولكن لماذا أتكلم الفرنسية هنا؟ وقد تبينت أنك تفهمني، يا سيدي. وأنا أيضا أفهمك بلا شك، فتكلم اللغة التي تحلو لك.
ريكو :
حسنا، حسنا. يمكنني أن أعبر عما أريد بالألمانية. اعلمي إذن يا مدموازيل؛ أقصد، اعلمي يا صاحبة العصمة أنني قادم من مائدة الوزير ... وزير ال ... وزير ال ... ما اسم هذا الوزير هناك؟ في الشارع الطويل؟ بالميدان العريض؟
الآنسة :
أنا لست من هنا، ولا أعرف الأماكن هنا مطلقا.
ريكو :
تذكرت، وزير الحربية. تناولت الغذاء - وأنا أتناول غذائي عادة على مائدته - وجاءت سيرة الرائد تلهايم، فقال لي الوزير بيني وبينه؛ لأن سيادته من أصدقائي ولا يخفي علي شيئا؛ أقصد أن صاحب السعادة أبلغني أن قضية الرائد توشك على الانتهاء وعلى الانتهاء إلى نهاية طيبة. وقال لي إنه رفع تقريرا إلى الملك فقرر الملك بناء على ذلك شيئا في صالح الرائد؛ قال بالحرف الواحد: «إنك تعرف يا مسيو دي مارلينيير أن الأمر كله يتوقف على طريقة عرض الموضوع على الملك، وأنت خير من يعرفني. إن السيد تلهايم شاب ظريف ويكفي أنني أعرف أنك تحبه؛ فإن أصدقاء أصدقائي هم كذلك أصدقائي، حقيقة إن تسوية قضية تلهايم ستكلف الملك الكثير ولكن هل يخدم الإنسان الملك مجانا؟ إن أمر الدنيا قائم على أساس ساعدني أساعدك، فإذا كانت هناك خسائر فالأفضل أن يتحملها الملك، لا أن يتحملها رجل منا؛ هذا هو المبدأ الذي لا أحيد عنه أبدا.» ماذا ترى صاحبة العصمة في هذا؟ ألست رجلا شجاعا؟ وصاحب السعادة الوزير ذو قلب واع. هذا وقد أكد لي أيضا أن السيد الرائد إما أن يكون قد تلقى خطابا بخط الملك فعلا، أو أنه سيتلقاه حتما اليوم.
الآنسة :
لا شك، يا سيدي، أن هذا الخبر سيثلج صدر الرائد إلى أقصى حد. وأرجو وأنا أبلغه الخبر أن أذكر له أيضا اسم الصديق الذي أسهم في حظه على هذا النحو العظيم.
ريكو :
تريدين اسمي يا صاحبة العصمة؟ من ترينه أمامك هو الفارس ريكو دي مارلينيير، سينيور دي بريتوفول، دي لا برانش دي برنسدور. تدهشين يا صاحبة العصمة لأني أنحدر من عائلة عظيمة، عظيمة هكذا، سليلة الدم الملكي بحق. والحق ينبغي أن يقال: أنا بلا شك أكثر أبناء العائلة ارتماء في طريق المقامرة والمخاطرة. لقد احترفت الجندية منذ كنت في الحادية عشرة من عمري، واضطررت إلى الهرب لأمر حسمته المبارزة، فدخلت في خدمة قداسة البابا ثم جمهورية سان مارينو ثم التاج البولوني ثم الأراضي الواطئة، ثم نزحت في آخر المطاف إلى هنا. آه يا مدموازيل، يا ليتني لم أر الأراضي الواطئة. لو كانوا تركوني في الخدمة العسكرية هناك لأصبحت الآن على الأقل برتبة عقيد. أما هنا فأنا لا أزيد ولا أنقص، دائما أبدا في رتبة نقيب، بل رقيب محال إلى الاستيداع حاليا.
الآنسة :
هذا سوء حظ كبير.
ريكو :
نعم، يا مدموازيل، محال إلى الاستيداع؛ يعني ملقى على الرصيف.
الآنسة :
كم أرثي لك.
ريكو :
إنك طيبة حقا، يا مدموازيل. لا يقدر الناس هنا ذوي القيمة؛ يلقون برجل مثلي إلى الاستيداع؛ رجل مثلي ضيع نفسه في هذه الخدمة. كان عندي آنئذ عشرون ألف جنيه، فماذا أملك الآن؟ لنستعمل العبارة الصحيحة: لا أملك شروى نقير، وها أنا ذا اليوم خاوي الوفاض .
الآنسة :
هذا يؤلمني أشد الألم.
ريكو :
إنك طيبة حقا، يا مدموازيل، ولكن المثل يقول: المصائب لا تأتي فرادى. كل مصيبة تأتي بأختها معها؛ هذا هو حالي تماما. ما حيلة إنسان شريف في مثل حسبي ونسبي إلى المال إلا القمار؟ كنت أيام السعد أكسب دائما ولم يكن بي إلى الكسب حاجة. والآن وقد استبدت بي الحاجة، يا مدموازيل، يلازمني في اللعب نحس يفوق الوصف خمسة عشر يوما؛ نحس يلاحقني ويحطمني كلما لعبت؛ حطمني بالأمس فقط ثلاث مرات. وأنا أعرف طبعا أن هناك عوامل أخرى غير اللعب في حد ذاته؛ فقد كان بين من ألاعبهم سيدات من نوع خاص. لن أزيد على ذلك شيئا؛ فما ينبغي إلا أن يكون الإنسان مهذبا مع السيدات. وهن دعونني اليوم لآخذ بثأري في اللعب، ولكن - أنت تعلمين، يا مدموازيل - لا بد أن يكون لدى المرء أولا ما يعيش منه، قبل أن يكون لديه ما يلعب به.
الآنسة :
لا أريد توقعا، يا سيدي.
ريكو :
إنك طيبة حقا، يا مدموازيل.
الآنسة (تنتحي بفرنتسيسكا جانبا) :
فرنتسيسكا، إن الرجل ليحزنني حاله حقا، أيسوءه أن أقدم إليه شيئا؟
فرنتسيسكا :
سحنته في نظري لا تنم عن ذلك.
الآنسة :
طيب. سيدي، سمعت أنك تلعب، وأنك تعمل بنكا،
2
ولا شك أنك لا تعمل هذا إلا حيث يكون الكسب مؤكدا. وأنا أعترف لك بأنني - أيضا - أحب اللعب حبا جما.
ريكو :
عظيم، يا مدموازيل، عظيم. أهل الفكر جميعا يحبون اللعب كل الحب.
الآنسة :
وبأنني أحب الكسب، وبأنني أحب أن أجازف بمالي مع رجل يتقن اللعب. هل تحب أن تشترك معي؟ وأن تجعل لي في بنكك نصيبا؟
ريكو :
كيف ذلك؟ تريدين أن تشتركي معي مناصفة يا مدموازيل؟ أقبل من كل قلبي.
الآنسة :
في الأول بمبلغ بسيط (تذهب وتحضر مالا من الصندوق) .
ريكو :
آه، يا مدموازيل، كم أنت ساحرة.
الآنسة :
هذا مبلغ كسبته منذ زمن طويل، عشرة بستولات فقط. أنا خجلة لأنه بسيط جدا.
ريكو :
هاتي، يا مدموازيل، لا يهم، هاتي (يتناول المبلغ) .
الآنسة :
لا شك أن بنكك ، يا سيدي؛ موثوق به.
ريكو :
نعم، موثوق به غاية الثقة، عشرة بستولات؟ ستربحين، يا صاحبة العصمة، من بنكي ثلث ما تدفعين. الحقيقة أن الثلث كثير، ولكن لا يصح أن يدقق الإنسان الحساب مع سيدة جميلة. أنا أهنئ نفسي؛ لأنني سأكون هكذا على صلة بك يا صاحبة العصمة، وستكون هذه اللحظة فاتحة تفاؤل لحظي.
الآنسة :
ولكنني لن أستطيع أن أكون حاضرة عندما تلعب، يا سيدي .
ريكو :
وما الداعي لحضورك؟ نحن معشر اللاعبين أولو شرف فيما بيننا.
الآنسة :
إذا ربحنا، فلا شك يا سيدي أنك ستحضر إلي نصيبي، فإذا خسرنا ...
ريكو :
أتيت أطلب المدد. أليس كذلك، يا صاحبة العصمة؟
الآنسة :
إذا طال المدى عز المدد، فادفع عن مالنا ما استطعت إلى ذلك سبيلا، يا سيدي.
ريكو :
فما تشكك صاحبة العصمة في؟ أتعتقدين أنني غشيم؟ أنني غبي؟
الآنسة :
عفوا.
ريكو :
أنا، يا مدموازيل، من أمهر المهرة. أتعرفين ما أعني؟ أعني أنني محنك.
الآنسة :
طبعا، لا شك في هذا يا سيدي.
ريكو :
أعرف كيف أحكم المقلب.
الآنسة (مندهشة) :
وما لزوم ذلك؟
ريكو :
وأغش في الورق بمهارة.
الآنسة :
أبدا.
ريكو :
وأفنط الورق بخفة يد.
الآنسة :
لا أود أن تكون كذلك يا سيدي؟
ريكو :
لا أكون ماذا؟ يا صاحبة العصمة، لا أكون ماذا؟ أعطني فريسة سائغة و...
الآنسة :
تزور في اللعب؟ تغش؟
ريكو :
كيف هذا يا مدموازيل؟ تسمين هذا غشا؟ إصلاح ما أفسده الحظ، السيطرة على الحظ، التأكد من اللعبة، هذا يسميه الألمان غشا؟ غش؟ آه، يا لفقر اللغة الألمانية! ويا لسذاجتها!
الآنسة :
لا يا سيدي، إذا كان هذا تفكيرك ...
ريكو :
دعيني أتصرف، يا مدموازيل، واستريحي بالا. ما شأنك في طريقة لعبي؟ كفى، إما أن تريني غدا وقد أحضرت مائة بستولة وإما ألا تريني أبدا. تأذنين لخادمك الوضيع بالانصراف، يا مدموازيل؟ (يخرج على عجل) .
الآنسة (تلاحقه بنظرة فيها الدهشة والغضب) :
أرجو أن تكون هذه المقابلة الأخيرة، يا سيدي، الأخيرة.
المشهد الثالث (الآنسة - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا (في مرارة) :
أأستطيع الكلام؟ شيء جميل، جميل جدا!
الآنسة :
تهكمي؛ فأنا أستحق تهكمك (بعد تفكير قصير، وقد زادت مرحا)
لا، يا فرنتسيسكا، لا تتهكمي؛ فأنا لا أستحق تهكمك.
فرنتسيسكا :
عظيم. لقد قدمت صنيعا فريدا إذ عاونت نصابا على النصب.
الآنسة :
قدمته لمن فكرت أنه تعيس.
فرنتسيسكا :
وأعظم ما في الأمر أن الصعلوك يعتبرك من أمثاله. أوه، لا بد أن ألحق به وأسترد منه المبلغ (تهم بالخروج) .
الآنسة :
فرنتسيسكا، لا تدعي القهوة حتى تبرد، صبي.
فرنتسيسكا :
لا بد أن يرده إليك. سأقول له إنك غيرت فكرك ولا تريدين مشاركته. عشر بستولات. لقد سمعت، يا آنسة، أنه كان متسولا (الآنسة تصب بنفسها القهوة) . من ذا الذي يعطي متسولا مثل هذا المبلغ؟ ومن ذا الذي يجشم نفسه مشقة التحايل حتى لا يحس الرجل بمذلة السؤال؟ ولسوف يعود المتسول إلى إنكار صاحب النعمة الذي تدفعه نفسه العالية إلى إنكار حال المتسول. وربما تستردين مالك يا آنسة، إذا كان يعتبر الحسنة التي قدمتها إليه، لا أعرف كيف (الآنسة تقدم إلى فرنتسيسكا قدحا من القهوة) . تريدين بهذه القهوة أن تثيري دمي، لا أحب شربها (الآنسة تبعد القهوة جانبا) . «وا حسرتي، يا صاحبة العصمة، أولو القيمة هنا لا يفهمهم أحد» (تقول العبارة السابقة مقلدة طريقة الفرنسي) . طبعا لا، لا يفهمهم أحد، بدليل أن النصابين تركوا هكذا يعيثون في الأرض فسادا.
الآنسة (ساكنة، تفكر وهي تشرب) :
أنت تحسنين فهم الأخيار من الناس فمتى تتعلمين تحمل الأرذال؟ فهم أيضا بشر. وليسوا، في أغلب الأحوال، أرذالا عتاة على نحو ما يبدون. وعلى الإنسان أن يبحث عن الناحية الطيبة فيهم. وأغلب ظني أن هذا الفرنسي لا يزيد عن أن يكون مغرورا. والغرور وحده هو الذي يدفعه إلى أن يكون لاعبا غشاشا، ثم هو لا يريد أن يظهر حيالي بمظهر الممتن حتى يوفر على نفسه مؤنة الشكر. ربما ذهب الآن ليسدد ديونه البسيطة ويعيش مما يتبقى، إن كفى، هادئا مقتصدا ولا يفكر في القمار قط، فإن صح هذا يا عزيزتي فدعيه يطلب المدد، إن شاء (تقدم إليها قدح القهوة) . ضعيه هناك، ولكن، قولي، أليس المفروض أن يكون تلهايم قد أتى للقاء؟
فرنتسيسكا :
لا، يا آنستي الكريمة، لا يمكنني أن أبحث عن الناحية الطيبة في إنسان شرير، ولا أن أبحث عن الناحية الشريرة في إنسان طيب.
الآنسة :
سيأتي حتما؟
فرنتسيسكا :
بل عليه أن يبتعد عنا. وأنت لا تجدين فيه، فيه، في الرجل العظيم سوى قليل من الكبرياء؛ لذلك رأيت أن تداعبيه هذه المداعبة الفظيعة.
الآنسة :
أتعودين إلى هذا؟ اسكتي ، أريد أن أقضي هذا الأمر على هذا النحو. والآن وقد أفسدت علي متعتي، وامتنعت عن القول والفعل حسب الخطة التي اتفقنا عليها، سأتركك الآن معه، ثم لا بد أنه ذلك القادم.
المشهد الرابع (باول فرنر يدخل في خطوة عسكرية كما لو كان في الطابور - الآنسة - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا :
لا، بل هو رقيبه الحبيب.
الآنسة :
رقيبه الحبيب؟ بمن تعنين بالحبيب؟
فرنتسيسكا :
يا آنستي الكريمة، لا تربكي لي الرجل. خادمتك، يا حضرة الرقيب، بم أتيتنا؟
فرنر (يتجه إلى الآنسة دون أن يلتفت إلى فرنتسيسكا) :
السيد الرائد فون تلهايم يبلغ الآنسة الكريمة فون بارنهلم على لساني، أنا الرقيب فرنر، أسمى احترامه، ويقول إنه سيكون هنا بعد قليل.
الآنسة :
وأين هو؟
فرنر :
يا صاحبة العصمة. لقد خرجنا من الدار قبل أن تدق الساعة الثالثة، وبينما نحن في الطريق التقينا بصراف الحربية الذي شرع يتحدث إليه. ولما كان الحديث مع أمثال هذا السيد لا ينتهي أبدا إلى نهاية، فقد أشار إلي أن أذهب إلى الآنسة الكريمة وأبلغها الأمر.
الآنسة :
طيب، يا حضرة الرقيب. كل ما أرجوه أن يبلغ صراف الحربية الرائد بما يسره.
فرنر :
يندر أن يبلغ هؤلاء الرجال الضباط ما يسرهم. أتأمرين بشيء يا صاحبة العصمة؟ (يتأهب للانصراف) .
فرنتسيسكا :
إلى أين بهذه السرعة يا حضرة الرقيب؟ ألا تحب أن نتحادث معا هنيهة؟
فرنر (إلى فرنتسيسكا في حذر وجد) :
ليس هنا، يا بنية. مثل هذا يتنافى مع الأدب ومع وضعنا كخدم. صاحبة العصمة.
الآنسة :
شكرا على خدمتك، يا حضرة الرقيب. لقد سرني أن تعرفت عليك، وقد حكت لي فرنتسيسكا عنك خيرا كثيرا (ينحني فرنر انحناءة عسكرية ثم ينصرف) .
المشهد الخامس (الآنسة - فرنتسيسكا)
الآنسة :
هذا هو صاحبك الرقيب، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
ليس لدي الوقت الآن لأستنكر كلمة «صاحبك»، واللهجة التهكمية. نعم، يا آنستي الكريمة، هذا هو صاحبي الرقيب، لا شك أنك تجدينه جامدا متصلبا، بعض الشيء. والحق أنه بدا لي الآن كذلك، أو أوشك، ولكني أعتقد أنه ظن أن عليه أن يتصرف أمامك كما لو كان يقوم باستعراض. وطبعا عندما يستعرض الجنود يبدون أقرب إلى هيئة الدمى منهم إلى البشر. لكن انظري إليه واسمعيه عندما يكون على سجيته.
الآنسة :
هذا ما ينبغي أن أفعله حقا.
فرنتسيسكا :
لا بد أنه الآن في القاعة. أتسمحين لي أن أذهب وأتحدث معه هنيهة؟
الآنسة :
يحزنني أن أحرمك من هذه المتعة؛ فعليك أن تبقي هنا، يا فرنتسيسكا. لا بد أن تكوني حاضرة حديثنا. خطر ببالي شيء (تخلع خاتمها من إصبعها) . خذي خاتمي هذا وضعيه في مكان أمين وأعطيني خاتم الرائد بدله.
فرنتسيسكا :
ولم هذا؟
الآنسة (وفرنتسيسكا تحضر لها الخاتم الآخر) :
لا أعرف أنا نفسي على وجه التحديد، ولكن يلوح لي أنني أتوقع شيئا أستخدمه له. هناك من يقرع الباب. هاتي بسرعة، (تتختمه) . إنه هو.
المشهد السادس (فون تلهايم، في الحلة نفسها وقد أعد مظهره، كما طلبت فرنتسيسكا - الآنسة - فرنتسيسكا)
فون تلهايم :
آنستي الكريمة، لا تؤاخذيني على تأخري.
الآنسة :
أوه، يا حضرة الرائد، لا نريد أن نعالج ما بيننا من أمور بهذه الروح العسكرية. المهم أنك الآن هنا. وما انتظار المتعة، إلا متعة. والآن (تنظر إلى وجهه مبتسمة)
يا تلهايم الحبيب، ألم نكن منذ قليل أطفالا؟
فون تلهايم :
نعم كنا أطفالا، يا آنستي الكريمة، أطفالا يحبسون أنفسهم، حيث ينبغي عليهم أن ينطلقوا على سجيتهم.
الآنسة :
نريد أن نخرج أيها الرائد الحبيب لنشاهد المدينة، وبعد ذلك نذهب للقاء خالي.
فون تلهايم :
كيف هذا؟
الآنسة :
أترى؟ لم أتمكن من إبلاغك أهم شيء. نعم سيصل اليوم؛ فقد كانت المصادفة وحدها هي التي شاءت أن نصل قبله بيوم.
فون تلهايم :
الجراف فون بروخزل ؟ هل عاد؟
الآنسة :
لقد ألقت به اضرابات الحرب إلى إيطاليا، فلما عاد السلام أعاده معه. لا تشغل بالك يا تلهايم؛ فقد ذللنا أشد عقبة قامت في سبيل علاقتنا من جهته.
فون تلهايم :
علاقتنا؟
الآنسة :
فهو صديقك. وقد سمع من الكثيرين خيرا كثيرا عنك، حتى لم يكن هناك بد من أن يصبح صديقا لك. وإنه ليتحرق شوقا لرؤية وجه الرجل الذي اختارته وريثته الوحيدة شريكا لحياتها. إنه يأتي بصفته خالي وولي أمري وأبي ليعهد بي إليك.
فون تلهايم :
آه، يا آنسة، لماذا لم تقرئي خطابي؟ لم رفضت قراءته؟
الآنسة :
خطابك؟ نعم، أتذكر أنك أرسلت لي خطابا. ماذا فعلنا بالخطاب يا فرنتسيسكا؟ هل قرأناه أم لم نقرأه؟ ماذا كتبت لي فيه، يا حبيبي؟
فون تلهايم :
لا شيء أكثر مما يمليه علي الشرف.
الآنسة :
وهو ألا تتخلى عن بنت شريفة تحبك. طبعا هذا هو ما يمليه الشرف. لا شك أنه كان ينبغي علي أن أقرأ الخطاب، ولكني الآن أسمع منك ما كنت سأقرؤه.
فون تلهايم :
نعم، عليك أن تسمعي.
الآنسة :
لا، بل أنا لست بحاجة إلى سماعه؛ فهو شيء بديهي. لا يمكن أن تكون لك القدرة على خسة كهذه؛ أعني على رفضي الآن. أتعلم أنني، إن تخليت عني، سأكون طوال حياتي سخرية؟ ستشير إلي بنات المنطقة بأصابعهن، وسيقلن: «هذه هي، الآنسة فون بارنهلم، التي ظنت أنها تستطيع أن تحصل بمالها وثرائها على تلهايم الشهم الشجاع، كما لو كان الرجال الشجعان يشترون بالمال.» وسيقلن هذا لأنهن يحسدنني جميعا. أما أني غنية، فهذا أمر لا ينكرنه، وأما أني بنت طيبة جديرة برجلها فهذا ما لا يردن معرفته. أليس كذلك، يا تلهايم؟
فون تلهايم :
بلى، بلى، هو ذاك يا آنستي الكريمة. هذا ما أعرفه من بنات منطقتك. سيحسدنك على الحصول على ضابط محال إلى الاستيداع، على ضابط أصيب في كرامته، على مشوه، على متسول.
الآنسة :
أنت كل هذا؟ سمعت هذا الكلام، إن لم أخطئ، صباح اليوم. وهو مزيج من الشر والخير، فلنستجل هذه الأمور على حدة . أنت محال إلى الاستيداع؟ هذا ما سمعته. وأنا أعتقد أن كتيبتك قد اختلط أمرها بكتائب أخرى من باب الخطأ، وإلا، فكيف يمكن ألا يستبقي الجيش رجلا في مثل كفاءتك؟
فون تلهايم :
لقد أمكن ذلك فعلا، حدث ما كان لا بد أن يحدث. لقد اقتنع الكبار بأن الجندي لا يفعل بدافع الميل إليهم إلا قليلا، وأنه لا يفعل بدافع الواجب إلا قليلا أيضا، أو ما يزيد عنه زيادة طفيفة، وأن الجندي إنما يفعل كل شيء من أجل الشرف وحده، فماذا يظنون أنهم يدينون به إليهم؟ لقد حول السلام في نظرهم الكثيرين من أمثالي إلى رجال يمكن التخلي عنهم، والحقيقة أنه ليس هناك إنسان يصح التخلي عنه.
الآنسة :
أنت تتكلم كلام رجل يرى أن الكبراء بالقياس إليه أناس يمكن صرف النظر عنهم، وهم لم يجسموا وقتا من الأوقات أوضح من الآن رأيك فيهم. كم أنا شاكرة لهؤلاء الكبراء صنيعهم إذا تخلوا عن رجل لم أكن لأتقاسمه معهم إلا كارهة. أنا الآن رئيستك يا تلهايم، ولا حاجة بك من الآن إلى رئيس آخر. وها قد وجدك محالا إلى الاستيداع، وتلك سعادة لم أكن أتصورها ولا في الأحلام، ولكنك لست محالا إلى الاستيداع فحسب .. أنت أكثر من هذا، فماذا تكون أكثر من هذا؟ مشوها؛ أنت قلت هذا؟ ولكن (وهي تتفحصه من فوق إلى تحت)
المشوه قائم سليم معافى، ويلوح للناظرين جيد الصحة قوي الجسم. عزيزي تلهايم، إن كان فقدك بعض أطرافك القوية يدفعك إلى التفكير في طرق الأبواب للتسول، فإنني أتنبأ لك بأنك لن تنال شيئا إلا من أقلها، لن تستجيب لك إلا أبواب البنات الطيبات القلب مثيلاتي.
فون تلهايم :
لا أسمع الآن إلا البنت الهازلة، يا مينا الحبيبة.
الآنسة :
وأنا لا أسمع في عبارتك المبكتة إلا مينا الحبيبة. لا أريد أن أتابع الهزل؛ فقد اهتديت الآن إلى فكرة، أنت في الحقيقة لا تزيد عن أن تكون مشوها صغيرا، أصابت رصاصة ذراعك اليمنى فشلتها شللا خفيفا، وأنا إذا فكرت في الأمر من نواحيه لم أجده سيئا على نحو ما يبدو، بل إن هذا الشلل سيجعلني في مأمن من لكماتك.
فون تلهايم :
يا آنسة!
الآنسة :
تريد أن تقول: إن هذا الشلل سيجعلك أكثر تعرضا للكماتي. على أي حال، على أي حال، أرجو يا عزيزي تلهايم ألا تدع الأمور تصل بنا إلى هذا الحد.
فون تلهايم :
أنت تريدين أن تضحكي! وأنا أشكو من أني لا أستطيع الضحك معك.
الآنسة :
ولم لا؟ ما اعتراضك على الضحك؟ ألا يستطيع الإنسان أن يكون جادا جدا وهو يضحك؟ يا عزيزي الرائد، إن الضحك يبقي علينا عقلنا أكثر مما يفعل العبوس؟ والدليل ماثل بين أيدينا. صاحبتك الضاحكة تقدر الظروف خيرا منك أنت. أنت تسمي نفسك مصابا في شرفك لأنك أحلت إلى الاستيداع، وتسمي نفسك مشوها لأنك تلقيت رصاصة في ذراعك، هل هذا صحيح؟ أليست هذه مبالغة؟ وما ذنبي أنا إن كانت المبالغات تدفع إلى الضحك؟ فإذا تناولت الآن وصفك لنفسك بالمتسول وناقشته لظهر أيضا أنه لا يستند على أساس. ربما تكون قد فقدت عربتك مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ربما تكون قد فقدت عند هذا أو ذاك المصرفي مالا، ربما تكون قد فقدت الأمل في استعادة سلفة قدمتها من مالك إلى الدولة أثناء الحرب. لكن هذا كله لا يعني أنك تحولت إلى متسول، فإذا لم يكن قد بقي لديك من مال إلا ما سيأتيك به خالي ...
فون تلهايم :
خالك، يا آنستي الكريمة، لن يأتيني بشيء.
الآنسة :
أكثر من ألفي بستولة، كنت قد قدمتها بكرمك سلفة إلى أولي الأمر في منطقتنا.
فون تلهايم :
لو كنت قرأت خطابي، يا آنستي الكريمة.
الآنسة :
بل قرأته، وما قرأته خاصا بهذا الموضوع لغز لا طاقة لي على فهمه. محال أن يبدل الناس لك عملك الكريم بجريمة. اشرح لي هذا، يا عزيزي.
فون تلهايم :
تذكرين يا آنستي الكريمة أنني تلقيت أمرا عندما كنت مرابطا في منطقتكم بأن ألجأ إلى أشد وسائل الصرامة للحصول على الضريبة العسكرية المفروضة، ولكني آثرت التخلي عن الصرامة وقدمت المبلغ الناقص من مالي كسلفة.
الآنسة :
نعم، أذكر هذا، وقد همت بك من أجل هذا الصنيع، ولم أكن قد رأيتك بعد.
فون تلهايم :
وقد أعطاني أولو الأمر في المنطقة صكا، قررت أن أصرفه عندما يعود السلام ضمن الديون المستحقة على الدولة. وقد اعترفت السلطات بالصك ولكنها أقامت إشكالا حول ملكيتي للصك، ولوت أشداقها ساخرة عندما أكدت لها أنني دفعت المبلغ من مالي الخاص، وأعلنت أن الصك لا يزيد عن أن يكون رشوة من أولي الأمر في المنطقة لأني اتفقت معهم على الحصول منهم على أقل مبلغ في حالة الضرورة القصوى. وهكذا راح الصك من يدي، ولو حدث وسددت الدولة قيمته فلن تسددها إلي. وهذا هو السبب الذي من أجله أعتبر نفسي مصابا في شرفي، وليس السبب هو الإحالة إلى الاستيداع التي كنت سأطلبها بنفسي إن لم أكن قد حصلت عليها. لقد عبست يا آنستي؟ لم لا تضحكين؟ ها، ها، ها، سأضحك أنا.
الآنسة :
اكتم هذه الضحكة، يا تلهايم. أرجوك. إنها ضحكة فظيعة قوامها كره البشر. لا، لست بالرجل الذي يندم على فعل طيب لأن نتائج سيئة قد تبعته. لا، محال أن تندم لهذه النتائج السيئة. شهادة خالي، شهادة أولي الأمر جميعا عندنا.
فون تلهايم :
خالك، أولو الأمر عندك. ها، ها، ها.
الآنسة :
ضحكك يقتلني، يا تلهايم. إذا كنت تؤمن بالفضيلة والعناية الإلهية يا تلهايم فكف عن الضحك؛ فإني لم أسمع من قبل سبا ولعنا أفظع من ضحكك. دعنا نفترض أسوأ الظروف. إذا كان الناس هنا سينكرونك جميعا فلا يمكن أن ننكرك نحن يا تلهايم. وإذا كان لأولي الأمر عندنا أقل قدر من الإحساس بالشرف فأنا أعرف ما سيتعين عليهم فعله، ولكن هذه ليست مهارة مني. ما حاجتنا إلى هذا؟ قدر يا تلهايم أنك خسرت مبلغ الألفي بستولة في ليلة من الليالي الصاخبة. قدر أن ورقة «الولد» كانت بالنسبة لك ورقة خاسرة، وأن ورقة «البنت» (تشير إلى نفسها)
كانت لذلك رابحة، زاد ما أتت به من سعد على ما أضاعته الورقة الخاسرة. إن العناية الإلهية، إذا صدقتني، تحفظ الرجل الشريف من السوء، وكثيرا ما تدبر ذلك من قبل؛ فالعمل الذي خسرت به ألفي بستولة هو الذي جعلك تحصل علي؛ لأنك إن لم تكن قد عملته لما اشتقت لرؤياك والتعرف عليك. وأنت تعلم أنني أتيت بغير دعوة إلى أول حفلة اعتقدت أنك ستكون موجودا فيها، أتيت من أجلك، من أجلك أنت فقط. أتيت وقد عقدت النية على أن أحبك ، بل كنت أحبك فعلا. أتيت وقد عقدت النية على أن تكون لي، حتى لو وجدتك أسود البشرة قبيح المنظر كعطيل. وأنت لست أسود البشرة ولست قبيح المنظر ولا يحتمل أن تكون غيورا مثله. آه، ولكنك يا تلهايم تشبهه في كثير. أوه، يا لهؤلاء الرجال الأفظاظ الصارمين الذين يحدقون بعين جامدة في شيء واحد هو شبح الشرف، وتقسو قلوبهم في كل ما عدا ذلك من المشاعر. هات عينك هنا، انظر إلي، يا تلهايم (ينظر في هذه الأثناء في عمق وجمود بعين ثابتة إلى نقطة واحدة لا يتحول عنها) . فيم تفكيرك؟ ألا تسمعني؟
فون تلهايم (شاردا) :
بل أسمعك. لكن قولي لي يا آنستي: كيف دخل عطيل في خدمة البندقية؟ ألم يكن لعطيل وطن؟ لماذا أجر ذراعه ودمه لبلد أجنبي؟
الآنسة (فزعة) :
أين أنت يا تلهايم؟ هذا وقت ينبغي أن نقطع فيه حديثنا. تعال (تمسكه من يده)
فرنتسيسكا، دعي العربة تتقدم.
فون تلهايم (يتخلص من الآنسة ويتبع فرنتسيسكا) :
لا، يا فرنتسيسكا، لا يمكنني أن أتشرف بمرافقة الآنسة. لا تفقديني اليوم صوابي يا آنستي، واسمحي لي بالانصراف. إنك تسلكين أقصر الطرق إلى إضاعة صوابي، وسأقاوم ما استطعت. وما دمت في صوابي لم أزل، فاسمعي يا آنستي، قراري النهائي الذي لا يزحزحني عنه شيء في الدنيا. إذا لم تأت رمية سعد لي في اللعب وإذا لم تتغير الورقة من الضد إلى الضد، وإذا ...
الآنسة :
لا بد أن أقطع عليك الكلام، يا حضرة الرائد. كان ينبغي أن نبلغه الخبر من بادئ الأمر، يا فرنتسيسكا. أنت لا تفكرينني بشيء. لو كنت قد بدأت بالخبر السعيد، لتغير مجرى حديثنا يا تلهايم؛ أعني الخبر السعيد الذي أتاك به منذ هنيهة الفارس دي لا مارلينيير.
فون تلهايم :
الفارس دي لا مارلينيير؟ من هذا؟
فرنتسيسكا :
لعله رجل طيب، يا سيادة الرائد، إذا استثنينا ...
الآنسة :
اسكتي، يا فرنتسيسكا. هو أيضا ضابط محال إلى الاستيداع، كان يخدم في القوات الهولندية.
فون تلهايم :
ها، الملازم ريكو.
الآنسة :
أكد أنه صديقك.
فون تلهايم :
وأنا أؤكد أنني لست صديقه.
الآنسة :
وأن وزيرا، لا أذكر أي وزير، قد أطلعه على أن قضيتك تقترب من أسعد نهاية، وأن كتابا بخط الملك في الطريق إليك.
فون تلهايم :
ومن يجمع ريكو والوزير معا؟ لا بد فعلا أن شيئا حدث في قضيتي؛ فقد حدثني صراف الحربية الساعة بأن الملك ألغى كل ما كان قد اتخذ ضدي، وأنني أستطيع أن أسحب كلمة الشرف التي قدمتها تحريريا، وضمنتها أنني لن أبرح حتى تبرئ السلطات ذمتي تماما. ويبدو أن الأمر سيكون كذلك، وأنهم يريدون أن أبرح، ولكني لن أبرح قط. وأفضل أن يفترسني أشد البؤس أمام أعين المفترين علي قبل ذلك.
الآنسة :
أيها الرجل العنيد.
فون تلهايم :
لا حاجة بي إلى عفو، أريد العدل. وشرفي ...
الآنسة :
شرف رجل مثلك ...
فون تلهايم (ثائرا) :
لا، يا آنستي، يمكنك أن تحسني الحكم على كل شيء إلا على هذا. الشرف شيء آخر غير صوت ضميرنا، شيء آخر غير ما يشهد به القليل من الأخيار.
الآنسة :
لا، لا، أعرف ذلك. الشرف هو ... هو الشرف.
فون تلهايم :
باختصار يا آنستي، أنت لم تدعيني أكمل كلامي. أردت أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردون إلي شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنني أن أكون لك يا آنستي، الدنيا كلها لا تعتبرني جديرا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلا لا غبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرض موضوعه للازدراء، حب دنيء. وإن الرجل رجل دنيء ذلك الذي لا يخجل من بناء سعادته كلها على بنت تدفعها عاطفتها العمياء.
الآنسة :
تقول هذا جادا، يا حضرة الرائد؟ (وهي تدير إليه ظهرها فجأة)
فرنتسيسكا.
فون تلهايم :
لا تثوري يا آنستي.
الآنسة (إلى فرنتسيسكا، جانبا) :
حان الوقت، بم تنصحينني، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
لا أنصحك بشيء، ولكنه فعلا يثقل عليك بعض الإثقال.
فون تلهايم (يأتي إليها مقاطعا) :
أنت ثائرة، يا آنستي.
الآنسة (متهكمة) :
أنا؟ مطلقا.
فون تلهايم :
لو كان حبي لك قد قل، يا آنستي ...
الآنسة (بالأسلوب نفسه) :
أوه، مؤكد، لكان ذلك من حسن حظي. وأنا كذلك، يا حضرة الرائد، لا أريد سوء الحظ لك. لا بد أن يكون الإنسان في الحب بعيدا عن الأنانية. كذلك كان من الخير أنني لم أكن معك أكثر صراحة مما كنت، فربما منحتني رحمتك ما منعه عني حبك (وهي تخلع الخاتم من إصبعها ببطء) .
فون تلهايم :
ماذا تعنين بذلك يا آنسة؟
الآنسة :
لا يجوز للمرء أن يجعل غيره أكثر تعاسة، ولا أن يجعله أكثر سعادة. هذا ما يتطلبه الحق، وأنا أصدقك في هذا، يا حضرة الرائد، وأعرف أن لديك من الشرف قدرا كبيرا يمنعك من إنكار الحب.
فون تلهايم :
تتهكمين، يا آنستي؟
الآنسة :
إليك هذا الخاتم الذي أكدت لي به إخلاصك، أرده إليك (تقدم إليه الخاتم)
انتهينا، ليتنا لم نعرف أحدنا الآخر.
فون تلهايم :
ماذا أسمع؟
الآنسة :
هل هذا يدهشك؟ خذه يا سيدي.
لعل ذلك لم يكن منك مجرد عبث؟
فون تلهايم (يتناول الخاتم من يدها) :
رباه، أيمكن أن تتكلم مينا هكذا؟
الآنسة :
أنت لا تستطيع أن تكون لي في حالة واحدة، أما أنا فلا يمكن أن أكون لك في أية حالة. سوء حظك أمر محتمل أما سوء حظي فأمر مؤكد. وداعا (تهم بالانصراف) .
فون تلهايم :
إلى أين يا حبيبتي مينا؟
الآنسة :
سيدي، ها أنت ذا تسبني الآن فتناديني بهذا النداء الحبيب الحميم.
فون تلهايم :
ماذا بك يا آنستي؟ إلى أين؟
الآنسة :
دعني. أخفي دموعي عنك، يا خائن. (تخرج.)
المشهد السابع (فون تلهايم - فرنتسيسكا)
فون تلهايم :
دموعك؟ أنا أدعك؟ (يريد اللحاق بها) .
فرنتسيسكا (ترده) :
لا ، يا سيادة الرائد. لا شك أنك لا تريد أن تتبعها إلى حجرة النوم؟
فون تلهايم :
سوء حظها؟ ألم تتكلم عن سوء الحظ؟
فرنتسيسكا :
بل تكلمت بلا شك. وكانت تعني سوء حظها إذ تفقدك بعد أن ...
فون تلهايم :
بعد أن؟ بعد أن ماذا؟ وراء هذه الكلمة يكمن الكثير، ما هذا، يا فرنتسيسكا؟ تكلمي، قولي.
فرنتسيسكا :
بعد أن، يعني بعد أن ضحت بالكثير من أجلك.
فون تلهايم :
ضحت من أجلي؟
فرنتسيسكا :
سأحكي لك في إيجاز. لقد كان تخلصك منها على هذا النحو يا سيادة الرائد، في صالحك. ولم لا أقول لك ما في الأمر؟ فإنه لا يمكن أن يبقى سرا. لقد هربنا. الجراف فون بروخزل حرم الآنسة من الميراث؛ لأنها لا تريد أن تقبل من اختاره هو لها زوجا. تركت كل شيء، واحتقرت كل شيء من أجل هذا، ثم ماذا كان علينا أن نفعل؟ قررنا أن نلجأ إلى ذلك الذي ...
فون تلهايم :
كفاني هذا. تعالي، لا بد أن أرتمي إلى قدميها.
فرنتسيسكا :
أي تفكير هذا الذي فكرت؟ بل عليك أن تنصرف وتشكر المصادفات السعيدة.
فون تلهايم :
يا بائسة، ما ظنك بي؟ لا، يا فرنتسيسكا العزيزة، لم تصدر هذه النصيحة عن قلبك. سامحي تهوري.
فرنتسيسكا :
لا تطل تعطيلي. أريد أن أرى ما تفعل؛ فما أسهل أن يصيبها مكروه! اذهب. والأفضل أن تأتي مرة أخرى إن شئت أن تأتي مرة أخرى (تذهب في أعقاب الآنسة) .
المشهد الثامن (فون تلهايم)
فون تلهايم :
ولكن يا فرنتسيسكا. أوه، سأنتظركما هنا. لا، بل الأمر أكثر إلحاحا. وهي إذا كانت جادة، فلن يخطئنا عفوها. الآن أحتاج إليك يا فرنر المخلص. لا، يا مينا، لست خائنا (يخرج مسرعا) .
الفصل الخامس
المشهد الأول
المنظر: القاعة (فون تلهايم يدخل من ناحية وفرنر من الناحية الأخرى)
فون تلهايم :
هه، فرنر. بحثت عنك في كل مكان، أين اختبأت؟
فرنر :
وأنا كذلك، يا حضرة الرائد، كنت أبحث عنك، ولم يؤد بحثي إلى خير مما أدى إليه بحثك. آتيك بخبر سار.
فون تلهايم :
آه، لا حاجة بي الآن إلى خبرك السار. أريد مالك. بسرعة، يا فرنر أعطني ما معك ثم حاول أن تجمع من المال ما يمكنك جمعه.
فرنر :
حضرة الرائد؟ لقد حدث ما توقعته؛ سيقترض مني مالا عندما يكون لديه هو من المال ما يقرض منه الآخرين.
فون تلهايم :
لعلك لا تتهرب؟
فرنر :
وحتى لا يكون لي عليه لوم، سيأخذ مني ما يأخذ بيمناه ويرده إلي بيسراه.
فون تلهايم :
لا تعطلني، يا فرنر. وأنا أنوي مخلصا أن أرد المال إليك، ولكن متى وكيف؟ هذا ما لا يعلمه إلا الله.
فرنر :
إذن فأنت لا تعلم أن خزينة الدولة قد تلقت أمرا بدفع أموالك إليك؟ بلغني ذلك الآن عندما ...
فون تلهايم :
فيم هذا الحديث العابث؟ كيف يستغفلك المستغفلون؟ ألا تفهم أنه لو كان هذا حقا لكنت أول من علم به؟ باختصار، يا فرنر، المال، المال.
فرنر :
طيب بكل سرور. معي شيء من المال. هذه مائة جنيه ذهبا وهذه مائة دوكات (يعطيه المبلغين) .
فون تلهايم :
اذهب إلى يوست وأعطه مبلغ المائة جنيه ذهبا حتى يفك حالا رهن الخاتم الذي رهنه صباح اليوم، ولكن من أين تحصل على مبالغ أخرى يا فرنر؟ ما زلت أحتاج إلى أكثر من هذه بكثير.
فرنر :
دعني أتصرف في هذا الأمر؛ فالرجل الذي اشترى مزرعتي يقيم في المدينة هنا. حقيقة أن موعد الدفع يحل بعد أسبوعين، لكن المال حاضر لديه، سأعطيه نصفا في المائة خصما وهو ...
فون تلهايم :
حسن، يا فرنر العزيز. ها أنت ذا ترى أنني إذ ألوذ لا ألوذ إلا بك؟ هناك شيء أسر به إليك، الآنسة هنا - أنت رأيتها - سيئة الحظ.
فرنر :
يا للحزن!
فون تلهايم :
ولكنها ستكون غدا زوجتي.
فرنر :
يا للفرحة.
فون تلهايم :
وبعد غد سأذهب بها بعيدا؛ فقد سمح لي بأن أرحل، وأريد أن أرحل بعيدا وأدع كل شيء هنا معلقا، فمن يعلم ربما كان القدر قد رصد لي سعدا آخر، إن تركت هذا يضيع مني. إن شئت يا فرنر، تعال معنا. نريد أن نعود إلى العمل.
فرنر :
حقا، ولكن طبعا حيث تكون حرب، يا حضرة الرائد؟
فون تلهايم :
وهل يمكن غير ذلك؟ اذهب الآن، يا فرنر العزيز، سنعود إلى هذا الحديث مرة أخرى.
فرنر :
أوه يا حبيب القلب. بعد غد؟ ولم لا تقول غدا؟ سأجمع المطلوب. في فارس، يا حضرة الرائد، حرب عظيمة، ما رأيك فيها؟
فون تلهايم :
سنفكر في هذا. اذهب الآن، يا فرنر.
فرنر :
يوهووا. يعيش الأمير هيراقليوس! (يخرج ) .
المشهد الثاني (فون تلهايم)
فون تلهايم :
ماذا حدث لي؟ لقد أوتيت روحي حوافز جديدة. سوء حظي أنا طرحني أرضا، وجعلني غاضبا قصير النظر خجولا متهاونا. أما سوء حظها هي فقد رفعني وجعلني أنظر حوالي في حرية وأحس في نفسي إرادة وقوة وعزما على أن أقوم من أجلها بكل شيء. ما بقائي الآن؟ (يهم بالسير إلى حجرة الآنسة فإذا فرنتسيسكا تخرج مقبلة عليه) .
المشهد الثالث (فرنتسيسكا - فون تلهايم)
فرنتسيسكا :
هذا أنت؟ تهيأ لي أني أسمع صوتك. ماذا تريد يا سيادة الرائد؟
فون تلهايم :
ماذا أريد؟ ماذا تعمل الآنسة؟ تعالي.
فرنتسيسكا :
تريد أن تخرج إلى العربة الآن.
فوت تلهايم :
وحدها؟ بدوني؟ إلى أين؟
فرنتسيسكا :
أنسيت يا سيادة الرائد؟
فون تلهايم :
ألست لبيبة يا فرنتسيسكا؟ لقد أثرتها، وكانت حساسة. وسأطلب منها الصفح ولسوف تصفح عني.
فرنتسيسكا :
كيف؟ بعد أن أخذت الخاتم، يا سيادة الرائد؟
فوت تلهايم :
ها. فعلت ذلك في غير وعي. الآن فقط بدأت أفكر في الخاتم. أين وضعته؟ (يبحث عنه)
ها هو.
فرنتسيسكا :
هل هو هذا؟ (يعيده حيث كان، جانبا)
آه ليته يتفحصه!
فون تلهايم :
لقد فرضته علي بمرارة، ولكني نسيت هذه المرارة الآن، ليس في طاقة قلب مثقل أن يزن الألفاظ وزنا، ولكنها لن ترفض بلا شك أن تعود إلى قبول الخاتم، ثم ألم يزل معي خاتمها؟
فرنتسيسكا :
إنها ترجو أن يرد إليها. أين هو، يا سيادة الرائد؟ أرنيه.
فون تلهايم (مرتبكا بعض الشيء) :
نسيت أن أتختمه، يوست، يوست سيحضره إلي حالا.
فرنتسيسكا :
أظن أن الخاتمين متشابهان. أرني هذا؛ فأنا أحب رؤية مثل هذه الأشياء حبا جما.
فون تلهايم :
في فرصة أخرى، يا فرنتسيسكا. تعالي الآن.
فرنتسيسكا (جانبا) :
لا يدع أحدا يكشف له خطأه.
فون تلهايم :
ماذا تقولين، خطأ؟
فرنتسيسكا :
نعم أقول إنك تخطئ خطأ مؤكدا إذا اعتقدت أن الآنسة ما زالت صفقة رابحة؛ فأملاكها الخاصة ليست عظيمة، وفي استطاعة الأوصياء الطامعين أن يقدموا لها حسابات تؤدي بها إلى الإفلاس التام. وقد كان أملها معقودا على خالها، لكن ذلك الخال الفظ ...
فون تلهايم :
دعيه وشأنه. ألست رجلا حتى أرد لها ذلك كله؟
فرنتسيسكا :
أتسمع؟ إنها تدق لي الجرس، لا بد أن أدخل إليها.
فون تلهايم :
سأدخل معك.
فرنتسيسكا :
والله لا يمكن. لقد حظرت علي كل الحظر أن أتكلم معك، فلا أقل إذن من تدعني أدخل ثم تدخل ورائي (تدخل) .
المشهد الرابع (فون تلهايم - صائحا وراءها)
فون تلهايم :
أبلغيها أني قادم. وتكلمي بلساني، يا فرنتسيسكا سأتبعك حالا. ماذا أقول لها؟ لا حاجة إلى الإعداد ما دام القلب هو الذي سيتكلم. هناك شيء واحد يحتاج إلى حركة مدروسة، تحفظها وتخوفها من أن ترتمي بين ذراعي وهي سيئة الحظ ثم مهارتها في تمثيل السعادة أمامي، السعادة التي فقدتها بسببي. وهذا التشكك في شرفي وفي قيمتها الفعلية، وكيف أعتذر عنه لديها هي. لدي أنا تم الاعتذار. ها، ها هي ذي تأتي.
المشهد الخامس (الآنسة - فرنتسيسكا - فون تلهايم)
الآنسة (وهي خارجة من الحجرة، كما لو كانت لم تر الرائد) :
هل العربة أمام الباب يا فرنتسيسكا؟ هاتي مروحتي.
فون تلهايم (مقبلا عليها) :
إلى أين، يا آنستي؟
الآنسة (ببرود متصنع) :
إلى الخارج، يا سيادة الرائد. عرفت السبب الذي من أجله أتيت إلى هنا ثانية؛ لترد إلي خاتمي. طيب، يا سيادة الرائد، هلا تكرمت فسلمته إلى فرنتسيسكا. فرنتسيسكا، خذي الخاتم من السيد الرائد. ليس لدي وقت أضيعه (تهم بالخروج) .
فون تلهايم (يخطو أمامها) :
آنستي. آه، ما هذا الذي سمعت، يا آنستي؟ أنا لست جديرا بكل هذا الحب الجم.
الآنسة :
انتهيت يا فرنتسيسكا؟ السيد الرائد ...
فرنتسيسكا :
كشفت له السر كله.
فون تلهايم :
لا تغضبي مني ، يا آنستي. لست خائنا، لقد فقدت أنت بسببي الكثير في نظر الدنيا، لا في نظري أنا. في نظري أنا كسبت كسبا لا نهاية له عندنا فقدت ما فقدت. وقد كان فقدك هذا جديدا عليك فخشيت أن يؤثر في أثرا سيئا فقررت كتمانه علي في بادئ الأمر. وأنا لا أشكو من هذا التشكك؛ فإنه إنما صدر عن رغبتك في الحفاظ علي. هذه الرغبة هي فخاري . لقد ألفيتني تعيسا فلم تقبلي أن تضيفي إلى تعاستي تعاسة أخرى، ولم تتوقعي أن تعاستك كانت ستغطي على تعاستي.
الآنسة :
كل هذا عظيم، يا حضرة الرائد. المهم أن ما حدث قد حدث. وقد أحللتك من الصلة التي كانت تربطنا. وأنت باستردادك خاتمك ...
فون تلهايم :
لم أوافق على شيء بتاتا، بل أعتبر نفسي أشد ارتباطا بك عن أي وقت مضى. أنت لي، يا مينا، لي إلى الأبد (يخرج الخاتم ). إليك للمرة الثانية هذا، ضمان إخلاصي.
الآنسة :
أنا آخذ هذا الخاتم مرة ثانية؟ هذا الخاتم؟
فون تلهايم :
نعم، يا مينا يا أحب الناس إلي، نعم.
الآنسة :
ماذا تطلب مني؟ قبول هذا الخاتم؟
فون تلهايم :
لقد تلقيت هذا الخاتم أول مرة من يدي عندما كانت أحوالنا متساوية وسعيدة. وأنت الآن لم تعودي سعيدة، ولكنا للمرة الثانية نتساوى حالا. والمساواة هي دائما أقوى رباط للحب. أتسمحين، يا عزيزتي مينا (يمسك يدها ليلبسها الخاتم) .
الآنسة :
كيف؟ بالقوة، يا حضرة الرائد؟ لا، لا توجد قوة في الدنيا يمكن أن تكرهني على قبول هذا الخاتم مرة ثانية. أوتظن أنني بحاجة إلى خاتم؟ أوه، أنت ترى بلا شك (تشير إلى خاتمها)
أن لدي هنا خاتما، لا يقل عن خاتمك في شيء؟
فرنتسيسكا :
ولم يلحظ شيئا للآن.
فون تلهايم (يترك يد الآنسة من يده) :
ما هذا؟ أرى الآنسة فون بارنهلم ولكني لا أسمعها. أتتمنعين، يا آنستي؟ سامحيني على تلقف كلمتك وتكرارها.
الآنسة (تتكلم بلهجتها الطبيعية) :
هل أهانتك هذه الكلمة يا حضرة الرائد؟
فون تلهايم :
لقد آلمتني.
الآنسة (متأثرة) :
ما كان لها أن تؤلمك. سامحني يا سيادة الرائد.
فون تلهايم :
ها، هذه النبرة الأليفة تقول لك إنك قد عدت لنفسك، يا آنستي، وإنك ما زلت تحبينني، يا مينا.
فرنتسيسكا (منفجرة) :
أوشك الهزل أن يجاوز الحد.
الآنسة (آمرة) :
لا تتدخلي في أمرنا، يا فرنتسيسكا، أرجوك.
فرنتسيسكا (جانبا، متأثرة) :
ألا يكفي هذا القدر؟
الآنسة :
نعم، يا سيدي، لو تصرفت ببرودة وسخرية لما كان تصرفي سوى غرور من غرور النساء. دعني أيها الغرور ؛ فإنك يا سيدي تستحق أن تجدني صادقة كما أنك صادق، ما زلت أحبك، يا تلهايم، ما زلت أحبك، ورغم ذلك ...
فون تلهايم :
لا تزيدي على هذا شيئا يا حبيبيتي مينا، كفى هذا (يمسك يدها مرة ثانية، ليلبسها الخاتم) .
الآنسة (تجذب يدها) :
ورغم ذلك فلن أدع ذلك يحدث أبدا، أبدا. ماذا خطر لك يا سيادة الرائد؟ لقد فكرت أنا أن سوء حظ يكفيك. عليك أن تبقى هنا. عليك أن تأخذ رد شرفك كاملا بالعند؛ تأخذه بالعند. ولا أجد تعبيرا آخر في هذه العجلة. تأخذه بالعند، ولو التهمك أشد البؤس التهاما أمام الحاقدين عليك.
فون تلهايم :
هكذا كان فكري وهكذا كان كلامي عندما لم أكن أعرف ما أفكر وما أتكلم. كان الغضب والغيظ المكبوت ينشران حول نفسي ستارا كالضباب، لم يتمكن حتى الحب وهو في أكمل روعة السعادة أن يبدده بنور. لكن الحب بعث ابنته، الشفقة، وهي العليمة بالألم المظلم الحالك، فبددت الضباب وأعادت فتح مسالك نفسي أمام أحاسيس العطف المؤثرة. وصحت عندي نزعة المحافظة على النفس؛ فقد أصبح عندي شيء نفيس أنفس مني أنا أريد أن أحافظ عليه، وأحافظ عليه بمحافظتي على نفسي. لا تعتبري، يا آنستي، كلمة شفقة إهانة لك، إنها كلمة يحق لنا أن نسمعها دون شعور بالذلة، إذا قالها المتسبب البريء في سوء الحظ. وأنا المتسبب في سوء الحظ؛ فقد فقدت بسببي الأصحاب والأقارب، فقدت المال والوطن، ولا بد أن تجدي بيدي وفي هذا كله مرة ثانية، وإلا بقيت أحمل وزر خراب أرق وأحسن بنات جنسها. لا تجعليني أفكر في مستقبل يتحتم علي فيه أن أكره نفسي. لا، لن يبقيني في هذا المكان شيء بعد الآن، من الآن. سأرد على الظلم الذي يحل بي بالازدراء وبالازدراء فقط. هل هذا البلد هو الدنيا كلها؟ هل تطلع الشمس هنا فقط؟ ما يمنعني من أن أذهب حيثما أشاء؟ وأي عمل يمكن أن أمنع من أدائه؟ وحتى لو تحتم علي أن أبحث عن عمل في أقصى بلاد الأرض فاتبعيني يا حبيبتي مينا ، قريرة الفؤاد؛ فلن ينقصنا شيء قط. ولي صديق سوف يسره أن يساندني.
المشهد السادس (ضابط - فون تلهايم - الآنسة - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا (وقد لمحت الضابط) :
هست، يا سيادة الرائد.
فون تلهايم (للضابط) :
من تريد؟
الضابط :
أريد السيد الرائد فون تلهايم. آه، أهو أنت، سيدي الرائد؟ أنا مكلف بتسليم هذه الرسالة الملكية إليك (يخرج الرسالة من حقيبته) .
فون تلهايم :
إلي أنا؟
الضابط :
حسب العنوان المكتوب فوقها.
الآنسة :
فرنتسيسكا، سمعت؟ كان ما قاله الفارس الحق.
الضابط (وتلهايم يأخذ الخطاب) :
أرجو المعذرة يا سيادة الرائد، كان المفروض أن تتسلم هذا الخطاب بالأمس، ولكني لم أتمكن من الوصول إلى عنوان سكنك، حتى التقيت اليوم بالملازم ريكو أثناء الاستعراض فدلني عليه.
فرنتسيسكا :
آنستي الكريمة، هل سمعت؟ هذا هو وزير الفارس ريكو. «ما اسم ذلك الوزير هناك في الميدان الواسع؟»
فون تلهايم :
شكرا جزيلا لك على ما تجشمت من مشقة.
الضابط :
بل أنا الذي أدين لك بالشكر، يا سيادة الرائد (يخرج) .
المشهد السابع (فون تلهايم - الآنسة - فرنتسيسكا)
فون تلهايم :
آه، يا آنستي، ما هذا الذي بين يدي؟ وبأي خبر يأتي؟
الآنسة :
ليس لي أن أمد فضولي فأصل به إلى هذا الحد.
فون تلهايم :
كيف؟ أما زلت تفرقين بين مصيري ومصيرك؟ ولكن لماذا لا أفض الخطاب؟ لا يمكن أن يجعلني أكثر تعاسة، يا حبيبتي مينا، لا يمكن أن يجعلنا أكثر تعاسة، ولا يمكن إلا أن يجعلنا أكثر سعادة. بعد إذنك يا آنستي. (يفض الخطاب ويقرؤه، وفي هذه الأثناء، يدخل صاحب الفندق متلصصا).
المشهد الثامن (صاحب الفندق - السابقون)
صاحب الفندق (لفرنتسيسكا) :
بست، أي بنيتي الجميلة، كلمة واحدة.
فرنتسيسكا (تقترب ناحيته) :
سيدي؟ نحن أنفسنا ما زلنا نجهل ما بالخطاب.
صاحب الفندق :
ومن أراد أن يعلم ما بالخطاب؟ إنما أنا أتيت من أجل الخاتم، لا بد أن تعيده الآنسة الكريمة إلي حالا؛ فقد حضر السيد يوست الآن ليفك رهنه.
الآنسة (وقد اقتربت من صاحب الفندق هي كذلك في هذه الأثناء) :
ما عليك إلا أن تقول ليوست إن رهانه قد فك، وقل له كذلك إنني أنا الذي فككت الرهن، أنا.
صاحب الفندق :
ولكن ...
الآنسة :
أنا متحملة كل المسئولية. اذهب (صاحب الفندق يخرج) .
المشهد التاسع (فون تلهايم - الآنسة - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا :
والآن يا آنستي الكريمة، تصالحي مع الرائد المسكين.
الآنسة :
أو، يا لك من ملحة! تلحين الآن في الطلب كما لو كانت العقدة لن تنحل الآن من تلقاء نفسها.
فون تلهايم (بعد أن قرأ، في تأثر بالغ الشدة) :
ها، وها هو ذا يظهر هنا كذلك على حقيقته. أوه، يا آنستي، أي عدل، أي عفو؟ هذا كثير، أكثر مما كنت أتوقع، أكثر مما أستحق. سعادتي، شرفي، كل شيء عاد إلى خير حال. هل أنا في حلم؟ (ينظر في الخطاب، كما لو كان يريد أن يتأكد مرة ثانية) . لا، ليست تهيؤات كاذبة من صنع آمالي. اقرئي أنت نفسك، يا آنستي، اقرئي أنت نفسك.
الآنسة :
لست بغير متواضعة، يا سيادة الرائد.
فون تلهايم :
غير متواضعة؟ الخطاب موجه إلي، إلى حبيبك تلهايم، يا مينا. وهو يأتي بما لا يمكن لخالك أن يحرمك منه، لا بد أن تقرئيه، اقرئي.
فون تلهايم :
إذا كان هذا يرضيك يا سيادة الرائد (تتناول الخطاب وتقرأ) . «عزيزي الرائد فون تلهايم، أحيطك علما بأن الأمر الذي أثار الشكوك في نفسي حولك، قد تكشف لصالحك؛ فقد تبين أن أخي كان يعلم به عن كثب، وقد أدلى بشهادة برأتك وزادت على ذلك كثيرا. وقد تلقت خزينة الدولة أمرا بأن ترد إليك الصك الذي تعرفه، وبأن تدفع إليك أموالك التي دفعتها مقدما. كذلك أصدرت أوامري بأن تلغى كل الإجراءات التي تتخذها جهات الصرف الحربية ضد الحسابات المقدمة منك. أبلغني عما إذا كانت حالتك الصحية تسمح لك بالعودة إلى الخدمة العسكرية؛ فإنني لا أحب أن أفقد رجلا في مثل شجاعتك وتفكيرك. وتقبل تحيات ملكك الذي يحسن الظن بك ... إلخ.»
فون تلهايم :
هه ما رأيك في هذا؟
الآنسة (تطبق الخطاب وتعيده) :
أنا؟ لا شيء.
فون تلهايم :
لا شيء؟
الآنسة :
إن ملكك العظيم، رجل يتصف إلى جانب العظمة بالطيبة، ولكن ما شأني بهذا؟ إنه ليس ملكي.
فون تلهايم :
ولا ترين شيئا غير ذلك؟ شيئا يتعلق بنا نحن؟
الآنسة :
أنك ستعود إلى خدمة الملك، وسيرقى السيد الرائد فيصبح عقيدا أو عميدا. أهنئك على ذلك من كل قلبي.
فون تلهايم :
ألا تعرفينني خيرا من ذلك؟ لا، لقد أعاد إلي الحظ أكثر بكثير مما يكفي لتحقيق آمال رجل عاقل متزن، وبيدك أنت وحدك يا مينا أن تقرري ما إذا كان علي أن أكون في خدمة إنسان آخر، علاوة عليك، لأهب حياتي كلها لخدمتك؛ فإن خدمة الكبراء خطيرة ولا تجزي الجهد والإكراه والإذلال الذي تتطلبه. ومينا ليست من المغرورات اللاتي لا يحببن في أزواجهن شيئا سوى اللقب والرتبة، إنها بلا شك تحبني من أجلي أنا، وأنا من أجلها أنسى الدنيا بأسرها. لقد انخرطت في سلك الجندية بدافع الحزبية، ولا أدري أنا نفسي الأسس السياسية التي حاربت من أجلها، وإنما تهيأ لي أنه من الخير لكل رجل شريف أن ينخرط في هذا السلك ليعرف ويألف الخطر على حقيقته ويتعلم الثبات والعزم. وأتت المحنة الظاهرية فأوشكت أن تحول هذه التجربة إلى تخصص، وأن تجعل من هذا العمل المؤقت حرفة ثابتة. أما الآن، فليس هناك ما يكرهني على شيء ولا أمل لي إلا أن أكون إنسانا هادئا راضيا. سوف أصبح ذلك الإنسان بلا شك معك، يا مينا؛ يا حبيبتي؛ سوف أصبح في صحبتك ذلك الإنسان؛ ولن أتغير أو أتبدل. غدا يربطنا الرباط المقدس، ثم ننظر حوالينا ونختار من الدنيا الواسعة المعمورة أهدأ وأبهج وأضحك ركن لا يكون في حاجة إلا إلى اثنين سعيدين، فنتخذه مسكنا ، ويكون كل يوم من أيامنا ... ماذا بك، يا آنستي؟ (تتلفت هنا وهناك محاولة إخفاء تأثرها) .
الآنسة (تتمالك نفسها) :
إنك قاس، شديد القسوة، يا تلهايم، تصور لي سعادة ساحرة، لا بد لي أن أرفضها؛ فإن ما فقدته ...
فون تلهايم :
ما فقدته؟ ما هذا الذي فقدته؟ إن كل ما يمكن أن تفقده مينا، ليس هو مينا نفسها، ما زلت أنت أحلى وأحب وأرق وأحسن مخلوق تحت الشمس، كلك طيبة وعظمة، كلك براءة ونعيم. من حين لآخر تصرف أحمق بسيط، من حين لآخر شيء من العند. لحسن الحظ، لحسن الحظ، وإلا لأصبحت مينا ملاكا يتحتم علي أن أمجده وأنا أرتعد، ولا يمكن أن أحبه (يمسك يدها ليقبلها) .
الآنسة (تجذب يدها) :
لا، يا سيدي. كيف تغيرت هكذا فجأة؟ هل هذا الحبيب المداعب المندفع هو تلهايم الثابت البارد؟ هل تمكن حظه الذي عاد إليه من أن يؤجج فيه هذه النار؟ فليسمح لي في خضم هذه الحرارة العابرة أن أفكر من أجلنا نحن الاثنين؛ فقد فكر هو فكرته وسمعته أنا يقول إن الحب الذي لا يخشى أن يعرض المحبوب للازدراء، حب عديم الجدارة. هذا صحيح، وأنا أسعى لبلوغ حب صاف نبيل من نوع حبه هذا. والآن عندما يدعوه الشرف ويهتم ملك بضمه إليه، هل يصح أن أفهم أنه مستسلم لأحلام حبيبة كانت له معي؟ وأن المحارب المظفر قد تحور إلى راع متغزل؟ لا، يا سيادة الرائد، اتبع إشارة مصير أفضل.
فون تلهايم :
طيب. إذا كانت دنيا المجد تستهويك، يا مينا. فلا بأس، نبقي على دنيا المجد. كم هي صغيرة فقيرة دنيا المجد. أنت لا تعرفين منها إلا الناحية اللذيذة، ولكني لا أشك يا مينا، أنك ... ليكن، حسن، حتى ذلك الحين. لن تخلو دنيا المجد من معجبين يعجبون بنواحي الكمال فيك، ولن تفتقر سعادتي إلى حسد الحاسدين.
الآنسة :
لا، يا تلهايم، لم يكن هذا قصدي. إنما قصدت أن أنصحك بالعودة إلى دنيا المجد، إلى سلك الشرف، ولم أرد أن أتبعك في هذا المضمار. هنالك تحتاج إلى زوجة لا غبار عليها، يا تلهايم، لا إلى آنسة ساكسونية تائهة ارتمت عليك ارتماء.
فون تلهايم (ينتفض ويتلفت حواليه ثائرا) :
من ذا الذي يحق له أن يتكلم هذا الكلام؟ آه، يا مينا، إنني أرتعد ارتعادا إذا تخيلت أحدا آخر يوجه إلي هذا الكلام. إذن لثرت عليه ثورة عارمة لا تقف عند حد.
الآنسة :
تماما. هذا هو بالضبط ما أخشاه. أنت لا تقوى على تحمل أقل سخرية يوجهها إلي موجه، ولكنك ستضطر كل يوم إلى قبول أشد أنواع السخرية مرارة. باختصار، اسمع يا تلهايم، القرار الذي اتخذته وصممت عليه، والذي لن يحول بيني وبينه شيء في الدنيا ...
فون تلهايم :
قبل أن تتمي كلامك، يا آنسة، أتوسل إليك يا مينا، فكري لحظة أخرى أن قرارك سيكون بالنسبة لي حكما بالحياة أو بالموت.
الآنسة :
لا حاجة بي إلى مزيد من التفكير. مما لا شك فيه أنني أعدت إليك الخاتم الذي قدمته إلي في الماضي ضمانا لإخلاصك، ومما لا شك فيك أنك استعدت هذا الخاتم نفسه؛ ومما لا شك فيه أيضا أن بارنهلم التعسة لن تصبح زوجة تلهايم السعيد، البالغ السعادة.
فون تلهايم :
بهذا تفصمين ما بيننا، يا آنسة؟
الآنسة :
المساواة وحدها أقوى رباط الحب. كانت بارنهلم السعيدة تتمنى أن تعيش من أجل تلهايم السعيد وحده. كذلك كان من الممكن أن تقنع مينا التعيسة نفسها أخيرا، بأن في وسعها أن تزيد تعاسة صاحبها أو أن تخففها بيدها. وقبل أن يصل هذا الخطاب الذي هدم المساواة التي كانت قد قامت بيننا، تبين هو أنني كنت ألح في رفض ناحية المظهر في الموضوع.
فون تلهايم :
صحيح هذا، يا آنستي؟ شكرا لك، يا مينا، على أنك لم تفصمي العقدة التي تربط بيننا بعد. أنت إذن تريدين تلهايم التعيس؟ سيكون بين يديك (ببرود)
وقد شعرت اللحظة، أنه لا يليق بي أن أقبل هذا العدل الذي أتى متأخرا، وكان الأحرى بي ألا أعود إلى المطالبة بشيء منع عني بسبب شك مهين يمس شرفي. ليت هذا الخطاب لم يصلني! هذا كل ما أقوله وأفعله ردا على ذلك (يوشك أن يمزق الخطاب) .
الآنسة (تمسك يده) :
ماذا تريد، يا تلهايم؟
فون تلهايم :
أن تكوني لي.
الآنسة :
لا تمزقه.
فون تلهايم :
سأمزقه يا آنسة، إن لم تغيري موقفك حالا، ثم بعد ذلك نتباحث فيما تنكرين من أمري.
الآنسة :
كيف؟ بهذه اللهجة؟ إذا فعلت فسينبغي علي، سيحتم علي أن أرى نفسي في عيني أنا حقيرة مهينة؟ لا، أبدا. إن الإنسانة التي لا تخجل من بناء سعادتها كلها على عاطفة رجل عمياء، مخلوقة دنيئة.
فون تلهايم :
هذا خطأ، خطأ من أساسه.
الآنسة :
هكذا تجرؤ على تسفيه كلامك أنت عندما ينطق به فمي؟
فون تلهايم :
سفسطائية، هل يخل بكرامة الجنس اللطيف كل ما لا يصيب كرامة الجنس الخشن؟ هل يسمح الرجل لنفسه بكل ما يليق أن تسمح المرأة به لنفسها؟ أي جنس جعلته الطبيعة سندا للآخر؟
الآنسة :
هدئ من روعك، يا تلهايم. لن أظل دون سند بعد أن تحتم علي أن أرفض شرف سندك وتعضيدك. سيكون لدي دائما من السند والتعضيد ما تتطلبه محنتي. وقد طلبت اليوم مقابلة سفيرنا، وستتم المقابلة اليوم وأملي أن يحوطني برعايته. الوقت يمر بسرعة. بعد إذنك يا سيادة الرائد.
فون تلهايم :
سأرافقك يا آنستي الكريمة.
الآنسة :
لا يا حضرة الرائد، دعني.
فون تلهايم :
ربما فارقك ظلك، أما أنا فلن أفارقك. تعالي، يا آنستي، إلى حيث تريدين وإلى من تشائين. وسأقص في كل مكان، على من نعرف ومن لا نعرف، في حضورك مائة مرة في اليوم، عن الرباط الذي تربطينني به، وعن السبب العنيد الفظيع الذي تريدين من أجله قطع هذا الرباط.
المشهد العاشر (يوست - السابقون)
يوست (بعنف) :
سيادة الرائد، سيادة الرائد.
فون تلهايم :
ماذا دهاك؟
يوست :
تعال بسرعة، بسرعة.
فون تلهايم :
ما عساي أن أفعل؟ تعال هنا. تكلم، ماذا حدث؟
يوست :
اسمع (يهمس إليه بشيء سرا) .
الآنسة (في هذه الأثناء، لفرنتسيسكا) :
أتلاحظين شيئا، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا :
أوه، يا قاسية. كنت أقف هنا كأني على جمر.
فون تلهايم (ليوست) :
ماذا تقول؟ لا يمكن . هي؟ (ينظر إلى الآنسة غاضبا ثائرا) . قل بصوت عال: قل في وجهها، اسمعي، يا آنستي.
يوست :
يقول صاحب الفندق إن الآنسة فون بارنهلم قد أخذت الخاتم الذي رهنته لديه بعد أن قالت إنه خاتمها، ورفضت أن ترده إليه.
فون تلهايم :
صحيح، يا آنستي؟ لا، لا يمكن أن يكون هذا قد حدث.
الآنسة (مبتسمة) :
ولم لا، يا تلهايم؟ لم لا يمكن أن يكون هذا قد حدث؟
فون تلهايم (ثائرا) :
إذن صحيح. أي ضوء مخيف ذلك الذي يشرق علي فجأة؟ هكذا أعرف الكاذبة، الخائنة.
الآنسة (مذعورة) :
من؟ من هذه الخائنة؟
فون تلهايم :
أنت، ولا أريد أن أنطق اسمك بعد الآن.
الآنسة :
تلهايم.
فون تلهايم :
انسي اسمي. لقد أتيت إلى هنا لتفسخي ما بيننا. هذا واضح، ثم أتت المصادفة على هوى الخائنة، فساقت الخاتم إلى يديها، واستعملت الخائنة خبثها في إعادة خاتمي إلي بالحيلة اللئيمة.
الآنسة :
تلهايم، أي أشباح تتراءى لك الآن؟ تمالك نفسك، واسمعني.
فرنتسيسكا (لنفسها) :
دارت عليها الدائرة.
المشهد الحادي عشر (فرنر ومعه كيس به ذهب - فون تلهايم - الآنسة - فرنتسيسكا - يوست)
فرنر :
ها أنا ذا قد أتيت، يا حضرة الرائد.
فون تلهايم (دون أن ينظر إليه) :
ومن طلبك؟
فرنر :
أتيت بمال؛ ألف بستولة.
فون تلهايم :
لا أريدها.
فرنر :
وغدا يكون تحت أمرك مبلغ آخر قدر هذا.
فون تلهايم :
دع مالك معك.
فرنر :
بل هو مالك، يا سيادة الرائد. أعتقد، أنك لا ترى مع من تتكلم؟
فون تلهايم :
أبعد هذا المال عني، قلت لك.
فرنر :
ما خطبك؟ أنا فرنر.
فون تلهايم :
ما الطيبة إلا خداع، وما المروءة إلا غش.
فرنر :
تقصدني بهذا الكلام؟
فون تلهايم :
كما تريد.
فرنر :
لم أزد على أن نفذت أمرك.
فون تلهايم :
إذن فنفذ هذا الأمر أيضا، واغرب عني.
فرنر :
سيادة الرائد، (غاضبا) ، أنا بشر.
فون تلهايم :
إذن فأنت شيء.
فرنر :
بشر له مرارة.
فون تلهايم :
حسن، إن المرارة هي خير ما لدينا.
فرنر :
أرجوك، يا سيادة الرائد.
فون تلهايم :
كم مرة أكرر قولي. لا أريد مالك.
فرنر (غاضبا) :
إذن فليرده من يشاء (يلقي بالكيس أمام قدمي الرائد وينتحي جانبا) .
الآنسة (إلى فرنتسيسكا) :
آه، يا عزيزي فرنتسيسكا، كان الأحرى بي أن أتبع نصيحتك. لقد تجاوز هزلي الحد، ولكن ما عليه إلا أن يسمعني (تذهب ناحيته) .
فرنتسيسكا (دون أن تجيب على الآنسة، تقترب من الرقيب) :
يا حضرة الرقيب.
فرنر (غاضبا) :
اذهبي.
فرنتسيسكا :
أف، يا لهؤلاء من رجال!
الآنسة :
تلهايم، تلهايم (يقضم أظافره من الغضب ويشيح وجهه ولا يسمع شيئا) . لا، هذا كثير. ألا تسمعني؟ أنت تخدع نفسك. هذا مجرد سوء فهم. تلهايم، ألا تريد أن تسمع لحبيبتك مينا؟ أيمكن أن تشك هذا الشك؟ تظن أنني أردت أن أقطع الصلة بيننا؟ وأنني إنما أتيت لهذا الغرض؟ تلهايم.
المشهد الثاني عشر (خادمان يدخلان مسرعين من جانبين مختلفين الواحد تلو الآخر إلى القاعة - السابقون)
الخادم الأول :
صاحب السعادة الجراف، يا صاحبة العصمة.
الخادم الثاني :
لقد أتى، يا صاحبة العصمة.
فرنتسيسكا (وقد جرت إلى النافذة) :
إنه هو، إنه هو.
الآنسة :
هو؟ أوه، أسرع إذن يا تلهايم.
فون تلهايم (يفيق فجأة إلى نفسه) :
من؟ من أتى؟ خالك، يا آنسة؟ هذا الخال الفظيع؟ ما عليك إلا أن تدعيه يقبل، دعيه يقبل، لا تخشي شيئا، لن يكون له أن يمسك حتى ولا بنظرة. سأتولى أنا أمر التفاهم معه. وإن كنت لا تستحقين ذلك جزاء ما فعلت بي.
الآنسة :
هيا عانقني بسرعة يا تلهايم، وانس كل شيء.
فون تلهايم :
ها، لو كنت أعلم أنه سيكون في إمكانك الندم على ما قدمت يداك.
الآنسة :
لا، لا يمكنني أن أندم على نجاحي في رؤية قلبك بتمامه وكماله. آه، أي رجل أنت؟ عانق حبيبتك مينا، حبيبتك مينا السعيدة، التي لا يسعدها في الوجود سواك (ترتمي بين ذراعيه) . والآن هيا بنا إلى لقائه.
فون تلهايم :
من؟
الآنسة :
أحسن أصدقائك الذين لا تعرفهم.
فون تلهايم :
كيف؟
الآنسة :
الجراف، خالي، أبي وأبوك، حكاية هربي ورفضه وحرماني من الميراث كلها تخريف في تخريف؟ أيها الفارس السريع التصديق.
فون تلهايم :
تخريف؟ ولكن الخاتم؟ الخاتم؟
الآنسة :
أين الخاتم الذي رددته إليك؟
فون تلهايم :
تريدين أخذه مرة ثانية؟ أوه، كم أنا سعيد الآن. ها هو يا مينا (يخرجه) .
الآنسة :
انظر إليه أولا. آه، العميان الذين لا يريدون الإبصار. أي خاتم هذا؟ الخاتم الذي تلقيته منك، أم الخاتم الذي تلقيته مني؟ هل هو الخاتم الذي لم أرد أن أتركه في يد صاحب الفندق؟
فون تلهايم :
رباه. ماذا أرى؟ ماذا أسمع؟
الآنسة :
هل آخذه الآن منك؟ آخذه؟ هاته، هاته (تأخذه من يده عنوة وتلبسه إياه في إصبعه)
والآن؟ كل شيء على ما يرام؟
فون تلهايم :
أين أنا؟ (يقبل يدها) ، أوه، أيتها الملاك الشقي، هكذا تعذبينني.
الآنسة :
كان هذا تنبيها لك، يا زوجي العزيز، إلى أنك لن تبتليني بمقلب إلا ابتليتك بمقلب من نوعه. ألا تذكر أنك أيضا قد عذبتني؟
فون تلهايم :
يا ممثلات الكوميديا، كان ينبغي علي أن أعرفكن خيرا مما عرفتكن.
فرنتسيسكا :
لا، سأقول لك الحقيقة. لقد أفسدت فجعلت ممثلة كوميدية، كنت أرتعش وأنتفض وأسد فمي بيدي.
الآنسة :
كذلك دوري، لم يكن سهل التأدية. لكن تعال.
فون تلهايم :
لم أسترح ولم أسترد أنفاسي بعد. وفي نفسي الآن خليط من الهدوء، والخوف، كحال من يصحو بغتة من حلم مزعج.
الآنسة :
إننا نتردد. أسمعه يأتي.
المشهد الثالث عشر (الجراف فون بروخزل يرافقه خدم كثير - وصاحب الفندق - السابقون)
الجراف (وهو يدخل) :
لقد وصلت بخير.
الآنسة (تندفع نحوه) :
آه، أبتاه.
الجراف :
ها قد أتيت، يا حبيبتي مينا (يعانقها) ، ولكن ما هذا، يا بنيتي؟ (وقد أبصر تلهايم) . لم ينقض على وصولك هنا أربعة وعشرون ساعة حتى اتخذت لك معارف وأصبح لك أصحاب؟
الآنسة :
خمن، من هو؟
الجراف :
لا يمكن أن يكون هو تلهايم؟
الآنسة :
ومن غيره؟ تعال يا تلهايم (تقدمه إلى الجراف) .
الجراف :
سيدي، نحن لم نتقابل قبل الآن قط، ومع ذلك ما إن وقعت عليك عيناي حتى تهيأ لي أني أعرفك، ووددت لو كنت أنت تلهايم. عانقني، كل احترامي وتقديري لك. وأرجو أن تقبل أن تكون أصدقاء. ابنة أختي، ابنتي تحبك.
الآنسة :
أنت تعلم بحبي، يا أبتاه، فهل حبي أعمى؟
الجراف :
لا يا مينا، حبك ليس أعمى، ولكن حبيبك أخرس.
فون تلهايم (يرتمي بين ذراعي الجراف) :
دعني أتمالك نفسي، يا أبي.
الجراف :
هذا ما ينبغي، يا بني. وإذا لم يقو فمك على الكلام فأنا أسمع قلبك يتكلم. والحقيقة أنني لا أحب الضباط من هذا اللون (يشير إلى زي تلهايم) ، لكنك رجل شريف، وينبغي أن نحب الشرفاء بغض النظر عن الزي الذي يتزيون به.
الآنسة :
أوه، ليتك تعرف الأمر كله.
الجراف :
وما يمنع أن أعلم الأمر كله؟ أين حجراتي، يا صاحب الفندق؟
صاحب الفندق :
هل يتعطف صاحب السعادة فيدخل هنا؟
الجراف :
تعالي، يا مينا. تعال، يا سيادة الرائد (يخرج ومعه صاحب الفندق والخدم) .
الآنسة :
تعال، يا تلهايم.
فون تلهايم :
سألحق بكم حالا، بعد أن أقول لهذا الرجل كلمة (يتحول ناحية فرنر ).
الآنسة :
نعم، ولتكن كلمة طيبة. في رأيي إن عليك أن تفعل هذا. أليس كذلك يا فرنتسيسكا؟ (تتبع الجراف) .
المشهد الرابع عشر (فون تلهايم - فرنر - يوست - فرنتسيسكا)
فون تلهايم (يشير إلى الكيس الذي قذف به فرنر) :
يا يوست، خذ هذا الكيس إلى البيت، اذهب (يلتقطه يوست ويخرج) .
فرنر (وما زال يقف غاضبا في ركن ولا يبدو عليه أن تابع ما حدث) :
نعم.
فون تلهايم (يتجه إليه في ود) :
فرنر، ومتى يمكن أن أتلقى الألف الأخرى؟
فرنر (يعتدل مزاجه فجأة) :
غدا، يا سيادة الرائد، غدا.
فون تلهايم :
لا حاجة بي إلى أن أكون مدينا لك، ولكني أريد أن أكون المتصرف في معاشك، لا بد أن يفرض عليكم جميعا وصي، يا أصحاب القلوب الطيبة؛ فأنتم أقرب ما تكونون إلى المبذرين. لقد أغضبتك قبل هنيهة، يا فرنر.
فرنر :
نعم، أقسم أنك فعلت، ولكن أيضا كان لا يصح أن أكون أحمق، لقد اتضح لي ذلك الآن. وأستحق على حماقتي مائة جلدة، مرهم يجلدوني إياها، حتى لا تكون هناك ضغينة، يا عزيزي الرائد.
فون تلهايم :
ضغينة؟ (يضغط على يده) ، اقرأ في عيني ما لا أقوى على قوله. من كان يعرف إنسانا سواي عنده فتاة أفضل من فتاتي وله صديق أوفى من صديقي، فليأتني به حتى أراه. أليس كذلك يا فرنتسيسكا؟ (يخرج) .
المشهد الخامس عشر (فرنر - فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا (لنفسها) :
نعم، لا شك في أنه رجل طيب جدا. لا يمكن أن أصادف مرة ثانية رجلا كهذا. لا بد من الإفصاح عن ذلك (تقترب من فرنر خجلة على استحياء) ، يا حضرة الرقيب.
فرنر (يمسح عينيه ) :
نعم؟
فرنتسيسكا :
يا حضرة الرقيب.
فرنر :
ماذا تريدين، يا بنية؟
فرنتسيسكا :
انظر إلي، يا حضرة الرقيب.
فرنر :
لا أستطيع، لا أعرف ماذا حل بعيني.
فرنتسيسكا :
بل انظر إلي.
فرنر :
أخشى أن أكون قد أسرفت في النظر إليك. ها أنا ذا أنظر إليك، ماذا هنالك؟
فرنتسيسكا :
يا حضرة الرقيب، ألا تحتاج إلى رقيبة؟
فرنر :
أتجدين، يا بنية؟
فرنتسيسكا :
كل الجد.
فرنر :
وترحلين معي إلى فارس؟
فرنتسيسكا :
إلى حيث تريد.
فرنر :
صحيح؟ يا لفرحتي! يا حضرة الرائد، لم تجاوز الحقيقة. عندي الآن بنت طيبة وصديق مخلص، مثلك تماما. كفك يا بنية؛ إما أن تصبحي بعد عشر سنوات زوجة لواء أو أرملة.
Página desconocida